العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

مظفّر النوّاب شاعر الحرية

النسخة الورقية

الحريةُ ضرورةٌ جَدَلية. ضرورةٌ لأنّها الجنّة التي تُفجِّر طاقات الإنسان، وتُطلق لها العنان، ازدهاراً وتألّقاً. وتخلق هذه الضرورة تفاعلاً عضوياً بين الفرد والمجموع. فالفرد لا يسمو بعيداً عن تضادّات البيئة والخَلق والنَفس البشرية نفسها. ومِن عالم التضادّات يُولَد الشِعر. ويتألّق هذا الشعر إن تفاعلَ مع رحلة المنفى جدلياً وبانتظام، ليخلقَ ينبوعاً من الحسّ الإنساني لا ينضب. بَل يتسامى مع التجارب والسنين فيُجسِّد، وبتفانٍ، انتماء المُبدع/المنفيّ للإنسان، للتقدّم، للجمال.

«أنا مَلكُ الترحال
وتاجُ التيجانِ على رأسي
حبّةُ قَمْحٍ.
يَطردني الحكّامُ
فأمضي مُبتسماً،
هذي أرضٌ واحدةٌ
لكنّ الحكامَ كثيرون»

مسيرةُ مظفر النواب الأدبية والسياسية طويلةٌ، كصبرهِ وتطلّعاتهِ لغَدٍ أفضل. وقصيدته وطيدة العلاقة بهموم الإنسان، معقّدةٌ وشائكة كموضوعتها. حياتية. تَصهر في سياقِها التراث، والمرأة، والعشق، والأمل واليأس في جماليّةٍ وموسيقيّة عذبة وبأسلوب بَلاغيّ وصياغة لغويّة بارعة.

«إن تَوحّدتَ بغدّارةِ ليلٍ لونُها الكُحل
وغرّزتَ بعشق الأرض
ما مِن قَدَرٍ
إلّا بإذنٍ مِنكَ يا حبيبي.
واحتَرسْ: ما كُلّ غَثٍّ ثَمَرٌ غَثّ،
قَدْ الذائقُ غَث»

تغدو القصيدة لوحةً فنيّة متضادّة الألوان. سيمفونية صارخة حيناً، ومتجانِسة حيناً آخر، تتخلّلها صرخات «التضادّ» و«الاحتجاج» كصَرخة يا مينا، بطلة الناي السحري لموزارت، إذ تقول: «يجب أن أتكلّم الحقّ، كلّ الحقّ، وإن يَكُن ذلك جُرماً». ويُوظِّف مظفّر في سياقها مفردات من صلب المحيط للاحتجاج على كلّ شيء بذيء.

«ليسَ لَديَّ سِوى استفسار
باسمِ الشعبِ المُلقى القبض عليه جميعاً:
كيفَ رَضيتُمْ أن تَمتَدّ يَدٌ
باسمِ أياديكم وتُصافِح
مَن دَفَعَ السُفودَين بعينيهِ الحالمتين؟»

الحريةُ، لدى مظفر، تتطوّر لتصبحَ حالةَ عشق، يُدافعُ فيها العاشِقُ عن قضايا الناس لأنّه تَوّاقٌ لبلوغ الحريّة بأسمى آياتهِا. حريةٌ لا وازِعَ لها إلّا الضمير، يسعى من خلالها لثورةٍ عارِمة على العادات البالية والتقاليد الاجتماعية الساذجة والروح الهدّامة. ويُناضل لظهور كلّ شيء للعلن. ففيه خَلاصنا، ويَقظتنا التي طالَ انتظارها. ويأمل، ولكن في قَلَق، أن يَفهم الصمت العربي الخانق و أطفال سورية والعراق واليمن وفلسطين والبحرين وليبيا وَوَوَ يُعانقون السماء جياعاً وحيرانين. ويظل محتاراً مِن الخنوع العربي بوجه المُستَعمِر الأمريكي ــ الصهيوني، دائباً لأن يَفهم كيفَ يُقتَل الحُسين بن عليّ ألف مرة في جحيمنا العربي. ويبقى توّاقاً، رغمَ كل شيء، لسماعِ صوت العود الأزلي.

«كانَ القرنُ الرابع للهجرة فلاحاً 
يَطلقُ في أقصى الحنطةِ ناراً
تلك شيوعيةُ هذه الأرض
وكان الله معي،
يمسحُ عن قدميهِ الطين»

مظفر العاشِقُ علَّمَنا أن نتأمّل، بالرغم مِن حِراب الديكتاتورية، ونَسكَر بفيوضات الحب الإلهي رغم الظلامية المُسَيطرة على المجتمعات العربية. وعلَّمنا أنْ نَعشَق الإنسان. وهذا يُثير الفزع في قلوب الحكّام.

