في نهاية القصة التي كتبها بورخيس عن أعظم شُرّاح أرسطو في القرون الوسطى، ذكر: يختفي ابن رشد في اللحظة التي أتوقّف فيها عن الإيمان به.
وكما ارتأى بورخيس، إنّ ابن رشد الذي كان يعرف كلّ شيء، لم يستطع فهمَ شيء واحد، وكان ذلك هو المسرح. وهكذا حين بلغ الفيلسوف العربيّ الإسباني المنشأ فنَّ الشعر لأرسطو، ارتبك تماماً. ماذا كان يقصد أرسطو بمصطلح «التراجيديا» و«الكوميديا»؟ لم يعرف ابنُ رشد. لم يهيئه قطّ أيّ شيء قد درسه بكثير من الجهد في العالم لفكرة الدراما.
لكن لو كنت أعرف آنذاك الكاتب الأرجنتيني، لكنت حدّثته عن رضوى قرطبة. ولماذا هي؟ لأنّه وفق الوثائق الاستعرابيّة نصف واضحة المعالم التي كانت تستخدم ذات حين كعلف للماعز، إنّ الأمر آل برضوى إلى طليطلة سنوات 1190. وهناك التحقتْ بحركة الترجمة الكبيرة للمدينة، والتي جلبت حكمة الإغريق القديمة إلى أوروبا.
كنت سأحدث بورخيس عن ذلك اليوم، حين تذكّرتْ رضوى بعد عدّة سنوات كيف أتى ابن رشد ذات مرّة يتيمة إلى باب بيتها. الرجل العجوز آنذاك، والموشك على النفي من إسبانيا، حدّثها أنّ هناك عملاً له غيرَ منتهٍ بعد، وعليه إنجازه. سألته: «هل من نهاية حقّاً لعمل تفسير أرسطو؟»
ترك ابن رشد عينيه مسمّرتين نحو الأرض، فكان قد سمع أنّ رضوى في أيّامها الهائجة كانت تخيط قصائد الحبّ على هدب ثوبها كما كانت تفعل الأميرة «ولّادة»، وتميس سافرة في شوارع غرناطة. قال: «لا تسخري منّي!».
كان الرجل والمرأة، وبينهما ما يقارب نصف قرنٍ من العمر، واقفَينِ هناك، في بيت حجريّ في الحيّ اليهودي المتضائل يوماً بعد يومٍ في توليدو، بينما طائفة من الفرسان البورغنديّين الذين قد قدموا مؤخّراً إلى هناك من جهة الشمال، كانوا يطلبون حصّتهم من دماء المسلمين واليهود، موقدين نيران الصِّعاب هنا وهناك.
تمتم ابن رشد مع نفسه: «لا تبحث عن توليدو في توليدو، يا أبا الوليد، بل أغمض عينيك، واذهب إلى مكانٍ آخر».
كانت تعرف أنّه لا أحد يعلم بوجوده في توليدو، فكان قد تنكّر في هيئة تاجر. كما كانت تعرف أنّ رحلته من الجنوب قد كلّفتْه القليل ممّا تبقى له من سنوات عمره، ولابدّ. عظامه كانت هشّة. وعملُه على أرسطو لا يعرف النهاية.
- «ما الذي أتى بك إليّ أیّها الشيخ؟».
- «قیل إنّك تستطيعين رؤية المستقبل. ما هو الشيء الوحيد الذي رأيتِه ولن يغادر ذهنَك؟»
- «أنا متأكّدة أنّ ابن رشد العظيم لم يأتِ إلى توليدو ليسمع بصيرتي».
- «تفضّلي بإجابتي».
وقد فعلتْ، «لقد رأيتُ مكتبة ما. مكتبة أكبر من كلّ ما نعرف. وأكبر من مكتبة قرطبة الكبرى».
- «لا شك...».
مرّة أخرى كانت تعرف ماذا كان يريد أن يقول - بأنّها ولا شكّ كانت تبالغ في حجم تلك المكتبة. لكنّها لم تكن تبالغ. بل كانت قد رأتها في رؤياها، مكتبة بحجم العالم. وأضافت: «في مدينة لم توجَد بعد. في أرض ليست بعدُ مهيّأة».
اتّخذ ابن رشد مقعداً. كان البورغنديون يزأرون. وشوارع اليهود تُفرغ.
- «ما اسم تلك المدينة؟».
- «بوينس آيرس».
- «مدينة قشتالية؟».
هزّت رضوى رأسها. وحدّق ابنُ رشد بها لأوّل مرة. فكرتْ أنّ عينيه كانتا ظلّاً من الأخضر، وبأنّه لا ينظر إليها الآن لأنّه يريد ذلك، بل لأنّه كان متعَباً، وكان باستطاعتها أن تنعشه بخريطةٍ من المستقبل.
