بين بروكست وجنّيّة الأمنيات
ترتبط نظريّة التلقّي في الأذهان بالستينيّات وبما جاءت به مدرسة كونستانس الألمانيّة من مفاهيم عن أفق الانتظار والمتلقّي الضمنيّ، وغيرها من المفاهيم التي انتقلتْ بالنّقد الأدبيّ من التّمركز حول النّصّ إلى الاهتمام بمتلقّيه. ولكن، هل فعلاً ظلّ الحديث عن المتلقّي غائباً عن كلّ النّقّاد حتى اكتشفه إيزر بين عشيّةٍ وضُحاها ودون سابق إنذار؟ هل لنا حقّاً أن نتصوّر سيرورة النّقد الأدبيّ على هذا القدر من الانسجام والتّمرحل الصّارم حيث لكلّ مرحلة زمنيّة كتّابها الذين لم يكتبوا قبلها أو بعدها شيئاً، وموضوعاتها التي لم ترِد سوى في فترة زمنيّة محدّدة ثمّ اختفتْ بعدها إلى غير رجعة؟ هل لنا فعلاً أن نتصوّر تاريخ الأدب على هذ النّحو من التدفّق الهادئ وهذا التعاقب الأتوماتيكيّ حيث يُسلِم التركيز على المؤلّف إلى التركيز على النّصّ إلى إهمال الإثنين والتركيز على القارئ دونهما؟ أ ليس من المنطقي أن تكون - ولو لمحات - إلى فكرةٍ لاحقةٍ قد برزتْ في مرحلة سابقة، وألا يمكن كذلك أن يكون آخر هذه الأفكار (نظريّة التلقّي في حالتنا هذه) حاضراً في عصرٍ سابق له بقرون؟
ما أحاول أن أخوض فيه في هذه الورقة هو مقارنة لرؤية النّقد العربيّ القديم للقارئ برؤية نظريّة التلقّي الحديثة له، طبعاً هذا ليس بغرض تأكيد أسبقيّة العرب لنظريّة التلقّي، ولا افتخاراً لالتفاتهم له، ومن ثمّة الحكم برفعة النّقد العربيّ القديم، بل بغرض مقارنة نظرتين للعالم، من خلال مقارنة نظرتهما للمتلقّي، فحسب الطرح الذي أحاول أن أبيّنه في هذه الورقة، لم ير الفكر العربيّ في المتلقّي سوى عدوٍّ أو خصم، عليه إمّا أن يتحايل عليه أو يغالبه حتى يغلبه، وبذلك يكون القارئ عند العرب أشبه بمتربّص واقفٍ للمبدع بالمرصاد في نهاية طريقه. إنّه بروكست ثانٍ يقطع الطريق على ضحيّته (النّصّ) ويضعه إمّا على سريره الطويل إذا كان قصير القامة ليشرع بعدها في جرّه من ساقَيه حتى يوافق طولَ السّرير، أو يضعه على سريره القصير إذا كان طويل القامة ليبتر من قدميه ما تجاوز «حدّ» السّرير. أمّا رؤية التلقّي الحديث للقارئ فتتلخّص في كونه عنصراً مساعداً للنّصّ، يملأ بياضاته ويبعث فيه في كلّ قراءة حياةً جديدة، أو بتعبير إيكو: إنّه القارئ النموذجيّ الذي يمثّل «مجموع شروط النّجاح والسّعادة Felicity conditions المحدَّدة نصّيّاً، والتي يجب الالتزام بها لتحيين النّصّ في إطار محتواه القدراتيّ»١، وهو بذلك أشبه بالجنّيّة التي ساعدت سندريلّا وحّولت أسمالها إلى فستان سهرة، وبذلك يكون للمتلقّي من هذا المنطلق وضعٌ خوارقيّ يتمثّل في التّحويل والبعث وبثّ روحٍ جديدة في النص. إنّه إلهٌ جديد، ولكنّه على عكس الإله الأوّل الذي عرفتْه الثقافة العربيّة مهدّداً هادماً، كان إلهاً بنّاًء يرمم ما تداعى من النّصّ، ويكتب على هوامشه صانعاً نصوصاً جديدة.
تجدر الإشارة أخيراً، إلى أنّ مقارنتي هذه ليستْ بغرض إثبات ذاتٍ تنافسيّة أو ساديّة لدى العرب وأخرى رحيمة وديمقراطيّة لدى الغرب، بل بحثاً عن أسباب هذا التحوّل، ليس فقط التحوّل في النّظرة إلى الآخر بل وكذلك في تعريف الذّات ورؤية العالم.
الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة: المتلقّي العدوّ
كان أو ما كان، حسبما أخبرتنا كتب التّاريخ، أنّه بأرضٍ سعيدة تسمّى بلاد العرب، كانت هناك شخصيّة محوريّة في قلب كلّ قبيلة، شخصيّة مبدعة تشعر بما لا يشعر به غيرها، لها شيطان تابع يُملي عليها قولها آناء الليل وأطراف النّهار، وبعد أن تحصل على إلهامها تقف وسط القبيلة لتُسمع قولها للقاصي والدّاني، فيشرع الرّواة في حفظ هذا القول وترديده في المجالس. في هذا العالم، حيث لا نجد إلّا الرّمال والشّمس الحارقة كان الشّاعر هو الوسيط بين الأرض والسّماء، ومن ثمّة كانت أقواله حكمة ودرساً على كلّ فردٍ أن يحفظه وإلّا فقَدَ الخيط الذي امتدّ له من السّماء.
