العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

الأسرة العراقيّة بين كفَّي المشَرِّع الديني

النسخة الورقية

لم يكن قانون الأحوال الشخصيّة العراقيّ رقم ١٨٨ المقرَّر سنة ١٩٥٩ وتعديلاتُه اللاحقة قانوناً يتّسمُ بالمثاليّة، بل هو بعيد كلَّ البُعد عنها. إلّا أنّه، وبعد ما يقارب الستّة عقود منذ إقراره وجد العراقيّون أنفسهم يترحّمون عليه، مصدّقين بأنّ ماضيهم كان مشرقاً مقارنةً ببؤس حاضرهم. فإذا نظرنا إلى القانون بنسْخته قبل تعديل ٢٠١٧، يبدو لنا جليّاً أنّه كان قانوناً مدنيّاً لكنّه مجاملٌ للشريعة الإسلاميّة في بلَدٍ فيه نسبةٌ لا بأس بها من الأقليّات غير المسلمة بالإضافة إلى المذاهب الإسلاميّة المختلفة. فعند التدقيق فيه يظهر كأنّه يوجد ثغراتٍ لنفسه يستطيع من خلالها أن يمرّر مدنيّته خصوصاً فيما يتعلّق ببنود الزواج والطلاق، حيث تبدو البنود في ظاهرها مطابقةً للتشريع الدينيّ، دون أن يحدّد المذهب، بينما يترك جوهرها وتطبيقها للمشرّع المدنيّ، أو القاضي في المحكمة المدنيّة.

من ضمن بنود قانون الأحوال الشخصيّة رقم ١٨٨، أنّه لا يجوز عَقد الزواج مهما كان المذهب أو الديانة أو المعتقَد، إلّا في المحكمة المدنيّة، ولا يُعدّ الزواج الدينيّ (إسلاميّاً كان أم مسيحيّاً أم صابئيّاً أم أيزيديّاً...إلخ.) بحدّ ذاته نافذاً. كما لا يستطيع الرجل إتمام زيجةٍ ثانية (من دون تحديد المذهب حرفيّاً) إلّا بشروطٍ معيَّنةٍ من ضمنها المقدرةُ الماديّة والعدل بين الزوجات. فيعود القاضي المدنيّ إلى الزوجة الأولى ويدرسُ حالها وهو الذي يقرر ما إذا كان ذلك الزواج مسموحاً به أم لا. وفي حال مخالفةِ حكم القاضي أو زواج الرجل من غير موافقة المحكمة المدنيّة تترتّب على المخالِف عقوباتٌ قد تصل إلى السجن من ستّة أشهرٍ إلى سنة. بالإضافة إلى العديد من البنود التي حاولَت الموازنةَ بين الشرع والتشريع المدنيّ مثل سِنّ الزواج التي حُدّدتْ بسنّ الثامنة عشرة لكلا الجنسيْن، وفي استثناءاتٍ معيَّنة قد يُسمَح بزواجِ من لا يقلّ عن الخامسة عشرة، ويُقرِّر ذلك قاضٍ في المحكمة المدنيّة أيضاً.

يبدو أيضاً أنّ اللجنة المشرّعة لقانون الأحوال الشخصيّة لسنة ١٩٥٩، وفي حين إنّها شدّدتْ في النَّص على كون القانون شاملاً لكلّ العراقيّين بمختلف دياناتهم وأطيافهم، تعمّدت في ذات الوقت عدم تحديد هذه الدّيانات خصوصاً فيما يتعلق بمسائل الميراث وانتقال الملكيّة، حيث تختلف المدارس الفقهيّة والأديان بشأنها. فهي وإن ذكرتْ أنّ «للذكر مثل حظّ الأنثيين» إلّا أنّ المحكمة المدنيّة في العراق اعتمدتْ في حلّ نزاعات الميراث المعقّدة حدّ خروجها من اتّفاقات الأسرة الداخليّة إلى المحكمة، على قانون الأراضي الأسريّة أو ما كان يسمّى بقانون الأراضي الأميريّة الذي وُضع في زمن الحكم العثمانيّ في العراق واعتاد النّاس عليه منذ زمنٍ بعيد. وينصّ هذا القانون على انتقال أملاك المتوفَّى العقاريّة والمنقولة بالتّساوي بين ذرّيّته ذكوراً وإناثاً، واضعاً الحلّ مرّة أخرى في يد القاضي المدنيّ، وشاملاً لكلّ العراقيّين بغضّ النّظَر عن دياناتهم.

