خلافاً لجميع التوقّعات، تمكّن بيرني ساندرز من الفوز بأكثر من ثلاثة عشر مليون صوت (٤٣٪ من المجموع الكليّ) وثلاث وعشرين ولاية في الترشيحات لانتخابات الرئاسة الاميركيّة. لم يظفر بالترشيح النهائيّ، لكنّه خلّف أثراً واضحاً على جيلٍ من الناخبين الجدد وعلى الخطاب السياسيّ في البلاد.
سيبقى معنى هذا بالنسبة إلى اليسار والحركة العماليّة في البلاد رهناً بالمستقبل. في حوار مع دانييل زامورا، في الدوريّة البلجيكيّة إيتود ماركسيست، يناقش أدولف ريد أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة بنسلڨينيا هذه الظاهرة وما يمكن أن تعنيه للمستقبل.
. كيف تفسّر نجاح حملة ساندرز؟ وحتى مع خسارته الترشيح النهائيّ، كانت سابقةً أن يوشك "اشتراكيٌّ ديمقراطيٌّ" مُعلَن على هزيمة مَنْ يمكن أن نعتبرها السياسيّة الأقوى في الولايات المتحدة [هيلاري كلينتون]. فالمبلغ الذي تمكَّن من جمعه، وعدد الناس الذي اجتذبهم إلى الحملة والأفكار التي عمّمها كلّها أمورٌ لم تكن متوقّعة أبداً.
. أظنّ أن هناك عوامل متعدّدة تفسّر باجتماعها نجاح الحملة. وأودّ التأكيد على وجوب اعتبار الأمر نجاحاً، فلطالما كانت إمكانيّة نجاح ساندرز بالترشيح الديمقراطيّ أمراً بعيد الاحتمال إلى حدّ كبير، دع عنك انتخابه رئيساً للجمهوريّة، مع أنّ كثيراً منّا – للمفارقة – ظنَّ أنّه سيكون مرشَّحاً أقوى من كلينتون، بهذا المعنى أو ذاك.
بالطبع، كان علينا كلّنا أن نعمل واضعين في الذهن احتمال نجاحه فعلًا، فمن جهة تبقى الإمكانيّة بعيدة الاحتمال إمكانيّةً مطروحةً، عدا عن أنّ التوقّعات بعد [الانتخابات الفرعيّة في] آيوا لم تعد كما كانت عليه لفترة طويلة. وكذلك، كيف لنا أنّ نأمل رفع إمكانيّة الحملة إلى أقصاها لو لم نفكّر بهذه الإمكانيّة؟
ولكن، وعلى نحو مفهوم، وجد البعض أنّ من الصعب مقاومة التفاؤل الطاغي الذي شجَّع على توقّعات أكبر. فإحدى سمات مواقف اليسار في الولايات المتّحدة أنّه يميل لأن يكون أقوى في مجال تفاؤل الإرادة منه في مجال تشاؤم الفكر. غالباً ما كنتُ أشير إلى أنّ نموذج عملنا في الحملة هو محاولة حشد أكبر قدر ممكن من الدعم في المكان الذي نعمل فيه في تلك اللحظة، بصرف النّظر عن نتائج استطلاعات الرأي أو ما يحدث في ولايات أخرى.
وعلى أيّة حال، أودّ التشديد على هذه النقطة لأنّني سمعت مؤخّراً بعض المعلّقين "التقدّميين" المزعومين يطرح الرأي المعاكس، أي أنّ الحملة قد أخفقت. إذ صرّح بعضهم بأنّ توقّعاتها كانت غير منطقيّة، مدفوعين جزئيّاً بفعل ما اعتبره هؤلاء سذاجةً حيال السياسة الانتخابيّة، نزعةً للتقليل من شأن الوزن المؤسساتيّ لمنظومة الحزب وصلاته على المستويين المحلّي والقومي ومع المؤسسات الحليفة مثل معظم الاتّحادات والمنظّمات النسائيّة والحقوق المدنيّة.
أما البعض الآخر من المتحمّسين لاعتبار الحملة فاشلة فمدفوعون بأهداف أيديولوجيّة أخرى. على سبيل المثال، فإن التروتسكيّين وآخرين غيرهم ممّن يعتبرون – على نحوٍ صنميّ – أنّ التعاون مع الديمقراطيّين هو أكبر الخطايا في السياسة، يودّون المحاججة أنّ ساندرز كان سينجح أكثر لو تقدَّم كمُرشّح مستقلّ.
