العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

مناظرات الزجل في لبنان

التحديات والنزاعات ٢/٢

انقر هنا لقراءة الجزء الأول من الدراسة.

تأتي بعد ذلك سلسلةُ المعنّى، القائمة على بحر البدالي أو الطويل، القريب من الرجَز. ويكون الانتقالُ من القرّادي إلى المعنّى دون تمهيدٍ، لكن هنا أيضاً يُلقي شحرورُ المقطع الأوّل، الردّة. ونلاحظ فوراً أنّ المداخلاتِ المتناوِبة أقصرُ منها في الافتتاحية: يتألّف كلُّ مقطع من ستة إلى ثمانية أبيات، تفْصل بين المقاطع لازمةٌ إيقاعيّةٌ تغنّيها الجوقةُ التي تُكرّر البيتَ الأخير، هنا أيضاً يستخدمُ الشعراءُ الدَّفّ. يسمحُ هذا الشكلُ بمتابعةِ المناظرة بجوٍّ مختلفٍ عن القرّادي، أقلّ حماسةً، في البداية على الأقلّ. وهو سلسلةٌ من المبارزات تبدأ بين زين وشحرور، ثمّ بين طليع والزغلول. لكنّ نبرةَ هذه المبارزات تختلف تدريجيّاً. ونظراً للنقص الذي ذكرناه في وثيقة الفيديو، لن ندرسَ في باب المعنّى سوى مواجهةِ شحرور وزين.

هنا نشعرُ أوّلاً بعودةٍ إلى بعض الجدّية: يبدأ شحرور ثمّ يعتذرُ فوراً من الزغلول:

شحرور:

زغلول يا ضيف الجنوب بوجه عام
مطرح ما بدّك غرّد وافرُش ونام
 
ارتدّ الكلام المُرّ وارتدّ الملام
بالأمسي الل وجّه إلك مرّ الكلام1
  
نحنا وانتو كلّ ها لنّاس الكرام
أكتر مصايبْنا الكْبيره من النِظام

تجريم «النظام» هنا طريقةٌ واضحةٌ لتحويل العنف المعبَّر عنه سابقاً نحو فاعلٍ خارجِ المناظرة وحتى خارج الطوائف التي يمثّلها الشعراء: فاعل غير محدّد بوضوح، يتضمّن معنىً سياسيّاً ولكن يضعُ الطوائف اللبنانية ضمناً وكأنّ لها عدوّاً مشتركاً هو سيطرة الدولة. أمّا زين فيؤكّد خصوصاً على تضامُنه مع زغلول، وتأييده العيش المشترك الإسلامي المسيحي:

زين:

الزغلول لا رئيس ولا زين الولي
خَيّين لو سعره غلي، سعري غلي
 
مثل القدس صخرة بصخرة مبكّله
بين الجرس والجامع الحنظل إلي
 
كنيسه وجامع ملك للربّ العَلي
هوّه كنيسة شعر والجامع إلي

ترافق هذه الاعتذارات وكلمات المصالحة الصورةَ التقليديّة التي يسمّيها الشعراء أنفسهم «تزلّف»: ولإظهار صدْق الاعتذارات، يُمتدّح الخصم بشكلٍ مبالغ فيه. إذن هذا إنكارٌ للانتقادات السابقة، لكنّه كما رأينا يمكن أن يمهّد لهجوم جديدٍ مباغتٍ في نهاية الردّة. من وجهة النظر هذه، يبدو التزلّف عكس «الجفا» أي الفظاظة، تبعاً لحيدر (١٩٨٩ - انظر المراجع).

في الواقع، هذه الاعتذارات ومحاولات التهدئة تعني خصوصاً البُعد السياسي والديني. يبدو لي في غاية الأهمية أن أظهر أنه رغم أن الهجوم كان سياسيّاً بالدرجة الأولى، فالردود تؤكد أوّلاً على الصفة الدينية، دفاعاً عن التعايش بين الطوائف: نحن إخوة، مسيحيين ومسلمين، «مثل القدس صخرة بصخرة مبكّله». غير أنّ هذا الرّدَّ يبدو ملتبساً. لا شك في أنّ الالتفاف نحو الدين في نقاشٍ سياسيّ يقرّب وجهات النظر، ولكنه يؤكد في الوقت نفسه على الاختلافات بين الطوائف ويكرّس الطائفية في علاقة هوياتيّة قاسية بين «نحن» و«أنتم». في الواقع، لا نعرف تماماً إن كانت هذه براهين لصالح السلم الأهلي أم انها تحاول في الوقت نفسه نزع فتيل توتّرٍ طائفيٍّ يتجلّى بشكلٍ مراوغٍ أو خفيٍّ ، ولكن يجب الإجابة عليه، حتى وإن كان السؤال لم يُطرَح. تبقى هذه المسألة مفتوحةً.

كما في السابق، تنتهي المداخلات القصيرة بكلامٍ قارصٍ موجَّهٍ شخصيّاً من شاعرٍ لشاعر. وتتعلّق الانتقادات بالشيخوخة وفَقد حيويّة الارتجال، أي أنه شاعر سيّئ ولا يغنّي بشكل جيّد ولا يلبّي مطلب الجمهور، او أنّه متحلّلٌ أخلاقيّاً، إلخ. فمثلاً، بعدما ذكر زين الديانة، يتهكّم شحرور على زين بالطريقة التالية:

شحرور:

يا ريت بتصفّي محاجّ القبلتين
تصلّي نوافي كلّ ركعة بركعتين
 
لكن مْنَين لك التقات كلّه منين
والطهر وين بحضرتك مزروع وين
 
معروف عنّك يا مبكّي كل عين
ما فيه حصيره ما لقاها عا زين ديْن2

 
قدّاش حلو منبرك جامع يصير
ويصير زين الشعيب اسمه شيخ زين

عندها يردّ عليه زين الصاع صاعين:

زين :

شحرور خبّي ريشك أصلِنا الفخوخ.
الل بتقبّعو رقاب الطيور من الشموخ
 
على القصر جاي تفتخر يا نصّ كوخ
وبعدك مع العملاق مسخ من المسوخ
 
استكترت كلمة شيخ عمّ بربّي الفروخ
شيخ وعبايِة3 زين مش ممكن تبوخ
 
إن ما كنت شيخ بجامع كبار المخوخ
الل بتُجبّرك على البحث تا تدوخ
 
راح كون شيخ بدولة رجال الزجل
ولا في ولا دوله بلا مجلس شيوخ4

نصل إذاً إلى تلاعبٍ أدبيٍّ بحت وتحدّيات شخصيّة. وهذا لا يعني أن المسائل السياسيّة غائبة، لكنّها تُذْكر عبر صوَرٍ أسطوريّة (كالفرعون) أو مَقولات فلسفية، أو رموزٍ تاريخية كالأهرام. فيبدو أنّ العدوانيّة التي بدتْ في بداية المناظرة تتوجّه ثانيةً من المسائل السياسيّة - الطائفية نحو جدل أقلَّ جدّيّةً، خياليّ أو هزليّ. وهكذا، في منتصف المعنّى تقريباً، يرمي زين تحدياً حول موضوع خاص، «التخريب»، يبقى فيه طويلاً، لأنه كان قد أعدّه كما يبدو:

زين:

حاجي بقى تجمع شيوخ مشكّلين
وتخلط عباية شيخ دنيا بشيخ دِين
 
لمّا بشيوخ الشاعرية بتستعين
لا شيخ إلا شيخ زين العابدين5
 
بهدم بيوت الشعر ياللي مكسّرين
ومحلّهن ببني العرين على العرين 6
 
ولبنان صامد على شماله وعا ليمين
لا بوعلي7 اللي هدّمه ولا بو أمين
 
اللي عمّ بيهدّمونا ناس مثلك مجرمين
اللي عمّ بيبعتوالخرطوش بكياس الطين
 
أمرتوا بهدم بيروت مرّة ثامنه8
ونحنا هدّمنا رقبة المتآمرين

يردّ عليه شحرور آخذاً الجانب المعاكس، أي البناء (وربما دون هدمٍ سابق). ويحاول الرجوع من وقتٍ لآخر إلى موضوع السياسة، وأحياناً بالردّ الفوري على الكلام (على افتراض أنّ المبادلات مرتجَلة فعلاً):

شحرور:

يا زين بأكوام الرمل ما تهتّني
اسأل الجيش الل ما عنّا غني

بجسر العبور لولا بعامر 9 ويعتني
ما كان تهدّم خطّ بارليف الدني

رغم هذه الكلمات اللاذعة ولعبة التحدّي والردود، تبقى التبادلات على صعيدٍ فكاهي، ليس عبر حجج معاكسة مناسبة، ولكن عبر نوع من الالتفاف حول الموضوع المسمّى نفسه. ويمزج زين فيه هجوماً ساخراً ضدّ شحرور لا علاقة له بالبراهين الجدّية:

زين:

راح اسألك يا خليل العاشقين10
شو بتقربك بريجيت باردو وجاكلين11

نحن إذاً أمام شكل كلاسيكيّ للمجابهة، يتركّز حول موضوع أدبيّ اختير بشكلٍ مشترك، وهو التخريب مقابل البناء، كما كان يشغل معظم المناظرة في ماضٍ ليس ببعيد (حيدر ١٩٨٩). ويندرج كل هذا الجزء بين شحرور وزين في هذا التعريف بما فيه مطلع القصيدة. ويلي ذلك سلسلة المعنّى بين زين وشحرور مباشرةً بيتُ القصيد لكل من الشاعرين.

bid25_thaqafat_el_nass_jean_lambert_photo_1.jpg


مهرجان صور الدولي، ٢٠٠٩

بيت القصيد: شحرور / زين

هي أبياتٌ ختاميّة طويلة، في مقطعين طويلين، يتألّف كل منهما من عشرين بيتاً تقريباً وقافية مختلفة لكل شاعرٍ (من بحر القصيد، بحر الافتتاحية ذاته). ويُلاحَظ أنّه لا توجد لازمة تردّدها الجوقة. هنا أيضاً يبدأ شحرور، فيحاول أن يختم موضوع التخريب، مُتّهماً زين بأنه لم يعُد يملك قوّة التدمير12، مما يسمح له بالعودة إلى الموضوع السياسي، ولكن بالتفافة تاريخية. بهذه المناسبة، يذكر صلاح الدين وانتصاره في القدس، مانحاً إيّاه صدىً عصريّاً:

شحرور:

الصليبي بالقدِس لما تمقْطع
صلاح الدين بالحمله العنيفه
 
انطلق من ارضنا والقدِس رجّع
من القلعة من حصن الشقيفه13
 
حتى قِدْسنا من الشمس أنصع
ومن لصوص العصر ترجع نظيفه
 
حتى شملنا بالقدس نجمع
 
بده جيش موسى الصدر يزحف
من القلعة على القدس الشريفه

هذا المقطع في غاية الأهميّة، لأنه ينشئ استمراريّةً تاريخيّة من فترة الحروب الصليبية وصلاح الدين إلى عصرنا الحاضر، مروراً بقلعة الشقيف المشهورة محلّيّاً، مظهراً إلى أيّ درجة رسختْ هذه الفترة في الخيال الشعبيّ. للأسف، لا نملك من المقاطع التالية، بسبب انقطاع في التسجيل، سوى البيتين الأوّلين من مقطع زين: لا بد أنه كان هناك أيضاً مقطعان، مقطع لزين ومقطع لشحرور.

المعنّى وبيت القصيد: الزغلول وطليع

بسبب انقطاعٍ في التسجيل، ليس لدينا للأسف سوى ثلاثة مقاطع من سلسلة المعنّى هذه. في هذه العناصر الشحيحة، نلاحظ أن الزغلول يهاجم طليع، ويندّد أيضاً «بمخطّطات شارون وبيغن التي فشلت» ويردّ على هجوم طليع. بدوره يتغنّى طليع بالتفاهم بين الشيوخ والرهبان ويهاجم الزغلول متّهماً إيّاه بخلق فوضى بجوقة شعرائه ضمن حجٍّ مفترضٍ. فيردّ عليه الزغلول واحدة بواحدة بأنّه لا يفهم كيف يضع طليع نفسه في دور الحاج بينما هو معروف بقلّة ميوله الدينية:

الزغلول:

يا صاحب المعراج عا برج الفلاك
عرِّج واروي انفسنا من مَنْهلك
 
الكفّار كِتروا كل منهن مِن هون سلك
عا درب ما بيوصّله إلّا الهلَك
 
ونحنا الحجاج مش عم مْنسألك
بحيثك انِت بيناتهم شو دخّلك؟
 
وحتى يا جاهل آخرك من أوّلك
تقنع وتفرّق منزلي من منزلك
 
الله يطوّل عمرك إن تطلع لي
على القبر الله يرحمك طلعت إلك14

انها خاتمة تثير العجب، شاعرٌ يتمنّى الموت للشاعر الآخر! ولكن هنا أيضاً، يجب ألّا ننسى أننا لم نعد في مرحلة جدّيّة، ومن الواضح أن الشاعر المتلقّي لا ينزعج لهذا التعبير الذي هو عنيف مع ذلك! كنا نتمنّى لو نسمع التتمة، لكن للأسف هذه هي العناصر الوحيدة التي لدينا من هذا المعنّى بين الزغلول وطليع. هذا الجزء قصير جدّاً. ولا شك في أنّ مبارزة المعنّى كانت أطول بكثيرٍ. لحسن الحظ، لدينا بيت القصيد كاملاً بين هذين الشاعرين، التالي مباشرةً، والذي نجد فيه بعض الاستمرارية للمواضيع.

