الكتب في هذا المقال كانت تلك التي وصلت الى لجنة تحكيم جائزة بوغوصيان - السبيل لكتب الأطفال عام 2017 والتي كانت الكاتبة احد اعضائها.
بدايةً، وقبل أن أقرأ صورة المرأة في أدب الأطفال، كان عليّ الذهاب إلى تعريف الذكَر والأنثى كما وردا في المعاجم العربيّة:
الذكَر: «العضو الذي تبوّل منه الذكور».
الإناث: «جمع الأنثى والموات كالحجر والشجر وصغار النجوم.» (محيط المحيط)
قلت لأبحث عن نساء ونسوة. كنت أعتقد أنّ أصل كلمة نساء من «إنسان» و«إنْس»، كما في حكايات جدّتي «إنس ولاّ جنّ؟». وجدت أنّ نساء ونِسوة ونِسوان، جمع «امرأة». «سمّيت امرأة لأنّها من امْرِئ أخذت»، بحسب التوراة.
لا داعيَ لإكمال بحثٍ لغويّ تخطّى الزمن مضمونَه الرجعيّ، حيث يُعَرَّف الصبيّ بـ «رأس القوم»، والصبيّة في الصّحاح بـ «الجارية». صحيح أنّ هذا الزمن ولّى، لكن لا بدّ من الاعتراف بحقيقةٍ ثقافيّة هي أنّ اللغة ليست فقط وسيلة اتّصال، بل هي أداةٌ تحمل المفاهيم والقيَم. هكذا تغيّرت حديثاً بعض المفردات في مجتمعنا: نسمّي «رأس العبد» الطربوش، و«المعاقين» ذوي الحاجات الخاصّة، و«العميان» المكفوفين، و«الكرسون» ميتر، و«الصانعة» خادمة. المفردات مجرّد مؤشّر إلى ثقافة معيّنة.
في بحثي عن صورة المرأة في أدب الأطفال، عليّ أن أبحث عن صورة الرجل أيضاً، وعن علاقة المذكّر بالمؤنّث. هنا ألاحظ في اللغات التي أعرفها، العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، أنّه لا يوجد ضمير «حياديّ»كلّيّاً، فالضمائر تعكس الذكورة والأنوثة. وعندما نتكلّم عن مجهول، مثلاً، في لغتنا المحكيّة، نقول «شخص»، «إنسان»، «حداً» أو «بني آدم»، ونفهم أنّ هذه المفردات مذكّرة، لكنّها تتضمّن أيضاً «فلان» و«فلانة»، ففي العامّيّة كما في الفصحى يُستخدم المذكّر في حال جمع الجنسين.
هذه الأمور تجعلني أقرأ أدب الأطفال بروحٍ سمحة بما يخصّ هذا الجانب من اللغة، المنعوت بالجنسيّ، فلنجرّد المذكّر من ذكوريّته، ولنعتبره مصطلحاّ لغويّاً حياديّاً، ولا داعيَ لطرح أسئلة لا أجوبة عليها.
هذا في اللغة، أمّا في الرسوم، فإنّنا نميّز فوراً بين الجنسين، إنْ لم يكن من الملبس أو الشَّعر، فمن خصائص جسديّة، كالصدر للمرأة أو الشارب للرجل، وما إلى هنالك. وبالطّبع، هذا ليس خاصّاً بالرسوم للأطفال. إنّ التحايل من خلال الصورة أسهل أحياناً ممّا هو عليه في اللغة: كيف يمكننا أن نخمّن جنس الطفل في الرسمة، أو صغير الحيوان، أو الأشكال الهندسيّة، أو الوحوش، الـ«مونسترز»، وقد نال هؤلاء نجاحاً منذ أكثر من خمسين سنة في أدب الأطفال في العالم، وهم رائجون اليوم في بلادنا.
أعتقد أنّ سوق الأطفال ومن ضمنه أدب الأطفال، هو اليوم في أَوَجّ ازدهاره في بلادنا: من متاجر الألعاب والملبوسات إلى الحضانات الخاصّة والرياض ونوادي النّشاطات والأفلام والبرامج التلفزيونيّة والقنوات المخصّصة لها. أمّا فيما يخصّ الكتاب، فهناك أعدادٌ لا سابق لها من دور نشر خاصّة بالأطفال، وكتّاب، ورسّامين ونقّاد وجوائز، أجنحة كاملة في المكتبات، ومعارض الكتاب تكتظّ بالزّائرين لا سيّما بتلاميذ المدارس أثناء الدّوام الدراسيّ، فالكتاب بابٌ للمعرفة.
