العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

عند حدود الـ٣١

النسخة الورقية

١

تقترح عليّ رفيقة الدرب، التي لطالما رددنا معا أمنيتنا المشتركة لوكنا مثليتيّن، لوأحببنا بعضنا البعض، لكانت حياتنا أفضل : كنا تشاركنا الملابس والأذواق والمنزل، وساهمنا بتطوير بعضنا البعض، ودعمنا مشاريعنا معا! لكننا ما كنا لنرتاح من وطأة الوقت. ما كنا لنرتاح من السؤال المتكرّر من عيون الأهل، وديدانهم تنبثق من ألسنتهم، عن موعد الزواج والحمل وسنّة الحياة. تقترح عليّ رفيقة الدرب أن اكتب عن الموت، لأني في حال منه وفيه، ولكني حيةّ وعاشقة. تقترحه، لأني ابتعدت عن فكاهتي، ولبست المدى وكبرت إحدى عشر سنة في أسبوعين فقط، وقتلني ابني البالغ من العمر عشرين عاماً. تثيرني فكرة أن أكون مدى، وأن أخبركم بها، ولكن لا علاقة لمدى بكل ما كتبته سلفاً، في الجزئين السابقين، كما أنني حقا قدمت جسدي قربانا لاحميها من الديدان.

أموت لأنا لتحيا هي.

لا يمكن أن اسمح لنفسي أن استهلك مدى فقط لأني أبحث عن مقدمة تشدّ قرائي! إنها لم تنضج بعد!

 

٢

دائما ما كنت أعاني من اختيار المقدمات والنهايات والعناوين وقدّمت صلب الموضوع مباشرة دون إنذار مني أوتصميم!

دائما ما أعجبني خطئي إذا اتفقت عليه وأصدقائي أوأساتذتي. أعشق رحلة المؤامرة على الأخطاء وأحداث الثورات فيها جذريا، كتغيير النظام من داخل منظومته النواة. في الحقيقة، لقد كتبت الجزء الثالث من سلسلة "الميرم" ولم أحبه على الإطلاق، ووجدتني فارغة كليا، وتزامن ذلك مع رحلتي إلى "برلين"، المدينة التي لم أتحمسّ لزيارتها كثيراً إلا أنني استمتعت بها كثيرا! حسناً، أنا مؤخراً لا أتحمّس لأي شيء على الإطلاق.

أثناء الرحلة، بدأت بتجميع الكثير من المواد والتي باتت هي الأخرى تحبل بمواد جديدة ومتجددة، وصار عندي في رأسي مقدمة مناسبة وعظيمة لبدء الجزء الثالث. إلا أنّ الذاكرة خانتني كلياً والوقت بدأ يتسمّ بسمات الخذلان، فما كان إلا أن أعدت قراءة ما كتبت وأجريت التعديلات عليه!

وافقني أستاذي وصديقي الجديد وأختي العتيقة بأنّ كل ما أضفته جميلاً وما اختزلته من القديم باليا، يكاد يكون سردا لا طعم له ولا لون، أي لا فائدة منه! وفي الحقيقة انتظرت رأي فرساني الثلاث، واستمتعت من فكرة المؤامرة هذه على كلماتي، وأخذت القرار بعدم الإعادة أوالاستعادة، بل بالخلق، والخلق يتجلّى بنهار الأحد صباحا، في السرير الكبير الفارغ مني أيضاً، تحت شباك رومانسي، يغتاله حائط أبيض وجهاز التكييف الصدئ الذي لا يعمل.

لكني الآن أصر على ترتيب الحالة المناسبة للكتابة:

الشاي بالنعناع؟ موجود!

شي ما تأكلينه إذا صرخت المعدة المقرّحة؟ موجود!

الهاتف؟ موجود

انتهت اللائحة بالنظر الى أظافري غير المقلمّة بتاتا، وشعرتين من شاربي اللتان اشعر بمظاهرتهما وخروجهما من تحت الجلد!

٣

في هذه الأيام يشغلني كثيرا التفكير بالهوس!

الهوس!

كم رغبت أن أعاني منه، وأن اعرفه، حتى دقّت "مدى" بابي ودخلت رحمي فحملت بفكرتها واختفيت.

