العدد ١٧ - ٢٠١٧

للغراب الأسود مكان مرموق على الشجر الأخضر

يقال: بلدك هو المكان الذي تخلقه وتعيش فيه وليس بالضّرورة أن يكون هو البلد الذي وُلدت فيه. أنت: عبارة عن مجموع ما حدث في حياتك مع مكوّناتك الجينيّة علميّاً، وما تريده، وما تصبو إليه خلال المرحلة التي تمّر بها نفسيّاً وبيولوجيّاً.

يقال: قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت. ويقال: مع العولمة وحركة الانفتاح التي وفّرها الإنترنت صار العالم بلداً واحداً وصارت الحضارات أكثر تمازجاً وتزاوجاً من حيث الطقوس الدينيّة والثّقافيّة والاقتصاد والموضة الاستهلاكيّة.

أشعر في هذه اللحظة أنّني فقدت لغتي، كما في كلّ مرّة أبدأ فيها كتابة فصل جديد. أشعر حينها أنّي أضيع فألجأ إلى الفصول السابقة، إلى بعض الصّور الفوتوغرافيّة من ذاكرتي. عبثاً! لا أريد أن أكررّ ذاتي، لا بدّ لي إذاً من أن أطوّر أدواتي كي لا أعلق في دوّامة واحدة تتعفنّ تلقائيّاً من ركودها.

ربّما لأنّني أمرّ في مرحلة انتقاليّة، أجدني أطرح على نفسي أسئلة كبيرة، فيما قليل من السّواد يخيّم على سمائي، فالتّغيير الكبير لم يكن إطلاقاً من شيَمي لا سيّما أنّني أعاني من فقدان الإحساس بالأمان ومن مستوى عال من الحساسية قد أتوه بينها وبينهما وبين الإحساس بالذّنب لفعلٍ اقترفه إنسان آخر وهو وحش بهيئة إنسان.

منمنمات بورسلان الحمّام الليلكي

أخيراً، بعدما هربْتُ من دائرتي الصغيرة في عكّار، وبعدما تخلّصت من طقوس الحمّام العربي: حفرة في الأرض ترمي فيها الدنَس والإثم وكلّ الزّوائد، التي تجلس قربها تستحمّ وتتطهّر! وبعدما كنت أعدّ بلاطات الحمّام - البورسلان - على أصابعي، ومن ثمّ أعدّ النّقوش المطبوعة على تلك التي تُجمَع بطريقة خاصّة جدّاً، فيتوسّط كلَّ حائط جداريّة، غالباً ما تكون لطيور أو لمنظر أوروبّي (قرى وجسر ونهر)، كنت أجمع من حولي أدوات التنظيف - الشامبو والبلسم والصّابون البلدي والدّلو والكَيْلة - وأجلس عارية ومحدودبة على الكرسي البلاستيكي القصير، أستمتع إلى أجيج النّيران تأكل الحطب اليابس والماء تهدر داخل السخّان، فأصغر أنا لتكبر مملكتي.

بعدما كنت أتوسّط كلّ شيء، وأنفرد في عالمي، في وطني، مع أصدقائي وفي أمسي وما سيكون أمامي، ضاقت دائرتي، ضاق الوطن وضقت به، وصرنا زوجاً يعيش كلّ واحد فيه على التّنكيل بالآخر - ثنائيّتنا المزدوجة (المواطن الفرد - الوطن). ضاقت تلك الأمبراطوريّة الصّغيرة الدّافئة الشفّافة فصرتُ أستحمّ واقفة بالحمّامات الأكثر عصريّة. ومع انتقالي إلى بيروت ومع كلّ النّساء اللواتي شاركتهن المنزل بقوانينه المنتهكة، كان تفرّدي هو في حمّام يكاد يكون عموميّاً، متسخاً أو مليئاً بالصّراصير. مرّ الزمن وأنشأت أمبراطوريّتي مجدّداً، وما إن أعلنت تدشينها وفرديّتها وخصوصيّتها وتناسقها التامّ، ما إن دشّنت حمّامي الجديد، سمائي في العاصمة، وبدأت رسم المتاريس وإعلان النّذور، حتى جاء موعد الانتقال.