الأسئلة المطروحة أمامنا اليوم حول الكتاب الموجّه للأطفال، هي حول هذه النمطيّة السائدة في العالم: هل وقعنا نحن أيضاً في المظاهر النمطيّة والكليشّيهات الجنسويّة؟ وماذا عن المضمون؟ وهل يمكن التحدّث عن أدب الأطفال اليوم من دون أن نعود إلى حكايات الجدّات التي تربّت أجيالٌ من الأطفال عليها حتى بدايات هذا القرن؟
هذا ما حاولتُ دراسته في مجموعتين من أدب الأطفال: المجموعة الأولى: الكتب الحديثة، والمجموعة الثانية: الحكايات الشعبيّة.
أ - المجموعة الأولى: الكتب الحديثة
تمّ اختيار عيّنة مؤلّفة من 90 كتاباً صادرة عن دور نشر لبنانيّة، بين سنة 2014 و2017 وموجّهة لقرّاء الـ7 و8 سنوات. سأنطلق من هذه العيّنة من كتب الأطفال، وهي بالطّبع مجرّد عيّنة، لكنّها تحمل مؤشّرات تسمح لنا بأن نقرأ موضوعنا من خلالها. سننظر عن قرب إلى هذه الكتب.
أوّلاً هذه بعض الأرقام:
الكتّاب: هم أساساً كاتبات 70% إناث، و30% ذكور. بحسب دراسة إحصائيّة أُجريت سنة 2008، في أوروبا، «فإنّ عدد الكاتبات هو الغالب بين الكتب الموجّهة للصغار بين الصفر والثلاث سنوات. أمّا في الكتب الموجّهة لقرّاء بين 3 و6 سنوات فإنّ عدد الكاتبات يساوي عدد الكتّاب الذكور. ومن قرّاء الستّ سنوات وما فوق يزداد عدد الذكور ويتقلّص عدد الكاتبات»١. هل كلّما ارتفعت سنّ القرّاء ازداد عدد الكتّاب الذكور وتقلّص عدد الكاتبات في بلادنا؟ لم أتمكّن من الحصول على جواب دقيق. ولكن لمَ لا؟
الرسّامون: هم أساساً رسّامات 75% إناث، و25% ذكور. تتساءل الدراسة المذكورة سابقاً عن التوزيع الجنسانيّ للمهامّ في هذا الميدان، حيث إنّ أغلبيّة مؤلّفي كتب الأطفال إناث، أمّا أغلبيّة الرسّامين فهم ذكور. في عيّنتنا نسبة الرسّامات تعادل نسبة الكاتبات.
الكتاب من الخارج
عنوان الكتاب: 47% الجنس غائب من العنوان، و53% الجنس مذكور في العنوان: 25 % إشارة إلى الأنثى، و28% إشارة إلى الذّكَر.
الشخصيّة على الغلاف: 64 كتاباً، أي أكثريّة الأغلفة، تبرز شخصيّات واضحة الجنس. هذه الشخصيّات تتوزّع كما يلي: 58% للذكور، و42% للإناث.
الكتاب من الداخل
التصنيف: 43% من النّصوص هي قصص، أيّ نصوصً تتألّف من بداية وعقدة ونهاية؛ 31% معلومات، أي إنّ هدف النصّ هو إيصال معلومات بشكل واضح؛ 21% أيضاً معلومات، لكنّها مموّهة في قصّة؛ و5% وثائقيّة.
نلاحظ هنا أنّ الأنواع الأدبيّة متنوّعة نسبيّاً، إذا أضفنا إليها الشريط المصوّر وبعض النّصوص المسجّعة. لكن إذا نظرنا عن قرب، فسوف نلاحظ وجود اتّجاهين: إيصال المعلومات بأيّ شكل كان (وثائقيّ 5% + في قالب قصّة 21% + معلومات بحتة 31% = المجموع 57%) يشكّل أكثر بقليل من نصف العيّنة. والقصّة، كنوع أدبيّ، تشكّل أقلّ بقليل من نصف العيّنة، 42%.
حضور الكتاب: 44% حضور الكتاب في النصّ، و36% في الرسم، و18% غائب من المجموعة. نضمّ في هذه التسمية «كتاب»، أيضاً الحاسوب وأيَّ شكل من الكتابة أو أيّ نشاط مشابه.
