اليوم، يبدو الشعار الثوري "الخبز، الكرامة، والعدالة الاجتماعية" الذي أسَر آمال الملايين في العالم العربي، أشبه بذكرى بعيدة.
العالم العربي وثوراته في أتون أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة: مصر، وليبيا، والعراق، وسورية واليمن في حالاتٍ ناشطة مختلفة من التفكّك والحرب الأهليّة. أمّا الدول التي لا تشهد ثوراتٍ صريحة فتسعى يائسة إلى أن تنأى بنفسها عنها وتحاول نيل هدوء شعوبها من خلال سياسات تراوح بين تعزيز الدولة الأمنيّة، وخططٍ ترسي حكماً تدريجياً وتقدّم إصلاحاتٍ اقتصادّية بغية نزع فتيل التوتر الداخلي الذي يكاد أن ينفجر. لطّخت نتانة السياسات الطائفية جزءاً كبيراً من الخطاب السياسي، إذ إنّ الأطراف الإقليميّة والدولية تساهم إلى حدّ كبير في الأوضاع العامة المتمثّلة في الاستقطاب والتفكّك. تنظر أعداد هائلة من المواطنين إلى إمكانيّة الهجرة باعتبارها الحلّ الوحيد لمحنتهم، فالظروف التي يواجهونها بموضوعيّة تتلخّص في خيارٍ ما بين التواجد المستمرّ ضمن دول المافيا الباتريمونياليّة والنيو-باتريمونياليّة التي تعتمد التهميش والإخضاع السياسي والاقتصادي، أو مقاومة هذه الظروف، ممّا يفضي إلى إجراءات سريعة في سبيل سحق أيّ برعم تمرّد من شأنه تصوير أيّ بديل واحتوائه. ويبدو أنّ ما من دولة عربية لا تنطبق عليها هذه الظروف العامة بشكلٍ أو بآخر.
بالإقرار أنّ الظروف العامّة والخاصة التي ساهمت في هذا الوضع المزري كانت قيد التحضير منذ سنوات، يمكننا أن نتوقّع أيضاً أنّ حلّها سيستلزم سنواتٍ، إن لم يكن أجيالاً.
بيد أنّه، بقدر ما تظلّ الحياة القائمة على الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة هدفاً مرجوّاً وضروريّاً للعالم العربيّ وشعوبه وتطوّرهم، تتمثّل ضرورات السنوات المقبلة في كيفيّة تعبئة الحركات السياسيّة التي تستطيع تحقيق هذه الأهداف وبناءها والحفاظ عليها. وبالنظر إلى الموارد المحدودة للأطراف الفاعلة السياسيّة والاجتماعيّة، وصلاحيّات خصومها وحلفائها الدوليّين، ستبرز في واجهة هذا التحدّي مسائل أيديولوجيّة، وتكتيكيّة، واستراتيجيّة، ومؤسساتيّة، وماديّة. في هذا السياق، إنّ الاستعداد في ما يتعلّق بالقدرة على تقديم التوجيه الأيديولوجي، والوضوح السياسي، وآليّات التعبئة السياسيّة والاجتماعيّة، وإضفاء الطابع المؤسساتي، وأساليب التأكد من استدامة هذه الحركات على المستوى المادّيّ والدفاع عنها، تبقى جميعها جوانب أساسيّة ستؤدّي دوراً كبيراً في تحديد الفائزين والخاسرين في الصراعات المقبلة. ويبدو أنّ النضال من أجل العدالة الاجتماعيّة كعنصر ضروري للرفاهة الاقتصاديّة والحريّة السياسيّة، يكمن في التوازن.
في ضوء ما تقدّم، يحدّد هذا المقال الهدف من محاولة المساهمة في عمليّة التحضير هذه من خلال إجراء بحثٍ بشأن البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ. ويهتمّ هذا المقال بشكلٍ خاص في بمعرفة إلى أيّ مدى تقدّم أفكار هاتين المنظّمتين وسياساتهما وأموالهما مجموعة من الموارد لأطراف عرب في نضالهم في سبيل العدالة الاجتماعية.
تنبثق الحاجة إلى استكشاف هذا الدور المحدّد وتعيينه من حاجات وحوافز متعدّدة.
على الرغم من سلطة هاتين المؤسستين ونفوذهما الهائل على صعيد وضع وصْفات سياسيّة معياريّة على المستوى العالمي وعلى أساسٍ ثنائيّ حتى في دولٍ عربية متعدّدة، تفتقر نوعاً ما الأطراف السياسيّة والاجتماعيّة في العالم العربي إلى فهمٍ وتحليلٍ أوضح لأدوارهما المحدّدة. غير أنّ هاتين المنظمتين تبقيان فاعلتين في اقتراح إصلاحاتٍ اقتصاديّة واجتماعيّة مختلفة في الدول العربيّة التي تسعى كما يُفترَض إلى المساهمة في التنمية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة، سواء كان ذلك في دولٍ لم تختبر بعد اضطرابات ثوريّة (على غرار المغرب والأردن)، أو تلك التي تعصف بها الثورات (كتونس ومصر). والواقع أنّ هذه الاقتراحات هي غالباً امتداد لسياساتٍ سابقة لم تخضع للمحاسبة بعد. من يستطيع أن ينسى الموافقة البهيجة التي منحها صندوق النقد الدولي على وضع الاقتصاد التونسيّ قبل أسابيع قليلة فقط من انفجار الثورة التونسيّة؟
يُذكر في هذا السياق أنّه منذ عام 2012 خصّص البنك الدولي لتونس ما لا يقلّ عن 1.3 مليار دولار أميركي، فيما شهدت مصر زيادة بمعدّل أربعة أضعاف في التزامات البنك – من 408 ملايين دولار أميركي عام 2014 إلى 1.4 مليار عام 2015 (الموقع الإلكتروني للبنك الدولي). تشير هذه الإحصاءات إلى أنّ هاتين المنظّمتين لا تقفان أبداً على الحياد في خضمّ الاضطرابات الإقليميّة. فضلاً عن ذلك، يدلّ استعدادهما للالتزام بالترتيبات السياسيّة "القديمة" (يرمز إليها المجلس العسكري في مصر في ظلّ حكم السيسي، أو في الأردن والمغرب) أو تلك الجديدة (تونس ما بعد الثورة)، على قناعتهما البراغماتية بضرورة المضيّ قدماً أيّاً كان الإطار المحليّ، في مسعى لطرح أجنداتهما التنظيميّة.
ما الذي نعرفه عن هذه الأجندة؟ وإلى أيّ مدى توفّر مصدراً أو منبراً للجهات الفاعلة السياسيّة لطرح قضايا العدالة الاجتماعيّة كبديلٍ عن الترتيبات السابقة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة أهميّة كبيرة في إطارٍ حيث أدّت هذه القوى أدواراً بارزة في بناء الحاضر العربي، فيما لا تزال ناشطة في محاولة التأثير في مستقبل العالم العربي وتوجيهه. في هذا الصدد، من شأن الوضوح حول هذه المسائل أن يكشف إلى حدٍّ كبير كيف أنّ الجهات الفاعلة السياسيّة والاجتماعيّة تستطيع أن تحدّد بشكلٍ أكثر فاعليّة رؤيتها البديلة وترسمها وتطبّقها مع الاحتفاظ بتقييمٍ واقعيّ للقوى والأفكار المختلفة التي تحاول التأثير في هذه العمليّات أيضاً.
