العدد ١٧ - ٢٠١٧

النشأة في مخيّم رفح

يا ليتني علبة «نيدو»!

أطفالاً كنّا، لعبْنا كثيراً لعبة «يهود وعرب»، البعض يختبئ والآخرون يبحثون عنهم.

غالباً ما كان الفتيان هم اليهود ونحن الفتيات كنّا العرب، لأنّ اليهود أقوى وأشدّ. لم يفكّر أحد منّا ما كان هذا يعنيه! لم نمارس السّياسة كان همّنا اللعب والاستمتاع فقط.

هي لعبتنا المفضّلة، إن لم يكن هناك حظر تجوال، غالباً ما نلعبها في الشّارع.

هنا كبرتُ، في مخيّم رفح.

لا نقول أبداً «الإسرائيليّين» ولا حتّى «الجيش» نقول «اليهود» على سبيل المثال «أجو اليهود»، بالنّسبة لي يهود يعني: الخوف، في الليل، نائمة على فراش قاسٍ كما الأرض، أفكّر في القصف، في الموت، في الطّائرات التي تمرّ مقتلعةً سقوف البيوت.

نظرت إلى علبة صفراء كبيرة لحليب البودرة «نيدو» وُضعتْ في أعلى الخزانة، كانت وقتها أعزّ ما يمكن الحصول عليه في المخيّم، معظم العائلات العاديّة تشرب حليب بدون أيّ اسم أو علامة تجاريّة من الأنروا، مكتب الأمم المتّحدة الذي اهتمّ باللاجئين الفلسطينيّين.

قلت لنفسي: «يا ألله ليش ما خلقتني علبة نيدو!». كان الجميع يحترمها! أُنزلت العلبة لوضع ملعقة صغيرة من حليب البودرة في الشّاي وأرجعْتها لمكانها، كانت تُعامَل بحرصٍ واهتمامٍ شديدين! قضيت أيّامي بعدها أقول لنفسي: « حتْروحي النّار!»، «حتْروحي ع جهنّم!» كنت مقتنعة تماماً أنّي سأحترق في اللهب.

الجنود دائماً ما كانوا يقتحمون منزلنا من الباب الخلفيّ المحاذي لغرفتي. أحياناً أستيقظ فزعةً: «يا ماما، يا ماما! اليهود إجو، أنا سامعة صوت بُسطاراتهم على الأرض».

قالت لي حينها: «لا يا روحي هاي التّكتكة بتاعت السّاعة، يللا نامي... نامي».

طقْطقة قطرات المطر على سقفٍ من صفائح معدنيّة مموّجة، صوت دقّات السّاعة أو المنبّه وصوت خُطى الجنود عند اقتحامهم المنازل، هذه الأصوات الثّلاثة ستبقى مختلطة عندي للأبد. كانت حياتي كلّها حبيسة لحظات الحزن والقلق هذه.

أمّا في السّعادة، فدائماً نترقّب حدثاً ما سعيداً ولكنّه قليلاً ما يأتي فالحزن كان طاغياً. أصبح الحزن ثابتاً أكثر فأكثر، ملائماً لمزاجي ومتناغماً معه.

كبرتُ مع حركة حماس

عند اندلاع الانتفاضة الأولى في ١٩٨٧ لم أكن قد تعدّيت الخامسة لكنّ رائحة الغاز المسيّل للدّموع مازالت حتّى الآن في أنفي.

تأسّست حركة حماس في ذات العام، وأنا كبرتُ معها. كان عالماً حزيناً مستقرّاً إلى حدٍّ ما. أعمامي انتموا إلى حركة حماس، ما جعل الجنود الإسرائيليّين معتادين على الهبوط على منزلنا في منتصف الليالي، ليُدبّوا الرّعب في قلبي.

وبالرّغم من صغري فقد زرت إسرائيل. كان جدّي جمعة والد أبي يعمل في فندقٍ هناك وهذا ما ساعده للحصول على إذن لدخول مستشفى تل أبيب على أثر ظهور مشاكل في القلب. وقد أخذوني معهم لزيارته هناك.

توقّفت الحافلة التي كانت تقلّنا عند محطّة بنزين، حينما بدأ رجُل الخدمات بغسل نوافذ الحافلة بخرطوم مياه، صرخت خائفةً في اللحظة التي اصطدم فيها الماء بالزّجاج فقد جعله متلألئاً كأنّه مكسور.

عندما كنت في المستشفى، ركبْت المصعد لأوّل مرّة في حياتي، دخلنا أنا وجدّتي وفُتح الباب مجدّداً ولكنْ على مكانٍ مختلف تماماً! لم أفهم شيئاً! سألت جدّتي: «احنا سافرنا يا تيتا؟».

«يا تيتا إحنا فعلاً سافرنا جوّاً. هاد...هاد...!!؟؟» لم أعرف حتّى أنّه كان يسمّى مصعداً.

وجدنا أنفسنا بعدها بقليل جالسين على العشب في ساحة المستشفى. اللون الأخضر يحيط بنا من كلّ اتّجاه! لا أصدّق عينيّ! لم أر مثل هذه المساحات الخضراء هناك في المخيّم حيث كبرْت.

راقب جدّي معي تلك السيّدات ممدّدات على العشب حاسرات الرّؤوس برفقة عائلاتهنّ: «هاي السّت هان عندها سرطان... واللي هناك هاد مريض بالقلب... وهدول ولاده بيجوا بيزوروه. دايماً».