حضور الحيوانات أو الحشرات (ولو مرّة واحدة عابرة): إنّها حاضرة في 37 كتاباً، والرسوم، في 36 كتاباً. أحياناً كثيرة تأتي كإضافة من قبل الرسّام / الرسّامة، لا كعنصر توضيحيّ لما ورد في النصّ.
المضمون
المكان حيث يدور السرد: 39% في «الداخل»، أي داخل غرفة أو في الصفّ، ويضمّ هذا الداخل أيضاً الحديقة أمام المنزل، أو ملعب المدرسة مثلاً. 27% في الخارج، أي في الشارع أو الغابة مثلاً. 27% في «الداخل» والخارج معاً، في الكتاب نفسه. 7% المكان غير محدّد.
سلْطة الكبار: نلاحظ سلطة الكبار، أي الراشدين، في 43 كتاباً من أصل الكتب الـ 90 من العيّنة، حيث نلاحظ سلطة الأهل، بمعنى العائلة الموسّعة، في 27 كتاباً. وحضور الراشدين، من غير الأهل، في 16 كتاباً. ما تبقّى، أي 47 كتاباً، هي مسألة ثانويّة، أي سلطة لا تذكر. المهن المحدّدة: 30% من المهن مذكورة بصفتها تعريفاً لشخصيّة ذكوريّة، مثل الملك ورائد الفضاء والمزارع. و6% من النساء يعملن خارج البيت، في مصبغة أمّ بلال وفرن أمّ حبيب ومعلّمة. المهمّ هنا هو الفرق الكبير عدديّاً، في النماذج المطروحة للذّكور والإناث. يبني الأطفال منذ الصغر هويّتهم الجنسيّة، بنات / صبيان، كما يبنون الثقة بالنّفس واحترام الذّات. فالاحتمالات التي تقدّمها هذه العيّنة، ضئيلةٌ جدّاً وضيّقة جدّاً، إذا قارنّاها مع الاحتمالات المطروحة أمام الذّكور.
خلاصة أوّليّة
حتى الآن يبدو أنّنا أمام معادلاتٍ دقيقة تراعي التّوازن وتقدم ما يمكن أن نُطلق عليه اسم الكتب النظيفة، التي تخدم أغراضاً تربويّة وتسويقيّة في الآن نفسه. هناك جهود في الرسم والكتابة من أجل الوصول إلى هذه المعادلة. لكنّ هناك مجموعة من الأسئلة التي لا جواب عنها، وخصوصاً في حقل الكتابة القصصيّة، التي من المتوقّع أن تقدّم ببنيتها التشويقيّة والخياليّة حوافزَ للقراءة والمتعة. ملاحظتي الأساسيّة تنطلق من التناقض بين التطوّر الكمّيّ والتجاريّ لأدب الأطفال، وبين شكاوى المربّين من الأطفال الذين لا يقرأون، وإذا قرأوا، يقرأون فقط الكتب التي تفرضها المدرسة، أو يقرأون الكتب باللغة الأجنبيّة.
هناك في رأيي ثلاثة أجوبة محتملة عن هذا السؤال. الجواب الأوّل يرتبط بالمسألة اللغويّة، حيث نلاحظ، وبسبب الخضوع لمعايير الأسواق العربيّة، تركيزاً على اللغة الفصحى. أنا لا أعتقد أنّ الفصحى تشكّل عائقاً جدّيّاً، شرط تحديثها وانفتاحها على لغة الكلام العاميّة، وتحريرها من الصيَغ الجاهزة. فهناك انفصامٌ بين لغة الكتاب ولغة الحياة، ويجب تقليص الهوّة بين لغة الكتاب ولغة الحياة، عبر لغة بسيطة، تتضمّن كلماتٍ مأخوذة من لغة العامّة. ولا أجد مانعاً لنشر كتب بالعاميّة، وخصوصاً لصغار الأطفال، شرط أن تكتب العاميّة بعربيّة صحيحة.
الجواب الثّاني، هو الخضوع للمعايير المحافظة التي تسهّل تسويق الكتاب في المدارس، وفي الدول العربيّة التي تعتمد سياسة تربويّة محافظة. من تحريك كلمات الكتاب، كأنّنا في صفٍّ مدرسيّ، إلى الابتعاد عن المواضيع الشائكة والخطرة، فيبدو العالم ورديّاً وبلا ايّة مفاجآت، ويعقّم الحكاية، مُفقداً الكتاب قدرته على غواية القارئ.