بعدما رتّبت أمور أمبراطوريّتي، واحدة تلو الأخرى: الوزراء والنّواب والمهندسين والحرفيّين والمثقّفين، وبعدما تربّعت على عرش حوض الاستحمام وراعيت شؤون الدّولة، كان العمر قد أنهك الغرور وخضّبه بالنّضوج، وجدتني أعترف بالهدف لا الطريقة، أن أكون نظيفة - «فْرِيش» - أن آخذ وقتي. فأنا أصل مملكة متعبة أصلاً. أستحمّ أينما كان وكيفما كان، أغادر إلى الفراش، حيث أفقد التّواصل مع الأحياء وأتكفّن بالأسود حتى الصّباح الربّاح.

من يوميّات سنفور عاديّ في بيروت

كفنٌ أسودُ يصاحبني بالليل وأعبده حتى ينحره الرّمادي. فلفل، القطّ الرّمادي، يغمرني ويقبّلني مراراّ كي أطفئ المنبّه وأكمل نومي! إنّها السادسة صباحاً، موعد عقوبة الإعدام اليوميّ.

الوجهة: مخيّم صبرا وشاتيلا. الهدف: مدرسة خاصّة حريريّة. الحالة المزاجيّة: أكره العمل في هذه المدرسة ليس لمكانها ولا لفئتها بل حتماً لأنّي أعمل فيها منذ عشر سنين ولأنّني أكره إدارتها. حسناً، لا بدّ لي من أن أكون صادقة مع مونولوغي المَيْرمي وإلّا فما الهدف من كتابة مونولوغ اصلاً؟

أكره ما ألبسه ولكنّني مضطرّة، أكره ناطور البناية حيث أسكن، أكره المغادرة أيضاً وأكره زحمة السّير غير المبرّرة في هذا الصّباح الباكر وكلّ صباح مهما بكّر أو تأخرّ، أكره الدركي المتسبّب بزحمة السّير، دركي برتبة شرطيّ سَير، ربّما شرطي سير ببدلة دركيّ، يقف قرب إشارة السَّير. لماذا إذاً ثمّة شرطيّ سَير؟ طيّب شرطي هو أو دركي، كم يبدو «ستايِلش» عالموضة يعني. هل يبني منزله فوق منزل أهله، هل يعبس لأنّه تشاجر مع خطيبته، لماذا اختار أن يصبح شرطيّ سَير؟ هل هذا ما توقّعه أو حلم به؟ لما انتسب إلى السّلك العسكريّ؟

أكره طريقة وقوفه، أكره حركة يديه، غروره، أراه يعاني من داء حبّ عظَمة مكسورة وراء «رنجر» - حذاء عسكريّ وبذلة ركيكة متّسخة لا تصلح حتّى لطقس الصّيف. على العسكريّ أن يموت حرّاً ولا تسقط هيبته ووهْرته. الله أكبر!

أقود جانب حرج بيروت باتجاه مشروع الربيع في أرض جلّول. أصل إلى حاجز الجيش. أكره حاجز الجيش عند مدخل المخيّم. عناصر الجيش يتعاملون معك كسنفور بطريقة أكثر تواضعاً أو ربّما أكثر إحساساً بالذّلّ من الدّركي، إحساس بالذلّ مغطّى بطبقة شهيّة من الانتماء الوطنيّ وقد رُشّت عليها مفردات عظيمة يتّفق عليها الجميع وتداري كافّة المصالح والوجهات. عبارات تقول إنّ الجيش هو المنظّمة اللاطائفيّة في بلادنا! نعم! الجيش خطّ أحمر!

تدقّ ساعة الصفر مجدّداً: حولي لا أقلّ من ١٥٠٠ طالب يصرخون عنفَ أهلهم عليهم ويركضون كالشّياطين حتى يرنّ الجرس فالنّشيد الوطنيّ الذي لا يكترث له أحد يتحوّل من نشيد وطنيّ الى مجرّد طنين. طن طن طن طن طن. طن. طن. طنططن. طنطن طنطن طن طن.

المعلّمات في تظاهرة بالـ«فول مايك أب»، طلاء بألوان قوس القزح على الوجوه، لا بدّ أنّ الإضاءة ضعيفة في منازلهنّ!