ماتت مريم بأول ظهور لمدى وكم هما مختلفتان. أصلاً لا تحاول الواحدة منهما أن تحلّ مكان الأخرى، ولكن لن يدوم ذلك، فستموت مدى في كذبة نيسان/ إبريل 2017 وتعود مريم الى السطح العائم.

ستعود مدى الى قبرها في دير الزور، وتعاود مريم الخروج من رحم من ولدتها بين يديّ الداية!

٤

أحضرّ لنعيي من الآن تحديداً، وكم تلفتني ورقات النعي المعلقة على الجدران وفيها تتسلسل اسم المغدورة / الفقيدة/ الشهيدة /المترحّم عليها، وغيرها من تسميات لجسد غادرنا، فيما يأخذ من مساحة النعوة المساحة الأكبر، تسلسل من بقي على قيد الحياة من إخوانها وأخواتها، وتبصم هي على عواميد الكهرباء والحيطان وهنا وهناك.

ولكنني سعيدة في هذا الموت الجزئي أو المرحلي. سعيدة بالموت والقيامة وكأنني المسيح الإنثى في يوم الأحد هذا. سعيدة بالمد والجزر هنا، وكم مريح أن استفرغ كل ما املكه من ذكريات ومحطات من حياتي، كوقود يشتعل عند الغضب أو اليأس.

وكم أفضلّ الغضب على اليأس الآن. وكم استغرب أن نخلق ونوثق بورقة، شهادة ميلاد، فنعي، شهادة ممات!

٥

قريبا سأتم الحادية والثلاثين عاماً وسيؤرقني قربي من تحقيق الحلم، وكيف سأعيش من دون حلم.

سيجيبني البعض أن احلاماً جديدة ستظهر في الأفق وان ما بعد الحلم حلم. ولكنني تعبت ولا أريد المزيد من خصائصي الفردية والتي تتلخص بكل خصائص الجماعة المفروضة عليّ كالإقامة الجبرية.

عادة مع المشهد الخريفي السائد في بيروت والصدئ، تكتئب مني زاوية من روحي، لكن هذا الخريف جاء مختلفا. اشعر بطعم الدم في فمي، أشمّ حلب من هنا واسمع الأطفال ولم اعد اشعر بالقدرة على الاستدارة، أن ألفّ وجهي بعيدا، وان انشغل بفرديتي. وأي فردية هذه؟

إنها أول مرة أخاف حقا، ما يعني أنّ ما أخاف عليه يستحقّ الحياة!

لم أعد ارغب بالتسوّق، أو النظر الى خزانتي الجميلة الممتلئة، الى تركيب القطع فوق بعضها أو الاهتمام بأمور استهلاكية يومية. حتى الشارب المتظاهر سأتركه ليكبر ويثابر. لكن ربما اشتقت الى الفتاة في داخلي وعلي اقتلاع الشارب، ربما عندها فقط!

٦

اليوم، في هذا التاريخ تحديدا، اكتشفت أنّ العالم كله في جسدي، وأنني أعاني من وجع العالم.

أحاول عبثا الحفاظ على قدرتي على التنفسّ، ولا افهم حقيقة معنى الكتابة هنا أو التفريغ، أو الاهداف منه أو الاستفادة منه مع كل ما يحصل حولنا من مجازر وصمت وثورات الكترونية فايسبوكية فقط. ومع ذلك استمرّ بالكتابة لانّ هذه هي الحال، استمرّ بالكتابة ربما لان لا شيء أفعله.

ربما سوداويتي في هذا النص جاءت مصبوغة بالمدى وقصتها وهي بطلة عرضي المسرحي القادم، وقد أنجبتها واغتالتني ربما، ولم تنضج بعد. لكني غالبا ما أراها أثناء الاستحمام. أراها كصورة سينمائية كما أرى نفسي غالباً أثناء القيادة ضمن تقنية الـ"زوم أوت".

٧

أكثر صورة أحبها لي في ذاكرتي، هي شعري الأحمر المتطاير البرتقالي في سيارتي البرتقالية، ونظاراتي الشمسية القديمة "الآنتيك" ووشاحي الزيتي المنقط من ماركة "رالف لورين" الذي وجدته في متجر للملابس المستعملة.