الجواب الثالث، هو الابتعاد عن تراث الحكايات الخرافيّة، التي قام جزءٌ كبير من أدب الأطفال في الغرب بتحديثها. هذا الابتعاد عن المقترب الخرافيّ العجائبيّ، الذي يحمل في داخله أبعاداً نفسيةّ وينمّي الخيال، يحوّل القصّة إلى ما يشبه الموعظة الاجتماعيّة الأخلاقيّة. ومن جهة ثانية، ألاحظ ابتعاداً عن الكتاب - اللعبة، وكلّنا يعلم أنّ اللعب هو أداة تشويق وتعليم في الآن نفسه.
قصّة الأطفال هي عملٌ يجمع الخيال والواقع في إطارٍ واحد. فالقصّة تحرّر القارئ عبر دعوته إلى رحلة مشوّقة في عالم الخيال الذي هو الامتداد الطبيعيّ للواقع. هنا يقع النّقص الأساسيّ. وهنا نشعر بضرورة إحداث ثورة جذريّة في عالم كتب الأطفال. هذه الثّورة هي شرط تحوّل الكتاب من حاجةٍ تربويّة مفروضة، إلى حاجة فرديّة يسعى الطّفل إلى اقتنائها وقراءتها.
ملاحظات تفصيليّة
من جهة أخرى تبدو هذه الكتب مخصّصة للرّواة، لا من أجل أن يقرأها القارئ - الطّفل. فهو لا يعبّر باللغة المستخدمة فيها. إذا أراد أن يروي بدوره القصّة لنا أو لصديق مثلاً، فعليه أن يبذل جهداً مضاعفاً ليتذكّر تسلسل الأحداث - وهذه متعة - ولتذكّر المفردات - وهذا أقرب إلى الواجب المفروض. المواضيع التي تعتبر حسّاسة معروضة بشكل واقعيّ مؤلم، عنف مجّانيّ كما في كتب: بدر ذو الرجل الواحدة، سما، عبّودي الطفل المميّز، ماما مصابة بالسرطان. كان من الممكن استخدام قصص حيوانات، أو وضع القصّة في قالبٍ فكاهيّ. ونلاحظ غياب موضوعاتٍ أساسيّة كالتربيّة الجنسيّة والعنصريّة والطائفيّة.
سأبدأ بالكتب الجميلة، شكلاً ومضموناً، وهي كثيرة، اخترتُ منها:
بستاني أين أنت؟
يكتشف المزارع أنّه جزءٌ من كلّ ولكلّ واحد خصوصيّته. شرح النسبيّة من خلال القصّة، في سياقٍ منطقيّ وبسيط. نفهم معنى التواضع واحترام الغير وقبوله، دون استخدام هذه الكلمات المجازيّة. الكتاب مكتوب بخطّ اليدّ. لم يحافظ على نسق واحدٍ في الكتابة: الفراغ بين الكلمة والأخرى، أو عدد النّقاط قبل الفاصلة وبعدها، أو عدد النّقاط بعد إلى آخره.
درّاجة على الحبال
ديك وأرنب في نزهة على درّاجة. لغة تسمح للقارئ - الطفل أن يقرأ بنفسه. كلمات سهلة، تقطيع الجمل واضح، تكرار ولازمة وقافية، وقصّة مرحة طريفة. نعرف النهاية من عنوان الكتاب.
حين غرق جدّي
غرق الجدّ في النّوم. سوء تفاهم ناتج من اللعب على الكلام. قصّة جميلة، جديدة، طريفة وناجحة. نموذج للجملة الطويلة.
النَمَسة «نَموستيكو»
برغشة تروي عن نفسها من وجهة نظرها. روح النّكتة، نمط غير مألوف، اسم الشخصيّة - العنوان موفّق، لكن إذا كانت «نمسة» صحيحة؟ فلم لا «ناموسة»؟ أو إذا كانت غير صحيحة فلم لا «برغشة»؟ نلاحظ غياب البحث العلميّ للحكاية، الشخصيّة ليست مؤنّثة، فالأنثى فقط هي التي تعقص (بحاجة إلى بروتيين لتبيض، الدمّ الذي تمصّه يساوي 3 أضعاف وزنها) والأنثى هي التي تُصدر صوتاً لتجذب الذّكَر إليها (400 ذبذبة في الثانية).