هذا رأي واهِم. ففي المقام الأوّل، لم تكن الحملة خارج الترشيحات الديمقراطيّة والجمهوريّة لتظفر بأيّ انتباه على الإطلاق، ما يعني أنّنا كنا سنُضيّع العام الماضي هباءً، كما أنّنا لن ننال دعم أيٍّ من الاتحادات النقابيّة والمهنيّة أو المنظّمات الأخرى تقريباً.
ويصرّح نشطاء مناهضة العنصريّة، أو يُضمرون، أنّ الحملة كانت ستنتزع الترشيح من كلينتون لو كانت قادرةً على التقرّب من السود على نحو فعّال أكثر، ويعنون بهذا لو كانت الحملة قد منحتهم مكانةً خاصّةً كممثّلين رمزيّين للمقترعين السود. إنّ مسألة "أصوات السود" وحملة ساندرز أكثر تعقيداً ممّا تبدو للوهلة الأولى. هناك عدد كبير من المقترعين السود الذين تتنوّع تفضيلاتهم، واهتماماتهم، ودوافعهم، وميولهم الأيديولوجيّة، وصلاتهم المؤسساتيّة. أعلم أنّنا سنناقش هذا لاحقاً، لكنّ الصياغات الدائرة حول الشذوذ الظاهر القائل إنّ ساندرز لم يكسب نسبة أكبر من أصوات المقترعين السود هي مُضلَّلةٌ بحدّ ذاتها.
بمعزل عن أولئك المنتقدين، كان عدد آخر من الديمقراطيّين النيوليبراليّين والمعلّقين الإعلاميّين قد اعتبروا الحملة دون كيشوتيّةً منذ البداية، وأمعنوا في محاولة تسخيف ساندرز وقاعدته. وكان هذا متوقّعاً. فإحدى التناقضات في محاولة استخدام حملة انتخابيّة قوميّة كأداةٍ لبناء حركة سياسيّة هي أنّ مثل هذا الجهد سيعتمد على ما تقدّمه صناعة الترفيه الإخباريّ من رؤية عريضة ومباشرة. لكنّ من الحماقة توقُّع سماع وتقييم مُنصفَيْن من تلك الجماعة.
ركّزت الحملة، بدرجةٍ ما، على إحباطٍ عامّ يسود الدوائر الانتخابيّة، أي أعلى لإحساس بأنّ أيّاً من الديمقراطيّين أو الجمهوريّين المعتادين لا يخاطب اهتمامات الناس ومخاوفهم.
وسيكون من الخطأ اعتبار أنّ جميع، أو معظم، أولئك الداعمين لساندرز هم من اليساريّين الملتزمين أو من معتنقي انتقاداتٍ يساريّةٍ مركَّبةٍ للنيوليبراليّة. كثيرٌ منهم أناس يقاسون ويقلقون من الناحية الاقتصاديّة. كانت دوافع دعم حملة ساندرز متنوّعة، ومع أنّني أظنّ أنّ التشكّك حيال إخلاص الأحزاب لـ«وول ستريت» كان خيطاً محوريّاً في دعم ساندرز بكلّ تأكيد، إلّا أنّ من الخطأ محاولة التحدّث باسم تلك الدائرة العريضة من الناخبين.
أظنّ أنّ مغزى قبول الداعمين لسمة "الاشتراكيّة الديمقراطيّة" هو أمرٌ مُبالَغ فيه أيضاً. تذكّرني الثرثرة بشأنه بالمزحة القائلة إنّ نجاح حملة «احتلّوا وول ستريت» الأكبر كان دفع نيويورك تايمز إلى الكتابة عن التفاوت الاقتصاديّ في أميركا. لعقدين أو أكثر، لم يكن من المعقول التفكير بأنّ مصطلح "الاشتراكيّة،" مهما طرأت عليه من تعديلات، كان يحمل أيّ معنى أو مجموعة معانٍ محدَّدة أو متناسقة بالنسبة إلى الغالبيّة العظمى من الأميركيّين.
أفهم السبب الذي دفع ساندرز إلى استحضاره بهذا القدْر الكبير. كان المصطلح دمغةً ملصوقةً به أساساً، وكان من المنطقيّ أنْ يُحكم السيطرة على مناقشة هذه الدمغة كقضيّةٍ بأن يبادر هو إلى طرحها بنفسه. وقد بدا طرحه مثال [الاشتراكيّة في] الدنمارك لتفسيرها، أو تهدئة المخاوف حيالها، منذ وقت مبكّر مُزَعْزَعاً قليلًا وغير فعّال سياسيّاً برأيي، لكنّ بإمكاني تثمين سبب تصرّفه ذاك أيضاً.
