بيروت، في تمّوز / يوليو من العام ١٩٦٢. في ظلّ الحرارة الرّطبة آخر فترة بعد الظهر في فصل الصّيف، قصدت فندق سان جورج للقاء أوسكار نيماير ومرافقته إلى منزلنا الصيفي في بحمدون، وهي قرية صغيرة في الجبل اللبناني. كان نيماير قد وصل إلى مرفأ بيروت قبل بضعة أيّام بدعوةٍ من الحكومة اللبنانيّة بغرض وضْع مخطّط معرض طرابلس الدولي، وسارع إلى الاتصال بوالدي، وهو مهندسٌ معماريّ وشيوعيّ مثله، عملاً بنصيحة خورخي أمادو، صديقهما المشترك.
أخبرني بوّاب فندق سان جورج أنّ نيماير ليس في غرفته. بحثت عنه في صالات الفندق وعلى الشرفة المطلّة على الخليج، ووجدته أخيراً جالساً إلى المشرب، محاطاً بالنساء الجميلات. فاقتربت منه بخجل وعرّفته بنفسي.
«هذا أنت، ابن صديقي؟ عذراً سيّداتي، الواجب يناديني».
في سيارة «أولدزموبيل» كبيرة مع سائقٍ وضعها بتصرّفه «المجلس التنفيذي للمشاريع الكبرى» كنّا ننهب المسافات على الطّرقات الجبليّة. أمطرني نيماير بوابلٍ لا ينقطع من الأسئلة. فهو يودّ أن يعرف رأي الشباب اللبنانيّ بالثورة الكوبيّة، وباستقلال الجزائر الذي يتصدّر عناوين الصحف، وبالأخبار التي تتسرّب بشأن جون شتاينبك الذي سيترشح لنيل جائزة نوبل في الآداب لهذا العام مبدياً أسفه لأّنه بعد كتابة «عناقيد الغضب» تحوّل هذا الأخير عن الكفاح السياسي للتّعاون مع لجنة الأنشطة المناهضة للولايات المتّحدة.
سألني عن مشاريعي فأخبرته أنّني نجحت للتّوّ في امتحان البكالوريا وأنّي، بعد كثيرٍ من التّردّد، اتّجهت إلى دراسة الهندسة المعماريّة.
ممتاز إذاً. ستأتي إلى برازيليا. لقد أسسنا للتوّ مدرسة جديدة للهندسة المعماريّة، كما أنّ اللغة البرتغاليّة سهلة جدّاً، وفي شتّى الأحوال، يتحدّث المهندسون البرازيليّون جميعهم اللغة الفرنسيّة.
قطب عمرانيّ يواجه طرابلس القديمة
على شرفة منزلنا الصيفيّ، تحدّث نيماير عن انطباعاته الأولى بشأن موقع المعرض: بساتين البرتقال التي تمتدّ إلى ما لا نهاية، والسّاحل الوحشيّ، والتّلال في البعيد. يريد أن يستولي على الموقع، ويسجّل حركة قويّة، ببناء قطب عمرانيّ جديد يضاهي المدينة القديمة التي تحتضنها ضفاف النهر، عند سفح قلعة سان جيل. ينبغي أن يبتعد تصميم المعرض عن الكليشيهات المعتادة في هذا النّوع من المشاريع، حيث تكتسح المجال الأجنحة المختلفة ذات الجودة المعماريّة المتدنيّة، من أجل تدشين نموذجٍ جديد من المعارض يتميّز بتغطية شاملة تُقيم في ظلّها مختلف الدّول مساحات عرضٍ خاصّة بها. ويتَّسِم هذا النّهج المعماريّ بالبساطة والانضباط في البناء.
في سياق الحديث، تذمّر من البرنامج الذي أعددناه له: اجتماعات لا تنتهي، ووجبات غداء رسميّة، كما عبّر عن رغبته في الهرب وزيارة ربوع لبنان: غابة الأرز، وجبيل، وبعلبك. اقترحت بخجل أن آرافقه في جولته، وأكون مُترجِمَه. وافق والداي على الفور. وخلُص والدي إلى القول: «سيشغلك ذلك خلال هذا الصّيف ويجنّبك ارتكاب الكثير من الحماقات. أمّا بالنّسبة إلى برازيليا فسنرى. يمكنك الذّهاب إلى هناك في وقتٍ لاحق، ابتداءً من السّنة الثّالثة أو بعد نيلك الشّهادة، لكي تتخصّص».