أفتح نوافذ السيارة جميعها، وأضع موسيقى لطيفة، وأقود وحيدة والطريق الى بيت أهلي لا تنتهي. لحظات قليلة فقط، اشعر بها في طريق البترون – متوجهة الى طرابلس – أنني من أفلام السبعينات وللحظات أغدو سعيدة، غالبا تجتاحني رغبة بدخول الحمام، فأفكر ببورسلان حمام والدتي، ومنعها لنا من استعماله أثناء الطفولة ليبقى براقا! ابتسم والسيارة تقاد، ولست ادري من يقودها مع أنني فيها وحيدة!

مؤخرا لا أطيق الذهاب الى بيت الضيعة، مع أنها المكان الأكثر راحة وخضارا. لا أطيق التواجد مع عائلتي وأقوم بذلك من منطق الواجب، احتراما لما قدّموه لي وتقديرا لهم ولعجزهم. مؤخرا فهمت أن طفولتي اللطيفة المضحكة، وكل ما ذكر في الفصلين السابقين من "العيب" و"والدي والجيب المليء بالسكاكر"، كلها من مخيلتي ورؤيتي أو تأويلي لأحداث حقيقية جرت ولكن وضعها في نوستالجيا المضحك المبكي، في شريط حياة من تأليفي.

أما اليوم أيضاً، حين سأصل الى بيت أهلي، ستنهال عليّ الذكريات، مريول المدرسة، خزانة الملابس، صور كلوديا شيفير وأمنيتي أن تتزوج بكاظم الساهر، صورتي السيدة العذراء المعلّقتين فوق سريري، في منزل الحاج (مرتين) خضر حمود.

ستنهال عليّ الـ"حميراء" مني، كما يلقبنيّ كاتباً وباحثاً أحب فعلا عمله! تلك الطفلة – الشيطانة – التي إذا ظهرت ألغت الأخرى مني، الأخرى التي تكتب اليوم ، المرأة مني، بردائي الساتان الأسود على سريري الأبيض.

تلك الطفلة التي ولدت في غرفة الجلوس في منزل عائلتنا في عكار العتيقة، وأخرجتها من بطن أمي داية ضيعتنا، والداية هي إمرأة تنجب الأطفال في كل منازل الحارات. خلّفتها الداية. وقد كان وزنها كيلوغرام ونصف فقط لا غير، أي لا يشبع أي رجل جائع جالس على مائدة لحم طازج. حتى الديدان ما كانت لترغب في هذا الطبق.

نعم إنّها أنا. ولدت هناك ولما انتقلت الى غرفة النوم مع والدتي، وضعوا مكاني التلفاز، قطعة المنزل الفنية الوحيدة ومصدر التسلية. اشعر اليوم حقيقة كأنني التلفاز في تغير قنواته ومزاجي وطريقة كتابة التي استغربها كليا الآن. إلا أنني ما زلت لا استطيع التوقف على الإطلاق ولا أفكر بما اكتب.

ربما تكون مدى بشبحها سيطرت على أصابعي. حيث أنني أجد طريقتي بالكتابة مثيرة تماما للريبة.

ربما لأنني اعرف أنني ولدت كالبطة السوداء من عائلة قريبة وبعيدة عن بعضها البعض نوعا ما. سوداء، كان لها أسئلة كثيرة، وكانت امها تتركها مع أختها التي تكبرها بثلاثة عشر عاماً، مما سمح لها بتشرب أمراض أختها أسرع من أي طفل آخر. على الأقل وجدت من يسمع أسئلتها. كانت أختها إذ تعاقبها تطلب منها الوقوف على أصابع قدميها، وتقف الفتاة فتتحول المعاقبة الى متعة فرغبة فموهبة فشغف فتمكن فرقص.

هي طفلة ولدت، اصغر إخوتها وأكثرهم حدة. كانت تتمتع بخيال كبير، واعتقد أنّها أدركت كذلك. اختارت أن تكون سعاد حسني كمهنة للمستقبل ولما عادت المعلمة سؤالها عن صورتها المستقبلية لنفسها، أجابت: يبدو أنك لا تحبين سعاد حسني. من أجلك فقط، قد أصبح شريهان،  وكلاهما بالأبيض والأسود حصرا.

طفلة – بطة سوداء، لم تحب بنات عمها قط، ولطالما نظرت الى الفرق الشاسع بين تربية أهلها لها وإخوتها ومدى الحرية والتواضع في المنزل مقارنة بنموذج بيت العم الذي يشكلّ رعبا وعنفا وغرورا حتى البكاء.

