يحاجج علماء الفلك، وبقدرة على الإقناع، أنّ الحاضر بناء نظريّ لا قيمة جسديّة أو حسابيّة أو قابلة للحساب الزمني له، بل أنّ قيمته وجوديّة، نفسانيّة-عاطفيّة وسياسيّة. في الواقع إنّه بناء عجيب عميق التجذّر في الشعور بالكينونة، وفي ماديّة الجسم كما في لا ماديّة الذات، هو حسّي وسياسيّ بامتياز، يشتغل باستمرار من خلال المقارنة مع الماضي والمستقبل.
النيوليبرالية وتضخيم الحاضر
الحاضر ضرورةٌ وإلحاحٌ في آن، وفيما تعمل أيديولوجيّات مختلفة على استثمار الماضي والحاضر والمستقبل تبعاً لنماذج التقييم الخاصّة بكلٍّ منها، تولّد الرأسماليّة النيوليبراليّة تضخّماً مفرطاً في الحاضر، لأنّ "الجِدّة" أمرٌ جوهريٌّ في الإعلان والتسويق.
ومنطق رأس المال النيوليبراليّ حريص بشدّة على تمثيل الحاضر كانفصالٍ أو تركٍ للماضي، ونادراً ما يكون استمراريّة له. بمعنى آخر، يتمّ إدراك هيمنة نموذج التنظيم الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ المحكوم بالسّوق بكون تلك الهيمنة هي قدر البشريّة الأصيل والأشدّ طبيعيّةً، فيما جميع الأنماط الأخرى هي تجارب ماضويّة غير قابلة للديمومة وفاشلة.
وعلاوةً على ذلك، تدمج النظريّة السياسيّة النيوليبراليّة بين الزمن والجغرافيا في نسيج "المخطّطات التطوّريّة" للعالم بأسره. ولذا، مع انتهاء الحرب الباردة، مثلاً، أصبحت دول "عدم الانحياز" تُعرَّف بكونها "ناميةً" أو "متخلّفة". وقد كان معيار قياس مرحلتها التطوّريّة هو مدى اقترابها من النماذج الغربيّة للتنمية الاقتصاديّة، و/أو خضوعها لسياسات البنك الدوليّ البنيويّة من أجل لبرلةٍ محكومةٍ بالسوق. وما إنّ توضّحت الآثار الكارثيّة لهذه السياسات حتى أُنزل تصنيف بعض تلك البلدان إلى "دول فاشلة". أمّا المراتب العليا في المخطّط التطوّري الهرميّ فتحتلّها "الديمقراطيّات الصناعيّة الكبرى"، المعروفة منذ قمّة ناپولي عام ١٩٩٤ بمجموعة الثماني (G8)، متضمّنةً عضويّةً كاملةً لروسيا الاتّحاديّة، التي تشكّلت حديثاً من بقايا الاتحاد السوڨييتيّ.
وبينما شكّل "الشرق السابق" و"العالم الثالث السابق" مصطلحين منتشرين في التخطيط النيوليبراليّ الجغرافيّ-التاريخيّ/التنمويّ للعالم، فإنّ فكرة "الغرب السابق" هي بمثابة اختلاس، أو لقطة انعكاسيّة، إن شئنا استعارة لغة السينما، تعمل على فصل وتعطيل الآليّات الداخليّة المنطقيّة للأيديولوجيا. وبدلًا من تصوير لقطة انعكاسيّة، تعمل هذه المقالة على تفكيك مجموعة من الصيغ الاصطلاحيّة المنتقاة من القاموس النيوليبراليّ الشامل.
شهدت حقبة بعد العالم ١٩٨٩ من القرن العشرين دمقرطةً هائلةً على طول الكتلة السوڨييتيّة سابقاً، أي شرق أوروبا ووسطها، وانتشرت إلى بقاع أخرى من العالم، بما فيها شمال أفريقيا وتشيلي. وفي خضمّ هذه الموجة المزعومة، تمّت إعادة تعريف الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان، والهويّة الثقافيّة/الإثنيّة و"أعيد استغلالها" كأدوات لشرعنة التدخّل السياسيّ العلنيّ والخفيّ من جانب مجموعة الثماني في باقي أنحاء العالم.
