فيما الأفكارُ تتصارعُ في رأسي، أعدتُ كوب القرفة المعتاد إلى مكانه على الطّاولة فوق رقعة زجاجٍ بيضاء بعد رشفةٍ مستعجلةٍ لدغتْ لساني بشدّة. عليّ الاعتراف بأنّ التّناقضات اجتمعت في ذاك الجزء من الثّانية وكان بإمكانها في الوقت عينه أن ترتفع. تجمّدت الأشياء فطغى الخوف. تسمّرت الكمانات في سيمفونيّة صامويل باربر الثّانية، أو ما تبقّى منها، على جملةٍ حادّةٍ. ليس وقتاً طويلاً ذاك الّذي تمرّدت فيه الكمانات على سياقها المكتوب. أعجز عن تبيان مدّة العصيان. في وجداني، لا يستأهل ما حصل صفة الوقت. في المنطق، يبقى وقتاً أعطاه المكان مبرّر التّسمية، وإن بدا ضعيفاً وغيرَ علميّ تقسيمُ تلك الثّانية إلى جزئيّات. ومع ذلك، مع سرعة ما حصل، أتعبني الصّوت.
إلى خارجي انتقل الجماد. توقّفت يدٌ تسرّح بنعومةٍ فائقةٍ شعراً إلى جانبي عن فعل ذلك، وما عادت ملاحظاتُ سيّدةٍ مسنّةٍ عن صعوبة علك قطع اللّحم في طبقها تثير حفيظة النّادل أو ردّة فعله. لم يُطبِق كلب لوحةٍ مستطيلةٍ فكّيه على شرشف الطّاولة ألقاني على الرغم من أنّ سردَ مخيّلتي رسم نهايةً مأساويّةً لمزهريّةٍ تعلو الطّاولة. ربّما جاء ذلك تماشياً مع درجة الحمرة الدّمويّة للشّرشف، أو ربّما لعبت فرضيّة الحتميّة دوراً هنا.
في جزئيّة الجماد تلك استعرَ ما استعر. تضخّمت حبيباتُ القرفة. غاصت حتّى أسفل لساني مستبيحةً المسافة بين فكّي العلوي ورديفه. بدت وقحةً عقابُها الأمثل البصق لكنّي امتنعتُ عن ذلك. كدتُ أرى أمامي سيّدةَ الباص المسنّة تُخرج من صدرها منديلاً أبيضَ وتَعدّ ما بحوزتها من مال غير آبهةٍ لنشّالٍ قد يكون حاضراً في الصّورة. تلاشت اللّقطة لحساب طفلٍ متسوّلٍ يمرغ قطعة حلوى بثيابه. لبكائه طبقة صوتٍ تتناسب مع تسمّر كمانات باربر.
كان موتاً. شبّهتُ اللّحظة الحارقة بالموت. أشياء تتجمّد وأخرى تلتهب. زمنٌ غير مفهوم. سياقاتٌ غير متناسقة. مرحلةٌ لا يهمّ مداها بل نتاجها. لم أجاهر بذلك، فالرّجل عن يميني يتحدّث عن رحلةٍ شيّقةٍ تنتظره في بروكسل. تبلورَ التّوصيف بعد زوال اللّحظة، بعد عودتها إلى نقطة البداية. لحظةَ الاندثار أو تلك الّتي نظّنها كذلك يتّخذ الوعي شكلاً جديداً غير معتادٍ في محسوساتنا. يتغيّر معه التّعبير في المضمون والأدوات.
قبيل الرّشفة المستعجلة لم يكن للموت متّسعٌ كافٍ في زحمة أفكاري. على الرّغم من امتلاء شاشة هاتفي الصّغيرة بالقتلى والضّحايا، انصبّ التّركيز على ديمومة الحياة واستمراريّتها بما يُعين من وسائل. زكزكت الفكرةَ أخبارُ تسليح الأميركيّين لأكراد سورية. مجموعة لها من التّاريخ والعادات والتّقاليد وفرادة اللغة وسبل العيش نصيبٌ وافرٌ تسعى بشتّى الطّرق، مهما خضعت مشروعيّة الأخيرة إلى نقاش، إلى الاستمرار. لا الاندثار. شبح الموت مجدّداً، الفزع من الاضمحلال أو الانصهار فالرّحيل. وإن احتلّوا الواجهة اليوم، لا يتفرّد الأكراد برغبة العيش، هم وجهٌ لها، لكن لا يتفرّدون بها. تتشاطر جميع الإثنيات والأعراق والجماعات الدّينيّة وحتّى القبليّة وغيرها هذه الرّغبة، أو الحاجة.