بيت القصيد: الزغلول وطليع

يتابع زغلول وطليع كلاهما ببيت القصيد. وكما رأينا قبلاً، لم تعد هناك لازمة تردّدها الجوقة. يتألف هذا الجزء من مقطعين طويلين لكل شاعرٍ، من الواضح أنهما مُعَدّان سلفاً (كل منهما من 3 إلى 7 دقائق). يتحدّى طليع زغلول من جديد ثم يحاوره هو أيضاً حول الطائفية:

حمدان:

يا ليل جنوبنا يا مرج أخضر
بدّي رجّع الزغلول أصفر
 
تا يصرخ لي عا أرض البابليه
يا بو شادي إنت أنعم وأشعر
 
إنت أوّل باسم الطائفيه
لاغيها تا نعيش بفرد مْعسْكر
 
إذا بْتخسر مسيحي من الرعيه
متلهُ كمان يخسر حمزه وحيدر15

وفي وقت التحدّي السياسي نفسه، تقام (كما رأينا بين زين وشحرور) مناظرة ذات موضوع بالطريقة التقليدية: اختار الزغلول أن يكون «الأوّل» وطليع أن يدافع عن «الأخير». تلي ذلك مرافعة جديدة حول التعايش الإسلامي - المسيحي. لا ذكر للدروز هنا أبداً، لكن طليع حمدان يقدم نفسه بشكل موارب أحياناً على أنه في المعسكر الإسلامي أكثر من كونه ينتمي لطائفةٍ مستقلّةٍ، وأحياناً يقدّم نفسه كوسيطٍ بين الإسلام والمسيحيّة. ثم يتلو طليع مقطعاً رائعاً كونيّاً ورومنسيّاً في آنٍ واحدٍ، ويشارك في الوقت نفسه في المناظرة بين «الأوّل» و«الأخير»:

حمدان:

انا آخر حكايه عاطفيه
نقل الحبّ من دفتر لدفتر
 
أنا آخر صُدُق آذار فِيّ
ونيسان بأوّلك عا الكِذب زهّر16
 
أنا للصيف آخر فستقيّه
عبّي مونتك منّي يا بَيدر
 
أنا آخر لقا شبّ وصبيّه
ترك أوراق بكلمة: فكّر!17
 
انا سهرة بآخرها نديّه
سقيت الزهر دمع، شِربتْ عنبر

ويختم طليع بهجومٍ جديد على إسرائيل ويدعو لتحرير فلسطين «آخر يوم»: ومثلما في آخر مقطع تاريخيّ لخليل شحرور، ينشئ مقطع طليع وصلاً بين فترات مختلفة، بين حاضر ومستقبل يتعلّق بالآخرة، وهو ذو مغزى سياسيّ - دينيّ هامّ للغاية. فيردّ الزغلول بمقطع رومنسيٍّ للغاية ورثائي، متابعاً دور «الأوّل»، ولكن متحاشياً المجال السياسي بعناية. عندئذٍ يقدّم طليع مقطعه الثاني الذي يبدو أنّه يوجّهه مباشرةً للزغلول، وهو قصة افتراقٍ وصداقة لم تكتمل18، مع استمراره بلعب دور «الأخير»، ولكن بتحفّظ. لكن المقطع يتحوّل إلى قصة حبٍّ يتكشّف في النهاية أنها قصة حب الشاعر للبنان، وبالتالي هي تمجيد جديد له. ويختم الزغلول المناظرة ذاكراً قصصاً من الإنجيل، أولها قصة نوح وسفينته، ثم أساطير عجائبية عدة عن المسيح، منها قصة أليعازر، وهو مواظب على دور «الأوّل»:

الزغلول:

ابن مريم بِيعلِّم الأكتريّه
لأنه روح من روح الطهارة
 
نَطَق بالمهد كلماته العليّه
بأوّل يوم وبأوّل بشارة
 
وقال لُهن من حضن أمّه النقيّه
حَكي يرضي مسلمين ونصارة
 
أنا عيسى سلام الله عليّ
بيوم اللي ولدت في ها المغارة
 
بيوم رحت مُوت بصدق نيّه
وعلى دمعة مريم تبكي العذارى
 
وبيوم بعود حيّ مِن المنيّه19
على كل الدنيا تضوّي المنارة
 
إذا اللي حالته كانت شَقيّه20
تا يشفى من المرض بدّه مدارة
 
إعتبر دارت حياته من الدهيّه
وصل على آخر أعيار الحرارة 21

كما نرى، بيت القصيد النهائي هو فرصة لكل واحدٍ من الشعراء الحاضرين (هنا فقط ثلاثة) لتقديم مقاطع طويلة تاريخيّة - أسطوريّة تقوّي حجّته (تاريخية لصلاح الدين عند شحرور، رثائيّة مع نهاية العالم لدى طليع)22، أو تؤكّد ببساطة هويّته الدينية (المسيحية بالنسبة لزغلول). يبدو بعضها على الأقلّ وكأنه أعِدّ مسبقاً، كمقطع زغلول مثلاً.

يملك آخر مقطع خصوصية هامة. يتلو مقطعاً من القرآن عن يسوع: «أنا عيسى (يسوع)، وسلام الله عليّ»، ولا يقول إنّ يسوع مات أو صُلب، توافقاً مع معتقدات المسلمين. أما مريم، فيقول إنها «نقيّة»، وهذا مقبولٌ أيضاً في الإسلام (لكن لا يسميها «العذراء»). وهكذا فهذه الرواية «القابلة للتطابق مع الإسلام»، تسمح بجمع مفهوم ديني مشترك (عبر أدنى قاسم مشترك). لقد كان هذا التقديم للمسيحية شائعاً قبل الحرب الأهلية، وكان أحد مظاهر التعايش الإسلامي - المسيحي في القرى اللبنانية (كنفاني - زهار، ٢٠٠٥: ١٢٧ - ١٣٠).


تعطينا الوثائق المسجّلة التي بحوزتنا حوالي ساعتين ونصف الساعة من المناظرة. وإذا حسبنا الانقطاعات، فلا بد أن السهرة الحقيقية دامت ثلاث ساعات على الأقلّ. ليست لديّ معلومات لأعرف إن كانت لهذه المناظرة لجنة تحكيميّة وإن كان هناك فائزٌ فيها. من المحتمل أنه لم يكن هناك تحكيم.

تنتهي المناظرة إذا دون خاتمةٍ حاسمة، ولكن بهذه الروايات التاريخية الأسطورية، على الأقل لدى شحرور وزغلول وطليع. وهذا يطابق إدراك هواة الزجل الذين يعتبرون عموماً أن بيت القصيد يجب أن يكون «خلاصةً» لمداخلات كل شاعر23. ثم هناك سلسلة من الموشّح والعتابا وهي ليست جزءً من المناظرة في حد ذاتها، فقد اعتادوا أن يختموها بهذا الشكل. وهذا ما يسميه الزجّالون «كنزهم»، أي قصائد من بين الأجمل التي تم تأليفها بمناسبات أخرى وبمواضيع مختلفة. هذه القصائد هي بشكل أساسي قصائد حب رومانسي. ويغنّي كل شاعرٍ بدوره بيتاً أو اثنين، تتبعه لازمة الجَوقة. يمكن اعتبار هذا الشكل نوعاً من المصالحة، بما أنه يمثل إنجازاً جماعيّاً. هذه إذاً هي خاتمة المناظرة الحقيقية التي تعني بطريقة مواربة ورمزية: «عبّرنا عن اختلافاتنا، لكنّنا نلتقي معاً حول حب الشعر الغزلي المغنّى».