وفي جميع الأحوال، أخشى أن تكون الحماسة لرؤية العبارة [الاشتراكيّة الديمقراطيّة] مطروحةً في الخطاب العموميّ شهادةً على هامشيّة اليسار ومدى قدراته على تحقيق أهدافه بالتمنّي وعلى الهيمنة، حتى بين الذين يسمّون أنفسهم يساريّين، على افتراضات الخطاب السياسيّ السائد بين كلّ هزال مفاهيمها وانقيادها إلى التصريحات الإعلاميّة المُقتضبة. وأفترض أنّ هذا ما يحدث حين يشارك حتى اليسار في اعتناق "إلصاق الدمغات".
وللأسباب ذاتها لم أنجذب إلى العبارة المخاتلة عن [اعتبار ترشيح ساندرز على أنّه] "ثورة سياسيّة". لقد خضتُ مواجهات كثيرة جدّاً، حتى ضمن الحملة، مع أناس تخيّلوا أنّ للعبارة معنى ملموساً أكثر ممّا توحي به فعلًا. من الواضح أنّها فعّالة كرطانة سياسيّة، لكنّ هذا يعود لكونها رمزاً تكثيفيّاً يعني أموراً مختلفة بالنسبة إلى أناس مختلفين، لكنّ الأرجح أنّها لا تدلّ على أمرٍ ملموسٍ فعليّاً أو ذي سمةٍ برنامجيّة بالنسبة إلى معظم الناس.
نعلم تماماً أنّ دعوات ساندرز إلى تعليمٍ جامعيّ عامٍ ومجانيّ وإلى نظامٍ صحيٍّ على الصعيد القوميّ، علاوةً على نظام تكثيف الاستثمارات العامّة وتنظيم القطاع المالي كان لها أصداء واسعة. القضيّة المحوريّة هي كيفيّة المضيّ قُدُماً. تمتلك الحملة لوائح ضخمة من النشطاء ذوي إمكانات تمكّنهم أن يشكّلوا قاعدةً لتنظيم آتٍ على مدى أطول، وثّمة نقاشات متعدّدة بشأن الخطوات المقبلة تجري في الدوائر الداخليّة للحملة وفي قاعدة دعمها المكوَّنة من ناشطين مقرّبين، مثل مبادرة «الحركة العمّاليّة من أجل بيرني»، بصدد الخطوات اللاحقة.
. يقول البعض إنّ علينا فهم خسارة ساندرز بكونها نتيجةً لافتقاره إلى الاهتمام بقضيّتَي العنصريّة والتحيّز الجنسيّ. كتبت أنجيلا ديڨيز [القيادية الشيوعيّة والمناضلة من أجل الحقوق المدنيّة] أنّ ساندرز كان مرشَّحاً "يرفض مواجهة العنصريّة" ومنخرطاً في "نوعٍ من الاختزاليّة الاقتصاديّة التي تمنعه من تطوير مفردات تُتيح له التحدّث بطرق تُنوّرنا بشأن استمرار العنصريّة، والعنف العنصريّ، وعنف الدولة". وحاجج پول كروغمن أنّ ساندرز كان عاجزاً عن تناول "التفاوت الأفقيّ" فلم يتمكّن بالنتيجة من الفوز بأصوات "الأقليّات". ما رأيك بشأن هؤلاء المنتقدين؟
. من الصعب الإجابة على مثل هذه الاتهامات لأنّها تخلو من مضمون ملموس. طوال فترة الحملة كنتُ أتساءل كيف يمكن ألّا يكون فرض حدٍّ أدنى فيدراليّ للأجور هو خمسة عشر دولاراً في الساعة (الحدّ الأدنى الحاليّ هو ٧،٢٥ دولارات) قضيّةً وثيقة الصلة بالأميركيّين السود واللاتينيّين الأوسع حضوراً بين العمّال الذين يتقاضون الحدّ الأدنى من الأجور؟ كيف لا يكون نزع صفة التّسليع عن الضمان الصحيّ القوميّ "قضيّةً متعلّقة بالسود"؟ أو التعليم العالي العام المجانيّ؟ أو الاستثمار العام المتعاظم بشدّة؟ أو إعادة التفاوض بشأن اتفاقات التجارة العالميّة وإيقاف مفاعيل منظّمة «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، التي ستقوّي سلطة الشركات ضدّ جميع فئات الشعب العامل؟ وما إلى ذلك. لم يحاجج أحد أنّ الأميركيّين السود، أو الأميركيّين من غير البيض، لن يستفيدوا أكثر من سواهم من تفعيل تلك البنود في برنامج ساندرز.