في ذاك الزّمن الجميل، كان يكفي للشّاعر أن ينطق، في غير حاجة إلى تسويغٍ أو تعليلٍ لقوله، لأنّ أقواله أصلاً كانت نتيجة لما تمليه عليه الحياة وحوادثها من دواع للقول، كانت الجماعة شيطانه٢، والقول في حدّ ذاته سبباً كافياً لوجوده. لكنّ كلّ هذا انقلب في اللّحظة التي وعَتْ فيها الجماعة بأنّها يمكن أن تستبدل الشّاعر بوسائط أخرى أكثر قداسة، كالدّين مثلاً، إذ مع ظهور الإسلام لم يغدُ للجّماعة إله فحسب بل أيقونة، ومعنى تستعمر وتتوسّع باسمهما (من الغريب أنّ الدّين الذي جاء لمصالحة البشر مع السّماء كان سبباً في تكريس وجود الأرض في حياتهم)، كلّ هذه التّغيّرات جعلت المبدع يبحث عن اعتراف به في مكان آخر، وكان خطأه أنّه بحث عنه بين يدَي السّلطة، لينتقل من السّاحة إلى البلاط، ومن لسان القوم إلى مكدٍ.
لم تقف مأساة هذا البطل الباحث عن معنى لوجوده والمسكون بلا جدواه هنا، بل امتدّت لتصيبه بلعنةٍ تمثّلت في توقّف مصيره وقوت يومه على مزاجيّة حاكم ملّ من كلّ شيء فأبى إلّا أن يشغل وقته بالتّسلّي بالشّاعر، وبذلك انتقل الشّاعر من حالة الاستقرار إلى الترحّل، إذ غدا عليه أن يتنقّل في مملكة الإسلام الواسعة بحثاً عن أذن تسمعه ويد تمتدّ له بالعطاء، وبذلك كان عليه أن يُسمع لكلّ أذن ما تحبّ أن تسمعه، لينتقل من ثمّة من التّركيز على القول إلى التّركيز على أثر القول، أو من التبليغ إلى البلاغة، أي الانتقال من النّص إلى المتلقّي. هذا المتلقّي الذي عليه أن يُسوّق نفسه أمامه ويجمّل وجهه في عينيه. وبذلك، يكون المتلقّي الممدوح أوّل وجهٍ من وجوه هذا الآخر الذي يقيّم المبدع ويسعّر بضاعته، ويضطرّه في كلّ لحظةٍ لأن يأتي بقولٍ جميل مسلٍّ قبل أن ينصرف عنه إلى شاعر آخر وقصيدة أخرى.
لم تقف مصيبة المبدع عند هذا الحدّ، فبمجرّد أن انتقل من الشفافيّة إلى الكتابة تساقطتْ عليه هموم أخرى. ذاك أنّ الشّاعر - ولو أنّه فقَدَ سبب وجوده - إلّا أنّه على كلّ حال كان يقف وجهاً لوجه أمام عدوّه وينظر إليه - ولنتصوّره بطلاً ولنقل إنّه كان ينظر إليه بتحدّ قائلاً: «أنا أمامك انظر إليّ». هذه النّظرة وإن كانت تخيف الشّاعر وتشيّؤه إلّا أنّها على كلّ حال، كانت نحصل في سياقٍ تخاطبيّ متزامنٍ يتيح له فرصة الأخذ والرّد. أمّا في حالة الكاتب «الرأس المقطوعة التي تتكلّم»٣، فلم تكن هذه الإمكانيّة متاحة، فبما أنّ الكتابة عمليّة سابقة بالضّرورة لفعْل التلقّي، فقد كان الكاتب على إدراكٍ تامّ بأنّه ما يفتأ أن يقتل بعد أن يضع نقطة النهاية، أو بالأصحّ أن يعدم على مرأى منه، إذ تظلّ عيناه مفتوحتين شاهدتين على عمليّة التشريح وهي تقتلع أمعاءه، وهو أمام هذه المجزرة التي تحصل في عقر جسده لا يستطيع أن يحرّك ساكناً، وحْدهما العينان تتحرّكان، أمّا اليد فقد كانت آخر حركة لها هي أن تضع نقطة النّهاية. ليس النّصّ إذن كما قيل لنا جزءاً من كاتبه بل هو كاتبه كلّه: هو جسده، ولأنّه كان يدرك تماماً هذه المصيبة التي وضع نفسه فيها سواء نطق أم صمت، فقد كان يحرص دائماً على أن يحتمي بسلطةٍ وأن يذكّر - بمناسبةٍ أو يدونها - على طول كتابه أنّ قوله قد كان استجابةً لأمر.
ماذا يحصل عندما لا يجد المؤلّف سلطة للاحتماء وراءها؟ آنذاك يخترعها اختراعاً كما فعل ابن حزم في مقدّمة طوق الحمامة، حيث بدأ كتابه بالحديث عن رسالةٍ أرسلها صاحبها (الحقيقي أو المتخيّل)، رغم «بعد الشّقّة وتنائي الديار وشحط المرار..»٤، ليطلب من الكاتب تصنيف رسالةٍ في صفات الحب ومعانيه وأسراره. وقد يذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك، فيؤكّد أنّ أمر الكتابة كان نتيجة حلم، وبذلك فهو يستدعي صورة التّابع التي حُرم منها المبدع منذ انتقل من الشفاهيّة إلى الكتابة، ولعلّ أبرز مثالٍ على هذه الوضعيّة يتجلّى في مقدمة مقامات الزمخشري، إذ يقول الكاتب متحدثاً عن نفسه بصيغة الغائب: «والذي ندبه لإنشائها أنّه أُريَ في بعض إغفاءات الفجر كأنّما صوت به من يقول له: يا أبا القاسم أجل مكتوب وأمل مكذوب، فهب من إغفاءته تلك مشخوصاً به ممّا هاله من ذلك وروعه ونفّر طائره فزّعه، وضمّ إلى هذه الكلمات ما ارتفعت به مقامة وآنسها بأخوات قلائل»٥. ليس طلب الكتابة أمراً خارجيّاً فقط، بل كذلك نابعاً من مجهول (أُريَ) ومتوجّه إلى غائب، وإذا كان الرسول قد تلقّى الرسالة بضمير المخاطب المبشّر لوجوده، فإنّ الزمخشريّ قد تلقّاه بضمير الغائب الذي يعفيه من المسؤوليّة ويؤكّد لمتلقّيه في الآن ذاته أنّه محض تابعٍ لمرسِل غيبيّ.
