العدد ٢٢ - ٢٠١٩

سجاد عرسال الملوّن

مواسم الكرز وأرض البقاع وفصول السنة

النسخة الورقية

في روايته «اسمي أحمر» يتناول الروائيّ التركيّ أورهان باموق، موضوعاً مثيراً هو «الفنّ التشكيليّ الإسلاميّ» أو الحياة السرّيّة للفنّ. يستمدّ عنوانها من اللون الأحمر الأكثر استخداماً في الرسم الإسلاميّ (وفي السجّاد اليدويّ اللبنانيّ). يروي أنّه أمضى في كتابة هذه الرواية عشر سنين. ففي البداية أمضى أربع سنوات في شراء الكتب ذات الصلة بموضوع الرواية فقرأها جيّداً ثمّ تفرّغ ستّ سنوات كاملةً للكتابة، لأنّه في حاجة إلى معرفة الكثير عن فنّ النقش والطباعة على السجّاد، وذلك لا يتوافر إلّا في الكتب القديمة، يرصد فنّ النقش، ويعكس الأجواء العامّة التي يعيشها النقَّاشون في ظلِّ معاناتهم الطويلة من ظلم النظرة للنقَّاش باعتبار هذا الفنّ تطاولاً على مبدع الخلق الله، فجاءت الأحداث باسترسالٍ طويل عابرةً نفوسَ أولئك النقَّاشين ملقيةً الضوء على طبيعة فنِّهم الرائع.

 

من عيدمون إلى الفاكهة الى توحّش النايلون

لا ندري إن كان أورهان باموق يعرف أنّ اهالي بلدة عيدمون في عكّار ورثوا حياكة السجّاد (أو السدّاج باللهجة المحلية) هذه الحرفة اليدويّة التراثيّة عن الأتراك أو العثمانيّين، ذلك أنّ الحياكة أصلُها حكاية. عمرها أكثر من مئة عام، بحيث كان في كلّ بيتٍ مشغلٌ صغير للحياكة هو عبارة عن نول (آلة الحياكة البدائيّة) والمعدّات الأخرى التي كانت تستعمل كالمشط الحديديّ ودولاب الغزل وموادّ الصباغة وغيرها، الحائكات اللبنانيّات لا يعانين من المحرّمات والنظرة الدينيّة إلى الرسوم بل من الشقاء والتّعَب وشبَح اندثار الحرفة اليدويّة مع توحّش الاعتماد على النايلون والآلات و«ضياع الهالة»، كما يسمّيه الكاتب الألمانيّ فالتر بنيامين، وقصّة ضياع الهالة هي قصّة لجوء المصانع إلى استنساخ كلّ شيء بأسعارٍ زهيدة وبلا أيّ اثر فنّيّ أو لمساتٍ ذاتيّة.

تعتبر حرفة حياكة السجّاد مهنةً منزليّة، من تراث بلدة عيدمون، وكانت العروس في أيّام الماضي (الأمر نفسه في بعض المناطق الإيرانيّة) تصطحب معها في جهازها إلى دار الزوجيّة السجّاد وهي فخورة به، ‎وكان السجّاد العيدمونيّ يُهدى للوجهاء والزعامات. والسجّاد العيدمونيّ يتميّز باللون الأحمر وكلفته عالية، بسبب غلاء موادّه والبطء في إنجازه بأنامل مجموعة من النساء الحائكات بالتعلّم أو الوراثة. هو من الصوف الخالص الطبيعيّ الذي كان يُعدّ محلّيّاً في كلّ بيتٍ حيث يجمع من الغنم. ويمر إنتاج كلّ سجّادة بعدّة مراحل كالتالي: تأمين المادّة الأوّليّة من صوف الغنم الذي يغَسل وينظَّف ويحضَّر قبل مراحل صناعة السجّاد وهي حسب تسلسلها: تمشيط الصوف وهو يستغرق وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً ومتعباً، غزل الصوف على الدولاب وتحويله خيوطاً تلتفّ لتتحوّل مرةً إلى «شماميط»1 على المردن2؛ تحويل الشماميط الجديدة شللاً تصبَغ وفق المواصفات والألوان. بعد الصباغ: كبكبة3 الخيوط مجدّداً ثمّ تكوين السجّاد الذي يتمّ عقده عقداً. وتعتمد حياكة هذا النّوع من السجّاد على أشكالٍ هندسيّةٍ ورسوم مستوحاة من وسط آسيا، كأنّ الثقافات التقليديّة والاجتماعيّة هي أيضاً تمازجٌ وتلاقح، وهويّتها في تمازجها وتنقّلها وخروجها من بلدٍ إلى بلدٍ ومن بلدة إلى بلدة، ومن ثقافة إلى ثقافات. فحكاية الحياكة لا تنتهي في عيدمون، إذ انتقلتْ إلى بلدة الفاكهة البعلبكيّة البقاعيّة بالمصاهرة، وانتشرتْ بقوّة، وصارت ركناً من أركان تعريف البلدة، حيث تُعرف بسجّادها وبعض أشياء المنزل التي تصنع يدويّاً، وإذ اشتهرت الحرفة في البلدة البقاعيّة، كانت في البلدة العكّاريّة في طريقها إلى الانقراض وربّما انقرضتْ لمدة وسرعان ما أعيد إحياء جانبٍ منها بطرق معاصرة، وبمبادرة من إحدى الجمعيّات.