وعكساً، ما الذي تعنيه "مواجهة العنصريّة"؟ لا أحد في الوسط السياسيّ الأميركيّ ممّن يطمحون إلى أن يكونوا جديرين بالاحترام يعتنق العنصريّة صراحةً – ولا حتى دونالد ترامپ. في الواقع، فإنّ الجميع، حتى ترامپ، يشدّدون على كونهم معارضين لها.
كيف يمكن نعت حملة انتخابيّة بـ"اختزاليّة اقتصاديّة" حين تكون قائمة على برنامج يسعى إلى توحيد الطبقة العاملة الواسعة حول اهتماماتٍ تتشارك فيها الطبقة فيما يتجاوز العرق والجندر والتصنيفات الأخرى؟ للمفارقة، لدينا في السياسة الأميركيّة اليوم يسارٌ يتّهم أيّة إحالةٍ إلى الاقتصاد السياسيّ بكونها "اختزاليّة اقتصاديّة".
ثمّ إنّه ليس ثمّة دليلٌ على أنّ ساندرز كان رافضاً للاعتراف بالتّفاوت العنصريّ أو الجندريّ، أو مناقشته. ما الذي يعنيه "تنويرنا بشأن استمرار العنصريّة، إلخ؟" بكل تأكيد، لا تحتاج [المناضلة الشيوعيّة ضدّ العنصريّة] أنجيلا ديفيس إلى تنوير في هذا المجال، لقد ألّفت كتباً عن هذا الموضوع. إن خطّ النّقد هذا إمّا مُضلَّلٌ أو مُضلِّل.
وثمّة ما هو مُنوِّرٌ بالقدر ذاته، وهو وجود جوقةٍ من تيّار النسويّة الهويّاتيّة يسعى على نحو متكرّر إلى اعتبار دعم ساندرز نابعاً أساساً من رجال يساريّين متحيّزين جنسيّاً. كان هذا تنويعاً على خدعة سابقة بشأن وجود جماعة من الرجال الاشتراكيّين الذكوريّين الكارهين للنساء هدّدوا النسويّات بالاغتصاب أو بشكلٍ آخر من العنف بسبب رفضهنّ تأجيل المخاوف النسويّة لمصلحة اشتراكيّةٍ طبقيّة-اختزاليّة متركّزة ذكوريّاً.
هذا أمرٌ شديد الإيحاء، وكان كشفُه أحد اسهامات الحملة التي لم أكن أتوقّعه وهي أنّ لدينا الآن "يساراً" في الولايات المتّحدة يعتبر الاشتراكيّة دليلاً على التخلّف. من الجيّد أنّ هذا بات واضحاً الآن، من الجيّد دوماً معرفة مواقف الناس حيال الصراع الطبقيّ.
أجد ادّعاء كروغمن مثيراً للاهتمام حقّاً، بالقدر ذاته الذي وجدتُ فيه شكوى هيلاري كلينتون أنّ تفكيك البنوك الكبرى لن يُنهي العنصريّة أو التحيّز الجنسيّ. وهو لن يُنهي العواصف الشمسيّة ولا هو يساعد البحرين على الفوز بكأس العالم أيضاً. يتّبع كروغمن خطاً مماثلًا في تكوين ليبراليّة بعد الحرب التي تفصل فكرة اللامساواة عن الاقتصاد السياسيّ وتعتبرها أمراً يخصّ تباين الجماعات.
كانت تلك فعليّاً الحركة الأشدّ إيحاءً، مع أنّها غالباً ما تتملّص من التمييز، الذي قام به دانييل پاتريك موينيهان في كتابه السفيه العائلة الزنجيّة: الدعوة من أجل الفعل القوميّ، المعروف باسم تقرير موينيهان. بدأ أمثاله من الليبراليّين بمحاولة طمس التدخّلات العامّة الهائلة لسياسات «العقد الجديد» [للرئيس بروزفلت] منذ نهاية الأربعينيّات.قام أوسكار هاندلن، أبرز مؤرّخي الإثنيّة الأميركيّة في عصره - بل يمكننا القول إنّه ابتكر هذا الحقل، وهذ أمر له دلالاته أيضاً – بتوصيف الارتقاء الاجتماعي للمجموعات الإثنيّة في العام عام ١٩٤٩ دون أيّ ذكر لسياسات «العقد الجديد»أو النقابية الصناعية لـ (CIO)، اللذين كانا لا يزالان فعّالين وديناميكيّين آنذاك.