أين أجدك؟
تلميذة تبحث عن قبّعتها، ونتبع معها مراحل لبسها. تشجيع الاستقلاليّة. نتعلّم من أخطائنا. سرد أسماء الملابس بشكل طبيعيّ وجميل. اختيار المفردات غير منطقيّ: استخدام كلمات محكيّة مثل «كنزة»، «شال» و«غمّيضة». وهذا ممتاز لأنّ ليس هناك مرادف لها بالفصحى، وهي أليفة منذ قرن وقد خدمت عسكريّتها. لكنّ هناك كلماتٍ فصحى مثل «ملابس»، «مظلّة» و«قبّعة»، لا داعي لاستخدامها بما أنّ مرادفها المحكيّصحيح: «ثياب»، «شمسيّة» و«برنيطة»، خصوصاً أنّ الكلمات التي تثقل النصّ كثيرة مثل «القفّاز» و«السّترة».
لو كان عندي ديناصور
طفل يحلم بديناصور في بيته. يزن الإيجابيّات والسلبيّات. نصّ جميل وممتع، ينمّي الخيال والمنطق. يبدأ النّصّ بإيجابيّات وجود الديناصور وينتهي بالسلبيّات، فتأتي النهاية مغلقة ووعظيّة. عكس ذلك، كان سيفتح مجالاً للحلم والطرافة.
لا تكتمل اللوحة إذا لم نطّلع على الرسوم. إذا كان عليّ أن أبسّط الموضوع، أقول باختصار إنّ أكثريّة الإخراج والرسوم هي من أعمال محترفين، بقدر ما هي أكثريّة النصوص لا تزال نصوص هواة.
هناك عددٌ مهمٌّ من الكتب يتوجّه للراشدين - حنين وبكاء على أطلال القرن الماضي - والطفل ليس سوى ذريعة لإيصال الرسالة، «إحكي الجارة لتسمع الكنّة». فالمهامّ والاهتمام يتعلّقان بمهامّ الكبار، وباهتماماتهم:
تعليم اشارات السَّير: درّاجتي والمرور، سائق سيّارة ماهر.
تعليم تربية الأطفال: الأخطبوط الذي فقد شهيّته، حكاية طفلة اسمها ميرال، دعوني أكبر.
الحفاظ على البيئة والتراث على المستوى الوطنيّ: حجر وقنطرة وقرميد، ذاكرة المدينة، عندما تكلّمت النفايات، مرجانة لا تستطيع الغناء، يوم اختفت الأشجار.
هناك أيضاً عدد كبير من الكتب يقدّم معلومات ناقصة أو خاطئة علميّاً و / أو تربويّاً. سأقدّم مثلاً واحداً عن كلّ ملاحظة.
المعلومات النّاقصة علميّاً: حجر وقنطرة وقرميد
تلميذة مدرسة تبحث عن حلً ولا تعرف «طعم الّنوم»، حتى جمعت رفاقها في مظاهرة ضدّ هدم البيوت التراثيّة، «الشّعب يريد رحيل البلدوزر! ». النقص هو في إغفال أن هناك جمعيّات كثيرة تدعو لتحرّكات ومسيرات ونشاطات - مثل أيّام التراث الوطنيّ اللبنانيّ - نذكر منها «جمعيّة تشجيع المواقع الطبيعيّة والأبنية القديمة في لبنان» و«جمعيّة حماية التراث اللبنانيّ» وغيرها.
المعلومة الخاطئة علميّاً: عبّودي الطّفل المميّز
الرّاوي وَلد له «وحمة» - ما نسمّيه «شهوة» - على وجهه. يقول أنّه «لا يمكن علاجه إلّا... بالليزر» و «للّيزر أخطاء عدّة»، ويعدّد 6 منها. الخطأ هو في اختيار كلمة «أخطاء»: «للّيزر أخطاء عدّة». هل هذه أخطاء في الحسابات أو الجرعات أو ما شابه؟ أم هي مجرّد آثار جانبيّة محتملة لهذه العمليّة، كما هو الأمر لأيّ دواء أو عمليّة جراحيّة؟ ولا يذكر النصّ نسبة النجاح لهذه الطريقة.
المعلومة النّاقصة تربويّاً: الجدّة نويل
بائع الحليب الفقير يشتري الألعاب ويوزّعها على الأطفال متنكّراً ببابا نويل الذي لم يأت تلك السنة، لذا قرّرت الجدّة أن تكون بابا نويل وأهدته قالباً من الحلوى. فبكى من الفرح. النقص هو في عدم ذكر أنّ للعطاء عدّة أبعاد: «فرح العطاء يعادل بل ربّما يفوق فرح الأخذ»، «إذا كان لديك الكثير، فأعط من أموالك، وإذا كان لديك القليل، فأعط من قلبك».