 

من السجّاد إلى البُسُط

وانتقلت الحرفة إلى بلدة عرسال الواقعة في البقاع، شرق لبنان، في أواخر الستينيّات من خلال تعلّم امرأةٍ تدعى فاطمة الحجيري، وانتشرت في بعض البيوت. ويسمّي أهل عرسال هذه الحرفة السجّاد العربيّ أو «شغل اليد»، ولصعوبة هذه الحرفة التي تحتاج إلى مجهودٍ جسديّ وصبر ومثابرة وإرادة بدأت تدريجيّاً بالانحسار. وحاولتْ بعض الجمعيّات دعمها، لكنّها في الواقع لم تكن أكثر من فلكلورٍ موسميّ، ففي بعض المهرجانات يحضرون صناعتهم التي تكون ديكوراً وزينة وسرعان ما يعودون بها إلى حيث أتت. لكن في السنوات الأخيرة، تحوّلت الحرفة في عرسال من حرفةٍ تراثيّةٍمنزليّة إلى مشغلٍ يعمل فيه أكثر من عشر نساء (مع وجود قلّة من النساء ينسجْن السجّاد في المنازل). وصل بعض السجّاد العرساليّ والفيكانيّ (نسبة الى بلدة الفاكهة)، إلى محالّ المزادات والأونلاين، وأروقة القناصل والدول بطريقة رمزيّة، وهذا في جانبٍ منه يعود إلى التسويق والابتكار والتحوّل في طرق الصناعة واللوحات التي تنقَش والأصباغ غير التقليديّة. وفي الواقع أنّ السجّاد الذي بدأ بالانتشار يسمّى «البسط»، وهو تطويرٌ لصناعة السجّاد التقليديّ الذي أحجم الناس عن شرائه لارتفاع أسعاره وثقل وزنه. ويمكن التفنّن أكثر في صناعة البسط حتى يبدو أشبه بلوحاتٍ فنّيّة تجريديّة يمكن تعليقها على الجدران أو وضعها على الأرض، وتستهوي الناس الذين يبحثون عن غير المتداول أو النادر. ففي نيسان / أبريل ٢٠١٧، أهدى رئيس الحكومة اللبنانيّ سعد الحريري، أثناء زيارته لألمانيا، المستشارة أنجيلا ميركل سجّادةً من صنع نساء عرسال. «الخطوة أثلجتْ قلوب كثيرين في البلدة الحدوديّة»، وسأل أحدهم لماذا لا يفرش السياسيّون مكاتبهم من هذ السجّاد أو البسط. وفي حزيران / يونيو العام ٢٠١٦ حضرت عرسال في افتتاح الدورة السنوية الخامسة عشر للمؤسّسة الفرنكوفونيّة لهيئات الرقابة الماليّة. فحاكم مصرف لبنان رياض سلامه أراد تكريم عضو مجلس الإدارة لدى هيئة الأسواق الماليّة الفرنسيّة كريستيان دي بواسيو، وقدّم له سجّادةً يدويّة من صنع نساء بلدة عرسال البقاعيّة.