- «لا، ليست قشتالية. بل جهة أخرى».
وأخبرتْه أنّ رجلاً نصف أعمى، هناك، في تلك المكتبة، يتخيّل ابنَ رشد العظيم، وبأنّه حالَ ما يتوقّف ذلك الرجل عن تخيّلِه، يختفي ابن رشد، كما لو لم يكن موجوداً أبداً.
تمتم الفيلسوف ثانية، «يختفي... كما سوف يغادر الإسلامُ الأندلسَ ذات يوم».
- «ثمّة وقتٌ ليحين ذلك».
- «لكنّك لا تساعدين الوضع، يا رضوى».
- «أنا مترجمة، ليس إلّا».
-«ليتكِ كنت كذلك وحسب، فقد ذاع الخبرُ، ليبلغ إشبيلية، بل فاسَ، بأنّ رضوى لا تترجم فقط، بل إنّها تحاكي».
ذات يوم كانت تعتقد رضوى أن الشخصيات في كليلة ودمنة، الكتاب الذي كانت تترجمه مع فريق الرهبان الكلونيّين، يمكنها أن تُمثّل. ارتعدت توليدو المسيحيّة إثر الفكرة التي كانت تقول إنّ النّاس يمكنهم أن يتشبهوا بالحيوان، ويمثّلوا كما لو أنّهم أشخاص غير أنفسهم. شيء ما جديد كان يولد هناك. أخذت الهمسات تتعالى. والذين كانوا يمسكون العلم بأيديهم، ولم يكن عددهم بكثير، استحضروا ذلك الاسم الإغريقي، وتحدّثوا عن فنّ الشعر. والآن كان ابن رشد نفسه حاضراً هنا، ليوبّخ رضوى على وقاحتها.
دفاعاً عن نفسها، قالت: «المحاكاة تكريمٌ، يا شيخ». سعَل ابن رشد، وفي ذلك أبصرتْ رضوى موتَه. فتساءلت: أين تقع بوينس آيرس هذه؟
قال الفيلسوف: «محاكاة العالم الأبدي تؤدّي إلى الفوضى. فهل يا ترى سوف تكون ثمّة نهاية إن كانت هناك محاكيات للأبدية؟ ثمّ محاكيات المحاكيات، وهكذا دواليك».
كان يُنفى ابن رشد آنذاك من أفريقيا من قبل السلطان لأنّه، فضلاً عن أمور ما، كان قد تجرّأ في الحديث عن الطبيعة الأبديّة للكون. وهي كانت قد وقعتْ في غرامه من أجل ذلك، من أجل جرأته في اعتبار اللانهاية شيئاً ممكناً. واليوم... حتى ابن رشد العظيم كان يتراجع اليوم عن مبدئه الخاصّ.
شعرتْ أنّ قلبها يتألّم، فقالت: «ولكن، لئن كان العالم غير متناهٍ، فما يهمّ إذن إن أضيفت لانهاية إلى لانهاية؟».
- «أنت تهزئين منّي، يا رضوى».
لم تُخبره أنّه كان هو الذي يهزأ من نفسه، وأنّ الأبديّة غير معنيّة بالإضافات إليها أو الطروح منها. وكان الرجل أذكى من ألّا يعلم ذلك. إلا... إلّا أنّها هي التي ربّما كانت هائمة بين اللانهاية والأبديّة، حينما قد لا يكون الاثنان في الحقيقة شيئاً واحداً أو الشيء ذاته.
مكثت رضوى في أفكارها. هنا كان أعظم فيلسوف العصر. وكان قد أتى إليها لأنّها قد تخيّلته متخيّلاً من قبل رجل نصف أعمى في مكان يُدعى بوينس آيرس، حيث لا يقع في قشتالية، ولا في أيّ جهة أخرى من عالمهم المعروف. كانت هي قد بلغت اللانهاية، أمّا هو، فما الذي جاء لكي يفعله هنا؟ أن يسحبها من اللانهاية هذه؟
قالت: «إن كان هذا يرضيك، سأكفّ منذ اليوم هذا عن الترجمة، وعن المحاكاة». بدا أنّ كلماتها طمأنتْه. «دعي المسيحيّين يسلكون طريقهم نحو ثمار شجرة المعرفة وسمومها».
وكانتْ لتسأل: وماذا عن طريقنا نحن؟ ماذا عن تنافر الرجال الذين ينفونك من مياه الوادي الكبير المطمئنة... وماذا عن الحقيقة؟ ماذا عن البحث المخلص عن اللانهاية؟ إلّا أنّ الوقت كان قد تأخّر. وتخيّلتْ رضوى أنّ جفنَي الرجل نصف الأعمى بدأتا تتثاقلان في مكان ما في بوينس آيرس، بينما كانت إسبانيا بأسرها تتحوّل إلى دخان، وتزول في السُّبات.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.