منهنّ من تأخذ صفوفها لتجتمع الأخريات في غرفة المعلّمات حيث للنميمة مختبر وفنون. هذه تتحدّث رأساً عن مسلسل ما أو خبر ما، وهذه تتبع ريجيم وثلاث أخريات يفقهن بالدِّين ويخطبن بالدِّين والعانس تراقبهنّ هي. واحدة تفتخر بأنّها رمت الكلب أرضاً أو دعسَتْه وتركتْه يتألّم، وأخرى تشكو خادمتها، وتريد خادمة جديدة، وتطْلق التعميمات عن جنسيّات متوحّشة وتعلن أنّ القيامة اقتربت. وعن هذه الأكلة: «لا يا حبيبتي، لا لا لا، تسك تسك. أنا أسلق الدّجاج قبل طبخه، لا أصدّق أنّك لا تقومين بذلك، نو نو نو». وأنّ سعد الحريري شخصيّة جميلة وجذاب جدّاً كرجل.

يا للهول سعد «سيكسي»! له، يا ألله: عم تسمع؟

وأنا أبحث عن مكان هادئ، أبتعد فيه عن هذه العيّنات من مجتمع غلَبه السّيليكون واستُعبد للفذلكة. وكثيراً ما أجدني أقول إنّ حياتهم أسهل أو أشعر بمزيد من اللاانتماء فتتضارب لديّ المشاعر. كلّ هذا يحدث وأنا أسكب المياه السّاخنة في كوب الزّنجبيل بالحامض لأحلم فقط بأنّني أجلس على شرفة المنزل أقرأ باسم ربي الذي خلقني وأكتب الـ«ألف لام ميم» وأمثّل وأرقص.

لا وقت للحلم ولا لشرب الفنجان كاملاً. يصدمني الواقع العمليّ فالورشة تغتال الحيّ وشرفة المنزل وصوتها يفككّ مسامير حوض الاستحمام ويخلخل الثّقل التّاريخي لمملكتي ويدنّسها لتصير الجورة العربيّة بإثمها أحلى ملاذ!

إدارة التوحّش الإسمنتي

لا تكاد تحلّ السّاعة السّابعة والنصف حتّى تستيقظ بيروت. تستيقظ ورشات الهندسة المعماريّة التي لا تنتهي، تستهلك كلّ الطبقات السمعيّة والمعايير المتعدّدة: مباني، مكاتب، فنادق ولا صناعة ولا سياحة والبلد محاصر بين البحر الملوّث وسورية المفجوعة وفلسطين القضيّة المنسيّة.

لا جبل لا بحر: باطون مسلّح على الطّريق العام، قرب المنزل، قرب غرفة النّوم، في منزل الجار، قرب مطعمي المفضّل حتى على الشاطئ العام، وعمّالٌ شباب تشفق عليهم يعملون من الفجر إلى النجر لصاحب أموال ويصدرون الضجيج: طج، طج، بج!

لا لحظة سكون واحدة إلّا الهرب إلى القرى حيث لا عمل هناك أو النّزول إلى البحر، وأيّ بحر؟ اللجوء إلى المنزل؟ وأيّ ملجأ! إذاً الأفضل العودة إلى العمل حتّى تنتهي الورشة. توشك بيروت في مخيّلتي أن تنزع عنها رداء البحر الأبيض المتوسّط كلّيّاً لتصير شارعاً نيويوركيّاً أو دبيّ صغيرة ونحن نصير أكثر انعزالاً بعضنا عن بعض رغم صغر المساحة التي تجمعنا وضيقها وكما يقول أصدقائي: «كلّه نايك كله، على قلِّتْنا»!

هو ضرب من الجنون: صرت، صرنا شرشبيل، وصارت بيروت فكرة الشيطان الجميل، سنفورة السّنافر، زرقاء فيها السمّ الزّعاف!

بيني وبين بيروت وكلّ من عاشرها قصص جميلة ومثيرة. ولكنّني لم أعد أجد فيها رائحة «المونة» في الخريف تعدنا بما سوف يتيسّر لنا أن نأكله في الشّتاء. وحوش اقتحمت غرف المونة ليلاً تبعثر محتوياتها وتنتظر النّهار لتجلدنا بسرقتها.