كان التغيّر المفاهيميّ زائفاً، وقد جرى القطع المنهجي بين الحقوق المدنيّة وحقوق الإنسان من جهة وبين أبعادهما الاقتصاديّة، فيما اجتاحت الهويّةُ الثقافيّة والإثنيّة فكرتي الجماعة والحياة الكريمة. وفي الواقع، تتكرّر مفردة "حق" في عددٍ من العبارات السياسيّة والتشريعيّة التي روّجها نيوليبراليّون متشدّدون لاقتراح أساسات جوهريّة وراسخة.
اللعب بالدلالات استراتيجيّة سياسيّة حاذقة تُسهم في تفعيل تحوّل راديكاليّ في الإدراك. على سبيل المثال، التعارض بين تعريف حركةٍ بوصفها "مناهضة للإجهاض" أو "الحق بالحياة" صارخ. فالدلالات التقابليّة لمناهضة الإجهاض تُوحي بمقاومة سلبيّة وتركّز على دور المرأة الفعّال، بينما "الحق بالحياة" يُوحي بدعمٍ استباقيٍّ ويركّز على الطفل الذي لم يولَد. من يودّ أن يكون ضدّ حق الطفل بالحياة؟ العبء الأخلاقيّ في العبارة الأولى أقلّ بكثيرٍ منه في العبارة الثانية.
التلاعب بالحقّ في نوعيّة الحياة
وقد استُخدمت الاستراتيجيّة ذاتها في عنوان تشريعٍ عماليّ مؤذٍ طُبّق في ما قارب أربعاً وعشرين ولاية في الولايات المتحدة، والمعروف باسم "الحق بالعمل". وقد كانت غايته الضبط والكبح الشديدين للمجال المسموح به للعمال داخل نقاباتهم. فمثلًا، تمنع قوانين "الحق بالعمل" الاتفاقات الأمنيّة للاتحادات النقابية. وهذه القوانين لا تقدّم، بأي حال من الأحوال، ضمانات توظيف للراغبين بالعمل، كما قد توحي به العبارة. تم طرحه والتصويت عليه في التسعينيّات بعد كَولسة ملحّة في أروقة الكونغرس من غرفة التجارة التي تدافع عن مصالح الشركات حصراً.
ونجد تجسّدًا آخر لهذا التقلّب الدلاليّ في مجموعة أخرى من القوانين تهدف إلى تمكين استبدال الطابع الطبقي لأحياء بكاملها، وضبط قيمة الملكيّة العقاريّة المتزايدة، المعروفة بـ "جرائم بحقّ نوعيّة الحياة" (وتنطبق تلك القوانين على رسوم الغرافيتي والتخريب المتعمّد للممتلكات، واحتلال الأرض من جانب المتشرّدين، إلخ). هنا أيضاً، يتصوّر المرء بدهياً أنّه عند الإحالة إلى "جريمة ضدّ نوعيّة الحياة"، تكون الضحيّة هي المتشرّد الذي انخفضت نوعيّة حياته بشدّة بفعل تراجع سياسات الرفاه وخيانة مؤسسات الدولة. وكما سيتبيّن، فإنّ مقترِف الجريمة هو المتشرّد، الذي يتسبَّب سلوكه المشاكس وحضوره بتخفيض قيمة ملكيّةٍ عقارية معيّنة. وبدلًا من حماية المتشرّد الذي انتُزعت ملكيّته، يقوم تشريع "نوعيّة الحياة" بالدفاع عمّن انتزع الملكيّة.
وتستمدّ هذه الحالة محاجّتها من "نظريّة النافذة المكسورة" لجيمز ك. ولسن١، أو الادّعاء أنّه حين تبقى نافذةٌ مكسورةٌ بلا إصلاح، فهذا يشير إلى حالةٍ عامّة من فسادٍ مُمنهج، وبالتالي فإنّ منظر القمامة، والغرافيتي، والتبوّل في الشارع والاستيلاء على أراض أوعقارات تشير إلى درجةٍ من الفوضى المتفشّية، الأمر الذي يزيد أرجحيّة اقتراف مزيدٍ من الجرائم الجديّة. وقد طُبّقت مجموعة القوانين هذه في عددٍ من المدن الأميركيّة في الثمانينيّات والتسعينيّات على يد عدد من العُمد المحافظين في المدن الأميركيّة. وفي الواقع، غالباً ما كانت نظريّة ولسن إحالةً لتبرير سياسات انعدام التسامح التي يناصرها هؤلاء العمد لضمان "نوعيّة الحياة" في أنحاء مدنهم.