المعلومات الخاطئة تربويّاً: حكاية طفلة اسمها ميرال
حكاية أمّ عاجزة عن تربية ابنتها، تأتي ضيفة غريبة على الأسرة، ميزتها أنّها تكتب كتباً للأطفال، فتعلّم الأم التصرّف السليم مع ابنتها. الخطأ: هل يجوز تخفيض صورة الأمّ لهذه الدرجة في عين القارئ الصغير؟ والخطأ الآخر: هل يجوز أن يكون الجمال مقياساً اخلاقيّاً؟: «تشبهين تلك البنت البشعة والمشاكسة التي لا يمكنُ أن يحبَّها أحدٌ. ولستِ البنتَ الحُلوةَ والذكيّةَ التي يحبُّها الجميع».
لا بدّ أن أذكر أيضاً أنّ هناك حذفاً للمؤشّرات الأساسيّة الجوهريّة في حياتنا العائليّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ربّما هذا الغياب محصور صدفة في هذه العيّنة؟ أم أنّ هذا شرط من شروط النشر؟ أم مراقبة ذاتيّة إراديّة؟ أم ماذا؟ لا أدري.
أمّا القصص والحكايات، فهذه مسألة تدفعنا إلى التواضع والاعتراف بأنّ خبرتنا لم تكتمل أو لم تنضج بعد في هذا الحقل. ذكرنا في التّصنيف أن 21% هي قصص مموّهة هدفها إيصال المعلومات و43% من النصوص هي قصص. أيّ أنّ النسبة الإجماليّة للقصص هي 64%. القصّة، كما ذكرت، لها بداية وعقدة ونهاية. والقصّة الناجحة، برأيي، أو بالأحرى، القصّة الجميلة، هي التي تحتمل عدّة مستويات من القراءة، تماماً مثل لوحة فنّيّة جميلة، أو قطعة موسيقيّة. أقرأ القصّة الجيّدة أكثر من مرّة، وأتمنّى لو يقرأها رفاقي، وأخبّرهم إيّاها. هذه المواصفات نادرة في الكتب التي اطّلعت عليها.
في النّهاية، هذه النواقص والأخطاء من هنا وهناك ليست كبيرة في آخر المطاف. لا يزال لدينا نقص في الكتّاب المحترفين وفي المحرّرين المحترفين، دورهم هو لفت نظر الكتّاب على هذه النّواقص والأخطاء بالذات في نصوصهم قبل الطبع والتسويق.
أخيراً، تبقى المسألة الهامّة، وهي مسألة اللغة حين نتوجّه إلى الصغار بهدف التسلية والترفيه. فاللغة تحدّد الفكر. وكي لا أطيل، أدعوكم لقراءة افتتاحيّة الباحثة هالة البزري في العدد الأوّل من مجلّة «مرسال» مجلّة فصليّة عن أدب الأطفال - خريف 2017، تحت عنوان «بأيّ لغةٍ أو لغات يُنشر الكتاب الموجّه للطفل في البلاد العربيّة؟».
ليس لي ما أضيفه إلى هذا النصّ الممتع سوى نداءٍ إلى دور النشر من أجل المجازفة في نشر - ولو حتى كتاب واحد سنويّاً - باللغة الأمّللأطفال، أي باللغة المحكيّة: فتكون الكتابة أقرب إلى الفصحى مع احترام اللفظ العامّيّ عبر الحركات.
ب - المجموعة الثانية: الحكايات الشعبيّة
وهي كناية عن 100 حكاية جمعتها من لبنان، وصدرت عن دار الآداب في جزئين تحت عنوان «حكايات وحكايات».
نعتبر عادة أنّ الحكايات الشعبيّة، ويسمّيها البعض الشفهيّة أو التقليديّة أو حكايات الجدّات، هي حكايات موجّهة للأطفال. لكن أودّ أن أذكّر أنّ ما نعتبره اليوم أدباً للأطفال، لم يكن يتوجّه إليهم في البداية. مثلاً كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفّع (القرن الثامن)، يهدف في الأساس إلى تعليم مبادئ الحكم الرشيد للحكّام أو «ألف ليلة وليلة» (القرن العاشر)، الذي انتقل من كونه أدباً شعبياً إلى استخدام الكثير من حكاياته في أدب الأطفال.