ولكني اليوم حقاً لا اشعر بالذهاب الى هناك، وهناك شيء ما مبتور فيني كليا. أضف الى ذلك، أنّ هذه الذكريات وتأويلات الماضي تنهكني من محاولات الابتسام.

مثلا لطالما اعتقدت السوداء أنها تتمتع بقوة خارقة، عندما كانت تلعب "اللقيطة" كان تفاجأ دوما كيف أنها تمسك من قبل الأخر مع أنها عندما تركض تتحولّ الى شخص خفيّ! لكنها لم تصارح أحداً بذلك، لأنها تعرف انه خيالها، فليكن لها ولم لا فماذا يملك الطفل سوى خياله؟

نوستالجيا الطفولة.

أعود الى صورتي السينمائية البرتقالية وشعري المتطاير أثناء القيادة الأوتوماتيكية، كاستراحة محارب فقط لا غير. أقود من بيروت الى عكار لمدة أربع ساعات. الطريق الذي لم أتخيله إياباً قط، ودائما ما كان ذهابا فقط، فكم حلمت به بالاتجاه المعاكس، من عكار الى بيروت. كنت أدرك دوما أنني سآتي الى بيروت وقد أكون الفتاة الأولى التي تجازف بسمعتها وتخطو خارج الصراط المستقيم.

٨

بيروت أيضاً حلما تحقق وهو مشوّهاً مبتور الأطراف.

يا لهذه العاصمة التي اغتصبها أبناؤها، كل أنواع الاغتصاب والاستغلال. اللبنانيون بمعظمهم داعشيون إذا قسنا نوع العلاقة بينهم وبين هذا البلد الجسد.

٩

في محاولة مني للتأكد من أن والدي سيوافق على ذهابي الى بيروت، كنت قد بدأت بتحضير جعبتي منذ أن كان عمري عشرة أعوام. لا ادري لماذا لم أحب طرابلس مع أنني اليوم أغرم بها كمدينة وانعي بيروت كشبه جزيرة عربية.

دق جرس النفير، وصرت في السابعة عشر، وأخيراً ذهبت الى بيروت، لاجتياز مباراة الدخول في اختصاص الصحافة في الجامعة اللبنانية آنذاك. دخلت قاعة وراقبت أناساً وانتظرت أشواطاً، 3 ساعات مدة الامتحان ويدي لم تكتب كلمة. ربما أنهت روحي المقال المطلوب إنما لم تُخرج مني حرفاً واحد. كنت أخاف أن انجح في هذا الاختصاص. كنت أخاف أن أضيع فيما لو طلب أهلي مني دراسة الإعلام، خاصة وانه قد يكون اختصاصاً أكثر توافقاً مع مفهوم الضيعة والدين والمجتمع والعرف السائد.

يا لطيف، كما لو أنني سأنجح بين المئات من المتقدمين.

يا للأسف، أين تلك الروح مني الآن، روح المغامر!

١٠

بيروت. حين زرتها كانت حقاً مشوّهة. بيروت التي أعرفها أحلى. مخيلتي أحلى.

إنّها الطريق بالاتجاه المعاكس الى منزل أهلي، تدفق علي بتحليلات ورصد حركة التطور الذي أعاني منه. ففي هذه الأيام، الكآبة دليل ربما على انك تشعر بالآخرين وبعذاباتهم.

حانت ساعة الصفر، ساعة القيامة، إنها الحرب الأخيرة، إما أن تعيش أو لا داع لذلك، إما الجنة أو النار هي كذلك حقاً.

نوستالجيا المرة الثانية التي ازور فيها بيروت في شهر واحد. أجرة الطريق في يدي وسعر الـ"سندويشة". أعدّ المال كل دقيقة فلكثرة ما هو محدود، أخاف على نفسي من التشتت في حال ضاعت مني ألف ليرة فـ"يخترب بيتي" كلياً وسأضطر للمشي في مكان لا اعرف عنه أي شيء.

نعم لا أعرف أي شيء على الإطلاق عن بيروت، فأنا من محافظة سورية، ولكي اعبر الى بيروت لا بد من تأشيرة الدخول ومن جواز سفر. هذه هي الدعابة التي ترددت على مسامعي طوال أربعة أعوام من الدراسة في المعهد. يرددونها ويشعرونني سلفا بالدونية، عكار؟ وكيف سمح لك اهلك؟ 4 ساعات للوصول؟ تذهبين وتأتين كل يوم؟ طبعا لا أيها الأغبياء. لا يهم.  

