أجنحة صغيرة لريم
يتسلّل البرد والهواء والغبار إلى بيتنا من نوافذ وقمريات بلا زجاج، يدخل الريح والمطر أيضاً، ولا نستطيع حماية أنفسنا من البرد، أصلحَ زوجي زجاج النوافذ والقمريات مرّةً أخرى، لكن مع كلّ قصف للمليشيات على منطقتنا يتشرّخ زجاج النوافذ على رؤسنا. اقتنع أخيراً زوجي بتركها لحالها وسعدتُ بذلك. ريم هناك، أحسّ أنّ روحها في الهواء الذي ينفذ إلى رئتيّ، وكلّما خفق هواء العصارى الباردة شعرتُ بأنّ روح ريم في الهواء الذي يبقى في العظم ليذكّرني بأنّي فقدتُ ابنتي في الحرب.
تقول الجدّات إنّ الأطفال عندما يموتون يذهبون إلى الجنّة، يصبحون ملائكة. في كلّ وقت أتخيّل ريم ملاكاً صغيراً بأجنحة ورديّةٍ تُحّلق في سماء الجنّة، ترقص ريم وتضحك، تغنّي مع أطفالٍ آخرين قَتلتْهم الحياة أو الحرب، لكنّ الأطفال عندما يُقتلون في الحرب يُخّلفون في قلوب أمّهاتهم حسرة، وأنا أكلتْني الحسرة على ريم. أتذكّر ذلك اليوم كألمٍ لا ينام، الندَم والذنب يبقياني مستيقظةً في الليل، أفكّر بما حدث، أحياناً يَدهمني شعورٌ منهِك بأنّي السبب في موتها، وأحياناً أتخلّص من العذابات المُرهِقة، وأُقنع نفسي بأنّ الصّدف العبثيّة أو الأقدار هي السّبب. صادف أنّ ريم وأختَها ملاك وأطفالاً آخرين في الحيّ كانوا أمام الدكّان وقت وقوع القذيفة، وأنّ القتلة هم الذين تسبّبوا بفجيعتنا وبآلامنا، لكنّ الشعور بالذنب يأكل قلب الأمّ الحزينة التي ظلّت تحمي صغارها، الأمّ التي تركتْ طفلتيها تخرجان للموت.
أتذكّر ريم طوال الوقت، حين تلعب مع أختيها ملاك وبشرى، ويناكفهما أخوهما مالك، أصواتهم المحبّبة تملأ حياتي، وتمنحني الأمان، أو حين تقلّد ريم حركات وأفعال جدتها حَجة. إذا بدأت الجدّة بالصلاة تُحضر ريم سجّادتها وتصلّي جوارَها، وإذا استلقتْ جدّتها في السرير، استلقت ريم جوارها مقلّدة إيّاها. أكون حينها بعيدةً عن ضجّة العالم وأصوات القصف والقذائف، أكون محميّة من الرعب الذي يملأ شوارع «بير باشا»، المنطقة التي لا تهدأ فيها الحرب أبداً.
في الأشهر الأولى من الحرب، نزحنا إلى قريتنا في منطقة «مَقْبَنَة»، بقينا في القرية شهرين، لكن كما تقول عمّتي حَجَة، كانتا سنتين من الشقاء، لا ماء، لا كهرباء. في كلّ صباح نذهب إلى الجبال البعيدة لجلب الحطب، تتشقّق أيدينا وأقدامنا من الألم، لم نستطع البقاء أكثر في القرية، عدنا إلى البيت، وأصلحنا النوافذ المحطّمة، لكن بعد ثلاثة أيّام من عودتنا استهدفت القذائفُ بيتنا، سقطتْ قذيفة على السقف وحطّمت خزّانات المياه، حبستُ أطفالي ومنعْتهم من الخروج.
لا أعرف لماذا قلتُ يومها لريم وملاك أن تشتريا من الدكّان بطاطس لأختهما الصغيرة؟ لا زلتُ أتذكّرهما، وهما تنزلان درج العمارة. ريم ترتدي سروالاً وردياً و«جاكيت» أنيقة، قبل يومين قَصصتُ شعرها، كانت تبقى أمام المرآة تتأمّل نفسها وتبتسم. (تصمت نسيبة، وتنكمش حول نفسها) رجّة انصفاق باب البلكونة بقوّة هي ما أيقظني من شرودي، ثمّ بدأ الدخان يملأ الغرفة، بكت ابنتي الصغيرة، حملتُها ونزلتُ درجات السلّم، كان زوجي واقفاً هناك. «ريم... حقّ الله». خرجتُ إلى الزّقاق. الدماء تغطّي درجات الدكّان، البطاطس مختلط بالدم، ريم صغيرتي، وأطفال آخرون، ميتون وبلا رؤوس. (تبكي نسيبة) ما الذي فعلتْه ريم ليقتلوها؟ كانت طفلة صغيرة، حرموني منها، كسروا قلبي، من ينصفنا؟
ملاك الآن لا تمشي، ولا تقف، نخلَت الشظايا جسدها، تتذكّر كلّ يوم كيف كانتْ تمسك بيد أختها، وهما تنتظران صديقتيهما رُبى ورَفى لتلعبا معهما، تقول لي «يا ماما لم يكن لريم وجه. سحقت القذيفة وجه أختي».