أمّا السّيوطي في كتابه التحدّث بنعم الله٦، فبما أنّه قرّر أن يكتب عن نفسه في هذا النّصّ، فقد وجد نفسه في معضلة كيف يتحدّث عن نفسه وأيّ تعليل أو على الأقلّ تعلّة Pretext يشرْعن بها هذه الرغبة وهو ليس سلطة ولا محتمياً بسلطة ويعيش وسط قوم لا يرون للنّصّ من معنى إلّا في مدى تعبيره عن الجماعة، كيف للفرد إذن أن يخرج من كلّ هذه المُساءلات ويعبّر عن صوته؟ ليس له إذن إلّا أن يحتمي بالله، ويؤكّد مرّات ومرّات في مقدّمته إنّ الكتابة عن الذّات لم تكن سوى نتيجة للرّغبة في حمد الله على نعَمه، واستجابة لأمره «وأمّا بنعمة ربّك فحدّث»، وهو ما لا يختلف بشيء كبير عمّا فعله الزمخشري بتعلّله بالحلم. هكذا، يكون الاحتماء بالسّلطة العليا المجرّدة بصقةً في وجه السلطة المتحقّقة الأرضيّة، أن تحتمي بالسماء كي لا تحاسبك الأرض، ولعلّ هذا كان سبب إجزاء السندباد البحريّ العطاءَ للحمّال، لأنّه توجّه مباشرة للسّماء ولم يترك للبحريّ الغنيّ بذلك إلّا الوسائلَ الأرضيّة للدّفاع عن نفسه، أي الحكاية والمال.
أمّا المعرّي فكان ممّن استعانوا بسلطة الأرض، ولكنْ بغرض الحديث عن السماء كما يحلو له، فلكي يقسّم المعرّي الشّعراءَ بين جحيم ونار ويلعب دور الإله، كان لا بدّ له من أن يورّط متلقّيه (السلطة الأرضيّة) ويجعله مركز قوله. هكذا،لم يكتفِ بالتوجّه إليه بالقول ولا بذكر أمره بالكتابة في المقدّمة («قد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور ومن قرأها مأجور»٧) وإقران ذكره بالدّعاء له ومدحه («مولاي الشيخ الجليل»٨، «أدام الله الجمال ببقائه»٩،«سمع الشّيخ، ثبت الله وطأته»١٠) فحسب،بل تجاوز ذلك إلى جعل المسرود إليه بطلاً في النّصّ، ليشرع بذلك في تتبّع جوالاته بين الجنّة والنّار لأكثر من مائة صفحة قبل أن يشرع في الجواب على رسالته، وكأنّه لم يستطع أن يدخل صلب الموضوع إلّا بعد ضمان انصياع المسرود له وتأكّده من تعطيل كافّة ملَكاته النقديّة قبل أن يشرع في الكلام «الجادّ»، أو ربّما لأنّه خاف من أن يحاكم لاتّخاذه دور الإله وتوزيعه الشّعراء والنحاة بين فضاءي الجنّة والنّار، فلم يجد بدّاً من توريط متلقّيه، ليؤكّد له أنّه مذنب مثله لأنّه استمرّ في قراءة النّصّ ولابدّ أن يكون قد استمتع بحكايته، ومن ثمّة فهما شريكان في هذه اللذّة المحرّمة.
وسيلة أخرى، وظّفتها الحكاية سواء الشفويّة (الليالي) أو المكتوبة (كليلة ودمنة) للتنصّل من مسؤوليّة القول ومن ثمّة من عين المتلقّي الحمراء، هي افتتاح الحكي بعبارات من قبيل: «بلغني» أو «يُحكى أنّ»... ذاك أنّ المتكلّم يدرك تماماً أنّ المتلقّي لن يغفر له أن يصدّق كلاماً ويكتشف بعد ذلك خطأه، وبذلك، يجد المتكلّم نفسه في ورطة، ذلك أنّ عليه من جهة أن يستميل المتلقّي ويقنعه بصحّة ادّعاءاته لكي يضمن إقبال هذا الآخر عليه ومن ثمّة إزجاء العطاء له (للعطاء وجهان، أوّلهما إيجابيّ بالحصول على مكافأة ماليّة وثانيهما سلبيّ بالتخلّص من مصيبة أو موت محقّق في إطار «السّرد وسيلة الأعزل»)، وعليه في الآن ذاته ألّا يقنع متلقّيه إلى حدّ أن يتماهى مع الحكاية ويطالبه بدليل عليها. بذلك نستشعر بأنّ القول في الثّقافة العربيّة لم يكن مسؤوليّة فحسب، بل وحملاّ ثقيلاً قد يؤدّي بقائله نطَقَ أم صمَتَ إلى حبل المشنقة، وكأنّما المتكلّم أثناء السّرد مهرّج يمشي على حبلٍ معلّقٍ بين السّماء والأرض، أو ربّما كانت كلّ محاولة للكتابة شبيهة باجتياز الصراط، وبذلك يتّضح أنّ اللسان كان وسيظلّ قريناً للمشاكل والهموم، ولكن، ماذا بعد الصّراط؟ وماذا بعد القول؟ ليس بعده إلّا الحساب وليس بعد الحساب سوى تقرير المصير والدّخول إلى الجنّة أو النّار. ولعلّ أفضل روايةٍ تناولت هذه الوضعيّة المقلقة للقول هي رواية عين الفرس للميلودي شغموم التي تحكي عن قصّة راوٍ حكى لأمير عن مدينة متخيّلة فصدّق الأمير وجود المدينة وطالب الحاكي بأن يدلّه على مكانها، فلمّا فشل في ذلك حكم الأمير عليه بالنّفي إلى تلك المدينة المتخيَّلة مكمَّم الفم وعلى عنقه زجاجة السمّ التي عليه أن يتجرّعها بعد انتهاء مدّة النفي.