أخيراً عرضْنا سياق مناظرة كاملة كما لم يحصل من قبل. وكما رأينا، يتبَع سياقُ هذه المناظرة منطقَين على الأقلّ: من جهةٍ، منطق الأشكال الشعرية التي لا تتغيّر نسبيّاً من مناظرة لأخرى (البداية، النهاية، الافتتاحية، بيت القصيد هي الاقوال التي يجري إعدادها مسبقاً أكثر من غيرها، بينما الوسط، والقرّادي والمعنّى هي الأجزاء التي يرجّح أن تكون مرتجلة). بين هذه الأشكال التقليدية، تتوزّع المواضيع المشتركة بين كل المناظرات: تمجيد لبنان، تمجيد القرية، المقاطع الكونية، تفاخر الشعراء، استحضار الطيور، ذكر الأساطير في بيت القصيد. هناك أيضاً الشكل التقليدي لمعركة خاصة حول موضوعين متناقضين يُختاران ويُعامَلان بطريقة أدبية، بدأه زين موضوع «الهدم والبناء»، بواسطة المعنّى وبيت القصيد. والأمر ذاته ينطبق على الموضوع في منازلة زغلول الدامور وطليع حمدان «الأوّل والأخير» في بيت القصيد. فمنطق «حرب التحدّي» إذاً معقّدٌ للغاية، لأن هناك تحدّيات شخصيّة وأدبية وسياسية، وفي كثير من الحالات التحدّيات. في البابليّة - خلافاً لبقيّة المناظرات بالتأكيد - بدأ المتناظرون مباشرةً بالسياسة، يعود ذلك غالباً إلى أنّ خليل شحرور هو مُضيف المناظرة وفي الوقت نفسه شاعرٌ «ملتزم»، ولكن أيضاً لأنّ طليع حمدان، شاعرٌ مهمّ في الساحة السياسية اللبنانية. لذا نلاحظ في هذه المناظرة توتّراً قويّاً للغاية بين التقاليد «الأدبيّة» الشفهية والخطب السياسية.

بعدما اطّلعْنا على كامل المناظرة، يمكننا أن نحاول الإجابة على بعض الأسئلة التي طرحناها في المقدّمة، وهي أسئلة تتعلّق بسبل التأليف ودلالات الأداء وبلاغة العنف والسياق الأدبيّ والتأريخي للزجل.

الارتجال / التأليف

إحدى القضايا التي وردتْ مراراً ضمن تحليلنا للمناظرة هي معرفة أيّ الأجزاء منها مرتجلة وأيّها معَدّة مسبقاً. بدأ عدنان حيدر في معالجة هذه القضية في مقاله عام ١٩٨٩ (استناداً لمقابلة مع زغلول الدامور). لا يمكنني الجواب على المسألة بطريقة قاطعة24، لكنّني أستطيع تقديم بعض الأفكار حولها. أبرز ما في الأمر أنّ أجزاء أيّ مناظرة ليست متساوية على هذا الصعيد. من هنا يمكن تحليل مراحل المناظرة الأربع بطريقةٍ مختلفة.

في الافتتاحية، يقلّ الارتجال، على الأقلّ في شكله الصراعي (تحدّ / رَدّ على التحدّي)، وخصوصاً في مقطع الشاعر الأوّل، وفي مقطع زين، الذي لا يردّ فيه على شحرور، وفي مقطع طليع أيضاً. الزغلول وحده يردّ ضمناً على شحرور في مقطعيه الثالث والأخير، اللذين يبدو أنهما قد ارتجلا على عجَل.

في القرّادي التي هي أقصر وذات وزن أسهل لأنها مقاطع حرفيّة بحتة (ليس لها مدّاتٌ طويلة وقصيرة مثلما في البحور العربية)، يظهر الارتجال واضحاً في لعبة التحدّي / الردّ، وفي السرعة التي يجيب فيها كل شاعر على الهجوم الذي يتعرّض له، وفي فوضى تركيب الأبيات المشكّلة. من الواضح أنّ شكل القرّادي، الذي تكون أبياته تكراراً لسبع مقاطع متساوية الطول، اختير تحديداً لأنه يسهّل ردّ الفعل الفوري25. غير أنّ تقييم نسبة الارتجال في المعنّى أكثر تعقيداً دون شك، لأنّنا نعود إلى بحرٍ موزون. في الوقت نفسه، نشعر بأنّ بعض الأبيات ذات بحرٍ واضحٍ، وخصوصاً عند سماع لفظ الشاعر وحركاته26، بينما غيرها غير واضحة27، لكنّ شعورنا تجاه البحر الموزون هل يدلّ على إعدادٍ مسبق أو يشير إلى ارتجالٍ بارعٍ (وهل يدعم اتّباع البحر فكرة ردّ الفعل الفوري)؟ تصعب الإجابة في حدود أبحاثنا.

تبدو مقاطع بيت القصيد الطويلة على أنّها مؤلّفة مسبقاً في معظمها، حتى وإن كانت تمثّل حواراً في بعض الأجزاء (مثلاً عندما يبدأ طليع بالردّ ببيتين على الزغلول: «بدّي رجّع الزغلول أصفر...»). ذكرنا سابقاً بعض المؤشّرات الداخلية على ذلك: المواضيع التاريخية أو الأسطورية، والمقاطع الرومنسية الطويلة التي لا يمكن أن تكون مرتجَلة بطريقةٍ متجانسة على مدى عشرين بيتاً.

وعموماً، يمكن التعرّف على الأبيات المرتجَلة من بساطتها، ومنطقها المتكلّف نوعاً ما، وتركيبها النحويّ المخلخل، وعدم وضوح التطابق بالنوع والعدد، ومن الحشو من بيتٍ لآخر أو في البيت ذاته، بينما الأبيات المعدّة لها تركيبٌ ونحو أكثر كلاسيكية. وكذلك، الأبيات التي تجمّع الجمل حول نفس الأنماط الشكلية النحويّة (مثلاً طليع حمدان في مقطعه الأخير الكوني: «انا آخر...») وقد تكون مرتجلة لأنها تعطي الشاعر الوقت الكافي والمساحة اللازمة لإعداد الأبيات الختامية (حيدر، ١٩٨٩: ٢٠٨). في جميع الأحوال، يمكن أن نلاحظ أنّ الارتجال هو حافزٌ قويّ معنويّ بما أنّ شكل الأبيات الفوضويّ نسبيّاً يفتح مجالاً واسعاً للتفسير والتأويل لم يكن ليوجد من دونه. يمكن أن يكون لذلك نتائجُ تفاقم العداء بين الشعراء، بما فيه التنافر السياسي. كل هذه المسائل بحاجة بالطبع إلى دراسات أكثر تعمّقاً.