عندما قدمت امتحان الدخول، كان من الغريب أن أرى اناساً يمثلون، يقبلون بعضهم، يتسامرون، يشتمون، وفتيات تصرخن ولا اذكر لماذا! تولولن ضحكاً وتبالغن في الفعل وردات الفعل فيما يقف زمرة من الشباب في آخر القاعة، يقفون وأنا أحاول أن انتقي بينهم حبيبي المستقبلي.

على خشبة المسرح السوداء، هناك في الروشة، سحر خاص لا يمكن إلا أن تلامسه. تجلس لجنة الحكم وتبدأ أنت بالآداء:

مشهدي كان عن فتاة تحاول أن تقوم بمشهد ما، إلا أنها من الرعب ما استطاعت وتوقفت مرارا لتعاود المحاولة فالبكاء فالصلاة أو الدعاء. أكثر ما اذكره أنّ أحد الممثلين – من اللجنة - قدمّ لي كوبا من الماء عندما أشفق على ترددي وخوفي، فيما كشفت سيدة بجانبه انه جزء من اللعبة. في الجزء الآخر من مباراة الدخول امتحان نفسي؟ تحليل نفسي؟ ثقافة عامة؟

العمى، وعفوا على التعبير. كل هذا؟! تحليل نفسي مسمى بثقافة بماذا ولماذا؟

هل تعرفين هذه الصورة لمن تكون؟

مممم لا.

هذا الاسم أو ذاك؟

ممم. بالكاد استطيع قراءة الاسم الروسي هذا.

ولا واحد منهم؟

"تسك"

ولا حتى موليير؟

نعم. موليير نعم. كان في برامج الأطفال في التلفزيون العربي السوري.

همممم. أح.أح أح

ولكنني هنا لأدرسهم، لا؟ لأعرف عنهم. وإلا لماذا أنا هنا؟

معها حق.

نعم معها حق.

للحقيقة أنّ والدي يدخل رغماً عن انفي في هذه القصة أيضاً، إذ قد شبّهني أحد الأساتذة بشخص كان يرأسه في الجيش، ولما سمع اسم عائلتي وأنني من عكار قال لي وماذا يكون "خضر" لك؟ انه أبي! إذهبي فقد أحببتك.

وذهبت.

ولم يكن لي أبداً أي رأي ما إذا كنت سأقبل أم لا! وأنا التي لم ترى يوما مسرحا، ولا قاعة سينما، وربما رأيت البحر مرتين فقط. فكيف إذاً سأعرف ما إذا كنت جيدة في التمثيل أو لا؟

وكيف سأعرف ذلك، كان هذا ما يشغلني، كيف سأصل الى بيروت من جديد، وفي جعبتي ما لا يتكاثر بل يكاد ينقرض المال؟ كيف سيدفع والداي ثمن تكلفة المواصلات من جديد؟

لا بدّ أنني سأنجح ولن اعرف بذلك. سأنتظر إذاً. سأعطي رقم هاتفنا الى شخص تعرفت عليه في المعهد. هي الفتاة الأجمل، الأكثر أناقة وأنوثة وأكثرهن رونقا. لقد اخترتها، سأعطيها رقمي، وهي بدورها رنت لي.

ألو.

ألو.

مريم حمود؟ منزل مريم حمود؟

نعم. عفواً لقد أعطتني رقمها في بيروت.

يوووووووووووووومريييييييييييم تعي تعي ردي عالتليفون يومريييييييم.

‪Allo bonjour مريم معك فلانة. تفضلي.‬

‬لقد نجحت بالمرتبة الأولى في امتحان الدخول. بيروت ها نحن قادمون فاتسعي لنا.

هكذا مرت الأيام. باص من الكولا حتى الروشة والعكس صحيح. مصروفي الشهري مئة ألف ليرة لبنانية فقط لا غير. قوتي اليومي، منقوشة زعتر سادة، الحلم الأقرب لي ان استطيع أن أضع بداخلها بعضاً من الطماطم والخضار يوماً ما.