لقد كان المتلقّي في الماضي هو من يمنح رخصة الكلام، فحتى شهرزاد لمّا رغبت في التّحايل بالحكي لم تتوجّه إلى شهريار مباشرةً لتقول سأحكي لك حكاية، كان لابدّ عليها قبل ذلك أن تخلق «جوّاً» وتمهّد للحكاية بأن توحي له بطلبها (أو بالأحرى بأمرها)، وإلّا شعر باستغفاله ومن ثّمة رفض الإصغاء إليها، وجرّد حكيها من شرعيّته. هكذا، تآمرت شهرزاد مع أختها لتبثّ فيه هذه الرغبة في الاستماع، تبثّ فيه بمعنى أن يشعر بأنّ الزّمام في يده وبأنّه غير مجبَر على السماع، وحتى بعد انتهاء الحكاية وضمان شهرزاد لحياتها، لم تستطع أن تكتب حكاياتها بل ظلّت في حاجة إلى أمر شهريار الذي لم يسمح لها بالكتابة، وإنّما سمح لها بأن تملي حكاياتها على كتبةٍ آخرين يكونون رجالاً طبعاً، لأنّ فعل الكتابة كان فعلاً ذكوريّاً بحتاً، إذ للمرأة أن تحكي وللجدّة أن تنيم صغارها بواسطة الحكاية ولكن ليس لغير المذكّر أن يدوّن كلامه، ومن ثمّة فقد كان فعل الحكي لاحقاً لمناورة Manipulation بثّ الرّغبة غير المباشرة مع التأكّد دائماً بإشعار المتلقّي أنّه هو من يدير دفّة الحديث، وبذلك تكون الكتابة أشبه بالمشي في حقلٍ للألغام تدرك بأنّك مهدّد فيه في كلّ لحظة ومن ثمّة ليس لك إلّا أن تمشي فيه إلى نهايته على أطراف أصابعك في انتظار لحظة الانفجار. وحتى الإشارة إلى أنّ شهرزاد كانت تقف عن الكلام عند الصّباح لا أظنّه يعني أنّ شهرزاد تتحكّم في المحكيّ وتوقفه حسب مزاجها معلّقة شهريار بحبل التشويق إلى الغد، بل إنّها كانت مرغَمةً على ذلك لأنّ الصّباح كان هو «زمن الجِدّ»، أي زمن الحكم والبتّ في شؤون العباد، وبالتالي لم تكن شهرزاد هي التي تعلّق الحكاية بل جدول شهريار المشغول بأمور أهمّ من اللهو والحكي هو من يقطع عليها حبل حديثها.
لا نكاد نجد في الثّقافة العربيّة خرقاً لصورة السارد الضعيف والمتلقّي السلطة إلّا في قصة السندبادين حيث يكون السّارد هو السندباد البحريّ أي السندباد التّاجر الغنيّ الذي لف العالم وتزوّد بمعرفةٍ فضائيّة وغرائبيّة واسعة، بينما متلقّيه السّندباد البرّيّ ليس سوى حمّالٍ فقير وقف على باب السّندباد شاكياً حظّه متظلّماً للسّماء عن سوء توزيعها للأرزاق ومنحها للتّاجر الغنيّ كلّ هذا العزّ، بينما هو معدَم لا يكاد يجد قوت يومه. لا تسمع السّماء ولا سكّانها شكوى السّندباد البرّيّ، لكن السّندباد البحريّ لحسن الحظّ يسمعها فينادي الحمال ويشرع في سرد قصص مغامراته سبعة أيّام متواصلة، وبالإضافة إلى الحكاية يمنحه في كلّ يوم جائزةً ماليّة. ما الذي يدعو السّندباد الغنيّ لفعل كلّ هذا وهو غير مضطرّ ولا مَدين للآخر بأيّ شيء؟ إنّه يفعل ذلك لأنّه شعر بأنّ الآخر قد استنقص من شأنه خصوصاً أنّه لم يتوجّه إليه لائماً بل توجّه بشكواه إلى الله، ربّما شعر بأنّ هذا الآخر المسكين قد ينبّه الإله إلى شطَطَه ولاعدالته ومن ثمّة يكون سبباً في إعادة الحساب معه! أو ربّما - وبعيداً عن السماء - أنّه شعر بأنّ الحمّال ينتقص من شأنه، ويرى أنّ الغنى الذي هو فيه نتيجة لصدفةٍ قدريّةٍ كان يمكن أن تكون من رزق أيّ أحد، ومن ثمّة فقد اعتبرها التّاجر شتيمةً أن يُعدّ محظوظاً وهو الذي غامر ودفع حياته ثمناً ليصل إلى ما وصل إليه، وبذلك يكون السّرد مرّة أخرى نتيجة رغبةٍ لتسويغ الوجود، أي إبرازاً لأهمّيّة المتكلّم وردّاً على هذا الآخر الذي يرغب في أن يسلبه كينونته حين ينعته باللاجدارة. وبذلك، فالسّندباد البحريّ رغم توفّره على المال إلّا أنّه ظلّ بحاجة إلى الاعتراف، وكأنّه كان بسرد حكاياته المبرزة لبطولته، ينتزع هذا الاعتراف من متلقّيه انتزاعاً. ليس هذا فقط، بل هو في إزجاء العطاء له كان يحاول أن يقلب المعادلة وأن يشعره بأنّه - أي الحمّال - الذي كان يدعو عليه قبل قليلٍ يأخذ شيئاً لم يتعب فيه، بينما هو - السّندباد البحريّ - استحقّ كلّ ما بلغه من نعمة، ودليل ذلك الحكايات التي ظلّ يحكيها مدّة سبعة أيّام.