تأريخ وتسييس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي
ينبغي أن يبدأ تقييم دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية بفهمٍ لما تقوم به هاتان المنظّمتان، ومَنشئهما، وطريقة عملهما، ولصالح من. إنّ فهم منشأ هاتين المنظّمتين ومسارهما التاريخي، والأسس الأيديولوجيّة والنظريّة لوصفاتهما التاريخيّة، وممارساتهما الفعلية المعيشة مهمٌّ لكشف كيفية تأدية هذه المنظمات دوراً في تنظيم النشاط الاقتصادي والسياسي لمجتمع معيّن والتأثير فيه، وما إذا كان هذا الترتيب يوفّر توزيعاً عادلاً للثروة والفرص والامتيازات.
يعود تأسيس هاتين المنظّمين إلى مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي (مؤتمر بريتون وودز) الذي انعقد عام 1944 والذي هدف إلى وضع مجموعة جديدة من القواعد التي تحكم النظام النقدي الدولي بعد الحرب العالميّة الثانية في الدول الـ44 المشاركة.
وكان من بين الخلاصات التي توصّل إليها هذا المؤتمر تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير للمساعدة في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، والذي يقدّم اليوم قروضاً للدول النامية متوسطة الدخل، وصندوق النقد الدولي الذي تأسّس لضمان استقرار النظام النقدي الدولي من خلال تتبّع التوجّهات الاقتصاديّة الوطنيّة والعالميّة، وإقراض الدول التي تواجه صعوبات في ميزان المدفوعات، وتقديم المساعدة "التقنيّة" إلى الدول الأعضاء. مع الوقت، أسس البنك مؤسّسة أخرى، المؤسّسة الدوليّة للتنميّة (عام 1960) لمنح القروض للدول الفقيرة والنامية، ومؤسسة التمويل الدوليّة، التي تأسسّت عام 1956، لتقديم المساعدة الإقراضّية مباشرة إلى العناصر التي هي ضمن القطاع الخاص. مجتمعة، يُطلق على مجموعة البنك الدولي١ إلى جانب صندوق النقد الدولي بشكلٍ أعمّ اسم "المؤسسات المالية الدولية" أو عندما تُضمّ إليها منظّمة التجارة العالميّة، تُعرَف بمنظّمات بريتون وودز.
لطالما كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي رديفاً للهيمنة الإمبرياليّة الأميركيّة وسيطرة الدول الرأسماليّة الغربيّة المتطوّرة، الاقتصاديّة والسياسيّة، على اقتصادات العالم الثالث أو عالم الجنوب. وبحسب المؤرّخ الأميركيّ تشارلز ماير، "مُعفاة من الخسائر التي تكبّدها المتحاربون الآخرون، ورثت الولايات المتحدة فرصة لترسيخ القواعد الاقتصاديّة الغربيّة الأساسيّة وفقاً لاحتياجاتها ورؤيتها الخاصة" (ماير، 1978). وعلى سُلَّم أولويّاتها، الحرص على ألّا تُنشِئ إعادة إعمار أوروبا فرصاً لنزاعٍ متجدّد مع الدول الأوروبيّة أو في ما بينها، والعمل بالتوازي على درء خطر الإغراء الشيوعي. تاريخياًّ، باتت هذه الجهود تُعرَف بـ"الليبرالية المدمجة" حيث عملت الولايات المتّحدة، من خلال مشروع مارشال والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، على توجيه الدول الأوروبيّة واليابان سياسيّاً على امتداد تدخّلاتهما التنمويّة. من خلال توفير الدعم لبيروقراطيّة فعّالة مموّلة جيّداً ضمن هذه الدول التي تدور في فلكها، عملت الولايات المتّحدة على استبعاد الأحزاب الشيوعيّة من المشاركة في الحكومات وعلى إثباط الترتيبات الجماعية حيثما أمكن، أو على الأقلّ احتوائها ضمن الحدود المقبولة لليسار الوسط (راغي، 1983).
في حين شكّلت مصالح الولايات المتحدة الدعامة الأساسيّة لهذا الترتيب، مع الوقت، توصّلت منظّمات بريتون وودز إلى حماية المصالح الجماعيّة للاقتصادات المتقدّمة لدول أوروبا الغربيّة واليابان، من خلال البنية التنظيميّة وآليّات صنع القرار ضمن البنك.
وعلى الرغم من أنّ هياكل البنك وسياساته يُفترَض أن تعكس إرادة الدول الـ188 الأعضاء فيه، عمليّاً، السلطة رهنٌ بصيغة معقّدة تربط تصويت الهيئة الأساسية لصنع القرار في البنك – مجلس المحافظين – بحجم اقتصاد الدولة كما هو مُحدَّد بحسب قياس الدخل القومي، والاحتياطات الأجنبيّة، والمساهمة في التجارة الدوليّة. وقد عنى ذلك تهميشاً تاريخياً للاقتصادات النامية على حساب صنع القرار ديمقراطياًّ استناداً إلى العضويّة (عضو واحد، صوت واحد).
الوصفات السياسية
بعد تحديد التوجّه التاريخي والسياسي العام لهذه المنظّمات، لنَعُد الآن إلى وصفاتها السياسية، التي ظهرت وتطوّرت في ظلّ تبدّل المصالح والأولويّات الأميركيّة مع الوقت.
لقد تبدّل التوجّه التنموي العام للبنك مع الوقت ليتماشى مع الأهداف السياسيّة لمؤيّديه الغربيّين البارزين، إلى جانب التوجّهات الاقتصاديّة السائدة والرائجة في ذلك الوقت – رائجة بمقدارٍ ليس بضئيلٍ أبداً لأّنّ هذه التوجّهات الاقتصاديّة توافقت أيضاً مع التوجّهات السياسيّة نفسها.
تكشف قراءة لعمليّات الإقراض التي قام بها البنك الدولي بحسب القطاع أنّ الفترات السابقة (خمسينيات القرن الماضي وستينيّاته) شهدت تركيزاً كبيراً على البنية التحتيّة (وذلك على نطاقٍ واسع في أوروبا). بيد أنّ ذلك أفسح في المجال تدريجيّاً أمام التركيز على الزراعة، والإنفاق الاجتماعي والصناعة في أجزاء من العالم النامي. وقد بدأت الدفعة الثانية خلال رئاسة روبرت ماكنمارا (التي بدأت عام 1968)، مع هذه التدخّلات التي اعتُبِرَت مهمّة "للحدّ من الفقر" وتلبية "الاحتياجات الأساسيّة". في ذلك الوقت، مثّلت الهند وباكستان أكبر متلقّي مساعدات من البنك، إذ إنّ هاتين الدولتين كانتا تُعتبَران دولتين رئيسيّتين تحتاجان إلى أن تكونا بمنأى عن تأثير القناعات الروسيّة أو الصينيّة.