لا يمكن فهم الخصوصية الشفهيّة لمناظرات الزجل دون ملاحظة دلالة الأداء الشفهي وبُعده الموسيقي، في تفاعلات الشعراء فيما بينهم أو بين الشعراء والجمهور. فبعض الشعراء منشدون أفضل من غيرهم: وهذا بلا شك حال الزغلول وطليع. عدا عن ذلك، تخلق الموسيقى، أثناء المناظرة، تفاعلاً مختلفاً بين الشعراء والجَوقة: في الافتتاحية، مقاطع طويلة، لا لازمة ولا ترداد جوقة، ولكن فواصل رائعة على الدربكّة، وفي القرّادي، أبياتٌ قصيرة للغاية ودور هامّ جدّاً للجوقة وقرع المنشد للدفّ، وفي المعنّى، دور الجوقة التي تتدخّل بعد كل عشرة أبيات تقريباً، اما في بيت القصيد الخاتمة فلا لازمة ولا جوقة.

كذلك حركات الجسد تلعب دوراً هامّاً هنا. كما رأينا أثناء ردّة زين شعيب، في الخاتمة، حيث لا يمكن فهم جملة «ورجعت وما لقيت إلا ها لبضاعة» إلا اذا شاهدنا حركة اليدين والجسم ونظرة الشاعر وهو يلتفتُ نحو الشعراء الثلاثة الآخرين. طبعاً ردّ فعل الجمهور فوريّ إذ ينفجر ضاحكاً... وكذلك، في مناظرة أخرى، يشدّ طليع حمدان انتباه الجمهور بالقيام بحركاتٍ صغيرة بأصابعه تتبع فكرته.28

ويشجّع الشعراء بعضهم البعض ويشجعهم الجمهور. وكثيراً ما يعلّق الشاعر آخر كلمة من البيت، ليحزرها أحد المستمعين ويقولها بدلاً عنه، وهي علامة انتباهٍ فائقٍ يقدّرها الشاعر. ويستطيع المهاجَم بشكلٍ خاصٍ أن يردّ بمجاملةٍ على من يهاجمه29. تستحقّ مظاهر المناظرة هذه هي أيضاً دراسة متعمّقة للغاية، لكنّني أردتُ الإشارة إليها للتذكير، لأنّ مثل تلك الدراسة لم تتمّ حتى الآن. الشفهية والحركات هي في صلب الزجل، حتى في شكله المحدث على المنبر، بعيداً عن المفهوم الأدبي لعبد النور أو أمين نخلة.

عنف اللغة والأساليب البلاغية

على صعيد التحليل السياسي، من الواضح أنّه في مناظرة البابلية لكلٍّ من الجوقتين لونه السياسيّ الخاص: فطليع وشحرور ملتزمان بوضوح إلى جانب المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وبشكلٍ أوسع فيما أطلق عليه لفترة طويلة اسم «المعسكر الإسلامي - التقدمي»، أما بالنسبة إلى زين وزغلول فموقفهما السياسي أكثر ضبابيةً، يمكن تسميته «مؤيّداً للشرعية»، وبالتالي للدولة اللبنانية، التي هوجمت كثيراً خلال سنوات الحرب الأهلية. في كل الأحوال، ورغم ما تعرّض له الزغلول من هجوم، فهو لم يتخذ إطلاقاً موقفاً يمكن وصفه «بالمسيحي المتعصّب». لا أستطيع تعميم هذه الملاحظة على المناظرات الأخرى، فلا أعرف منها ما يكفي، ومن الواضح أنّ هذه المناظرة المخصوصة كانت مُسيّسة أكثر من العديد من سواها. لكن لدينا هنا إجابة أولى على السؤال عن العلاقة بين استقطاب الشعراء المرتبط بالمناظرة والاستقطاب السياسي: على الأقلّ في هذه الحالة، يتعارض الفريقان حسب قوانين الصراع الخاصّة بالمناظرة وحسب استقطاب حقيقيٍّ للمجتمع بمجمله. لهذه المناظرة إذاً معنىً سياسيٌ واجتماعيّ، وليست مجرّدَ لعبة أدبيّة. بالتأكيد ليس هذا هو حال كل المناظرات، لكنّه حال هذه بالتأكيد.

ولكي نفهم جيّداً البُعدَ الأنثروبولوجي للغة العنف هذه، يمكن أن نستوحيَ من التحليل الذي قامت به ماريا مانكا لسلوك خرق القواعد (transgression) في المناظرات الشعرية في سدينيا (مانكا، ٢٠٠٩). ترى هذه الكاتبة أنّ التعبير الشعريّ في المناظرة يسمح بخرق قواعد اجتماعية كالاحتشام أو آداب السلوك، وبقول أشياء قد لا يحبُّ الغير سماعَها («الجفا»، بلغة الزجّالين اللبنانيين) ولكن دون أن يؤدّي ذلك إلى نتائج وخيمة. في حالة المناظرة التي بين يدينا، يتمنّى الزغلول موت طليع حمدان مثلاً، أو في المناظرة التي ذكرها حيدر، يتمنّى طليع حمدان موت جريس البستاني (حيدر، ١٩٨٩: ٢٠). ولكن هنا، هذه الأشياء التي يصعب على الطرف الآخر سماعها هي أيضاً ذات طبيعة سياسيّة. وهكذا، يهاجم شحرور أميركا بشراسة، وهو أمر متوافَقٌ عليه (ظاهريّاً على الأقلّ...)، لكنّ مقطع طليع ضدّ فرنسا، الذي يهدّد بطوفانٍ من الدماء، لا شكّ في أنه لم يكن بإمكان رجال السياسة اللبنانيين المقرَّبين منه قوله علناً.

بالتوازي، من الواضح أنّ في لغة الزجل أساليبَ لضبط العنف. وهذا ما تساءل عنه علماءُ أنثروبولوجيا ولغويّون أميركيّون كانوا يدرسون المبارزات الشفويّة الأفرو - أميركية (لابوف Labov، كوشمان Kochman). لا يعتبر لابوف الشتائم جزءاً من هذه المبارزات، لكنّ كوشمان، على العكس منه، يتعتمد على تحقيقاته الخاصة، ليرى فيها جزءاً من اللعبة، سواء كانت الشتائم ضد الإفراد أو المعتقدات (كوشمان ١٩٨٣: ٣٢٩ - ٣٣٠). واستنتج أنّ القرار باعتبار الإهانة مقبولة أم لا يعود للشخص الذي يتلقاها: الصمت يعني القبول30. وبالفعل، يوجّه شعراء الزجل لبعضهم هجوماً أقلّ عنفاً من المشاركين في المبارزات الأفرو - أميركية. لكنّ الآليّة متشابهة بينهما: يجب على الشاعر ألّا يعتبر النقد مباشراً أبداً، وعليه دائماً أن يقبله، مضيفاً إليه توضيحاً آخر مثل «أنت على حقّ، أنا هكذا، ولكن...». يمكن للهجوم أيضاً أن يكون تلميحاً، كما عندما استخدم شحرور تعبير «الأم الحنون» للإشارة إلى فرنسا، أو عندما يمازح الزغلول حول حديثه بالفرنسية (أي أنه يتّهمه بأنه يحنّ إلى فترة الانتداب). والفكاهة إحدى هذه الآليّات: على الشاعر المهاجَم أن يجيب دوماً بالفكاهة، بالتالي أن يخفف العبء الانفعالي للانتقاد وربما أن يحوّله إلى موضوعٍ آخر (وهذا ما أشار إليه حيدر سابقاً). مثلاً، بعد أن هاجم شحرور الزغلول على أنه ما زال يتحدّث بالفرنسية، دافع زين عن الزغلول، وهاجم طليع: «وما فيه قاف فرنساوي». ونجد أيضاً أسلوباً آخرَ أدبيّاً أكثر: محاولة تجميل العنف، مثلاً بمقارنة الشعراء بالمقاتلين (من أجل لبنان، ومن أجل الشعر أيضاً) أو بمقارنة الجمهور نفسه بجنود الشِعر:

طليع:

بيمرّ بآخر الحفله الرهيبه
عا مِيّة حاجز كله: «استنّى»
 
هيدا بيحاسبه حظّه ونصيبه
بِبكي دمّ تا شوفه يتهنّى
 
لأنه بحاسبه بذات الكتيبه
 
مقاتل الزجل مثل الشبيبه
الل عم بيروح يقاتل لكرمنا

وكما رأينا في سياق المناظرة، العدوانية السياسية التي تجلّتْ بشكل جِدّي للغاية في البداية، ثم بشكل فكاهيّ، ولكنه ليس أقلّ عدائيّةً في القرّادي، يُعاد تحويلها بانتظامٍ نحو محاجّة لعبيّة وخياليّة، في القرّادي ثم في المعنّى. لاحظ عدنان حيدر أن «الموضوع الأساسيّ يتم تحاشيه غالباً، ويتمّ إبراز مواضيع ثانوية مكانه» (Haydar 1986, 208). في مناظرتنا، كان هذا خصوصاً حال الزغلول وزين اللذين أخذا وضعيّة الدفاع، بعكس شحرور وطليع اللذين لا يفوّتان فرصةً لإعادة الموضوع إلى النزاع السياسي. في القرّادي، يلجأ الهجوم بسهولةٍ إلى السخرية وخاصةً من شخصيّة الشاعر الخصم المغرورة، وتبجّحاته، أي «البهورات»، إلخ. وهي هجمات خفيفة. غير أنّنا نلاحظ على الصعيد البلاغي أنّ أسلوب تحويل العنف هذا يجري بشكل خاص عبر التحويل الدلاليّ لبعض الكلمات من معنى لآخر: في المعنّى، كلمة «شيخ» المستعملة أولاً بالمعنى السياسي (شيوخ الخليج، الذين يتّهَم شحرورُ زين بأنه خاضعٌ لهم) ثم الديني (شيخ دين)، ثمّ الأدبيّ (شيخ الشعر) (محاورات بين شحرور وزين). هكذا تتحوّل الكلمات إلى سخرية أو تفرَّغ من معناها. وقد يكون تبدّل المعنى على شكل استعارةً، مثلاً الذئب والثعلب كما في القرّادي بين شحرور والزغلول. لكنّنا في النهاية، لا نعود نعرف جيّداً من هي الشخصية السياسية التي يمثّلها هذان الحيوانان. إنّ هذا التحويل الدلالي جزءٌ كامل من أساليب الشعراء البلاغية، أو حتى من آليّاتٍ للمناظرة ذاتها، كمضاعفاتٍ لا يَسهلُ ضبطها. وهكذا فالقبول المتجدّد بالهجوم، والفكاهة، والتحويل المعنويّ تسمح لنا بتمييز الحدود بين اللعب والجدّ.

الزجل في الوفاق الوطني

في النتيجة، يسمح الزجل بتمثيل نزاعات الحياة الحقيقية بشكل خياليّ وتوافقي معاً. توافقيّ بمعنى أن الجمهور الذي قد يكون حاضراً بأعدادٍ كبيرةٍ، ومتنوّعا للغاية من حيث الآراءُ السياسية، سيستمع بتهذيب إلى وجهات النظر المتباينة، وذلك بعكس التظاهرات السياسية. والزجل خياليّ بكلّ معنى الكلمة، فالشعراء يعطون لحججهم أفضل شكل أدبيّ ممكن وبأحسن وسائل الابتكار (والقاعدة الأساسيّة هنا أنّ الشاعر يجب ألّا يكرّر نفسَه أبداً). وقد بات هذا ممكناً بواسطة البلاغة الشعريّة وجمال الردّة والفكاهة التي تفرض نوعاً من الروح الرياضية والتزلّف والمبالغات المتنوّعة.

عادةً ما يسمح التجاوز بشكل واضح بممارسة نوع من العنف اللفظيّ والتعبير عن عدوانيّةٍ صامتة، لكنّها عدوانية لها حدودُها. في الوقت نفسه، تضفي المبالغاتُ على اللغة نوعاً من العنف، وتحدث تأثيراً مضخِّماً، فمثلاً عندما يقول طليع إنّ الشرق بأسره مستعدّ لمبادلة حكامه بتحرير موسى الصدر، وهذه مبالَغة بالطبع، ولكن يمكن أن تكون لها نتائج هامّة على وعي جمهور واسع من مختلف الاتّجاهات السياسيّة. في حال وجود تناقضات سياسية حادّة (إلى أي درجة يلتزم اللبنانيون بمعركة المقاومة ضد إسرائيل؟ وإلى أيّ مدى يدعمون دولتهم الشرعية؟ ومَن هم داعموهم السياسيّون في الخارج؟). يمكن دراسة التعبير السياسيّ للعنف وعنف التعبير الأدبيّ معاً، في علاقةٍ جدليّة أو حواريّة. ولكي تتوازن هذه الفرضيّة، يجب التذكير بأنّ مناظرة البابلية تمّتْ في الجنوب ذي الأغلبيّة الشيعيّة، وأن الجمهور كان يتبنّى نظريّات شحرور وطليع. ولو جرت المناظرة في الجبل المسيحيّ، فمن المؤكّد أنّه لن يكون لها المحتوى ذاته ولا الجوُّ ذاته. فقد أفاد شحرور من موقعه كمُضيف ليطبع المقابلة باتّجاهه السياسي، خصوصاً أنّه تمتّع بامتياز البدء بالإنشاد في كل مراحلها.