يقدّم كتاب كليلة ودمنة وجهاً آخر من وجوه العلاقة المتوتّرة بين المتلفّظ والمتلقّي، انطلاقاً من صورة المتكلّم المدرك لغباء متلقّيه وسطحيّته، لذلك فهو يؤكّد أنّه يلجأ للحكاية فقط لأنّ مخاطَبيه (أو جزءاً منهم على الأقلّ) لن يعوا الدّرس الأخلاقيّ بغير هذه الوسيلة، وبذلك يؤكّد بيدبا في أكثر من مناسبة في الكتاب أنّ «الحكماء يصوغون الحيَل من أجل القيام بدورهم التعليميّ، وأعظم حيَلهم وضْع الأمثال على ألسنة الحيوانات. ذلك أنّهم لا يخاطبون العقلاء فقط، وإنّما السخفاء كذلك. لو كانوا لا يخاطبون إلّا العقلاء لما احتاجوا إلى صياغة الحكايات»١١. يصبح المتلقّي إذن صبيّاً والمبدع وصيّاً عليه، ورغم مخالفة هذه العلاقة لسابقاتها إلّا أنّها تظلّ واحدةً من التّمظهرات العديدة لفكرةٍ وحيدةٍ هي العلاقة العموديّة بين السّارد والمسرود له، إذ هناك دائماً فوق وتحت، سماء وأرض، يد عليا ويد سفلى، ولعلّ أبو العبر أحسَنَ التعبيرَ عن هذه العلاقة بالطريقة التي كان يلقي بها شعره والتي جاء وصفها في كتاب الأغاني على النحو الآتي: «كان يجلس على سلّم وبين يديه بلّاعةٌ فيها ماء وحمأة، وقد سدّ مجراها، وبين يديه قصبة طويلة، وعلى رأسه خفّ، وفي رجليه قلنسيتان، ومستمليه في جوف بئر، وحوله ثلاثة نفر يدقّون بالهواوين، حتى تكثر الجلبة ويقلّ السماع، ويصيح مستمليه من جوف البئر من يكتب عذّبك الله، ثمّ يملي عليه..»١٢. المتلقّي في هذا السيناريو في قعر بئر ينتظر أن يسمع ما يمليه عليه مبدعٌ جالس على أعلى سلّم وبين الإثنين مطبّلون ومغنّون. قد يبرز المتلقّي في هذا المشهد بمظهر الضحيّة، ولكنّنا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نخفي أنّه ربّما كان يستحق شيئاً من هذا الانتقام الساديّ بعد كلّ ما أذاقه للمبدع من عذابات.
إنّ العلاقة بين المتلفّظ والمتلقّي في المخيّلة الكلاسيكيّة إذن، كانت دائماً علاقة توتّر قائمة على الصّراع بين جلّاد وضحيّته (بغضّ النّظر عن أيٍّ منهما يؤدّي أيّ دورين). إنّها حرب كلاميّة البقاء فيها للأقوى، أن تحكي لتعيش، وإذا كنت مطمئنّاً على حياتك فأنت تحكي لتعيش بكرامة بعد أن تنتزع من الآخر اعترافه بك، ولعلّ هذا يذكّر بقولة الجاحظ: «وينبغي لمن كتب كتاباً ألّا يكتبه إلّا على أنّ النّاس كلّهم له أعداء»١٣.
يتوزّع النّقاش عن الكلمة في الفكر العربيّ إذن بين استعارتين: استعارة سماويّة مرتبطة بيوم الحساب وتقرير المصير بين الجحيم والنّار أو على الأقلّ الحصول على صحيفة الغفران وضمان استراحة ولو مؤقّتة من نظرة الآخر، واستعارة دنيويّة حربيّة قائمة على النّظر إلى هذا الآخر كعدوّ يجب أن أحصن لساني منه لكي لا يجد ثغرة ينفذ إليّ منها ويستعمرني داخل جسدي. هكذا، يغدو كلّ كاتبٍ في الثقافة الكلاسيكيّة شهرزاداً مستميتةً للإبقاء على حياتها، وكلّ قارئ شهريارَ قد ينقلب في أيّ لحظةٍ إلى جلّاد يعضّ اليد التي امتدّت لإنقاذه. إلّا أنّ الوضع - لحسن الحظّ أو سوئه - ما لبث أن تغيّر في العصر الحديث، ليغدو الشهريار (ربّما لأنّه بلغ أرذل العمر) كائناً مهادناً يساعد النّصّ ويعينه على أداء مهمّاته ومعانيه.
الثقافة الغربيّة الحديثة: المتلقّي المهادن
رافقت الحداثة انقلابات كبيرة، إذ أصبح العالم أكثر اتساعاً والبشر أضيق خلقاً، كما غدت الدعاية أطول بينما الأغنية لا تتجاوز دقيقتين، ولكن لعلّ أهمّ انقلابٍ عرفتْه الحداثة هو التحوّل من الحديث عن النّصّ كبنيةٍ مغلقةٍ إلى تناوله كأثَر مفتوح ذي سيرورة دلاليّة لامتناهية. ما الذي دعا إلى هذا التحوّل الخطير؟ إنّه الالتفات إلى ذلك المتلقّي الذي يوجد على الطرف الآخر من الرسالة.