مع انهيار معظم النماذج التنمويّة التي تقودها الدولة في مختلف أنحاء العالم النامي بحلول منتصف سبعينيّات القرن الماضي، وارتفاع تدفّق الدَّين العام، خرج البنك في مطلع الثمانينيّات بأجندته الرئيسيّة الثالثة على شكل "التكيّف الهيكلي". وقد تمّت المصادقة بموجبه على تطبيق تعديلاتٍ عامّة في الاقتصاد الكلّيّ على الاقتصادات النامية كافّة من خلال عشر أدوات سياسيّة أساسيّة باتت تُعرَف بـ "إجماع واشنطن" (انظر ويليامسون، عام 1990). وقد شملت هذه الأدوات الانضباط في السياسة الماليّة (أي ما من عجزٍ ماليّ في ما يتعلق بالناتج المحلّي الإجمالي)، وإعادة توجيه الإنفاق العام (ما من إعانات)، وإصلاح النظام الضريبي لصالح رأس المال، ومعدّلات فائدة عائمة (تحدّدها السوق)، وأسعار صرف تنافسيّة، وتحرير التجارة، وتحرير الاستثمار الأجنبي المباشر الموجّه إلى الداخل، وخصخصة المؤسسات الحكوميّة، ورفع القيود التنظيميّة: وتوفير الضمانات القانونيّة لحقوق الملكيّة.
اعتُبِر تبنّي هذه الإصلاحات ضرورياً من أجل منح القروض، وبالتالي فُرضت شروط صارمة أعادت توجيه أولويّات هذه الاقتصادات، وملكيّتها وتوجّهها، وعلاقة المواطنين فيها بعمليّات صنع القرار التي تحكم اقتصاداتهم ورفاههم الاجتماعي.
انطوت التعديلات الهيكليّة في صلبها على اعتقادٍ بأنّ استقرار الاقتصادات المثقلة بالديون وتحريرها وخصخصتها سيؤدي إلى النموّ والتطوّر. وقد سُوِّغَ كلٌ من عناصرها في إطار النظرة العالميّة إلى الاقتصاد الكلاسيكي الجديد كحلٍّ تقنيّ "للحدّ من التضخّم"، و"التخلّص من العجز"، و"القضاء على التشوّهات في الأسعار" واستنباط "الكفاءة". والواقع أنّ هذه السياسات ألغت أدواتٍ سياسة مختلفة كانت بيد الحكومات لحماية اقتصاداتها وتنظيمها وتوجيهها، مؤمّنة تدخّلات مختلفة، وتدابير حماية ومعايير ضدّ الأسواق وفشلها. من خلال نزع هذه الأدوات من قبضة الحكومة، وتوحيد الوصفات السياسيّة عبر الدول، نصَّبَ البنك الدولي بدعمٍ من صندوق النقد الدولي، جهات فاعلة وأصحاب مصالح اقتصاديّة، محليّين ودوليّين رئيسيّين للتمكّن من الاستفادة من هذه السياسات مالياً على حساب الفقراء. ومن شأن ذلك حتماً أن يسرّع وتيرة تشكّل الطبقات فضلاً عن انتقال الثروة والتفاوت في الثروة.
باتت هذه الدفعة الثالثة من سياسات البنك التي طَبَعَت الحقبة النيوليبرالية وقد بدأت في ظلّ سياسة حافّة الهاوية التي اعتمدها كلٌّ من ثاتشر وريغان، مشهورة بسبب حجم التخفيضات المقتطعة للخدمات الحكوميّة في مجال الصحّة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة، وخصخصة الأصول التي تملكها الدولة. وكان من المفترض بالحدّ من تدخّل الدولة في الاقتصاد والحدّ من سلطاتها التنظيميّة أن يدفع بالجهات الفاعلة في القطاع الخاص إلى ملء الفراغ في هذا المجال. غير أنّه في معظم الأحيان، أدّت هذه السياسات إلى تدمير الرعاية الاجتماعيّة، وإثراء النُخَب، والتمييز الطبقي، وتنظيم المجتمع على مبادئ الربح والجشع، لا على مبادئ خدمة الحاجات الإنسانيّة.
حتماً، سيحصد التحوّل النيوليبرالي الشديد للبنك الدولي في ثمانينيّات القرن الماضي في ظلّ التكيّف الهيكلي نتائج مخيّبة للآمال، ويجبر في نهاية المطاف المؤسّسات الماليّة الدوليّة على تكييف مقارباتها ومحطّ تركيزها مرّة أخرى (انظر سعد-فيلهو، عام 2005، ص.116-117). بيد أنّه عوضاً عن إعادة النظر بشكلٍ أساسيّ في التكيّف الهيكلي، تمسّكت منظّمات بريتون وودز بشدّة بهذه المبادئ، لكن اعتبرت أنّ الدول تفتقر إلى القوام المؤسساتي المناسب اللازم لضمان التآزر والانطلاق. إذا كان الشعار في ظلّ التكيّف الهيكليّ الحاجة إلى "إصلاح الأسعار"، فإنّ شعار محطّ تركيز البنك الرابع والحالي هو "إصلاح المؤسّسات". بالتالي، ولِد "ما بعد إجماع واشنطن"، الذي شدّد على "بناء المؤسّسات" و"الحوكمة الجيّدة"، مع هذه السياسات الهادفة إلى دعم المبادئ الأساسيّة للتكيّف الهيكلي. وإذا أمكن تطبيق ترتيبات الحوكمة الملائمة التي تضمن معاملات سلسة وفعّالة في السوق، وإذا كانت تلك مدعومة بترتيبات الاقتصاد الكلّيّ الليبرالية التي شجّعت الاستثمار الخاص، والتجارة، والخصخصة، والتقشّف مع الدفاع عن الملكيّة الخاصّة، يمكن في نهاية المطاف تحقيق النموّ والتنمية.
النيوليبرالية والعدالة الاجتماعيّة
إذا كان الأساس النظريّ لوصفات البنك الدولي السياسيّة يستند إلى الأجندة النيوليبرالية، التي تستند بدورها إلى الاقتصادات الكلاسيكيّة الجديدة، مدموجة بفرعٍ في الاقتصاد يُعرَف بـ "الاقتصاد المؤسّساتي الجديد" (الذي ساهم في إطار عمل "الحوكمة الجيّدة")، ومن الجدير استكشاف المزيد بشأن هذه الأسس النظريّة لفهم كيفيّة التعامل بوضوح مع المسائل الاجتماعيّة.
في حين تطوّرت الأبعاد النظريّة كما التطبيقيّة للنيوليبراليّة على مرّ السنين، تبقى مجموعة جوهريّة من التكهّنات والافتراضات الأساسية متّسقة دوماً. وهذه الأفكار الجوهريّة هي التي تضفي على النيوليبراليّة طابعها المثالي، إذ إنّها تفترض أشكالاً متشدّدة وأدواتيّة.
يصف عالم الاقتصاد هاورد شتاين خمسة عناصر فرعيّة تأسيسيّة صغرى يُفترَض صراحة أو ضمنيّاً توافرها في كلّ نظريّة كلاسيكيّة جديدة ألا وهي:
- أنّ الانسان فردٌ يقوم بحساباتٍ عقلانيّة ويسعى بطبيعته إلى تحقيق المنفعة الأكبر لنفسه (كائن اقتصادي)،
- أنّ خيارات المرء تُحدَّد فرديّاً، وتهدف إلى تعظيم الذات (الفرديّة المنهجيّة)،
- الأسواق تطهّر نفسها لبلوغ "أمثلية باريتو" – وضعٌ حيث لا يمكن لأحد أن يكون أفضل حالاً من دون أن يضرّ بشخصٍ آخر" – (قبول التوازن كحالة طبيعيّة)،
- يُحدّد سلوك العميل مسبقاً من خلال مجموعة محدّدة من القواعد (التفكير الاستنباطي العقلاني) و،
- ينطلق سلوك العميل تلقائيّاً من مجموعة من مؤشّرات السوق (التفكير البديهي) (شتاين، عام 2008، ص. 60-61).