ألا تشكّل آليّات تحويل الهجوم هذه - التي لاحظناها وسمّيناها «التحويل الدلالي» - عاملاً أساسيّاً في المناظرة بما يتجاوز مظهرها الأدبيّ، يحوَّل العنف الاجتماعيّ أو السياسي إلى عنفٍ طقسيّ بين الأشخاص، باستدعاء هذه القيمة التي يقدّرها الجميع، «المرجلة»، أي ذاك الخليط من الشجاعة والرجولة والتبجّح؟ أمّا الهجوم الفكاهيّ الموجّه للخصائص الفردية لكلّ شاعر: شعره الأبيض، قلّة نضجه المفترضة، نزواته الجنسيّة ونِفاقه الديني، وهي التي يتقبّلها المهاجَم دائماً بابتسامةٍ وهو سلوكٌ شائع في ثقافة الشعب اللبناني، حتى خارج نطاق المناظرات الشعريّة. ولكن على الصعيد السياسيّ تميل هذه البراعةُ البلاغيّة إلى إلقاء اللوم في كل مصائب لبنان على عوامل خارجيّة أو «الآخر»: إسرائيل، بالطبع، ولكن كذلك أميركا وفرنسا، و«الماسونية»، «والنظام»، ما ينجم عنه توحيد طوائف البلد، أو محاولة توحيدها ضدّ هذا «الخارج». والنتيجة، ألّا تؤدي إلى آليّةٍ يمكن وصفها بالـ«تطهّرية» catharsis؟31

بالطبع، يجب مواجهة هذه الفرضية الأنثروبولوجية بواسطة المعطيات التاريخيّة والسياسيّة. إذا استرجعْنا تاريخ الزجل منذ نهاية القرن التاسع عشر، أي من عهد إدارة المتصرفيّة إلى السنوات الثلاثين الأولى من الاستقلال، مروراً بالانتداب الفرنسي، يبدو أنّه كان يساهم بنوعٍ من الوفاق الوطني. في المقابل، فإنّ النزاعات العامة التي نشأت منذ العام ١٩٧٥، وعبّرتْ عنها مناظرتنا، غيّرت الواقع تماماً. وثمّة ما يدعو إلى تعديل في أهمية هذا البعد التطهّري هو أنّ آليّة التحويل هذه مرتبطة، في مناظرتنا، بخطّة الدفاع التي يعتمدها الزغلول وزين، مما يستدعي وضعها بالتوازي مع الوضعيّة الدفاعية للدولة اللبنانية أمام نمو المليشيات المختلفة التي أضعفت سلطتها وشرعيّتها بشكلٍ متواصل طيلة الحرب الأهلية. من الضروري إذاً أن نفهم الزجل بوضعه في إطاره من تاريخ لبنان المعاصر.

bid25_thaqafat_el_nass_jean_lambert_photo_4.jpg


الرسم لقزحيا، غلاف "تاريخ الزجل اللبناني"، للكاتب أنطوان بطرس الخوري، ٢٠١١

الزجل والتناصّ

في مقال حديث (٢٠١٣)، يدرس الباحث يسري هزران Yusri Hazran شعر طليع حمدان الذي لعب دوراً هامّاً للغاية في مناظرة البابلية. يؤكّد هزران على الهوية الدرزية لهذا الشاعر، وعلى أن كل حياته المهنية مبنيّة على التعبير عن مواقف طائفته السياسيّة. افترق طليع عن جوقة زغلول الدامور التي كان عضواً فيها حتى العام ١٩٧٥، لأسبابٍ سياسيّة. كان قريباً من وليد جنبلاط في الثمانينيات، فهاجم في شعره حزب القوّات اللبنانية خلال فترة الحرب الأهلية التي تعرف باسم حرب الجبل (١٩٨٣)، في أمسياتٍ نظّمها الحزب التقدّمي الاشتراكيّ32 (Hazran, 2013 : 176 - 186). في هذه القصائد يفصح حمدان عن «صبغة درزية» واضحة. غير أنّ هذا الموقف، كما يذكر هزران، ينسجم بشكل كامل مع إعادة كتابة الدروز لتاريخ الجبل، على الأقل منذ أيام كمال جنبلاط، فيؤكد على التواصل الذي يقيمه طليع حمدان بين التعبير الشفهي والتدوين التاريخي الدرزي (2013، 185؛ 2009، 460 - 461 33) مستوحياً فكرة التناصّ التي طوّرها ميخائيل بختين وجوليا كريستفا.

تسمح هذه الملاحظات بفهم أفضل للدور المعقّد الذي يلعبه طليع حمدان في مشهد الزجل اللبناني وتاريخه الحديث. في مناظرة كالبابلية، لا يقدّم طليع حمدان نفسه كدرزي بعكس الصورة التي يعطينا إياها هزران34 (وخلافاً لزغلول وزين وشحرور الذين لا يتردّدون في عرض انتمائهم الطائفي). في المقابل، في مناظرتنا كما في المناظرات التي ذكرها هزران، وخصوصاً في أوّل مناظرة أقيمت في قصر بيت الدين عام ١٩٨٥ 35بعدما وقع تحت سيطرة الحزب التقدمي الاشتراكي (Hazran 2013)، وفي مناظرة عين سعادة 36، يقدّم طليع نفسه على نحوٍ مضمر على أنّه «ابن الشوف» 37 (Hazran 2013, 178) وأنّه يقع في موقعٍ وسط بين المسيحيين والمسلمين. كيف نفسّر هذا التناقض بين المناظرة والشعر خارج المناظرات؟

يمكن استثمار فكرة التناصّ تحديداً في عمل طليع حمدان نفسه الذي أصبح اليوم صاحب الأعمال التي حظيَتْ بأكبر قدْرٍ من التوثيق (في المؤلفات باللغات غير العربية) بفضل هزران. لا تقتصر أعمال هذا الشاعر على المناظرات وإنّما تشمل الزجليّات غير المنبريّة، وإن يكن جمهور هذه الأخيرة محصوراً بالطائفة الدرزية وبأنصار الحزب التقدّمي الاشتراكي. هنا تختلف طريقة توجّه الشاعر بين جمهورٍ وآخر. فطليع حمدان أكثر سجاليّة بكثير في التعبير عن هويّته الطائفية عندما يكون في جمهور من أبناء طائفته. ها هو يؤكد في إحدى قصائده على أقدميّة الدروز على أرض جبل لبنان، ويتوجّه إلى الموارنة بقوله: «وانتو اللي كنتو خدّام إلنا بالرقات / ومرابعين اشتغلتو بأرض شبعانة» 38 (Hazran، 179 :2013). نتخيّل أنّ مسألة تقبّل المسيحيين الموارنة لهذه القصيدة مسألة في غاية الحساسية. وبالفعل، ظنّ بعضهم أنّ طليع حمدان «أهان العذراء» في إحدى قصائده، وهو أمر يبدو مستبعداً، لكنّ الأذى قد حدث!