ربّما كانت أوّل التفاتةٍ إلى المتلقّي مع رواية الدون كيشوت، ذاك القارئ الساذج الذي يصدّق كلّ ما يقرأه، إلى درجة الخروج على جوادٍ أعجفَ لإقرار العدالة في العالم. وبذلك، كانت أوّل نظرة للمتلقّي إذن على الضفّة الأخرى نظرة شفقة تدرك بأنّ هذا الآخر في حاجة إلى مساعدتها، ومن ثمّة كانت أولى بوادر العلاقة بين المتلفّظ والمتلقّي - وإن احتفظت بعموديّتها - سلميّة إنسانيّة.
بحلول القرن الثامن عشر، شرع المتلقّي في التّمظهر بصورة جديدة، هي صورة المتلقّي الذي لم يعد يحتاج إلى نظرة الحنوّ من المبدع، ولعلّ هذا المقطع من جاك القدري كفيل بأن يُبرز ملامح هذا التحوّل، نقرأ في الرواية على لسان السارد - في تعليقه على جملة لـ«جاك»، يقول فيها إنّه يعاني رهاباً من الماء Hydrophobie: «آه، مصاب برهاب الماء؟ جاك قال إنّه مصاب برهاب الماء؟... لا، أيّها القارئ، لا، أعترف بأنّ الكلمة ليست له، ولكن بهذا التشدّد النقديّ، أتحدّاك أن تقرأ مشهداً كوميديّاً أو تراجيديّاً، أو حواراً واحداً، أيّاً كان، دون أن تفاجئ كلمة الكاتب على لسان شخصيّته»١٤. إنّ المتلقّي هنا، لا يختلف في شيء عمّا صوّره به الجاحظ، إنّه عدوّ متربّصٌ بأخطاء السّارد، ولكنّه في الآن ذاته، متلقٍّ أفقيٌّ منفتحٌ على الحوار وإلّا فلمَ توجّه إليه السّارد بتلك اللهجة المتحدّية، وهو ما لم يكن متاحاً لا للتوحيديّ الذي كان يخاطب وزيراً يمثّل السلطة، ولا للمادح الذي بالإضافة إلى توجّهه إلى متلقٍّ سلطةٍ كان يتوجّه بقوله كذلك إلى مصدر رزق. إنّ المتلقّي في نصّ جاك القدري لا يمثّل أيّ تهديد للمتكلّم، ذلك أنّ مشكلته مع النّصّ لا مع الناطق به، لذلك يدعوه السارد إلى أن يقارن بين نصّه ونصوص أخرى، ومن ثمّة فالمتكلّم والمتلقّي معاً على إدراك تامٍّ للمسافة التي تفصل بينهما، وهو ما لم يكن متوفراً في السّياق الكلاسيكيّ حيث كان المتلقّي هاجساً يسكن المتكلّم حتى قبل أن يتكلّم. ولعلّ أبرز مثالٍ على استحالة الكتابة أثناء التفكير في القارئ قد تجلّى في رواية كالفينو If on a winter's night a traveler التي تحكي قصّة كاتبٍ عجز عن الكتابة منذ شرع في التجسّس على قارئة تسكن قُبال بيته، فأصبح كلّما كتب كلمة أطلّ من النافذة ليرى أثر ما كتبه على وجهها١٥.
تبدأ العلاقة الثالثة (الأولى عموديّة قائمة على شفقة المبدع على المتلقّي، الثانية أفقيّة قائمة على نقد النّصّ) بين المبدِع والمتلقّي في العصر الحديث، من لحظة إدراك الإثنين لوجوب أن يحتفظ كلّ منها بموقعه ويترك مسافة بينه وبين الثاني، أي أنْ ينسى الكاتب متلقّيه أثناء الكتابة، لينساه هو بدوره أثناء القراءة، ذاك أنّه إذا تذكّر كلٌّ منهما صاحبه، فلن يخطّ الأوّل حرفاً، كما ستصبح كلّ كلمةٍ يقرأها الثّاني وثيقة للبحث عن مدى مطابقتها مع ما يعرفه عن حياة صاحبها. بعد اتّخاذ المسافة إذن، يدرك كلّ حقوقه وواجباته، وفي هذا السّياق لا يمكن أن نتحدّث عن الحقوق من دون أن نذكر لائحة الحقوق التي سنّها دنيال بناك للقارئ، وهي١٦:
1 حقّ عدم القراءة
2 حقّ تخطّي الصفحات
3 حقّ عدم قراءة الكتاب إلى نهايته
4 حقّ إعادة القراءة
5 حقّ قراءة أيّ كتابٍ: رغم وجود كتب جيّدةٍ وأخرى سيّئة، على القارئ أن يقرأ الإثنين معاً، من دون توجيهٍ خارجيّ، إلى أن يدرك ذات يوم، أنّها لم تعدْ تكفيه، متعة حسّيّة عاجلة، بل يطمع في أكثر من ذلك، يطمع في لذّة يتعب في بنائها، لينتقل شيئاً فشيئاً، وتلقائيّاً، من الكتب الأكثر مبيعاً Best-seller، إلى الأكثر نخبويّة.
6 حقّ البوفارية (مرض قابل للانتقال نصّيّاً)، أي الحقّ في التّماهي مع العوالم النصّيّة، إلى حدّ البكاء على مصائر الشّخوص، دون تدخّل الآخر «البالغ»، المتعجّب من تعاطف القارئ مع كائنات تخييليّة.
7 حقّ القراءة في أيّ مكان
8 حقّ التصفّح، أي أن يختار القارئ أيّ كتاب شاء، ويفتحه على أيّ صفحة، من دون أن يضطرّ للعودة إليه.
9 حقّ القراءة بصوت عالٍ
10 حقّ الصّمت، أي أن يحتفظ القارئ بما فهمه من قراءته لنفسه، من دون أن يجبره أحد على الشرح أو التعليق أو التلخيص.