وما يدعو إلى الغضب خصوصاً الآن في ظل وصول التفاوت الاقتصاديّ إلى مستويات قياسيّة أنّ كروغمن وآخرين يتجاهلونه ويصرّون بدلاً من هذا على أنّ محور اهتمامنا يجب أن ينصبّ على كيفيّة توازع التفاوت الهائل المتعاظم بين الجماعات الإثنيّة المختلفة، أو بين الفئات السكّانيّة التي تُعدّ جماعات. وتزيد هذه الاستجابات على انتقادات ساندرز في تنفير الكيفيّة التي كيف أنّ الأصوليّة المعادية للعنصريّة والبرامج الهويّاتيّة الأخرى لا تنتج نيوليبراليّين يساريّين وحسب لكنّها تنتج أيضاً وسائط فاعلة في فرضها فكرة تقول بوجود حدود لما يجوز التفكير به سياسياً – أي أنّها تنتج لوناً من حرس الحدود الفكريّ والثقافيّ للنيوليبراليّة.
. ولكن، ألا تظن أنّ حمله بيرني لم تكن، بدرجةٍ ما، حملة مناهضة للعنصريّة؟ فمن الصحيح القول إنّ تركيز رسالته كان على القضايا السوسيو-اقتصاديّة. يقول كثيرون ضمن اليسار إنّ هذا الأمر يفسّر جزءاً من إخفاقه في الترشيحات النهائيّة في الفوز بدعم جماعة السود في الولايات الجنوبيّة. سمّاها الناس "أجندة بيضاء"، وأعتبر هذا توصيفاً مزعجاً – بل حتى أنّ تا-نهيسي كوتس قال عنها إنّها سوف تعزّز "سيادة البيض". كيف لنا أن نفسّر هذا، ونفسّر مستوى الدعم المذهل لكلينتون؟
. علينا أن نفهم أنّ السياسة الانتخابيّة تعمل وفق منطق مُشايعةٍ خاص. مقالة سيدرك جونسن "الخوف والقوادة في ولاية پالميتو"، هي دون أدنى شكّ أفضل تحليل لظاهرة نجاح كلينتون النسبيّ مع المقترعين السود. ارتبط قدرٌ كبيرٌ من هذا النجاح بحقيقة أنّ لكلينتون علاقات عميقة مع الشبكات النخبويّة التي تقود الناخبين إلى الاقتراع. وثمّة أسباب عديدة أخرى أيضاً. من بين نقاط سيدرك المهمّة المحاجّة ضدّ محاولة التعامل مع المقترعين السود بوصفهم "صوتاً أسود" يفكّر فيه الجميع بذهنيّة واحدة.
وكذلك كان لدينا ثلاثون عاماً أو أكثر من التوقّعات المنخفضة الراسخة حيال ما يمكن أن نتوقّعه من عمليّة الاقتراع. وقد تمثَّل هذا بوضوح في كارولاينا الجنوبيّة عندما أقدم عضو الكونغرس المخضرم عن ولاية جورجيا والأيقونة السابقة في حركة الحقوق المدنيّة جون لويس وزميله عضو الكونغرس عن ولاية كارولاينا الجنوبيّة جيمز كلايبرن على تسفيه عرض ساندرز بخصوص التعليمٍ العالي العامّ والمجانيّ معتبرين إيّاه غير مسؤول لأنّه يبثّ رسالة خاطئة أنّ على الناس توقّع أشياء مجانيّة – أي خدمات وبضائع عامّة غير سلعيّة– من الحكومة. "لا شيء مجانيّاً في أميركا"، زمجر لويس.
وقد جسَر ساندرز الهوّة مع مضيّ الحملة قُدُماً وخروجها من الجنوب. ومع ذلك، لن أعتبر الاقتراع لكلينتون إشارةً إلى أنّ المقترعين السود عموماً ملتزمون بسياسة مناهضة للعنصريّة مع أجندتها على كونهم ملتزمين بتحسين أوضاعهم الماديّة وأمنهم.