في كوابيس ملاك، أسمع صوت القذيفة وهي تسقط آلاف المرّات، ثمّ، ابنتي ريم وأطفال آخرون بلا رؤوس، تحكي ملاك تفاصيل الفزع مرّة تلو مرّة، وتتعرّق في نومها، تحكي عن رأس أختها المشظّى على الدرجة الرابعة في الدكّان، أحضنها وأبكي، حينها تتسلّل نفحات هواء باردة وأفكّر بريم، تحلّق حولنا بجناحيها الصغيرين.
الأمّ نُسيبة عبد الملك
في الساعة الرابعة والربع من عصر يوم الثالث من تشرين الأوّل / أكتوبر ٢٠١٦، استهدفتْ مليشيات الحوثي وصالح دكّانا في منطقة «بير باشا» بمدينة تعزّ، قُتلت ابنتها ريم بشير، ٤ سنوات، وسعيد محمد سعيد، ١٠ سنوات، ومحمّد فوّاز محمّد، ١٠ سنوات، وبشّار محمّد قائد، ١١ سنة، وعلي عبده سعيد، ٩ سنوات، وماجد ناصر سعيد، ٢٨ سنة، ومحمّد عبد الله عبده، ٢٠ سنة، وهيثم قائد منصور، ٢٠ سنة، وإسماعيل محمّد أحمد، ٣٥ سنة، وأصيل مهيوب غالب، ١٧ سنة، كما أصيبت ابنتها ملاك بشير، ٨ سنوات.
الأباتشي لا تصطاد السمك
لا أريد أن أتذكّر. أنا تعبان. يصمت بِخيت، يحدّق بالسقف المقشّر طلاؤه، تبرز قدماه من تحت ملاءة سرير المستشفى، يشاغله أصدقاؤه بالمزاح، لكنّه ينظر إلى كلّ ما حوله بغضب. قال لي أحد أصدقائه «لا تغضبي منه، لقد عانى كثيراً لإنقاذهم. إنّه حزين». ينتبه بِخيت لحوارنا ويبدأ في سرد حكايته...
كنّا في القارب الأوّل الذي قُصف في ذلك الليل، رأينا ضوء طائرة ينير ظلمة الليل والبحر. لم نسمع صوت تحليقها، كأنّها هبطْت من السماء. لم ننتبه لها إلّا حين بدأتْ تحلّق بموازة القارب. في البداية ذُعرنا من ظهورها المفاجئ، لكنّا عدنا لانشغالنا، لم يخطر ببالنا أنّها ستهاجم قاربنا. أعتقدنا أنّ مرورها هنا مجرّد صدفة، وأنّها في طريقها إلى مكان ما، لا شيء هنا لتقصفه، لا شيء سوى صيادين يكدّون لكسب قوت يومهم، لكنّها لم تمهلنا طويلاً للتّفكير باحتمالات أخرى، بدأت الأباتشي بإطلاق النّار على القارب في الساعة السابعة ليلاً، بعد مضيّ سبع ساعات على ابحارنا من شاطئ مدينة الحديدة في الساعة الواحدة ظُهراً. حينها كنّا قد وصلنا إلى منطقة «صندل»١، المنطقة التي كنّا نصيد منها دائماً. كانت منطقة هادئة، لا قواعد عسكريّة هنا ولا مُسلّحين، فقط قوارب الصيّادين، عندما بدأتْ طائرة الأباتشي تستهدفنا بنيرانها، اضطربْنا، حاولنا الهروب من نيرانها وحماية رؤسنا، لكن لم يكن في قاربنا الصغير ما يمكن الاختباء خلفه.