ولكن، ماذا لو كان القارئ «سئيلاً» ثقيل الدّم يأبى أن يحترم حدوده ويكتفي بحقوقه؟ ليس للكاتب آنذاك إلّا أن يضع ميثاقاً صريحاً مع قارئه، ميثاقاً يكون بادرة هدنة تنتهي عندها الحرب الملحميّة التي امتدّتْ قروناً، لعلّ أوّل مظاهر هذا الميثاق وأبسطها هي افتتاحيّات الكتب التي تعلن لقارئها أنّه محض خيالٍ وأنّ شخوصها وإن كانت تتشابه مع الواقع إلّا أنّها تخييلٌ بحت، طبعاً من دون أن ننسى الافتتاحيّات التي عبّرتْ عن الفكرة نفسها ولكن على نحوٍ أكثر أناقةً sophisticated، على غرار بداية «مجانين بيت لحم»، حيث جاء: «في هذه الرواية الشهرزاديّة، مثل ما في الروايات الأخرى قليل من الحقائق، كثير من الخيال، وثرثرة... تماماً مثل الحياة»١٧، ليتّضح بذلك أنّ افتتاحيّة الكتاب لحظةٌ برزخيّةٌ فارقة بين لحظة تفكير الكاتب بمتلقّيه ولحظة تخلّصه منه.
ولمّا كانت الافتتاحيّات التخييليّة غير كافية لإقرار هذه المسافة، فقد تولّى النّقد إتمام المهمّة، وكان أبرز مَن تحدّث عن شروط العلاقة بين ثلاثيّة الكاتب - النّصّ - المتلقّي هو أمبرتو إيكو الذي أعلن أنّ «النّصّ آلةٌ كسول يطلب من قرّائه القيام بجزءٍ من مهمّة التأويل، بعبارة أخرى، إنّه جهازٌ الغاية منه إثارة تأويلات... فدراسة نصٍّ ما لا تعني دراسة مؤلّفه، وفي الوقت ذاته، لا يمكن للقارئ أن ينتقي تأويلاً يستمدّ مضمونه من استيهاماته فقط: يجب أن يتأكّد أنّ النّصّ يبيح، بهذا الشكل أو ذاك، قراءةً تتمّ من زاويةٍ بعينها، بل قد يشجّع عليها»١٨. وبذلك فقد تجاوز إيكو ثنائيّة المؤلّف والقارئ والْتفت إلى النّصّ الذي يتحكّم فيهما معاً، فهو من جهةٍ يتحرّر بمجرّد انتهائه من سلطة كاتبه، هذا الكاتب الذي «يتحوّل - مباشرةً بعد الانتهاء من كتابة النّصّ - إلى قارئٍ لا سلطة له على مساره التدليليّ، ذاك أنّ النّصّ هو الابن الذي لا تقوم علاقته مع أبيه إلّا على العقوق»١٩، وهو من جهةٍ ثانيةٍ امرأة لعوب تُوهم جميع عشّاقها (القرّاء) بأنّها تبادلهم الحبّ، فيما لا تحبّ سوى نفسها.
لعلّ وعْي القارئ والكاتب بكونهما ضحيّتين للنّصّ (الذي لم تقتصد البنيويّة في مدحه ومركزته) وأحد الأسباب التي دعتْهما لتوقيع الهدنة، فلا الكاتب يملك النّصّ مع أنّ اسمه على غلافه، ولا القارئ يملكه لأنّه في كلّ قراءةٍ جديدةٍ يكتشف أنّه يجهل أكثر ممّا يعرف. هكذا، يكتشف الإثنان في النهاية أنّ الحرب ليستْ بينهما، بل بينهما وبين النّصّ الذي ظلّ طوال قرونٍ يحفر لهما ويوقع بينهما كي لا يلتفتا إلى كونه هو السلطة، هو الإله الخفيّ الذي لا يراه أحد، ومع ذلك هو الذي يوجّه جميع المصائر.
خاتمة
إنّ العداوة مع المتلقّي إذن في السّياق الكلاسيكيّ، كانت نتاجاً مباشراً لنظرته التشييئيّة للذّات، نظرته التي تجرّد الذّات من قداستها وتساؤلها من دون كلماتٍ عن علّة وجودها، وبذلك لا تجد الذّات الكاتبة بدّاً من الدّخول في معركة إثبات نفسها وتأكيد ضرورة وجودها. لقد كان العدوّ إذن في هذا السّياق واضحاً، إنّه هو هذا الآخر اّلذي أريد أن أنتصر عليه ولكن دون أن أقتله لأنّه يظلّ سبباً في وجودي، إذ لا قيمة لقولي إلّا بمدى تأثيره فيه / عليه. لكنّ الأمر ما لبث يختلف مع مجيء الحداثة، حيث غدا العدوّ هو النّصّ، هذا الكائن اللغويّ الجميل الذي ما يلبث أن يعضّ اليد التي أنجبتْه، وتلك التي تبنّته وبعثتْه في جسدٍ جديد، ذاك أنّه بانتقاله من جسدٍ إلى جسدٍ يفقد طبيعته المادّيّة ويستحيل روحاً تمتصّ كلّ الأرواح التي يقترب منها، ليبقى وحده هائماً عابراً الحدود والأزمنة.
ولكن، ماذا يحلّ بالمبدع وقارئه، بعدما تخلّى عنهما وسيطهما، وأصبح إشكالاً في حدّ ذاته لا يحتاج إلى أيٍّ منهما؟ لا أظنّ أنّه يبقى من خيارٍ أمام الإثنين إلّا عْقد تصالح، والاعتراف بأنّ الحرب الحقيقة ليست ممثّلة على الخشبة، بل وراء السّتار حيث يكمن النّصّ إلهاً خفيّاً.