أنامل جدّتي والكمنجة
جعلت رعشة القرفة شكلَ الموت أكثر وضوحاً في ذهني. شيءٌ مستحيلٌ ومع ذلك حتميّ. من يموتون لا يندثرون. يقول قانونا حفظ المادّة والطّاقة إنّ الأخيرتين في نظامٍ معزول لا تفنيان ولا تستحدثان من العدم لكنّهما تتحوّلان من صورةٍ إلى أخرى. معنى هذا أنّ طاقات ومادّيات جميع الكائنات الميْتة، حيّةً كانت أم غير حيّة، لا تفنى أو تندثر بل تتحوّل. في تلك اللّحظة، شعرتُ بالكائن الأوّل في هذا الكون حولي. التقطتُ أنفاس جدّي الراحل وجدّه الشّجاع، أحسستُ بحرارة أنامل جدّتي تمرّ بنعومةٍ على يدي. دمعت عيناي وابتسمت. هذا ليس عمل ذاكرةٍ فحسب، للطّاقة والمادّة المتناثرتين نصيبٌ في ذلك. تشبه تلك كمانات برنار التي تمرّدت على النّوتة في جزء الثّانية فحوّلتها إلى أخرى. للموت روحٌ واحدة وإن تعدّدت أشكاله.
المغول والتّتار والصّليبيّون والفراعنة والرّومان والعثمانيّون ومن قبلهم وبعدهم معنا بأشكال جديدة. تفاصيل المحسوسات والمادّيات والكائنات الّتي رحلت منذ بدء الكون وحتّى اللّحظة بين أيدينا. كتلةٌ ضخمةٌ من طاقة ومادّة الرّاحلين تتراقص هنا وهناك. للموت تعريفٌ آخر. مستقبلاً، ومع أيّ احتمالٍ لغياب الأكراد، سوف يبقون يجوبون زوايا الكون. لكن ليست الطّاقة وبقاء الذُّرى ما تكترث له الجماعات، هذه تقوم لتبقى وتفرض تعريفاتها، أقلّه بهدف الاستمرار البدائي. ولا حاجة هنا إلى الغوص في مفاهيم وتعريفات الحضارة والجماعات ونظريّات التقاء الشّرق والغرب وغيرها. ولا الطّاقة والذُّرى ما يسعى الأفراد إلى تركه بعد الرّحيل. تحتلّ «غاية ما بعد الموت»، «آثار الوعي»، «بصمات الفكر» سلّم أولويّات الأفراد فالجماعات مع اختلاف درجة قربها أو بُعدها عن الطّبيعة. لا يعني هذا انتفاء حلم الخلود المادّي الّذي يراود البشر منذ الأزل. لكنّ خلود الأفراد هامشيّ أمام خلود الوعي. للأخير آثارٌ ملموسة وفكريّة متناقلة عبر العصور قد تتعطّل في أحيان كثيرة. تزداد هنا فكرةُ الموت رعباً. تتضاعف الحاجةُ إلى الاستمرار كيفما كان. تتقاتل الجماعات لتكريس وعيها الأمثل كما ترى. تصحّ هنا تسمية «حروب الوعي». والغاية دائماً تعطيل الموت.
لا ينطوي قانونا حفظ المادّة والطّاقة على غاية «ما بعد الموت» للأفراد والجماعات والحضارات، بمفهومها الملتبس والمتشعّب في آن. ذاك أمرٌ لم يجد العلمُ بعد طريقاً لحفظه ونقله على هيئته الواقعة. تقع المهمّة / الوسيلة على عاتق الجماعات كلٌّ بالطّريقة الّتي يراها مناسبة.
كان موتاً. شبّهتُ اللّحظة الحارقة بالموت. حتّى في الموت هناك أشياء تموت وتحيا، تزول وتتحوّل. لم أبصق حبيبات القرفة المتضخّمة. مع ما سبّبتهُ من إزعاجٍ قاتل هيّأت الظّروفَ لتجربةٍ جديدةٍ تراكم معها الوعي وإن بدا لحظتها غير واضح المعالم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.