الأمن يخترق الحياة اليومية
منذ انطلاق الحرب العالميّة على الإرهاب عام ٢٠١١ إثر اعتداءات ١١ أيلول/سبتمبر، لم تعد مفردة "أمن" ملكيّة حصريّة لقاموس السياسة الخارجيّة، بل اخترقت المجالين المواطَنيّ والمدنيّ في الحياة اليوميّة. بفعل خوفهم من اعتداءات إرهابيّة، توصّل المواطنون في جميع أنحاء العالم إلى قبول أنْ يكونوا مراقَبين طوال الوقت تقريباً عبر عددٍ لا حصر له من كاميرات المراقبة في زوايا الشوارع وأركانها، وتقاطعات الطرق، وجميع محطّات النقل العموميّة، والساحات العامّة، والمدارس، والأسواق، والمتاجر الكبرى، والمباني المكتبيّة والحكوميّة، إلخ. كما توصّلنا إلى القبول بأنّ مبادلاتنا وتواصلاتنا مراقَبةٌ أيضاً – المكالمات الهاتفيّة، الفاكسات، الرسائل النصّيّة، الإيميلات، إلخ. انّنا نوافق على تفتيشنا جسديّاً تفتيشاً شاملاً، وعلى أن نخضع لتحقيقات مجنونة على نحو عشوائي، وقمنا باستبطان شيفرات "تشخيص الهويّة الاجتماعيّة" بناءً على النماذج الدينيّة والإثنو-ثقافيّة والطبقيّة والعرقيّة. وهذا لأن العدوّ في كل مكان، قد يكون الجار والزميل في العمل وسائق الباص وعامل التنظيف، كما أنّ ساحة المعركة في كلّ مكان وأيّ مكان – الطائرات التجاريّة، المدارس، النوادي الليليّة، السوبرماركتات. وتضمن لنا بوّابات الدخول المغناطيسيّة والتفتيش الممنهج للحقائب أنّ الأسلحة بجميع أنواعها ليست في الأيدي الخطأ، في المكان الخطأ، حتى لو كانت مُتاحةً للشراء أكثر من ذي قبل، علناً وخِفيةً.
عيون وآذان وكالات الأمن القوميّ، وأجهزة الاستخبارات، ومتعاقدو الأمن الشخصيّ، الآخذ عددهم بالازدياد، تُشاهد وتُنصت لحماية سعادتنا. في ظلّ الحُكم الشموليّ لأنظمة الحزب الواحد في "الشرق السابق"، كانت ممارسة المراقبة والتجسّس مُفعَّلةً على يد الدولة، حيث يُرغَم المواطنون على الخضوع، خوفاً من الانتقام. أمّا في ظلّ هيمنة النيوليبراليّة، فالمواطنون يجري تطويعهم على الخضوع، خوفاً من هذا العدوّ البدائيّ الشرّير الذي يُفترَض أنّه منقاد بكراهيّة عمياء وطموح لتدمير "الثقافة الغربيّة".
وفقًا لمقال لكشمير هيل، نُشر في موقع Fusion.net في 28 حزيران/يونيو من هذا العام، تُجمَع بيانات تحديد المواقع في الهواتف الذكيّة من مواقع التواصل الاجتماعيّ، كما في مواقع فيسبوك التي تقترح عليك "أناسا قد تعرفهم"، ويجري انتقاؤهم من بين الذين تتقاطع مسارات تنقّلاتهم خلال فترةٍ محدّدة من الزمن. ويتم تعقّب المواقع أوتوماتيكيّاً خفيةً عبر "تطبيق تحديد مكان" مُدمَج، بمعنى آخر، من دون أن يكشف الشخص عن موقعه.
تلاشي الأمن الاقتصادي والاجتماعي
وعلى نحو مشابه، تحدث عمليّة تفكيكيّة بشأن فكرة الأمن، كما في فكرة الحقوق، وتحديداً فإنّ الأمن الاقتصاديّ والأمن الاجتماعيّ باتا غير مهمّين إلى درجة الإهمال التامّ. فالأمن الاجتماعيّ، الذي كان في ما مضى حجر زاوية للرأسماليّة، أصبح اليوم على شفا التلاشي. فعلى سبيل المثال، التحوّلات التي طرأت على فكرة "أمن الوظائف"، بما هي واحدة من تجسّدات الأمن الاقتصاديّ، من سبعينيّات القرن الماضي حتى هذه اللحظة، مثيرة للعجب. كان أمن الوظائف نموذجاً تأسيسيّاً تقريباً للتوظيف والإدارة. أمّا الآن فقد أصبحت تسريحات العمّال جزءاً لا يتجزّأ من الإدارة الذكيّة للشركات. ففي عام ٢٠١٣، أعلنت شركة «إتش پي» (للالكترونيّات) عن تسريح ٢٩ ألف موظّف، وهذا كان عملًا غير قابل للتصوّر أساساً في السبعينيّات أو الثمانينيّات.