المراجع
إيكو، أمبرتو. اعترافات روائيّ ناشئ، ترجمة: سعيد بنكراد (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربي، 2014)
ابن حزم، كتاب الحبّ والجمال: طوق الحمامة؛ في الألفة والألاّف، دمشق:
مكتبة عرفة، د.ت.
السيوطي، جلال الدين. كتاب التحدّث بنعمة الله، تحقيق: إليزابيث ماري سارتين، القاهرة: المطبعة العربيّة الحديثة، د.ت.
عفط، محمّد. «النّصّ السرديّ التخييليّ، بين التعدّد القرائيّ والأحاديّة الإقرائيّة»، ضمن: مؤلف جماعي (الأجناس الأدبيّة بين القراءة والإقراء)، منشورات وليلي، سلسلة التكوين المستمر، الكتاب الرّابع، مكناس، 2002
العيسة، أسامة. مجانين بيت لحم، الطبعة الثانية، بيروت: نوفل، 2015
كيليطو، عبد الفتاح. الحكاية والتأويل، دراسات في السّرد العربيّ، الدار البيضاء: دار توبقال، 1988
كيليطو. العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة، ترجمة: مصطفى النحّال، الدار البيضاء: نشر الفنك، 1996
كيليطو. الأدب والغرابة، دراسات بنيويّة في الأدب العربيّ، الطبعة الرابعة، الدار البيضاء: توبقال، 2007
كيليطو، الأدب والارتياب، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007
المعرّي، أبو العلاء. رسالة الغفران، تحقيق: محمّد عزّت نصر الله، بيروت: المكتبة الثقافيّة، 1968
Diderot, Denis. Jacques le Fataliste, Paris: L'aventurine, 2000
Eco, Umberto. Lector in fabula; ou La coopération interprétative
dans les textes narratifs, traduction Par Myriam Bouzaher, Paris, Grasset, 1985
Daniel Pennac. Comme un roman, Paris : Gallimard, 1992
- ١. Umberto Eco, Lector in fabula, ou La coopération interprétative dans les textes narratifs, traduction Par Myriam Bou zaher, Paris, Grasset, 1985, p: 80.
- ٢. عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة، دراسات بنيويّة في الأدب العربيّ، الطّبعة الرّابعة (الدار البيضاء:توبقال، 2007)، ص 56.
- ٣. عبد الفتاح كيليطو، العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة، ترجمة: مصطفى النحّال، (الدار البيضاء: نشر الفنك، 1996)، ص68.
- ٤. محمد علي بن حزم، كتاب الحبّ والجمال: طوق الحمامة، في الألفة والألاّف، (دمشق: مكتبة عرفة، د.ت.)، ص1.
- ٥. كيليطو، الأدب والغرابة، ص: 88 - 89.
- ٦. جلال الدين السيوطي، كتاب التحدث بنعمة الله، تحقيق: اليزابيث ماري سارتين (القاهرة: المطبعة العربية الحديثة، د.ت.).
- ٧. أبو العلاء المعريّ، رسالة الغفران، تحقيق: محمد عزّت نصر الله، (بيروت: المكتبة الثقافيّة، 1968)، ص 25.
- ٨. رسالة الغفران، ص 26.
- ٩. نفسه، ص 40.
- ١٠. نفسه، ص 48.
- ١١. كيليطو، الحكاية والتأويل، دراسات في السرد العربي (الدار البيضاء: دار توبقال، 1988)، ص 36.
- ١٢. أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، ورد لدى: عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويل؛ دراسات في السرد العربيّ (الدار البيضاء: دار توبقال، 1988)، ص50 - 51.
- ١٣. ورد لدى: عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007)، ص9 - 10.
- ١٤. Denis Diderot. Jacques le Fataliste, Paris: L'aventurine, (2000), p.228-229.
- ١٥. «كل يوم قبل أن أبدأ عملي، أتوقّف للحظة لأنظر إليها بمنظاري. أشعر في هذا الهواء الرقيق والشفّاف بأنّني أستطيع أن أتبيّن من خلال شكلها الثابت علامات تلك الحركة اللامرئيّة، التي تمثلها القراءة، انسياب النّظرة والنّفس، بل وأكثر من ذلك، رحلة الكلمات عبر الإنسان(..) الرحلة التي تبدو موحّدة وفي المقابل دائمة التحوّل والتشكّل.كم من سنة مرّت مذ كنت أستطيع أن أتيح لنفسي شيئاً من القراءة غير المهتمّة؟ كم من سنة مرّت مذ كان بإمكاني أن أستسلم لكتابٍ كتبه آخر من دون أن يكون له علاقة بما أكتب؟ أدير رأسي، وأرى المكتب ينتظرني، آلة الكتابة بورقتها البيضاء، الفصل الذي ينتظر بدايته.منذ أصبحت عبداً خاضعاً للكتابة، انتهت لذّة القراءة بالنّسبة لي». Italo Calvino. If on a winter's night a traveler, translated by William Weaver, New York: Harcourt, (1981) p: 169.
- ١٦. Daniel Pennac. Comme un roman, Paris, (1992). pp: 167 - 198.
- ١٧. أسامة العيسة، مجانين بيت لحم، الطبعة الثانية (بيروت: نوفل، 2015).
- ١٨. أمبرتو إيكو، اعترافات روائيّ ناشئ، ترجمة: سعيد بنكراد. (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2014)، ص 48 - 49.
- ١٩. عفط، محمّد. «النّصّ السرديّ التخييليّ، بين التعدّد القرائيّ والأحاديّة الإقرائيّة»، ضمن: مؤلف جماعي (الأجناس الأدبيّة بين القراءة والإقراء)، منشورات وليلي، سلسلة التكوين المستمر، الكتاب الرّابع، مكناس، 2002.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.