من هذه العناصر التأسيسيّة الجوهريّة الصغرى، تُوضع مجموعة من الافتراضات الملموسة المرتبطة بطبيعة الأسواق، والسلع، والمعاملات، والأسعار. باختصار، تحمل هذه الافتراضات معها مفاهيم مثاليّة مشابهة عن الفعاليّة المُثلى، والتفاعل العفوي والتعاملات، والعمى حيال الاختلافات في قوّة العملاء في ظلّ شروط السوق الحرّة "البحتة".
من هذه المفاهيم الجماعيّة، تبدأ الوصفات السياسيّة العامّة والتحيّزات بالبروز بهدف إرساء الظروف المثاليّة لحدوث التراكم. ويشمل ذلك الحاجة إلى عدم تدخّل الحكومات في أداء الأسواق، والحاجة إلى إزالة التنظيمات التي تعيق تراكم الأرباح وتولّد "تشوهّات في الأسعار"، وبخاصةٍّ في ما يتعلّق بالتجارة، والحاجة إلى خصخصة المؤسّسات التي تملكها الدولة، ممّا يعزّز، كما يُقال، الكفاءة والحاجة إلى خفض الرعاية الاجتماعيّة الحكوميّة وتقديم الخدمات كي يتمكّن القطاع الخاصّ من ملء هذه الأدوار، فيظهر التوازن "بطبيعة الحال". إذا لبّت الأسواق بدلاً من الحكومات المجموعة الكاملة من احتياجات الإنسان، يتلاشى الشرط الأساسي لمعظم الممارسات السياسيّة وصنع القرار. تُقسَّم المسائل السياسيّة والحاجات الاجتماعيّة إلى مسائل صغرى يمكن تسليعها ومعالجتها تقنياً من خلال مخصّصات السوق. فتصبح الحريّة عبارة عن القدرة على اتخاذ قرار فردي يُطبَّق في السوق من خلال القدرة على الشراء أو البيع، عوضاً من أن تجسّد مفهوماً مرتبطاً بأشكال الظلم الهيكلي والحقوق الفرديّة أو الجماعيّة، فتصبح قضايا العدالة الاجتماعيّة محصورة بالمسائل المرتبطة بوكالة الإنسان عن نفسه، والولوج إلى الأسواق، والقدرة الاستهلاكيّة. وتصبح أساليب الحماية الاجتماعيّة مؤطّرة باعتبارها "التزامات" لا حقوقاً، فيما تمحو العمليّة بكاملها أبعاد التقسيم الطبقيّ والسلطة.
في حين أنّ النقد الأدبي لهذه الجدالات مُسهَب، من المهمّ البدء بتحديد الانتقادات الموضوعيّة واسعة النطاق التي تنبع من النظريّة نفسها.
وبحسب عالم الاقتصاد الماركسي دايفيد هارفي، لطالما كان للنيوليبرالية هويّة مزدوجة:
يمكننا بالتالي تفسير النيوليبرالية إما باعتبارها مشروعاً مثالياً يهدف إلى تحقيق مخطّطٍ نظريّ من أجل إعادة تنظيم الرأسماليّة الدوليّة، أو مشروعاً سياسيّاً يهدف إلى إعادة توطيد الشروط الملائمة لتراكم رأس المال واستعادة سلطة النخب الاقتصاديّة (هارفي، عام 2005، ص. 19).
بنظر هارفي، إنّ التأكيد (السياسي) الأخير على السلطة الطبقيّة هو الذي يكمن حقيقة وراء العمليّات الليبراليّة بطابعها النظري المثالي وهو بمثابة "نظامٍ لتبرير وتشريع كلّ ما ينبغي القيام به من أجل تحقيق هذا الهدف (المرجع نفسه، ص. 19). وهو يذهب إلى أبعد من ذلك مؤكّداً أنّه: "عندما تصطدم المبادئ النيوليبرالية بالحاجة إلى استعادة سلطة النخبة أو الحفاظ عليها، فإمّا أن يتمّ التخلّي عن هذه المبادئ وإمّا أن تصبح ملتوية جداً لدرجة أنّه يصبح من الصعب التعرّف عليها".
كذلك، تنعكس ملاحظة هارفي بشأن طابع النيوليبراليّة المزدوج من خلال التناقضات والتوتّر الذي يكمن بين نظريّة النيوليبراليّة والبراغماتيّة الفعليّة الناجمة عن إرساء النيوليبراليّة كما هي مطبّقة من خلال منظّمات بريتون وودز.
ممّا لا شكّ فيه أنّ النيوليبراليّة قد اتجهت نحو إنتاج كوكبة من المشاكل في طور تنفيذها بما في ذلك زيادة في تركّز الثروة وعدم المساواة فيها، والزيادة في البطالة والبطالة الجزئيّة، والأجور الراكدة، وتراجع قوّة العمل المنظّم، وتزايد الجرائم، ورجال الشرطة، والسجون، والتشرّد والتسوّل، تآكل الحريّات المدنيّة، وتجريد الشركات الصغيرة والمزارعين من حقوقهم، وازدياد الهجرة، وأشكال العصيان المسلّح والمقاومة، وتدمير العمليّات الديمقراطيّة، والانخفاض المقلق في أشكال التضامن الاجتماعي (مقتبس عن لوني، عام 2003).
النيوليبراليّة تفترض أنّ أسس الاقتصاد الكلّي (المثاليّة) الخاصّة بها خالية من أيّ صبغة سياسيّة، وترتكز حصراً على رغبتها في إنتاج الكفاءة، والمساواة في الفرص والثروة، مع الحفاظ على "الحريات" في آن.
باختصار، ما من شيء موضوعي، أو غير شخصي، أو علمي أو لا سياسي بشأن نظامٍ سوقي يحمي حقوق الملكيّة الخاصة، مع كون هذه المسائل محدّدة سياسيّاً وتاريخيّاً بدقّة كبيرة، ومع وجود مسائل متعلّقة بالنفوذ السياسي والطبقي كامنة في صلب تحديدها. يذهب تشانغ (عام 2000) إلى أبعد من ذلك معتبراً أنّ "عقلانيّة" السوق التي يحاول النيوليبراليّون حمايتها من خلال تركيزهم على اقتصادٍ غير مسيّس ونظامٍ اجتماعي "هي في الواقع كناية عن ديمقراطية مخصيّة"، و"ليست منطقيّة إلّا في ما يتعلّق ببنية الحقوق/ الواجبات التي تقوم عليها، والتي هي في الأساس بنية سياسيّة".
النيوليبرالية كتعبير ملطّف
يستحقّ الطابع "التلطيفي" للنيوليبراليّة، ولمجمل سياسات البنك الدولي أن يتمّ التشديد عليه هنا، لأنّه موضوعٌ متكرّر في الأدب النقدي وعلى أرض الواقع عند تقييم العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة في نهاية المطاف.