«ثَمِلَ الله بنا، ممّا فَهمنا أدَب الشُرب
وأنهينا القناني حَيرَةً في لُغزِهِ
سُمّارهُ كُنّا، وكانَ الأرَقا...»

غُربة مظفر التي بَدَأت مع انتكاسة اليسار العراقي، أضفَت طابعاً مُميزاً، يكاد يكون فريداً، على شِعره الفصيح والعامي. وأضحت تصوغ لوجدان الشاعر تأمّلاته الباطنية التي ترتاد المجاهل بلهفةٍ حنون، يختلِجُ طيّاتها نَبضُ الربيع. فبغداد والليل والنهر مفاهيم فلسفية، وليست مفردات، تدخل في صميمِ قصائدهِ، وتَصرخُ حيناً لماضٍ، ومستقبلٍ، أقرب للطوباوية من الواقع.

«لكلِ نَديم يُؤرِق والقلبُ ملَّ نَديمه
كأنّي عِشقٌ تَذَوّقَ طعم الهزيمة»

فالواقع مُشوَّه بألم الفراق عن العراق، وحزن المأساة التي نزلت بشعبه، وأسف الضياع الذي لَحَقَ شباب المهجر. ولكن يتألّق الحزن كالوردة السوداء: تَتفتّح، وتُورّد، وتزدهر رغم سَواد لونها. هذه الحرية المُفرطة بالعشق تتطلّب، بالضرورة، مبدأً أخلاقياً رصيناً، غيرَ مساوِم. يأبى الحوار مع أولئكَ الذين اغتصبوا الشعب، وسرقوا بسمة الطفل، وحرَّموا ممارسة الحب. أُولئكَ الذين أجهضوا منبع السلام العادل وأسّسوا طائفيّة بشعة، وهجّروا الشعب، ووضعوا خيراته رصيداً في بنوك الإمپرياليّة.
 
«مَرَّ ريقي بحروب الجهل مِن كلّ الجهات
أفما تَملأ إبريقي بساتين الفرات
قلقاً أدعو شتات الطير يا أحبابُ لمّوا
الشمل فالقاتلُ لا شيء سوى هذا الشتات».

بدأت رحلة مظفر مع الشعر بالعاميّة العراقية مطلع خمسينيات القرن العشرين في زيارة له إلى ريف العمارة، جنوب شرق العراق. خلالها اطّلع على الأبوذيات وألوان شعرية وغنائية متنوّعة أجَّجَت مواهبه الواسعة، وأغنَتْ ذائقتهُ الفنية والموسيقية التي بدأت منذ نعومة أظافره. إذ نشأ في بيت ثقافة وأدب وشِعر وموسيقى وسياسة مناهضة للاستعمار. كان والداه يعزفان العود والپيانو، ولازمته مُذّاك الجملة الموسيقية في حلِّهِ وترحالهِ. وبالإضافة إلى الشعر بالفصحى والعامية العراقية الجنوبية، مظفر النواب فنّانٌ تشكيليّ وله صوت موسيقي متميّز. كتبَ ابن بغداد، المَديني بامتياز, بحساسية مُرهَفة باللهجة العراقية الجنوبية، وتَولّدَت علاقة عِشق بينه وبين الأهوار وأهلها، حتى أصبح من المستحيل أن نتصوّره خارج عوالم المشحوف (قارب اخترعه البابليون) والمضايف وفقراء الريف الذين عانوا الأمرّين من الإقطاع وأزلامه ورجال الدين المُرتزقة، من ناحية، ومن بَطش الدولة المركزية منذ تأسيسها، من ناحيةٍ أُخرى. توطّدت علاقته بالجنوب عندما شارك في الكفاح المسلَّح بقيادة خالد أحمد زكي مع يسار الحزب الشيوعي العراقي في عصيانه ضدّ الحكومة أواخر ستينيات القرن العشرين. وانهارَت فترة الكفاح المسلّح، وقُتِلَ المئات من الثوار ومن ضمنهم الإنسان الفذّ، خالد أحمد زكي، وهربَ مَن نجا من بطش حكومة بغداد. لكن عاشَ الجنوب العراقي وأهله وتاريخه، بمرِّهِ وحلوِهِ، ولهجته الأصيلة، في قَلب مظفر وعبقريّته الشعرية ومبادئه. وقد تَضمُر العضلات ويضعف البَدن، لكن يبقى فِكر مظفر النواب مُتّقِدا وكلماته موسيقى تُغْنيها الأجيال.

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.