نصحني صديق جديد قديم بالكتابة عن أسباب مغادرتي بيروت. أنا أكتب عن ذلك الآن. أجلس على كنبة في غرفة الجلوس في مدينة «كولون» بألمانيا وقد حضرت حقيبة العودة الما قبل الأخيرة إلى بيروتهم، أخطو خطوة صغيرة في الحدث الجلل. مرعوبة؟ إي. ومشتاقة للمرطّبانات الزجاجيّة المتنوّعة على رفوف «النمليّة» ولرائحة الكشك والبحر ولعقود أنهكها الواقع الأليم، بفعل تضاربه مع الذّاكرة والحنين.

اختفى الأفق وزال المدى وما زلت بحال من الصّدمة من بعد التّكفين.

وطن النّجوم أنا هنا، حدّق أتذكر من أنا؟

أنا، وأعوذ بالله من الأنا.

أنا أنا. أنا آنُ ما آنت لها أن تكون أنا. أنا الأنا التي لم تئنّ ولم تكنّ.

أنا التي عملت حتى بكت وعشقت حتى جرحت وأحبّت مجدّداً ولن تنجرح.

أنا التي نجحتْ ودأبتْ واجتهدتْ حتى أصابتها خيبة الأمل من العمل.

أنا التي تقيّدت بالقوانين والأعراف حتى شرّحت وتساءلت فثارت وقرّرت.

أنا التي ادّعَت وضُربت وتكسّرت فما سُمعتْ ولا حُضنتْ فما صَدّقتْ ولا سمَّت ولا بَكت فاختنقت.

مشهد رومنسيّ أليف مغيّب

ينتهي النهار والوظيفة معاً. يتسامر التعب بقدميّ والصداع والحلق العطِش الأجوف. نجلس جميعاً في سكون ليليّ، المساء يحتلّ المغيب وتتداخل الفصول والأزمنة والهويّات، لا شيء يمكن القيام به.

هبط المساء باكراً على جسدي هذا الصّباح! أجلس أنا وظلالي - لا شيء معيب - خلعنا جميعنا أقنعتنا عند الباب وأطفأنا التّلفاز بعد إلقاء نظرة عليه. دخّنّا سيجارة المساء الأولى احتفالاً بانتهاء الطقس الجنائزيّ اليوميّ المتكررّ وغمرنا الرماديُ، فانقطعنا عنه لندخل الحمّام.

عراةً دخلنا، في الحوض جلسنا وبعد سنين عدنا لعدّ البلاطات الملكيّة، وقد استغنينا عن نقوشها، وحوّلنا أدوات التّنظيف.

كبرت مملكتي. في وحدتي فتحت الباب، فصار البيت كلّه حمّاماً واستحممت حتى تعبت وإلى السرير توجّهت، ووجدتني هناك نائمة، أتقلّب بثبات وانتظام فكلّ شيء منتظم ودقيق. فها هو ظلّي ينام وظلّي الآخر يستحمّ. ها هي نسختي الكابوس منّي تنبئني بالجنازة الجديدة في الغد، وآخر منّي على الشّرفة تحلم هناك وحيدة... وأنا أحاول عبثاً إيقاف الورشة الأولى، أوّلاً، إلّا وهي إسكات المنبّه... يغتالني الرّمادي... كلّما أتاني، أدركت أنّني لست ميتة، كلّيّاً، هناك بعض العواطف، فأزيل عنّي كفني، وأتوجّه إلى أقنعتي أرتديها. بيروت لا أكرهك، ليس تماماً، ولكن أغادرك كي أزيل الأقنعة منّي تماماً، وأكون أنا حرّة لأنّك حقّاً عنيفة.

ملاحظة

كلّما وجدتني أتكلّم عن الوطن سمّيته بيروت، فالوطن هو المكان الذي تخلقه وتعيش فيه وليس بالضّرورة أن يكون المكان الذي قد خُلقت فيه.

وأنا على الكنبة أشعر أكثر بالانتماء إلى ذاتي هنا، مع الشبّاك الزجاجيّ، والشجر الأخضر من أمامي، قليل من الشمس وكثير من المطر، لا حلم ليلة صيف بل معطف تقتات منه أذى البشر.

يتبع

العدد ١٧ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.