تلك هي القصّة التي يتحدّث بها نشطاء حملة «حيوات السود تهمّ» ونشطاء يعتبرون أنفسهم ناطقين بلسان المقترعين السود. لكنّ الأمر متعلّق بتدخّلهم الدعَوي، خصوصاً مع افتقارهم إلى قاعدة حقيقيّة بين السود الذين يقترعون على أيّة حال.
. ما بدا جديراً بالاهتمام بالنسبة إليّ هو قدرة ساندرز على ربط حملته مع الحركات العماليّة الأوسع في الولايات المتّحدة. من خمسة عشر دولاراً كحدّ أدنى للأجور إلى دعمه لإضراب ڨيريزن، بدا دوماً معنيّاً بشدّة بخلق ديناميكيّة إيجابيّة بين النشطاء العماليّين وحملته.
هل هذه هي الاستراتيجيّة التي علينا أخذها بالاعتبار من أجل مستقبل اليسار الأميركي؟
. نعم، أظنّ أنّ من البدهيّ في الولايات المتحدة، كما في أيّ مكان آخر، أن يرتبط غياب أساسٍ راسخٍ للحركة العماليّة بغياب أيّ يسارٍ جديٍّ فعلًا. كثيرٌ من الناس لا يحبّون سماع هذا، ولكن أعتقد أنّهم أساساً أناس يفضّلون تحقيق خيالاتهم عاطفيّاً على السعي إلى السُّلطة السياسيّة كهدفٍ لبناء الاشتراكيّة.
. يبدو لي، في نهاية المطاف، أنّ المرشَّح النيوليبراليّ الفعليّ هي كلينتون وليس ترامپ. ففي كثيرٍ من الحالات، صوَّتَ مقترعو بيرني وترامپ ضدّ كلّ ما تدعمه كلينتون. في حالة بيرني، ضدّ التجارة الحرّة، الفرصة المتساوية بدلًا من المساواة، الأسواق الحرّة، سياسة خارجيّة عدوانيّة، موقف مناصر لوول ستريت، كانت كلّها قضايا محوريّة للنّقاش. ولكن في حالة ترامپ، وبطريقته الموغلة في الديماغوجيّة، كان قد عبّر عن نفسه أيضاً ضد اتفاقات التجارة الحرّة، وسياسة كلينتون الخارجيّة، وكذلك بشأن الهجرة كتهديد للأجور والوظائف.
إذًاً، بدرجةٍ ما، لا يتمحور هذا الجدال بين "ديقمراطيّين" مقابل "جمهوريّين" فحسب بل كذلك عن النيوليبراليّة وآثارها. ويبدو أنّنا، في العالم الغربيّ، نشهد سرديّة أشدّ تطرّفًاً، ضمن اليمين، تهدف إلى الفوز بدعم "الخاسرين" جرّاء العولمة.
وفي هذا الوضع، من المزعج أنّ اليسار يبدو عاجزاً عن تقديم إجابة أخرى بخلاف اكتفائه باتّهام "الطبقة العماليّة البيضاء" بكونها عنصريّةً. انطلاقاً من وجهة النظر هذه، يبدو بيرني بمثابة علامة أمل وانطلاقة يسارٍ يمكنه توحيد الطبقة العاملة خارج حدود سياسة الهويّة هذه بأسرها.
. كلينتون هي المرشَّح النيوليبراليّ حتماً. لست واثقاً ممّا ينبغي قوله عن ترامپ بخلاف أنّه مُختلّ وانتهازيّ شرس مُهيَّأ بشدّة لتملّق أشدّ النزعات خطورةً في السياسة الأميركيّة. وأتّفق مع رؤيتك عن كيفيّة ملاءمة ترامپ لسياسة اليمين المتطرّف الشعبويّة التي برزت في أوروبا علاوةً على هنا.
كما أنّ من المهمّ تذكُّر أنّ متوسّط الدخل السنويّ لمقترعي ترامپ حسب آخر ما رأيته، وذلك منذ شهرين، هو ٧٧ ألف دولار سنويّاً. ليس هذا وضع الطبقة العاملة، هذا حال أصحاب الأعمال الصغيرة أو الحرف الثانويّة الذين يسعون جاهدين لتأكيد إحساسهم بالانتماء إلى الطبقة المحترمة أو المحافظة عليه، أولئك الذين يعتبرون أنفسهم الأميركيّين "الحقيقيّين"، ويتماهون مع الأثرياء، ويخشون اختراقهم من الطبقة العاملة وخصوصاً الأعضاء غير البيض من تلك الطبقة العاملة.