هذه المقدّمة لأقول أنّ حكاياتنا أيضاً لا تتوجّه أصلاً للأطفال، على الأقلّ ليس جميعها. ذكرت في مقدّمة كتابي أنّ تجربتي الطويلة مع الرّاويات - وهنّ يشكّلن تسعين بالمئة من الرواة الذين استمعت إليهم - سمحت لي بأن أفترض أنّ هذه الحكايات هي «حكايات نساء لنساء». لا أرى ضرورة لإعادة صوغ دفاعي عن هذا الاقتراح الذي شرحته في تلك المقدّمة، بل ربّما من المفيد أن أذكر أنّني اخترت منها 30 حكاية نساء لنساء، أنا وصديقتي عناية بشناق أنكلر، وترجمَتها هي إلى الإنكليزيّة تحت عنوان: «Pearls on a Branch / Oral Tales» أي «لولو بغصونُه»، صدر الكتاب في آذار / مارس 2018، في نيويورك، عن دار أرشيبيلغو برس.
هذا يفترض طريقةً مختلفة في النظرة إلى صورة المرأة، اذ لا غلاف ولا رسومات، ولا زمنيّة، هذا ما يميّز الحكاية الشعبيّة، وتوزيع عدد الشخصيّات بين ذكور وإناث لا يحمل الدلالة نفسها، لا نُفاجأ هنا بأنّ الأنثى هي الشخصيّة المحوريّة في أكثر من نصف القصص: الشخصيّة الرئيسيّة: %63 أنثى - %37 ذكر؛ لكن في الـ %37 ذكر؛ هناك %4 الزوجان معاً (أمّ عويش وأبو عويش، حكاية الماش، يوم يلّي شتّت كبّة، الشيخ عصفور) و%5 حكايات الشاطر حسن (عمليّاً حكاية واحدة بنسخاتها المختلفة).
كانت هذه الحكايات تُروى منذ أكثر من مئة سنة. كانت المرأة المثاليّة في مجتمعنا وثقافتنا، هي المرأة الجميلة، مهمّتها الإنجاب والاهتمام بزوجها، وأولادها وبيتها، وهي مطيعة، كتوم «لها فمٌ يأكل وليس لها فمٌ يحكي»، تتغلب على المصائب بالصبر وصفاء الروح، وتضحّي بطموحاتها الشخصيّة من أجل متطلّبات الأسرة: كبرنا وكان رأينا أنّ المرأة في مجتمعنا هي الضحيّة بامتياز.
كلّ هذه الصفات تتمتّع بها الفتيات والنّساء في هذه الحكايات، وهذه هي الصورة النمطيّة للمرأة الشرقيّة التقليديّة، ولكنْ إلى جانب هذه الصفات التي ترضي الجميع، من محافظين وذكوريّين ورجعيّين، هناك صفاتٌ أخرى وهناك نظرة أخرى لهذه القيَم، التي لم تتخلّ عنها المرأة.
مهمّتها الاهتمام ببيتها ومهمّة الرجل أن يعمل في الخارج، لكنّ المرأة تقود السفينة بسبب عدم فاعليّة الرّجل. يكفي العنوان (الفقير فقير من مرته والزنكيل زنكيل من مرته).
نعم، إنّها مطيعة لزوجها، لكنْ في المقابل، عليه أن يكون مطيعاً لها. في (أبو علي الحطّاب) لم يُطع الرجل زوجته فندم وأكلتْه الغولة: «- من أين آكلك؟ - كليني من دَينتي يلّي ما سمعت كلمة مريمتي!».
صحيح أنّها كتوم، والصمت يحتاج إلى شجاعة، لكنّها وجدت علاجها بنفسها، في (الستّ يدب) تشكو همّها وتروي قصّتها للحجر بصوتٍمرتفع.
نعم، مهمّتها الإنجاب والاهتمام بزوجها، لكن إن كان زوجها ظالماً معها، تهجر الزوج والمنزل إلى زوجٍ آخر ومنزلٍ آخر (بيت بلا همّ).
نلاحظ في هذه الحكايات أنّ المرأة رغم الصفات النمطية المسبقة تقدم صورة مختلفة وجذّابة
انّها ذكيّة وحكيمة، وجدت وحدها وسيلة لتنقذ نفسها وأخوتها بعد أن رماهم والدهم في الغابة (الغوليّة).
متمرّدة مغامرة وشجاعة (السّبيل)، تهجر المنزل متنكّرة هرباً من والدها الظالم.