بدت الهديّتان، الحريريّة والسلاميّة، أشبه بـ«أكزوتيك سياسيّ» مصدرُه بلدةٌ لبنانيّة، كانت «متهمّة بالإرهاب» وتعيش تحت وطأته وضرباته، وكان اسمها يوميّاً في مقدّمة نشرات الأخبار خلال الثورة السوريّة وحروبها. وفي خضمّ هذه الظروف المأسويّة، هناك صاحبة متجر اسمها نيفين مكتبي، سعت إلى إبراز نوعٍ من الصناعات اللبنانيّة اليدويّة المهدّدة بالانقراض، وهناك نساء عرساليّات عدا بعض نساء الفاكهة، لديهنّ حرفةٌ ويبحثن عن لقمة العيش فكانت الثمرة بثّ الروح في الفنّ التراثيّ. استخدمن براعتهنّ ومهاراتهنّ في استعمال «سدو»4 القطن والصوف في حياكة البسط الملوّنة. كان سعي نيفين مكتبي في محلّه، فهي ابنة عائلة تعمل في تجارة السجّاد، ولم تترك هذه المهنة، بل طوّرتها من خلال دراسة تاريخ السجّاد والقماش في سوذبيز (الدار العالميّة للمزادات العلنيّة بلندن) لمدّة عام. لاحظت أنّ الشباب، خصوصاً الذين يؤسّسون لبيوتٍ جديدة، لا يرغبون بالسجّاد التقليديّالكبير، فذوقهم تغيّر، وأرادتْ مكتبي التعاون مع بعض حائكات عرسال والفاكهة كما تفعل مع عاملين وعاملات في إيران والهند وتركيّا وباكستان، حيث كانت تصمّم السجّادة وتتابع تنفيذها بالصوف والحرير.

 

الأكزوتيك في زمن البوليستر

المحاولة الأخرى الي ساهمت في عصرنة السجاد العرسالي بنحو لافت، حصلتْ من خلال معرض «خيط الزمن» الذي أقيم في قصر داغر - الجمّيزة (بيروت)، وقد نظّمتْه الروائيّة دومينيك إدّه والسيّدة إيزابيل حلو، وتضمّن مجموعةً من الأعمال التي صُنعت في مشغل عرسال ومستوحاة من حكايات الحائكات وليس مجرّد تنفيذٍ تقنيّ وحرَفيّ، وبدا السجّاد (البسط) القديم المعصرن في ذلك البيت كأنّنا أمام تحفٍ متكاملة، فالبيت قديم بهندسةٍساحرة وفي مدينةٍ بيوتُها القديمة مهدّدةٌ بالانقراض، والبسط شيء نادرٌ نسبيّاً، وبات أقرب إلى العلامة السياحيّة والأكزوتيك في زمن البوليستر. وجاء في تعريف المعرض: «اقترحنا على النساء في المشغل إدخال ذكرياتهنّ والطبيعة المحيطة بهنّ وأرضهنّ في هذه البسط. وقد أتت النتيجة مدهشة، فمن ذكرى حقل التوت الذي دمّرتْه مجموعات داعش نسجتْ أمون آخر شجرة قطعَها داعش. أمّا حلم حليمة عن جدّتها رسميّة التي كانت تعمل في حقل قمح، فكان المفتاح لسجّادةٍ مذهلة تمزج بين حقل قمح أخضرَ وأصفر وجبالٍ بنّيّة وبيضاء. وهكذا، تزيَّن السجّاد بمواسم الكرز وألوان أرض البقاع والأشجار والثعابين والأوراق والسلاحف وفصول السنة. لكلّ سجّادةٍ قصّة تبصر النور في المشغل، الصوف يأتي من أغنام البقاع، تنسجه النسوة وتحضّرنه وتصبغنه بألوانٍ نباتيّة بعدما أقنعناهنّ باستعمال الألوان النباتيّة دون غيرها. كما يستفدن أيضاً من تقنيّاتٍ وصبغات جديدة مستوردة كالأزرق والأحمر. وإلى جانب الألوان التي يتقنّ صنعها انطلاقاً من الجوز والسمّاق والأوكاليبتوس والبصل والرمّان والكركم وغيرها، بدأن باستعمال الألوان المستخدمة في مشغل خيط الزمن المصنوعة من القرمزيّة والنيليّة والأكاسيا وخشب الصندل». يضيف التعريف «بدأت هذه المغامرة في أواخر العام ٢٠١٧ ولكنّها بداية مغامرة أخرى على المدى الطويل، هي مسيرة تهدف إلى استعادة هذه المهنة بخيال أولئك الذين ورثوها والذين يقومون بدورهم بنقلها إلى الأجيال الشابّة».

هي مغامرة الحياكة طبعاً، في بلد تنهار فيه كلّ القيَم ولا يبقى غير الرماد.

  • 1. الصوف حين يغزل على الدولاب.
  • 2. سيخ الحديد الذي يلتف عليه الشموط.
  • 3. كرات من الصوف.
  • 4. الخيوط التي توضع على النول، وتنسج عليها البسط أو السجّاد.
العدد ٢٢ - ٢٠١٩
مواسم الكرز وأرض البقاع وفصول السنة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.