أتذكّر الأباتشي وهي تصوّب نيرانها نحونا، ونحن محاصرون في القارب في عرض البحر، مهما صرخنا، لا أحد هناك ليغيثنا، لا بشر ولا زوارق صيد أخرى، فقط الظلام والبحر حولنا. أتذكّر كيف كنّا ممدّدين على القارب الذي نخلتْهُ النيران. سقطنا بين قتيل وجريح، لا صوت يخرج منّا ولا نفس. بعد تأكّد الطائرة أنّ لا حركة تصدر من القارب، اختفت فجأة كما ظهرتْ. (تقاطع ممرّضة دخلت إلى الغرفة، ذكريات بخيت، تسألني: «هل ستصوّرين بخيت؟ إذا كنتِ ستُصوّرينه، انتظري حتى أغيّر الملاءات». أهزّ رأسي بالنفي. يواصل بخيت).
عندما فتحت عينيّ، أدركتُ أنّني مصاب، لا أستطيع الحراك، ألتفت فيما حولي، أصدقائي ممدّدون بلا حراك. حاولت النهوض، لكنّ إصابتي أعاقتني عن الحركة، استجمعتُ قوّتي ونهضت لأتفقّد أصدقائي: صديقاي عبد الله دعبوش وعبد الله علي جابر قُتلا، نخلَت نيران الأباتشي جسديهما، دماؤهما تسيل على القارب (يختنق صوته ويصمت).
تحسّستُ باقي أصدقائي، كانوا مصابين، ومغمىً عليهم. بحثتُ في القارب عن شيء لأُوقف به النزيف، وعندما لم أجد ما يمكن استخدامه، فقدت الأمل في النجاة. بعد وقت، عدت من جديد، أبحث عمّا أوقف به النزيف، انصبّ كلّ تركيزي وقوّتي وطاقتي على إنقاذ أصدقائي الآخرين، كنت واعياً رغم إصابتي، لا أعرف من أين امتلكت تلك القوّة والصبر، عندما أتذكّر ذلك الآن أفكّر بأنّي كنت حينها إنساناً آخر، لا يرى سوى آلام أصدقائه والنجاة من الموت بأيّ طريقة، لكن كيف يمكن أن ننجو، وجميعنا مصابون، لا شيء في القارب لنربط أنفسنا به، المياه تنفذ إلى داخل القارب المملوء بالثقوب، والذي يتمايل طوال الوقت والمياه تغمره. كنتُ أنظر حولي كالمجنون، وأنا أفكّر بموتنا الوشيك، أدور داخل القارب لأبحث عمّا ينقذنا من الغرق. بعد وقت، نجحت بصعوبة في ربط أصدقائي المصابين من أرجلهم، أوثقتهم جيّداً وأوثقت نفسي أيضاً، ثمّ استلقيت على ظهري جوار جثث أصدقائي. جميعنا من قرية الصباري٢، نعرف بعضنا جيّداً، لم يكونوا أصدقائي بل أخوتي. فقدتُ اثنين منهم يومها.
دائماً ما كنّا نرتاد هذه المنطقة، نصطاد فيها منذ احترفنا مهنة الصّيد، كانت تبعد ١٦ كيلو عن جزيرة طُرفة، منطقة آمنة للصّيّادين، لم نسمع أنّ طيران التحالف يقصف قوارب الصيّادين ويقتلهم بهذه البشاعة، لو كنا سمعنا بشيء كهذا ما نزلنا البحر. لكن ما ذنب أصدقائي، هم مجرّد صيّادين، لماذا يقتلونهم؟ (يصمت).
القارب الذي «خوزقتْه» نيران الأباتشي كان يهيم وحده في البحر، لم أبال إلى أين قد يذهب بنا، كنّا مصابين وننتظر مصيرنا، مرّت إثنتان وعشرون ساعة منذ قصفتْنا طائرة الأباتشي ونحن ما زلنا في البحر. عندما مرّ قارب للصيّادين في وقت الجَلبة٣، كانت الساعة الخامسة من عصر اليوم الثاني. أنقذنا الصيّادون، سحبوا القارب وأسعفونا إلى المستشفى.
اثنتان وعشرون ساعة مضتْ ونحن في البحر. هل تتخيّلين ذلك. اثنتان وعشرون ساعة ونحن عالقون في البحر، مصابين، ومتعبين، وقتٌ طويل ومظلم وحزين. كيف مرّ عليّ وبماذا كنت أشعر؟ لا أريد أبداً أن أتذكّر.
الصيّاد بخيت أحمد عبد الله
في الساعة السابعة ليلاً من يوم الأربعاء، الخامس عشر من آذار / مارس٢٠١٧، استهدفت مقاتلة أباتشي للتّحالف العربيّ قارب صيّادين. أُصيب بخيت أحمد عبد الله وعصام مُعافى وحمدي سيّد ومحمّد ربيد وحسن جعدار، وقتل صديقاه عبد الله علي جابر وعبد الله دعبوش موسى جمال. زرت بخيت في مستشفى «الأقصى» بمدينة الحديدة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.