خمسة أيام في بيروت واثنان في عكار، اغسل فيها ثيابي واحمل بعض الطعام الذي قد تعدّه لي والدتي.

١١

غريب أن تتدفق هذه الذكريات وتتجلى بالمقولة الشهيرة: "وين كنا ووين صرنا". برافو. شيء من الاعتزاز بالنفس والفخر والاحترام.

ولكن الغريب أن تتدفق فقط برغبة بدخول الحمام فاستذكار حمام البورسلان فالمنزل فالعائلة فمجرى الحياة. كله من الحمام!

ربما وصلت الى هذا التحليل الآن لأن الجوع طغى على الـ"حشرة". ربما لأن الطريق لم يعد جميلاً، فبدا الواقع ينهمر وصور "الإخوان" المقتولين في سوريا، وحدود نهر البارد التي تذكرني بكل القتلى ومنهم تسعة عشر من معارفي في الضيعة، ومحلات اللحم قرب محلات الميكانيك والدواليب.

والمشهد الأنكى – عفواً – الذبح، نعجة تتبعها نعجة تبكي عليها نعجة. أرى النعاج تتخبطن كالسمك من دون ماء والقطط مدهوسة والـ"بجم" في الطريق واكره البشر!

سأفكر في "الباذنجان المكدوس" وبطبخ أمي إذاً، ربما تقصر المسافة.

١٢

والدتي لها ذوق غريب بالتفكير، منهج عجيب وكانت إذا أعطتني طعاما، فعلبة كبيرة جدا من الرز وأخرى من يخنة البطاطا. علبتان تكفيان لخمسة أيام. إذاً أنا آكل أربعة أنواع من الوجبات في شهر! بالإضافة الى المنقوشة السادة اليومية، الطقس المعتاد.

كانت تحضرّ لي ما استطاعت: قليل من زيت الزيتون، المكدوس، الشنكليش والكشك. أي شيء استطيع حمله حتى التوى ظهري.

أذكر أنني حملت مرة غطاء السرير والتلفاز الصغير وسجادة وحقيبة الثياب والأكل معاً ولا يزيد طولي عن المئة وستين سنتمتراً والخمسين كيلو.

كل هذا الشقاء وكل من حولي يأكل أشياء اكتشفها مجددا: نودلز، باستا، إسكالوب، ناغيتس.

يا إلهي عندما رأيت أنّ الدجاج ممكن له ألا يكون محروقاً تماما على الفحم وأن هناك خبزاً دائرياً كالبرغر الذي لم أعرف من أين ابدأ بأكله تماما.

لا شك أنّ اليوم أيضاً حضرت أمي لي الكفتة بالخبز وهي لا تقتنع أنني لا أحب اللحم والدجاج ولا السمك وأنني أفضل الخضار، وأنني أيضاً هذه المرة سآكل المكدوس إذاً!

وتستمر الطريق والمونولوغ الذي يعبرني ويصفع فيني!

 

١٣

سنين تمرّ كلمح البصر، كنت فيها اكتسب الكثير من فعل المراقبة هناك. كيف يلبسون، يتكلمون، هذا وذاك والآخر هناك، حتى قررت التعرف على بيروت فعلا.

أول منزل، عفوا أول سرير من منزل، كان في الطريق الجديدة وقد طردتني منه صاحبته إذ خافت مني حين وجدت الكثير من الصور الفوتوغرافية في غرفتي، على البلاط والحيطان. فانتقلت الى بيت آخر لم أتحمله لأقرر السكن في ثالث أكثر راحة.

فانتقلت الى منزل آسيا، اسمها آسيا. صاحبة المنزل قارة بحدّ ذاتها. هناك صار عندي صديقة، كانت قد سبقتني بكل شيء بأشواط كبيرة، وصرت اخرج معها أينما كان، حتى أنني لم اشك يوما أنها تبيع المخدرات. أول صديقة لي كانت في الجهة الأخرى من العالم، ربما تشاركنا البيت نفسه، ولكنه يبدو لي أنني أنا كنت في آسيا وهي كانت فعلياً في لأوروبا.

صرت اخرج واسهر معها، هي دليل على كل أزقة بيروت، وكواليسها وحياتها الليلية. اسهر، أرقص قرب الطاولات، أجنّ، الكل ينظر لي حين أرقص، الكل يقترب ليتعرف علي وهي تتحدث مع الشباب لتقول لهم، لا يغرّكم إنها ترقص، ليست من هذا الكار، لن تستطيعوا ابداً التقرب فلا تتعبوا أنفسكم!