باتت إعادة تأطير المواضيع السياسيّة التقليديّة مثال إدارة القطاع العام، والمحاسبة، وشفافية القطاع العام، وأطر العمل القانونيّة، والفساد، والإنفاق العسكري، وطرحها كمسائل تقنيّة من قبل منظّمات بريتون وودز أكثر تعقيداً إذ إنّه في ظلّ المنطق النيوليبرالي، يُترجَم قدرٌ كبير من التطبيق العمليّ للتنمية ويُدار بقبضة القطاع الخاص. في هذا السياق، تحتاج مركزيّة القطاع الخاص باعتباره المحرّك الرئيسي للتغيير في نموذج التنمية النيوليبرالي إلى أن تُطرَح كإشكاليّة من الناحية النظريّة والتطبيقيّة، فمن هنا تنشأ الديناميكيّات الاجتماعيّة والسياسيّة التغييريّة.
يتطرّق سمير أمين (عام 2012) إلى الطابع المفهومي لهذه المركزيّة، من خلال تفسيره لهذا الميل النيوليبرالي ("النموّ الذي يقوده القطاع الخاص")، مشيراً إلى أنّه "[في ظل النيوليبراليّة] ينبغي أن تدير الشركات الخاصة الاقتصاد إذ إنها وحدها تتصرّف بشكلٍ طبيعي كوكيلة تعمل بموجب متطلّبات المنافسة المفتوحة". ما يعنيه ضمنيّاً أنّ منطق تنافسيّة السوق وجني الأرباح هو في الواقع منطق مختلف تماماً عن المنطق الذي يتبنّى أو يدمج مفاهيم أخرى كجزء من حساباته ــــــ مثال، منطق تقرير المصير الوطني، والحركات التي تدافع عن الحقوق السياسيّة والنضالات من أجل العدالة الاجتماعيّة. باختصار، إنّ الترتيبات الجماعيّة التي كانت ممكنة تاريخيّاً من خلال أشكال النضال الجماعي والتضامن وحسب قد تمّت تصفيتها عن طريق الممارسات الفرديّة النيوليبراليّة، مع اعتبار هذه العمليّة وبشكلٍ مثير للسخرية ضروريّة من أجل منع "الإكراه"، وفي وقتٍ لاحق، "القضاء على الفساد".
من خلال تأطير المسائل السياسيّة والاجتماعيّة بأساليب إنسانيّة وتقنيّة ولا سياسيّة، ثمّ تخصيص هذه الوظائف لقوى السوق، يُنزَع فتيل هذه القضايا بفعل أنّها محكومة ومسيّرة الآن بحسب منطق جني الربح الخاصّ وذلك على الطرف النقيض من الاحتياجات والهواجس المرتبطة بالتحرير الوطني وحقّ تقرير المصير والعدالة الاجتماعيّة. بهذه الطريقة، تُقسَّم المسائل المتعلّقة بالحقوق السياسيّة وتُغيَّب، فيتلاشى التأثير المُخثِّر للحقوق الجماعيّة والنضال، وتتشكّل طبقات جديدة – نخبويّة ومحرومة على حدّ سواء.
بهذه الطريقة، تعيد الأجندة التنمويّة النيوليبراليّة تحديد "قواعد" المنافسة بين المحليّة، راسمة "المقاييس عينها التي تُقاس استناداً إليها التنافسيّة الإقليميّة، أو السياسة العامّة، أو أداء الشركات، أو الإنتاجيّة الاجتماعيّة" (بيك وتيكل، عام 2002). يُعاد تشكيل العلاقات الاجتماعيّة "على شكل قراءة صارمة لمتطلّبات السوق التنافسيّة" ممّا يؤدّي إلى تمايز اجتماعي وسياسي، وتجزئة وشذوذ.
النيوليبراليّة والعالم العربي
تتضاعف مشاكل تبنّي المنطق النيوليبرالي في الأطر غير الديمقراطيّة، أو ما بعد الاستعماريّة، أو الاستعماريّة.
تجذب أعمال تيموثي ميتشيل الانتباه إلى كيفية تأثير الوصفات السياسيّة النيوليبراليّة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على مناطق كالشرق الأوسط بشكلٍ خاص، وذلك تحديداً لأنّ تركيبة السلطة الاقتصاديّة والسياسيّة متشابكة بشكلٍ وثيق. وبحسب ميتشيل، تربك سياسات المؤسّسات الماليّة الدوليّة والحكومات الغربيّة وإرشاداتهما وممارساتهما "حلقة ريع" القطاع الخاصّ وعلاقتهما بالنخب العسكريّة والسياسيّة وتتجاهلها. من الناحية العمليّة، الإصلاح الاقتصاديّ للسوق الحرّة هو في الواقع أشبه بـ "تعديل معقّد للشبكات التي تربط وتدمج مجموعة متنوّعة من الأصول العقاريّة، والصلاحيّات القانونيّة، ومصادر المعلومات وتدفّقات الدخل"، لصالح النخب. (ميتشيل، عام 2002، ص. 281). ويساهم ذلك في رأس المال والتشكيلات الاجتماعيّة النيو-بطريركيّة المرتبطة به التي تلتمس سبلاً لتدوير الأرباح السريعة، مع تركيز الاقتصادات على قطاعاتٍ كالسياحة، والعقارات، والأطعمة والمشروبات – ضربٌ من التنمية شبيه بـ"رأسماليّة الكازينو" (ستراينج، عام 1986).
تجدر الإشارة إلى أنّه وبخاصةٍ في مناطق كالشرق الأوسط حيث صمّمت الدولة عن عمد طبيعة العقد الاجتماعي الموجود بغية تحقيق التوازن والتعويض عن طبيعة الأنظمة غير الديمقراطيّة، يفتح إطلاق العنان للممارسات النيوليبراليّة الباب أمام ممارساتٍ واسعة النطاق لما يسمّيه هارفي "التراكم بنزع الحيازة" (هارفي، عام 2003؛ عام 2006). ويمثّل التراكم بنزع الحيازة مفهوم هارفي للأنماط الماركسيّة التقليديّة للتراكم "البدائيّ" أو "الأصليّ" التي تكيّفت مع أنماط الرأسماليّة المعاصرة المتطوّرة. بالتالي فإنّ تسليع الأصول العامّة، والموارد واليد العاملة وخصخصتها، وإضفاء الطابع النقدي على التبادل، وفرض الضرائب، وتعزيز نظام الائتمان، و"إضفاء الطابع المالي"، تندرج ضمن هذه الوسائل كتطبيقٍ للممارسة النيوليبراليّة المعاصرة. وبذلك فإنّ التركيبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وحتى السياسيّة القائمة مقموعة بشدّة أو مختارة من أجل تهيئة ميادين جديدة للتطوّر الرأسمالي واستغلالها ودمجها في عمليّة تراكم رأس المال. هنا تؤدّي الدولة دوراً تأديبيّاً وتنظيميّاً ومؤسساتياً حاسماً، يدعمه "احتكارها العنف وتعريفها للشرعيّة" (هارفي، عام 2003، ص. 145).
يصف تحليل هارفي عمليّة قسريّة بشكلٍ خاصّ، وجشعة وحتى مثيرة للسخرية لتراكم رأس المال في ظلّ النيوليبراليّة. الأشكال الثقافيّة والتواريخ والإبداع الفكري جميعها خاضعة للتسليع ونزع الحيازة مع تطبيق موجاتٍ جديدة من "تسييج المشاعات". وبذلك، تراجعت الإنجازات السابقة للنضال الشعبي وتفكّكت لصالح الربح من خلال رفع القيود التنظيميّة والخصخصة. (المرجع نفسه، ص. 136).