مع اندلاع الحرب العراقيّة الإيرانيّة في بداية ثمانينيّات القرن العشرين واشتداد حدّتِها، دخلتْ بعض التعديلات أو ما يمكن تسميتها التوضيحات على القانون في بعض البنود خصوصاً فيما يتعلّق بالطلاق في حال غياب الزوج أو اعتباره أسيراً أو مفقوداً في الحرب. وبينما بقيت المحكمة المدنيّة هي السلطة التشريعيّة الوحيدة المنفّذة للقانون حتى عام ٢٠١٧، أي قبل التعديلات الأخيرة، إلّا أنّنا لا نستطيع إنكار تهميش هذه السلطة خلال أيّام الحصار الاقتصاديّ على العراق وإطلاق صدّام حسين ما سمّاه بالحملة الإيمانيّة التي قام من خلالها بالتقرّب من الإسلاميّين السنّة والعشائر العراقيّة، فسيطر القانون العشائريّ وأصبح بديلاً في حلّ النزاعات ودفْع الديّات وعقْد الاتّفاقات الاجتماعيّة منها والاقتصاديّة حتى وصولنا إلى ما بَعد الاحتلال الأميركيّ الذي خلَق الفوضى وزاد من تهميش القانون المدنيّ. وقد جرت الكثير من المحاولات في السنين القليلة الماضية لإجراء تعديلات على هذا القانون بما يتماشى مع سيطرة الأحزاب الدينيّة (لا سيّما الشيعيّة المتطرّفة) في العراق، وربّما أشهرُ هذه المحاولات كانت ما طرحه رئيس الوزراء العراقيّ الأسبق، إبراهيم الجعفري، الذي أطلقَ على مشروع التعديل «القانون الجعفريّ». وقد جُوبه هذا الطرحُ بالرفض والاستياء الشّديدَيْن من قبَل منظّمات حقوق المرأة والمجتمع المدنيّ، وخَرَجَت المظاهرات مطالِبةً بإقالة الحكومة. وجاء تعديل عام ٢٠١٧ متوقَّعاً إلى حدٍّ بَعيد وغيرَ مفاجئٍ وإن كان مثيراً للكثير من الجدل والاستياء.

صوَّتَ البرلمان العراقيّ الحاليّ في جلسته المنعقدة في تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٧، مانحاً موافقته المبدئيّة على مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصيّة العراقيّ الذي يضع فيه رسميّاً أمور تنظيم الأسرة في يد المشرِّع الدينيّ المذهبيّ تحديداً بدلاً من المحكمة المدنيّة العراقيّة، التي كانت توحِّد العراقيّين بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينيّة أو المذهبيّة تحت قانونٍ تشريعيٍّ واحد. وقد نَصّ مشرع التعديل الأخير أنّه يحقّ للمواطن العراقيّ الرجوعُ إلى ما يتبَع من مرجعيّةٍ دينيّةٍ ومذهبيّةٍ لحلّ أمور حياته الشخصيّة وعقوده الاجتماعيّة كالزواج والطلاق والميراث وغيرها... ممّا يُعطي للمشرع الدينيّ، الذي يعتمد عادةً على تفاسيرَ مذهبيّةٍ أو فقهيّةٍ، أن يقرّر تفاصيل حياة الأفراد والأسرة، وبالتالي المجتمع ككلّ، الأمر الذي أثار مرّةً أخرى، غضب واستنكار منظّمات حقوق المرأة ومنظّمات المجتمع المدنيّ والتيّارات المدنيّة في البرلمان. وقد صرّح بعض ناشطي المجتمع المدنيّ بأنّ هذا التعديل ما هو إلّا محاولة أخرى تلي سابقاتها من محاولات ممثّلي الأحزاب الإسلاميّة في البرلمان لتمرير قوانين مجحفةٍ بحقّ المرأة وتحكيم الدين بدلاً من فصله عن الدولة. وكان من أهمّ ما طُرح من مخاوف باتتْ شبه ثابتة هو أنّ المشرِّع الدينيّ لا يمانع في كثيرٍ من الأحيان زواج القاصرات اللواتي قد يكنَّ في عمر التسع سنوات أحياناً، ممّا يعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الطفل، بالإضافة إلى القضايا الأخرى التي يجيزها المشرِّع الدينيّ أيضاً كضرب الزوجة وإجبارها على طاعة الزوج، أو عدم السماح بالزواج بين المذاهب المختلفة وغيرها من التعاليم والممارسات والآراء الفقهيّة التي ترسِّخ السيطرة الذكوريّة الدينيّة وتُعيد العراق عقوداً إلى الوراء متسبّبةً بتفكيك المجتمع وزيادة الفرقة المذهبيّة والدينيّة بين أفراده.

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.