في هذه الحديقة اكتشفتُ أنّ اليهود أناسٌ عاديّون جدّاً! لم أصدّق حينها أنّهم كانوا يهوداً فعلاً. ولكنّي سمعتهم يتحدّثون باللغة العبريّة، حينها فقط اقتنعت أنّهم يهود، كنت واثقة تماماً أنّ كلّ اليهود جنودٌ حتى تلك اللحظة فتغيّرتْ نظرتي!

جدّي ويا له من جدّ! كان رجلاً متفتّحاً، علّمني أن أكون متسامحة مع جميع النّاس وجهاً لوجْه. قبل ولادتي قام جدّي بدعوة أبي في العطلة للعمل في إسرائيل، لم يكن يحمل أيّ ضغينة أو كراهية في قلبه، ووجد شيئاً عاديّاً جدّاً أن يتعلّم ابنه العبريّة حتّى صار يتكلّمها بطلاقة. كان يتكلّم عن رئيسه في العمل باحترام بالغ و يقدّر عمله جدّاً كمسؤول عمّال الفندق. رأيت صورةً قديمة له في تل أبيب مع جدّتي أيّام شبابهما، كانت صبيّة تلبس فستاناً جميلاً مع أساور متناسقة معه وخصلات شعرها متطايرة مع الرّيح.

بعض أولاده انضمّوا إلى حركة حماس ولكن ليس هو. كان يعيش بين عالمَين متناقضَين: بيْن هؤلاء الجنود الذين يقتحمون منزله من وقت إلى آخر وبين رئيسه في العمل الذي أحبَّه كثيراً.

كان يرجع إلى المنزل ومعه أنواع من الجاتّوه لذيذة جدّاً، بنكهات غريبة وغير معتادة والعديد من الأشياء الأخرى الشهيّة إلى أبعد حدّ. ينقدني طاني، نصف شيكل، الذي كان لطفلة في عمري مبلغاً كبيراً، حيث إنّ فتيات المدرسة عادة ما يحصلْن على مائة أجوره واحدة، وهي عُشر الشّيكل. في ذلك الوقت كان من يعمل في إسرائيل يعتبر من أغنياء البلدة.

كنت أيضاً أُفَضّل جدّي الآخر، من ناحية أمّي، جدي عبدالله، هو أيضاً كان يأخذني معه إلى إسرائيل، إلى مزرعة كبيرة حيث يعمل كمزارع. هذا المكان قد كان من أجمل النّزهات التي حظيتُ بها، العصافير في السّماء لا تحصى، كنّا نغنّي لها أغنية خاصّة في كلّ مرّة نراها محلقّة ومهاجرة في أسراب كثيرة، نركض ضاحكين خلفها منشدين:

عوام الخميس... جابلي قميص

كنّا نقطف أنواع النّباتات لنأخذها إلى البيت. أحببت الخضرة كثيراً. في أحد الأيّام الماطرة في مخيّم رفح، كنّا جالسين تحت شجرة زيتون كبيرة، زرعها جدّي عبدالله، ليغمرني شعورٌ مفاجئ، هو ذاته الشّعور الذي يخالجني عندما كان يجوّد القرآن بصوتٍ عالٍ، ولكن في لحظة مباغتة زرَقَتْ على رأسي حمامة في الأعلى وهذا هو الحال المعتاد معي قال لي جدّي: «ياسِيْدي، هاد حظّ كويّس ما تتضايقي، هاد معناه في أخبار أو إشي حلو جاييلك».

اكتشاف مدينة غزّة

نقول «قطاع غزّة» أو «غزّة» لتحديد أبعاد المنطقة، لكن غزّة أيضاً هي اسم المدينة وتعتبر عاصمة القطاع.

إن كانت إسرائيل عالماً آخر بالنّسبة لنا، نحن اللاجئين في مخيّم رفح، فإنّ مدينة غزّة هي كذلك أيضاً. عند ذهابي إليها لأوّل مرّة أصبْت بالدهشة! لم أتخيّل أنّ المدينة مختلفة إلى هذا الحدّ عن المخيّم الذي يبعد حوالي الأربعين كيلومتراً إلى الجنوب حيث لم يكن هناك شيءٌ آخر!

توغّلت إلى عالمٍ، ويا له من عالمٍ شاسع! لا نستطيع استيعابه تماماً! كانت عمّتي هي التي أخذتْني في ذلك اليوم إلى حفلة زفاف في حيٍ راقٍ في مدينة غزّة، لم تصدّق عيناي ما تريانه! فيلّا فخمة محاطة بأشجار عالية، مرأباً كبيراً للسيّارات، رجالاً ببدلات داكنة، نساءً أنيقاتٍ جدّاً سافرات. لم أصدّق! اذاً كان هناك مَن هم أغنياء من الفلسطينيّين!

كنت أنا أيضاً أنيقة حينها لأنّ والدي يرسل لي دائماً ملابس جميلة وثمينة من الإمارات حيث كان يعمل. ارتديتُ قبّعة من الزّهور، ولكنّي فجأة أدركت أنّني نسيتها في سيّارة الأجرة الجماعيّة التي أتينا بها! وجدتُ سائق الأجرة، فقلت له غاضبة: «إنت يا حيوان! إنت مشيت وأخدت طقيتي معك!». ذهب المسكين مرتبكاً، مسرعاً لإحضارها لي.

لم أكن تجاوزتُ الخامسة من عمري حينها ولكنّي كنت بالفعل كارثة!

العدد ١٧ - ٢٠١٧
يا ليتني علبة «نيدو»!

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.