دراسة حالة: الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة
بعد استكشاف الأصول التاريخيّة والسياسيّة لمنظّمات بريتون وودز، ووصف الأصول النظريّة والوصفات السياسيّة لهذه المنظّمات وتقييمها من حيث ارتباطها بقضايا العدالة الاجتماعيّة، ستساهم نظرة سريعة إلى نشاط هذه المنظّمات في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في توضيح جوانب مختلفة من النقد المذكور أعلاه.
منذ التوقيع على اتفاقيّات أوسلو عام 1993، أدّت المؤسّسات الماليّة الدوليّة دوراً مركزيّاً إنّما غير معترفٍ به إلى حدّ كبير في عمليّة السلام الفلسطينيّة-الإسرائيليّة.
فقد التزم البنك الدولي بالأبحاث وتصميم السياسات والإشراف والتقييم والتمويل والتنسيق وحشد موارد الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، إلى السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في المقام الأوّل، وإلى القطاع الخاص والمنظّمات غير الحكوميّة المحليّة والدوليّة. وتصف وثائق البنك تدخّله في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة باعتبار أنّه يؤدّي دوراً "أكثر مركزيّة [...] منه في أيّ حالة بارزة أخرى ما بعد الصراع قبل أو منذ ذلك الحين" (شيافو-كامبو، عام 2003، ص. 9) فيما تقرّ عمليّات التقييم الداخليّة بأنّ تجربة البنك أدّت دوراً في تمهيد الطريق أمام صياغة سياسة إعادة الإعمار ما بعد النزاع الخاصّة بالبنك (البنك الدولي، عام 1997).
كذلك، أدّى صندوق النقد الدولي دوراً أساسيّاً في ترسيخ إصلاحاتٍ واسعة النطاق ضمن السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة عبر الضفة الغربيّة وذلك كجزءٍ من الجهود الرامية إلى بناء الدولة الفلسطينية. وقد أُقِرَّ بأنّ هذه الجهود نجحت في تمكين السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة من "إدارة السياسات الاقتصاديّة السليمة المتوقّعة من دولة فلسطينيّة مستقبليّة تعمل جيّداً" (صندوق النقد الدولي، عام 2012) – حتى لو لم تنشأ بعد الظروف السياسيّة التي تتيح لها العمل بسيادة.
في حين لم تتردّد هاتان المؤسّستان يوماً في الإشادة بإنجازاتهما، طال انتظار قراءة نقديّة أكثر لممارساتهما في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.
اضطلع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بدورٍ مركزيّ في تسهيل بروز الضعف والانقسام على مستوى الشؤون الفلسطينيّة الذي نشهده اليوم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. لم يكن ذلك نتيجة التطبيق التقليديّ لأجندة إجماع واشنطن، إذ إنّ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة التي ساعد البنك الدولي في إنشائها ودعمها من خلال تقديم "تكلفة بدء التأسيس"، لم تكن حتى قويّة بما يكفي لامتلاك أدوات الحكم الأساسيّة اللازمة لتطبيق هذه الأجندة. بيد أنّها نشأت من التناقض بين ما كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يقولان إنّهما يقومان به هناك، مقارنة بما كانا هما وباقي الجهات المانحة يقومون به حقيقة.
علانية، صاغت الجهات المانحة الغربيّة التي تقودها الولايات المتّحدة والمؤسّسات الماليّة الدوليّة أجنداتها المرتبطة بالتنمية وإرساء السلام وبناء الدولة واعدة بتحقيق الازدهار والسلام في إطار "سلامٍ ليبرالي" و"جني ثمار السلام". عنى ذلك أنها دعمت كما يُفترَض الممارسة السياسيّة الديمقراطيّة للسلطة الفلسطينيّة والجهود التي تبذلها في سبيل إقامة اقتصاد سوقٍ حرّة سيؤدّي حسب قولها إلى تحقيق فائضٍ وإلى تأثيرات تدريجيّة من شأنها أن تغذّي الحوافز نحو الحلّ السلميّ للنزاع مع إسرائيل وتعزّزها. لكن في الحقيقة، كانت المؤسّسات الماليّة الدوليّة والجهات المانحة ملتزمة بتقديم أجندة سياسيّة مثيرة للسخرية وخادعة لدرجة أكبر بكثير.
تناقض افتقار الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة إلى السيادة السياسيّة والتناقضات الأساسيّة على مستوى تطبيق أنظمة مدنيّة وأمنيّة متعدّدة في أجزاء مختلفة من جغرافيتها، بشدّة مع ادعاء "السوق الحرّة" أو قدرة الفلسطيّنيين على تنظيم شؤونهم وتسييرها بأسلوبٍ يمكن توقعه وبشكلٍ متجانس. بيد أنّ مطالبة الجهات المانحة الغربيّة الفلسطينيّين بإصلاح ترتيبات الحوكمة المؤسّساتية وتحسينها لا يمكن فهمه كحالة حيث كانت هذه القوى تحاول ببساطة دفع الفلسطينيّين إلى تطبيق "الممارسة الفضلى"، بل عوضاً عن ذلك كدليلٍ على التفضيل الانتقائي لأجندات (ثانوية) معيّنة على أجندات (أساسيّة) أخرى، وذلك بحدّ ذاته يقتضي تفسيراً.
من دون افتراض أسباب ذلك، يرسم السجلّ الحافل بالإثباتات والذي يتألّف من وثائق عامّة وسريّة صورة تُدين طريقة تصرّف الجهات المانحة الغربيّة وإسرائيل حيال التطلّعات الفلسطينيّة التنمويّة وتلك المرتبطة ببناء الدولة منذ عام 1993.
أنشأت عمليّة بناء السلام النيوليبراليّة خلال سنوات أوسلو، التي تقودها المؤسّسات الماليّة الدوليّة إطار حكمٍ فلسطينيّاً أساسيّاً (السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة) يحرّكه رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة ياسر عرفات بصفته رئيساً نيوباتريمونياليّاً (يستخدم موارد الدولة لضمان ولاء فئات من الشعب له) ضرورياً ومستعدّاً لذلك. وقد غضّت هذه القوى الطرف عمّا يكفي من الفرص الريعيّة الاستنسابيّة التي خصّته بها إسرائيل (من خلال التسديد المباشر لإيرادات الوقود في حسابٍ مصرفي في تل أبيب) من أجل توزيع "أرباح السلام"، واستمالة جهات فاعلة سياسيّة واجتماعيّة مختلفة – ما يكفي لإعطاء هذا الترتيب الثقل السياسي والمؤسساتي الكافي. وقد اعتُبر ذلك ضروريّاً بالنسبة إلى هذه السلطات إذ إنه تطابق مع المفهوم الأميركي-الإسرائيلي الأوسع نطاقاً لتوظيف جهازٍ/ كيانٍ غير سيادي متعاقد عليه من الباطن للتمكّن من إدارة الشؤون المدنيّة والاجتماعيّة الفلسطينيّة. ومن شأن هذا الأخير أن يمكّن إسرائيل من إخراج نفسها من تناقضاتها الديمقراطيّة اليهوديّة وهو ما بات يُعرَف بالمصطلح الاستراتيجي "خطّة ألون" (انظر أشقر عام 1995؛ 1994).