وهذه هي الفئة ذاتها الخاصّة بـ"الجنتلمان ذي الملكيّة والجاه" التي صدّرت لنا عصابات مناهضة إلغاء العبوديّة في أميركا قبل الحرب، وهي النسخة السياسيّة من جماعة كو كلكس كلان كظاهرة قوميّة في العشرينيّات، والحزب النازيّ، وجميع الحركات السلطويّة والفاشيّة الأخرى. كما أتّفق كذلك بشأن الأمل الذي جسّدته حملة ساندرز. بيّنت لنا الحملة أنّ من الممكن الارتباط مع الطبقة العاملة الواسعة، وقد أصبحت واعياً أكثر فأكثر للدرجة التي نسمح فيها نحن، واليساريّون ضمناً، للطرف الآخر بفرض حدود الطبقة العاملة أمامنا.
وكما حاجج نلسن ليشتنشتاين، عمل إصلاح قانون العمل الرجعيّ بعد الحرب العالميّة الثانية الذي عدّل قانون علاقات العمل الوطنيّة في حقبة البرنامج الجديد الذي كان قد حثّ على إنشاء نقابات منذ منتصف الثلاثينيّات – على تشديد تقييدات تصنيفات العمّال المؤهّلين للانضواء ضمن النقابات، ما أدّى إلى استبعاد كثيرٍ ممّن يُسمّون "أصحاب الياقات البيض" والموظّفين العاديّين.
وكما تعلم، بالطبع، سال حبر كثير في طرح توصيفات استثنائيّة للسبب الذي لم تعمد فيه الولايات المتّحدة على تطوير منظومة حماية اجتماعيّة عامّة كما هو الأمر في معظم دول أوروبا. وعلى أية حال، يمكن أن يكون تفسير هذا الاختلاف شديد البساطة، فبعد الحرب ضعفت مكانة الطبقات البورجوازيّة في معظم أنحاء أوروبّا وانهارت صدقيّتها بسبب تعاونها مع الفاشيّة. بينما خرج بورجوازيّونا بعد الحرب أقوى ممّا كانوا عليه من قبل وأُعيد تأهيلهم سياسياً بفعل مشاركتهم في المجهود الحربيّ.
وفي جميع الأحوال، أصبح كل شيء الآن متوقّفاً على ما يمكن أن نبنيه على الزّخم الذي ولّدته الحملة، من تعميق وتوسيع الصلات مع النقابات العماليّة، وأماكن العمل، والجماعات، والجامعات – مسلّمين بأنّ التقدّم سيكون بطيئاً، وممتدّاً لعقودٍ ربّما، كما ينبغي لنا أن نرى أنفسنا على أنّنا عند بداية رحلة تنظيم طويلة فعليّاً.
وإنّ أحد انشغالاتنا، أو يُفترَض فيه أن تكون، ذلك التيار ضمن جماعةٍ من اليساريّين المتحمّسين للتعظيم المنهجيّ لفصل الاندماجات واستبدال البرنامج الطبقيّ بسياسة هويّة مناهضة للتكافل.
وأظنّ أنّ علينا تعزيز المظاهر الأشدّ مثاليّة في البرنامج، مثل المطالبة بتعليمٍ عالٍ عامّ ومجانيّ، ونزع التسليع عن النظام الصحيّ، إلخ... والقتال الجوهريّ لإيقاف الشراكة عبر المحيط الهادئ، وبالطبع القتال ضدّ التمييز على أساس العرق أو الجندر أو الميول الجنسيّة، إلخ وكذلك ضدّ التسييس النيوليبراليّ ومنظومة السجون العامّة/الخاصّة المتعاظمة باستمرار، وهذه ينبغي علينا فهمها، والتشديد على الآخرين كي يفهموها، بما هي قضيّةً طبقيّة.
كيف يمكن أن يكون لهذه الحملة تأثيرات خارج الانتخابات برأيك؟ أعني، حتى بيرني قال مرّات عديدة إنّ ما يريد تحقيقه لا يمكن أن يقوم به رئيس الجمهوريّة بمفرده (حتى لو كان هو الرئيس). إذًاً، كانت حملته متعلّقة أيضاً ببناء حركة سياسيّة يمكنها تغيير المشهد السياسيّ في الولايات المتّحدة.