وفيما تعمْلقت الوجبات السريعة، تصاغرت الشركات (أو اعتمدت "الحجم الذكيّ")، وجرى تفريع ليتوزّع على أسواق العمالة الأرخص، وتحوّلت العمليّات الماليّة الكبرى إلى الملاجئ الضريبيّة، ويتمّ كلّ هذا بهدف زيادة معدّلات أرباحها الإجماليّة. كان مستشار فرنسيٌّ متخصّص في "خطط إعادة تشكيل الشركات" ضيفاً في مقابلةٍ مع إميلين كاتسي في اليوميّة الفرنسيّة لو موند (الأحد ٢٩ والإثنين ٣٠ أيار/مايو ٢٠١٦). تحت عنوان "عملي هو مساعدة الشركات على طرد الناس"، كشف پيير (لم يُدرَج إلا اسمه الأول لـ"حماية" هويّته) من دون تحفّظ: «مؤخّرًا، اتصل بي مديرو الموارد البشريّة في شركة صيدلة (سُرّح فيها ٢٥٠) هلعين: ´لقد جاؤوا كلّهم وكلٌّ منهم يضع شارةً عليها اسمه الأول وعدد سنوات خدمته في الشركة.ليس ثمّة ما هو بغيض في الأمر. يحتاج الموظّفون إلى إظهار ارتباطهم بالشركة، كي يثبتوا وجودهم في اللحظة التي يتم فيها تقرير مستقبلهم. في السنوات العشر الأخيرة، كانت الكوارث طافحةً في فرنسا. لا يمرّ يوم من دون استحضار خطة جديدة. وعلى أيّة حال، كان الرأي العام، ووسائل الإعلام والموظّفون قد فهموا أنّ التسريحات الاقتصاديّة باتت أداة في يد إدارة الشركات. وذلك إلى درجة أنّ الخطة التي لا تُفضي إلى تسريح أكثر من مئة شخص لا يتمّ ذكرها أبداً». وعلى نحو مثير للاهتمام، تزامنَ تجاهل أمن الوظائف مع ممارسة أخرى في البزنس، وهي الارتفاع الشاهق في علاوات المديرين التنفيذيّين الكبار، وقد دافع المستشارون في شؤون الإدارة عن الاجرائءن معاً.
تبعاً لمنطق النيوليبراليّة، ليست هذه التحوّلات من قبيل التقدّم فحسب، بل هي "طبيعيّة" أيضاً، أو هي الأكثر أصالةً في التعبير عن الميل "الطبيعيّ" للإنسان. إنّها قدَرٌ جليٌّ، لو جاز التعبير. ولقد أخفقت الاشتراكيّة ودولة الرفاه وصيغ أخرى من النماذج الكينزيّة لأنّها تجري بما يعارض الطبيعة البشريّة، على حدّ قولهم. وتكمن مفارقة استحضار "الشرق السابق" في الكيفيّة التي أصبحت فيه أشدّ ممارسات السيطرة استغلالاً وتطفّلاً وانحرافاً مُطوَّعةً ومُطبَّعةً ومُدمَجةً في سلوكنا كمواطنين ومستهلكين ومقترعين ومُنتجي فائض قيمةٍ ماديٍّ وغير ماديّ.
«صناعة التوهيم» والحروب اللاخطّيّة
أما ما تُسمّى "الحرب على الإرهاب" فتبدو استراتيجيّةً ماكياڨيليّةً كلاسيكيّةّ وتطبيقاً عمليّاً قديم الطراز بالمقارنة مع مشهد "صناعة التوهيم" في ديمقراطيّة "السيادة" التي فعّلها ڨلاديسلاڤ سوركوف، أحد أبرز "الكاردينالات الرماديّين" ممّن يديرون السياسة في الخفاء في الكرملين، خلال ولاية پوتين الأولى. موّل سوركوف، الملقب توصيفه بـ«راسپوتين بعد-الحداثيّ»، أحزاب معارضة صوريّة من اتجاهات مختلفة، ومنظّمات حقوق إنسان غير حكوميّة، ومنتديات للنقاشات النقديّة، وحركة شبابيّة من اليمين المتطرّف لمواجهة الشباب المتمرّدين خلال الحراكات والتظاهرات والمهرجانات. ومثل لاعب دمى محترف، أشرف سوركوف على حملات ترويج معلومات زائفة وتشويه للنيل من شرعيّة جميع منتقدي النظام ومعارضيه، ولنشر التخبّط لدى الرأي العام في حقول السياسة، ومنظومات التدقيق والمحاسبة، وتمثيل وجود النظام القائم بكونه القوة السياسيّة الوحيدة المستقرّة التي يمكن التعويل عليها، والجديرة بالثقة والقادرة على إدارة دفّة البلاد.