بعد أن فشل هذا النموذج الأساسي في حصد اتفاق سلامٍ نهائيّ في مؤتمر كامب دايفيد في تموز/يوليو عام 2000، استخدمت منظّمات بريتون وودز إطار الحكم الجيّد القائم من أجل الإعلان عن الفساد والمحاباة والاستبداد. وقد مكّنها ذلك من المضيّ قدماً بالإصلاحات المؤسّساتية التي همّشت عرفات والسلطة التنفيذيّة، على الرغم من أنّ سياسات الجهات المانحة هي التي رعت هذا الفساد وتوقّعت بالفعل من السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة سَنّ تدابير أمنيّة مشدّدة لسحق المعارضة السياسيّة للاتفاق. أدّت الطريقة الأدواتيّة المثيرة للسخرية التي انتقد بها المانحون عرفات دوراً حاسماً في تهميشه، تتوّج في نهاية المطاف بوفاته (على الأرجح عن طريق الاغتيال). لكن قبل أن يسري مفعول سمّ القاتل، لعلّ الخطاب المليء بالنفاق بشأن الإصلاح والحكم الرشيد هو الذي قتل عرفات سياسيّاً.
بعد وفاة عرفات، طرحت منظّمات بريتون وودز "بناء الدولة" على أنّه إطار العمل الذي يبرّر تدخّلاتها، على الرغم من توقّف المفاوضات. أمّا جهاز السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة الذي كان عرفات وحده يتمتّع بالشرعيّة السياسيّة لتشكيله في ظلّ الشروط التي أدّت إلى نشوئه، فقد تمّ انتزاعه من قبضته من خلال تدابير شَرطيّة اتّخذتها الجهات المانحة الغربيّة والعنف العسكري الإسرائيلي، وخضع بعد ذلك إلى إعادة هيكلة واسعة النطاق بما يتماشى مع خطوط ما بعد إجماع واشنطن. أزالت هذه "الإصلاحات" السلطات الاستنسابيّة المحدودة للسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة التنفيذيّة، مع إعادة تشكيلها بما يسمح للمانحين بالإشراف المباشر على الموارد الماليّة كافّة. وقد أدّت التدابير الهادفة إلى استدراج التمويل إلى جانب الترتيبات المؤسّساتية المصحّحة التي آثرت نمو القطاع الخاص، في وقتٍ لاحق، إلى تحفيز اقتصادات القضاء على التنمية. وبذلك سُمحَ لنموذج ضعيف ينتمي إلى النيوباتريمونياليّة بأن يعيد تشكيل نفسه تحت إشراف المانحين الصريح ومع تركيز مشدّد على "الأمن".
طوال الطريق، قُمعَت التطلّعات الديمقراطيّة الفلسطينيّة بشدّة وتمّ احتواؤها من خلال العنف العسكري المباشر والحصار المالي والسياسي المفروض على البرلمان الفلسطيني الجديد. بيد أنّ هذا النموذج الأخير عجز عن إدارة التناقضات كافّة التي ولّدها وانطلق منها، ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى "فقدان" المساحة الجغرافيّة لأراضي قطاع غزّة، التي أفلتت من الرعاية السياسيّة لحركة فتح – "الكيان السياسي" الأساسي الذي كان المجتمع الدولي يرعاه.
انطبع الترتيب الإجمالي بالتباين الشديد بين نظريّة المؤسّسات الماليّة الدوليّة وسياساتها من جهة، والسياسات الفعليّة المطبّقة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة من جهة أخرى.
تُقدّم الأبحاث إثباتاً قوياً إلى حدٍ ما يشير إلى أنّ الجهات المانحة قد خطّطت وسَعَتْ بنشاط إلى التلاعب بالسلطات الفلسطينيّة والعلاقات الاجتماعيّة بأساليب دفعت قدماً بأجندات سياسيّة غير معلنة.
على الرغم من التظاهر بتبنّي أجندة تقنيّة لا سياسيّة، تعاملت الجهات المانحة الغربيّة مع افتراضاتٍ ثابتة تتعلّق بأوجه مختلفة من السياسة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، (مثال النطاق النهائي لترتيبات الحكم الفلسطينيّة، أو كيفية إدارة السياسات الاجتماعيّة) وتطرّقت حتى إلى المسائل المتعلّقة بالوضع النهائي (كمسألة اللاجئين). سعت هذه السياسات إلى إعادة صياغة هذه المسائل عن طريق التحايل على القواعد القانونيّة الدوليّة، وبالتالي تقويض الادّعاءات الفلسطينيّة قبل طرحها في المفاوضات. والواقع أنّ الكثير من ممارسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي يمكن قراءتها كمساعٍ هادفة إلى تصميم ترتيباتٍ سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة تتطابق مع الأولويّات غير المعلنة للجهات المانحة وإسرائيل، على الرغم من التباين في ما بين هذين المعسكرين وداخلهما. هذا ما يعطي واقعَ الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تشوّهَه الخاص، بغضّ النظر عن التشوّهات التي تنشأ عن الاستعمار الاستيطاني أو النيوليبراليّة بحدّ ذاتها.
كذلك، تتناقض الممارسة السياسيّة والاقتصاديّة الليبراليّة مع تساهل الجهات المانحة حيال الترتيبات الاقتصاديّة غير الديمقراطيّة أو غير الليبراليّة من قبل إسرائيل والسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. كانت الجهات المانحة متورّطة بعمق في هذه السياسات من خلال تمويل صيغتي الترتيب النيوباتريمونيالي، ومحاولة إلغاء نتائج الانتخابات الديمقراطيّة (وحتى الضرب عرض الحائط بها).
انسجاماً مع ممارسة المؤسّسات الماليّة الدوليّة على صعيد الحثّ على تشكيل الطبقات، شكّلت رعاية النخب ضمن المجتمع المدني والقطاع الخاص أولويّة أيضاً بالنسبة إلى هذه السلطات.
في ما يتعلّق بالمجتمع المدني، ساهمت هذه الأخيرة في شراء بعض النخب السياسيّة التي غالباً ما تقترن باليسار السياسي، مُنتجة ومعزّزة أشكالاً من التبعية العموديّة التصاعديّة والمحاسبة حيال المانحين، مقارنة بقاعدتهم الشعبيّة.
ساهمت عمليّات الشراء هذه في منح الثقة والمساعدة في تنظيم مصالح هذه الدائرة الانتخابيّة حيال السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. أعطيت الأفضليّة في البداية إلى المغتربين الرأسماليّين، فيما شملت الجهود المبذولة لاحقاً أقساماً من رأس المال الأصلي. وقد ساعد التغلغل المتبادل المتزايد للمصالح بين الجناحين الذي بات أسهل من خلال تدابير التمويل التي اتخذتها المؤسسات الماليّة الدوليّة في توطيد طبقة من النخب السياسيّة والاقتصاديّة في الضفّة الغربيّة، مرتبطة بالاقتصاد السياسي لبناء الدولة النيوليبراليّة بحدّ ذاته فيما بقيت غالبيّة المجتمع الفلسطيني محرومة سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً.