جريئة، تبادر هي بتحديد موعد عبر استخدام الألغاز للرّجل الذي يعجبها (خيط وفنجان ومقصّ)
تتزوّج وفقاً لاختيارها (حمّام الأكابر).
تقاوم إرادة والدها وتقرّر مصيرها بيدها (حبّة الفلفل) حيث تقابل حبيبها خفية كلّ ليلة في غرفتها.
تحتاج هذه الصورة المختلفة إلى استخدام جرعات من الخيال والسّحر، من أجل أن تحقّق هذه الأنثى غرضها:
مكحلة تتسبّب بحريق رهيب ومرآة تتحوّل إلى بحيرة (ثريّاً).
تؤشّر للأشياء فتطيعها وتحضر إليها (أمّك الشمس وبيّك القمر).
طواويس تبيض بيضاً للحبل لـ«تحبل البنت بلا عريس» (ستّ التناقيش)،
حيوانات تتكلّم وأزهار تلقي الأشعار ...
هنا عليّ أن أذكّر بأنّ أغلبيّة الحكايات الشعبيّة ترويها النّساء. ما يميّز حكاياتنا نحن، هو أنّ هؤلاء النساء يروينها لنساء. نساء يروين عن عيوب الرجل بمتعة، وكأنّها تنتقم، أو لتسليط الضوء على صفاتها هي بشكلٍ أفضل: عيبه الأساسيّ هو أنّه ضعيف الشخصيّة وتهيمن عليه زوجته.
هذا نموذج من حوار في (أمّ عوّيش وأبو عوّيش):
«سألته: - ماذا نأخذ لها معنا؟
أجابها: - ما رأيك أنت؟
دقالت: - خبز تنّور!
أجاب: - وأنا رأيي خبز تنّور!
فقالت له أمّ عوّيش: - نعمل برأيك يا رجل!» وهكذا عملت برأيه طوال الحكاية.
الفارة الصغيرة (الفارة بدّها عريس) تعطي الأوامر لعريسها، فيطيعها بلا نقاش.
في (الضّفدع والضّفدعة) تغضب من زوجها، فتدير ظهرها وتعود إلى بيت أهلها. ينهار الزّوج ويتوسط أصدقاءه لإرجاعها.
في نهاية هذه الحكايات ليس هناك درس أخلاقيّ، ولو وجدنا في الحكاية شيئاً من ذلك فإنّ الحكاية لا تستخلص أيّ مغزى أو عبرة. تتميّز هذه الحكايات عن عيّنة الحكايات الحديثة التي ذكرْتها، بأنّها تغذّي الخيال، فالخيال شرط الإبداع، بل هو أهمّ من المعرفة. نرى في الحكايات الشعبيّة عالماً موازياً فيه جنّ ومارد وغول وغولة وعفاريت... كلّها خيّرة وشرّيرة معاّ، هذه الظاهرة تميّز حكاياتنا عن الحكايات الشعبيّة الغربيّة الرّائجة، يكفي أن نتعامل معهم بلطف ليتأنسنوا.
تقول سيمون دو بوفوار في كتابها «الجنس الثاني»: «إنّ أدب الأطفال والأساطير والحكايات والسرديّات، يعكس الأساطير المبتدَعة من كبرياء الرّجال ورغباتهم: فتستكشف الفتيات الصّغيرات العالم، وتحلّ شفرة قدرهنّ من خلال عيون الرّجال». أمّا حكاياتنا نحن، فهي مبتدعة من براعة النساء ورغباتهنّ، فنستكشف العالم من خلال عيونهنّ. الصوَر النمطيّة، لا سيّما صورة المرأة الضحيّة، كلّها جاهزة لمن يشاء من القرّاء والمستمعين. وصورة المرأة المتمرّدة، المتحرّرة، موجودة أيضاً في حكاياتنا، إن بحثْنا عنها، وجدناها. وإذا أعطتنا صورة عن المرأة المقموعة، المظلومة، فهي تحرّضنا لنثور على التصرّفات الإستسلاميّة. إنّ كاتبات وكتّاب، ورسّامات ورسّاميّ الكتب الحديثة، هم ورثة هؤلاء الرّواة.
- ١. الجنسيّة في أدب الشبيبة: كتب الأطفال. هيلان أنجلو، إلودي بيجو، بيار بِيّو، ماري كيّفيك وأدلين شليّه. المعهد الجامعيّ للتكنولوجيا في ديجون - مهن الكتاب والتراث.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.