عام ٢٠١٤، نشر بلا سماء، وهي نوڨيلا خيال علميّ قصيرة كملحق لمجلة روسكي پيونير (الرائد الروسي، العدد ٤٦، أيار/مايو ٢٠١٤)، باسم مستعار هو ناتان دوبوڨتسكي، استعاره الكاتب من اسم زوجته ناتاليا دوبوڨتسكايا. تجري أحداث هذه النوڨيلا العكس طوباويّة خلال "الحرب العالميّة الخامسة"، التي وصفها المؤلّف بكونها حرباً "لاخطّيّة [لا تتّبع مساراً مستقيماً]":
"كانت أولى الحروب اللاخطّيّة. في الحروب البدائيّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان من السائد أن يتقاتل طرفان فحسب. بلدان اثنان. ائتلافان. أما الآن فثمّة أربعة ائتلافات تتقاتل. لا اثنان ضد اثنين، أو ثلاثة ضدّ واحد. لا. الجميع ضدّ الجميع. ويا لها من ائتلافات! ليست كتلك التي كانت موجودة من قبل ... كان من النادر أن تدخل دولٌ بكاملها في القتال. قد تنضمّ عدّة مقاطعات إلى طرف، ومقاطعات أخرى إلى طرف مختلف. أو قد تنضمّ بلدةٌ واحدة أو جيلٌ واحد أو جندرٌ واحد إلى بلدة أو جيل أو جندر آخر. ثمّ تتبادل الأطراف مواقعها وتحالفاتها، خلال المعركة أحياناً".
أصاب مراجعو النوڨيلا الى قدر كبير في الإشارة إلى حقيقة أنّ پوتين قام بضمّ القرم بعد عدّة أيّام من صدور الرواية. وعلى أيّة حال، بعد عامين، بدا أنّ "الحرب اللاخطّيّة" توصيفٌ ملائمٌ للحرب في سورية. يحاجج المخرج التسجيليّ والفنّان البريطانيّ آدم كيرتِسْ بأنّ مفهوم سوركوف لـ "الحرب اللاخطّيّة" قد تمّ تبنّيه من أنظمة أخرى، خصوصاً من بريطانيا الحاليّة. وكذلك، بما أنّ سوركوف يعمد غالباً إلى استحضار المنهج بعد-الحداثيّ، تحديداً حيال إخفاق السرديّات الكبرى واستحالة التوصّل إلى الحقيقة وتفشّي الصور الزائفة عنها، يشير كيرتس إلى المدى الذي تمّ فيه تبنّي استراتيجيّات سوركوف من الفنّ المعاصر.
هل يمكن إيقاف أو تعطيل الحرب اللاخطّيّة؟ وإزالة الصورة الزائفة؟ إنّ أحد أهمّ مكوّنات المقاومة هو استرداد اللغة، تأسيس ونشر مسرد يُزيل ويفكّك هذه العقد والانعطافات الدلاليّة. بمعنى آخر، مسرد يجسر الهوّة مع البعد الحقيقيّ. أو بمفردات أبسط، مع التجربة المركّبة المتذبذبة لحاضرنا المعيش. من المستحيل القبض على الحقيقة كليّاً، أمّا الحقائق الموجودة فهي لا تزال امتيازاً حصريّاً للقويّ والقادر. ولكن حيواتنا مهمّة. وصف دليل السي آي إيه النتاج المأساويّ لخلق وحوش من أجل هزيمة العدوّ استناداً إلى تجربته هو، يُعرَّف ببساطة بكونه: "ضربة ارتداديّة".
- ١. “Broken Widows”, James Q. Wilson and George L. Kelling, The Atlantic Monthly, March 1982.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.