ساهمت تناقضات عمليّة أوسلو للسلام كما ينظر إليها من خلال ممارسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومانحين آخرين الزائفة، والسيطرة العسكريّة الشاملة لإسرائيل، جميعها في انتهاك التكامل السياسي والاقتصادي والمؤسّساتي الفلسطيني وتفكيكه. شكلان من الشرعيّة، مرتبطان بمجموعتين من المؤسّسات، واقتصادان سياسيّان. مجموعتان من النخب وبرنامجان سياسيّان مختلفان يحكمان الآن قطعتي أرض لا تتمتّعان بالسيادة. بات الآن غطاء كلّ تقسيم سياسي منقوشاً على أرض جغرافيّة، مفككاً الوحدة السابقة بين الجغرافيا والسياسة والمؤسّسات السياسيّة. بالتالي دُمِّرَ المركز السياسي الموحّد للحركة.
الخلاصة
تمثّل دراسة حالة الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وتجربتها مع المؤسّسات الماليّة الدوليّة شهادة مدمّرة على أسلوب عمل هذه المنظّمات. يرقى ذلك بشكلٍ أساسي إلى تورّط هذه المنظّمات في ترتيباتٍ تدفعها إلى التصرّف كأداة بيد السياسة الخارجيّة الأميركيّة وإن بشكلٍ غير مباشر وباستعمال وسائل متطوّرة. وهذا، إلى جانب سياسات إسرائيل والدول الغربيّة، أفضى بفاعليّة، إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة من خلال إنكار حقوقهم الجماعيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وإلى سياسات الهندسة الاجتماعيّة التي تسعى إلى تحويل التناقض الأساسي بين قوّة الاحتلال والشعب المحتلّ إلى صراعات طبقيّة بين الفلسطينيّين. وعلى طول الطريق، تحصل إسرائيل على الوقت والمساحة السياسيّة للاستمرار في زخمها الاستيطاني الاستعماري، في حين يبقى الوضع الفلسطيني ضعيفاً ومفكّكاً.
ولو بقي سجل إنجازات هذه المؤسسات محصوراً بالانتقادات التي تتناول العدالة الاجتماعية وحدها، لكان سيئاً بما يكفي. ففي آب 2015، يصف تقرير مجموعة الأزمات الدوليّة الوضع في غزّة بأنّه الأسوأ منذ عام 1967 – وذلك خير دليل على الدمار الذي ساهمت هذه السياسات في إعاثته. لكن تورّطها يمتدّ إلى أبعد وأعمق من ذلك بكثير. فقد تجاوز الدور المدمّر لمنظّمات بريتون وودز في كافّة أنحاء الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة إلى حدّ كبير النطاق الاجتماعي، وهو يشمل طائفة واسعة من الجرائم السياسيّة من الترويج لأجندات فرِّق تَسُد الكلاسيكيّة إلى التواطؤ حتى في الاغتيال السياسي ربّما. هذا السجلّ الدامغ إلى حدٍّ كبير ينبغي أن يشكّل مادة للتفكير بالنسبة إلى الجهات الفاعلة السياسيّة في العالم العربي وفي أيّ مكانٍ آخر، التي تحاول التصدّي لعمل هذه المؤسّسات وما إذا كانت سياساتها وأفكارها تقدّم بديلاً عن الترتيبات التي رعتها الأنظمة العربيّة.
ربّما يقدّم نموذج الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة حالة متطرّفة جداً حيث كانت الحرّية التي نعمت بها هذه المنظّمات على صعيد وضع الأجندات واسعة جداً، لدرجة أنّها بالغت أيضاً في النتائج التي حقّقتها. بعد قول ذلك، من المفيد أن نفهم ونقدّر أنّ ذلك ممكن الحدوث بالتحديد حيث أتيحت هذه الحرّية من قبل القوى، وهي في هذه الحال، الولايات المتحدة التي كانت بادئ ذي بدء ترعى عمليّة السلام الإسرائيليّة الفلسطينيّة. غير أنّ ذلك يظهر أنّ التوجّه السياسي والإيديولوجي العام لهذه المنظّمات يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها من مقدّمي الهبَات في أوروبا الغربيّة واليابان، فضلاً عن النخب المختارة في البلدان المضيفة. بالتالي، أياً تكن أولويّات هذه الأجندة، منظّمات بريتون وودز مستعدّة لترجمتها إلى أطر عمل جاهزة أتاحتها النيوليبراليّة بحدّ ذاتها، مع خطابها التقني ووصفاتها السياسيّة ذاتيّة المرجعيّة التي تمحو السلطة والطبقيّة. توفّر هذه جميعها مجموعة من الأدوات المرنة للتكيّف مع هذه المصالح والتطابق معها، مع طمس الطبيعة السياسيّة الحقيقية لتدخّلاتها.
في حين أنّه لا بد من الاعتراف بوجود جدالات بين النخب، وبين الدول، وداخل الأوساط السياسّية الأميركيّة بشأن كيفيّة خدمة أجندات ومصالح معيّنة على أفضل وجه، ثمّة تداخل توافقيّ بين القوى الغربيّة المهيمنة تقوده الولايات المتحدة. في هذا الصدد، تضطلع منظّمات بريتون وودز بدورٍ محدّد في ما يتعلّق بتفسير، وتبرير وتنفيذ تفويضها السياسي، وذلك بالتحديد من خلال إنكار هذه العمليّة السياسيّة. بالتالي تصبح قضايا العدالة الاجتماعيّة متداخلة بشكلٍ راسخ مع النضال من أجل الحقوق السياسيّة ضدّ هيمنة الولايات المتحدة، وضدّ الطبقات الحاكمة المحليّة كما الدوليّة.
المراجع:
- Maier, C. (1997). «The Politics of Productivity: Foundations of American
International Economic Policy after World War 2». International Organisation,
Vol.31. No. 4, Between Power and Plenty: Foreign Economic Policies of
Advanced Industrial States (Autumn, 1977), pp. 607-633 - Ruggie J.G. (1983). International Regimes, Transactions and Change:
Embedded liberalism in the postwar economic order, in Krasner, S. (1983).
International Regimes. Ithaca: Cornell University Press. 195- 232 - Williamson, J. (1990). What Washington means by Policy Reform. In J,
Williamson (Ed.) Latin American Adjustment: How Much has happened?
Washington D.C.: Institute for International Economics. - Saad-Filho, A. (2005). «From Washington to Post- Washington Consensus:
Neoliberal Agendas for Economic Development» in A. Saad-Filho and D.
Johnston Neoliberalism: A Critical Reader, London: Pluto Press, 113- 119 - Stein, H. (2008). Beyond the World bank agenda: An institutional approach to
development. Chicago; london: University of Chicago Press. - Looney, R. (2003). The Neoliberal Model's Planned Role in Iraq's Economic
Transition. Middle East Journal, 57 (4), 568-586 - Harvey, D. (2005). A Brief History of Neoliberalism, Oxford: Oxford University
Press. (2003). The new imperialism Oxford: Oxford University Press. - Amin, S. (2012). Liberal capitalism, crony capitalism and lumpen development.
11-21, Issue 607 - Achcar, G. (1994). The Washington Accords: A Retreat Under Pressure.
International Viewpoint, 252 (January). (1995). Zionism and Peace: From the
Allon Plan to the Washington Accords. New Politics 5, 3 (Summer): 95-115 - Mitchell, T. (2002). Rule of experts: Egypt, techno-politics, modernity. Berkeley:
University of California Press. - Strange, S. (1986). Casino capitalism. Oxford, Uk; New York, NY, USA: B. Blackwell.
- ١. تتألف مجموعة البنك الدولي من مؤسّستين أخريين: وكالة ضمان الاستثمار متعدّد الأطراف، والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.