لم افهم يوماً كل ما كانوا يتكلمون به. كنت غبية للغاية، وكانت لي عقدي الخاصة تجاه الشباب لكنني كنت منهمكة بالرقص على الموسيقى العالية والابتهاج.

في كل الأحوال كانت صديقتي مغرمة بشاب مصري لبناني، يعيش في جونية، متقدما بمراحل كبيرة عني، في التجارب المتنوعة والممنوعة. وكم كنت مقبلة على الحياة وعلى اللاحكم على احد، وكم كنت انتظر أن اكبر أكثر فأكثر.

من منزل الى آخر، كان الأسوأ هو رابعهم، حين التقينا بعاهرتين، تعملان حقا في الليل، وتعيشان من ذلك، وقد كانتا جارتي في الغرفة.

هذا المنزل لملم كل أنواع النساء: المثقفات المتعجرفات، العاهرات البسيطات والعاهرات حقاً، الكلاسيكيات، المتدينات، اليساريات، وأنا، التي رفضت أن احمل أي هوية وفيني بعض من كل هذه السيدات.

في هذا المنزل، توقفت تماما عن استعمال الشفرة، وبتت استعمل الحلاقة الكهربائية، هذا الجهاز الذي يقضي على بصلات الشعر. أذكر أن صديقتي الأوروبية (أعجبني هذا التشبيه) ثبتتني وامرأتين من المنزل على السرير، لتجبراني على مطاوعتهم.

في هذا المنزل، أغرمت بالكثير من الرجال، وتركت الكثيرين، ورأيت المصلين والآخرين.

أذكر منهن:

فرح، وقد أحبت مطربا وبقيت تتبعه حتى نامت معه وأغرمت به!

ملاك، خطبت إبن خالتها الذي يعيش في الخارج وستنتقل تماما!

مادونا، الشيوعية المثالية المتفلسفة المنظرة على أنها افهم من جمع الجميع!

ديانا، تعمل في محل للأحذية الايطالية وتستهلك جيوب زبائنها!

بتول، سورية لم افهم قصتها يوما إلا أنّها أيضاً كانت تعود كل صباح بالكثير من المال، واذكر انّ كان لها ابن في مكان ما!

لما، ابنة صاحب المنزل، جلبت صديقها مرة ليلا ووجدنا "واقي ذكري" في سلة المهملات، وهي كانت من تجبرنا على عدم كسر قوانين المنزل!

منال، مغرمة بمؤخرتها وتكذب على حبيبها توهمه أنها خارجة ليغار وتشاهد قناة "فاشن تي في" بصوت عال ليعتقد أنها محاطة برجال فيغار، وسرعان ما تزوجته!

وأنا. هناك فقط تتكون ملامحي لأكون امرأة اليوم. امرأة قريبا فقط ستنفذ ما خططت، وستلذع الأفعى الأوراق. قريبا في مدى، ومدى ليست سوء جزء من الميرم!

١٤

من سرير الى آخر حتى أعود اليوم من بيروت الى الضيعة، من منزلي المستأجر بغرفتي نوم وحمامين. الغرفة الإضافية لبعض الأصدقاء عندما يحتاجونها، ولهم حمامهم الخاص، ولقططي ولمدى وأشباح عروضي المستقبلية ولمنع أي احد من الاقتراب بسريري وربما لأتأكد أنني بخير حقا!

فحتى عند أهلي لا نملك ستائر في غرف النوم، وفي طفولتي كانت خزانتي حقيبة تحت السرير الذي لم انم عليه، لم يكن لي، كان بطن أبي سريري كما تعرفون!

وأخيراً وصلت الى طريق الزيتون في عكار، كم اعشق هذا الطريق تحديدا! لقد تعبت من القيادة، وسأتوقف عن تسجيل هذه الأفكار هنا، سأتوقف عن القيادة أيضاً. سأقف حوالي الخمس دقائق تحت هذه الشجرة لأخذ نفساً واضع القناع الشفاف قبل أن أصل الى الدار، حيث يجب أن أبدو سعيدة، جيدة، موافقة على كل شيء ومؤمنة!

العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.