كنت أنتظر بفارغ الصّبر عُطل نهاية الأسبوع لأرافق ضيفي في جولته الاستكشافيّة في لبنان. وقد تأثّرت لدى اكتشافي أنّه في مذكّراته التي نُشرت عام ٢٠٠٥ احتفظ ببعضٍ من تلك الذّكريات:
«أتذكّر بيروت حيث كنت أذهب خلال عطلات نهاية الأسبوع، مدينة لُقِبَت بأنّها «لؤلؤة البحر الأبيض المتوسّط»، الطّريق من طرابلس إلى بيروت، المدينة الصغيرة [جبيل] التي يُقال إنّها إحدى أقدم المدن في العالم، مع أطلال مسرحها الصغير بمحاذاة البحر، بعض الشوارع ما زالت موجودة، والمزهريّات الجنائزيّة هنا وهناك. هناك وقفنا بلا حراك، وتخيّلنا كيف كان أجدادنا يعيشون، حياة بدائيّة، لا حول لهم ولا قوّة، إنّما مع الرّغبات والقلق ذاتَيهما اللذين ما زالا يعصفان بنا».
«أحببت أيضاً ذلك الفندق في بيروت حيث مكثت، شرفته الواسعة التي تطلّ على البحر الأبيض المتوسّط، الأحاديث بين الأصدقاء، بشأن المسائل الحياتيّة والهندسة»١.
لبنان قبل الفوضى العمرانيّة
عثرت على بعض الصّور لهذه المغامرات وأدركت أنّي كنت حينذاك مصوّراً رديئاً. مع ذلك، تجسّد هذه الصّور لبنانَ الذي لم يكن قد تشوّه بعدُ بفعل الفوضى العمرانيّة. وهو عالمٌ اختفى بالكامل. هو طريقٌ جبليّ في المتْن، صورة عن لبنان الذي لم يَطَله بعد الزّحف العمرانيّ. منزلٌ قرويّ في شمال لبنان، عودة بالذّاكرة إلى عالمٍ اختفى.
كنّا قد زرنا قصر بيت الدّين في الشُّوف مع والدَيّ. في الصّور التي احتفظتُ بها عن هذه الزّيارة، يظهر نيماير برفقة والدي. وُلِدَ كلاهما عام ١٩٠٧، بالتّالي كانا يبلغان من العمر خمسةً وخمسين عاماً. في حين يبدو والدي أكبر بعشر سنوات، نيماير أشبه بشابٍّ في الخامسة والثّلاثين من العمر.
يحدّثني نيماير عن برازيليا. يخبرني عن حلمه بمدينة جديدة تمزج بين مختلف المقاييس العمرانيّة: محورها الضخم، وميدان السّلطات الثّلاث، الذي يذكّر بعظمة الشّعب البرازيليّ، وأحياؤها السكنيّة، المنتشرة في المناطق الخضراء المكسوّة بالعشب، بمتاجرها، ومدارسها، وصالاتها الرياضيّة، ومسابحها. ويخبرني أيضاً عن خيبة أمله لرؤية الأحياء الفقيرة تنتشر حول المدينة وعدم القدرة على توفير مساكن لائقة للعمّال الفقراء في بلاده.
ويضيف أنّه لا بدّ من توخّي الحذَر في طرابلس لئلّا يُفسد الفهم الخاطئُ والجشع طبيعةَ المشروع فيفضي في نهاية المطاف إلى بناء أحياء سكنيّة بين المتنزّهات والحدائق، مُحاطة بالمدارس ودُور الحضانة والنّوادي ودُور السينما والكنائس والمساجد.
بيد أنّه وراء حماسة هذه الكلمات، استشعرتُ بمسحة من المرارة، يشوبها الشكّ، بشأن قدرة هذا المشروع الحداثيّ على إجراء تحوّلٍ حقيقيّ في المجتمع.
عام ١٩٦٤، أطاح انقلابٌ عسكريّ حكومة جواو غولار، الذي خلف جوسيلينو كوبيتشيك راعي نيماير والذي باشر بمغامرة برازيليا. وعلى الرّغم من مكانته كرمزٍ وطنيّ، تعرّض نيماير لضغوطٍ من الجيش، وتمّ إيقاف مجلّة Mo’dulo التي يرأس تحريرها عن الصُّدور، كما أُحبِطَتْ مشاريعه بانتظام. كان عليه أن يغادر البرازيل إلى المنفى في «العالم القديم». وأقفلت مدرسة الهندسة الجديدة أبوابها.
بعد بضعة أشهر، توفّي والدي فجأةً. كنت في العشرين من عمري، وعلى قولة پول نيزان، «لن أدع أحداً يقول إنّه ربيع العمر».
لن أذهب إلى برازيليا.
- ١. Oscar Niemeyer, My architecture 1937 - 2005, Rio de Janeiro, Editora Revan, 2005, p.188.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.