هل ترى مستقبلاً لبيرني؟ وما موقع منظّمات العمّال في هذه العمليّة؟
. برأيي، كان كلّ شيء حتى الآن مجرّد تحضير. كانت الحملة تدور، بهذا المعنى، حول إظهار أنّ النقاش المفتوح بشأن مشاغل الطبقة العاملة وبرامجها كان يهدف إلى إيجاد ناشطين ومنظّمين جديّين وجد هذا النقاش صدى لديهم، وإلى توحيدهم، والاستعداد للبدء بالتنظيم والحشد حول قضايا الحملة، وربما الترشيح الانتخابيّ المعتاد.
وثمّة عقبةٌ أخرى لا بدّ لليسار في هذا البلد من تخطّيها، هي النّزعة المتوتّرة للبحث عن مرشَّح للمنصب أو موضوعٍ جديرٍ بالتشريع. وينبغي أن ينبع كلا الأمرين من الحركة كتعبير عن قوّتها، وبرغم اعتقادات أولئك الواقعين تحت نير الأمميّة الرابعة وأوهام أخرى، إلّا أنّ هذه الاعتقادات ليست أدوات لتوليد تلك القوّة.
. أخيراً، هل أنت متفائل حيال مستقبل الحركة العماليّة الأميركيّة؟
. لا بدّ لي أن أكون كذلك. لا يمكننا الانتقال إلى أيّ مكان من دون حركة عمّاليّة نابضة بالحياة، وكذلك، كما يحاجج مسؤول عمّال شركات السيارات الكنديّين سام گندين ورفاق آخرون في اتحادات التجارة، تحتاج الحركة العماليّة إلى يسار نابض هي بالحياة أيضاً. وهذا يتّضح طوال الوقت. ثمّة علامات إيجابيّة كبيرة ضمن الحركة العماليّة، كانت مبادرة العمّال من أجل بيرني إحدى أكثر المبادرات رسوخاً في الحملة وقد قدّمت سياقاً لكثيرٍ من اليسار العماليّ – بمن فيهم رفاق كثيرون من حزب العمّال الذي كنت أنتمي إليه – كي يجتمعوا ويفكّروا استراتيجياً على نحو متناغم. وحتى بمعزل عن الحملة، ثمّة قوى أساسيّة في نقابات عديدة يقودها تقدّميّون ويساريّون ملتزمون بدور النقابات في بناء حركة اجتماعيّة أوسع. إنّها عمليّة طويلة وبطيئة، وسيكون من المهمّ لنا كمناضلين أن نُبقي هذا في أذهاننا. كما أنّ تلك المقاربة المُضنية للتنظيم هي اختصاص آخر من اختصاصات الحركة العمّاليّة، أي نموذج التوسيع ثمّ التثبيت ثمّ المزيد من التوسيع.
ولا يمكنني القول إنّني واثقٌ أنّنا سنفوز في نهاية المطاف: فالأرجحيّات هي دوماً ضدّنا على طول الطريق، وكما تُبيّن لنا الصعوبات التي يواجهها رفاقنا في البرازيل وڨنزويلا على يد الطبقات البورجوازيّة الفاسدة التي تخشى أنّها ستعجز بعد الآن عن إحكام السيطرة على المجتمع ديمقراطياً، كلّما تزايد نجاحنا، تعاظمت خطورة الوضع السياسيّ.
الفارق بين الماركسيّين اليوم والماركسيّين قبلنا، إذا استثنينا المتعصّبين الدينيّين الطائفيّين المتزمّتين، هو أنّنا لم نعد نملك عزاء الثّقة بالغاية. ليس ثمّة لحظة لتحقّق الألفيّة السعيدة، أو لحظة موضوعيّة لتوقّع الانهيار. لا نعلم الطرق التي سيسلكها التاريخ، كلّ ما نستطيعه هو محاولة التأثير فيه.
الواجب هو النضال في أماكن انخراطنا والتمسّك به مع إدراك أنّنا مُسنّنات صغيرة في مشروعٍ كبير، وأنّ جهدنا ينبغي أن يتركّز على جعله أكبر وأقوى.
قد يساعدنا استخدام تشبيه رياضيّ في هذا السياق: مهمّتنا هي وضع الكرة في الملعب والسعي لأن نكون مستعدّين للردّ بفاعليّة على الظروف التي غالباً ما تكون عصيّة على التنبّؤ. وهذا يستلزم بالطبع فهماً لمنطق اللعبة ولطبيعة معارضتنا وقواها وحدودها علاوةً على طبيعة حلفائنا وقواهم وحدودهم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.