كما رأينا في المقدّمة، القصائد العاميّة المحفوظة كمخطوطات حتى نهاية القرن التاسع عشر كانت خصوصاً من أعمال المسيحيين الموارنة، وهم غالباً من رجال الكهنوت. أمّا الزجليّات المنبريّة في القرن العشرين، بشكلها العام الاستعراضيّ كما ترسّختْ منذ الأعوام ١٩٢٠(وهي مختلفة عن الـ«قول» التقليدي)39، فكانت في الغالبية العظمى منها لشعراء من الطائفة المارونية، وبدرجة أقلّ من الطائفة الشيعية 40. لكن مع ظهور شحرور الوادي (١٨٩٤ - ١٩٣٧) ثم خليل روكز (١٩٢٢ - ١٩٦٢)، كان الموارنة يسيطرون على الساحة 41. على كل حال، قلّة من شعراء المنبر يتحدّرون من الطائفة الدرزية. يذكر أبو زكي (٢٠٠٨) العديد من شعراء القول في الشوف ومن طوائف الجبل الأخرى، على امتداد القرن العشرين، ولا يذكر بينهم شاعراً درزيّاً واحداً أصاب شهرة على المنبر (لم يأت على ذكر طليع حمدان لأن الأخير ليس من الشوف). هكذا يتبيّن كم يختلف زجل المسرح عن «القول»، على صعيدين اجتماعيّ وإعلامي، دون أن يلغيه مع ذلك.

في المقابل، وكما يؤكّد هزران، فالسيرة المهنية لطليع حمدان تجسّد انقطاعاً في السيطرة الرمزية للموارنة. وهو ما تظهره جيّداً مناظرة البابلية، فمن جهةٍ لدينا الزغلول وزين في موقف الدفاع عن الدولة اللبنانية في استمراريّتها، ومن جهةٍ أخرى، طليع يخترق بالتحالف مع الشاعر الشيعي خليل شحرور الموقف النضالي جرياً على التحالفات السياسية العسكرية المعقودة خلال الفترة ذاتها 42. بحسب هذه الفرضية، يكون الدروز، الطارئون على زجل المنبر، قد اقتحموه بصخبٍ بفضل الحرب، ولكن أيضاً بفضل عبقرية طليع حمدان. بالتوازي، أكّد شعراء من الطائفة الشيعية أقوياء الشخصية كخليل شحرور، وجود طائفتهم بشكل واضح على الصعيد السياسي، خلافاً لما كان الأمر قبل الحرب، حيث برزتْ شخصيةٍ توافقيّة كزين شعيب مثلاً. هذه الملاحظات ليست جديدة بالطبع، بما أنّها تقيم توازياً بين مشهد الزجل والمشهد السياسي اللبناني، وخصوصاً مع إعادة توزيع السلطة الذي كرّستْه اتفاقيات الطائف عام ١٩٨٩. ويمكن القول أيضاً إن الزجل اليوم، بوجود شعراء مثل طليع حمدان وخليل شحرور، إلى جانب الجيل الأقدم (زغلول الدامور وزين شعيب، وموسى زغيب ومحمد مصطفى أيضاً) يرسّخ اندماجاً ثقافيّاً أكبر للطوائف اللبنانيّة المختلفة ضمن إطارٍ وطنيٍّ، أو ضمن إطار «الجبل» على الأقلّ.

من أجل تاريخٍ اجتماعيٍّ - سياسيٍّ للزجل

في نهاية تحليلاتنا الأولى، يبدو أن مناظرة البابلية في آب / أغسطس ١٩٨٩ كانت اختياراً جيّداً خصوصاً لإظهار تساؤلاتنا حول مكان الزجل في المجتمع اللبناني اليوم. رأينا أنّ أساليب المناظرة البلاغية، بما فيها الفكاهة والتبجّح والفظاظة، والجفا، والتملّق، والتزلّف، و«التحويل الدلالي»، تؤدّي إلى انتقال شاعريٍّ من البطولي إلى الهزلي ومن ثم إلى الرومانسي. هذا العبور الذي يستدعي «أنماطٍ أدبيّةٍ» تقليديّةٍ عدّة هو من المواصفات المميّزة لتلك المناظرة. لكنّ هذا الترابط ليس وليد الصدفة، إنّه نتاج بعض الوظائف السيكولوجية والاجتماعية السافرة أو المضمرة. وقع هذا العبور في ثلاث مراحل، في إطارٍ من التفاعل والتخاصم، مما أوحى إلينا بالعودة إلى الفرضيّة الأرسطيّة عن التطهّر. إنّ مناظرة الزجل، بأبعادها الأدبيّة والموسيقيّة والمسرحيّة، تجعل الجمهور يعيش بطريقة ما انفعالاتٍ تأخذه من الجماعيّ نحو الفردي، وتميل إلى نزع فتيل التوتّر الجماعي. إنّها على الأقل آليّةٌ ميّزتْ مناظرات القول التقليدي، على مستوى القرية. وبما أنّ الزجل انطلق في المجال الإعلاميّ الوطني، واختطفتْه دوّامة تاريخ لبنان، فيجدر بنا أن ندرسه أيضاً من وجهة نظرٍ اجتماعيّة سياسيّة.

تُظهِر مناظرة البابلية أنّ الزجل في نهاية القرن العشرين قد خضع إلى تغييرٍ تاريخيٍّ هامٍّ للغاية، وهذا ما تدلّ عليه أيضاً مناظرات الفترة ذاتها (بيت الدين ١٩٨٥، وعين سعادة ١٩٩٢) وأشعار عامّيّة أخرى استوحتْ مفاهيمَ مغايرة43. بتعبير آخر، لا يمكن دراسة مناظرات الزجل بطريقة أنثروبولوجية فقط، من الضروري أن نُدخل فيها السياسة والتاريخ. جواباً على السؤال عن الطبيعة الوطنية للزجل، يمكن القول بأنه «عامل ثقافي وطني فعّال»، حسب تعبير يسري هزران، ولكن على صعيد نوعيّ أرقى. فإذا كانت هذه الوطنية ضيّقة الحدود في بداياتها ومحصورة بجبل لبنان وخاضعة لمنظور السيطرة المارونية، فقد أظهرت التطورات اللاحقة اتساعاً تدريجياً في قاعدتها الاجتماعية: دخل الشيعة مجال زجل المنبر على الأقل منذ فترة الانتداب، والغريب أن الدروز لم يدخلوه الا عشية الحرب الأهلية. في المقابل تُظهِر لنا مناظرة البابلية مجابهةً يقترب فيها الشيعة والدروز من تحقيق أهدافهم ومطالبهم السياسية الرئيسية من الدولة اللبنانية بما فيها إلغاء الطائفية السياسية. وهكذا حقق الزجل اندماجاً سياسياً متعاظماً، بما أنّ طوائف «الجبل» الثلاث تتشارك على قدم المساواة في حوار شعري عام. يتم هذا الاندماج بألمٍ، إذ خاطب القادمون الجدد (طليع وشحرور) بحِدّة شعراء مشهورين يكبرونهم سناً، وغير الناشطين سياسيّاً. كذلك وجدنا أنّه يجب التمييز، على المستوى المنهجي، بين مباريات الزجل من جهة والزجل بما هو شعر عامّيّ فرديّ، إذ ليس لهما بالضرورة الدلالات والمعاني نفسها.

هل يجعل هذا من الزجل شكل تعبيرٍ وطنيٍّ كامل؟ ليس بعدُ بالتأكيد! فأهالي المدن الساحلية، إن كانوا يتذوّقون المناظرات الزجليّة على شاشات التلفزيون، إلّا أنّهم لم يقدّموا بعدُ عدداً كافياً من الزجّالين ولا نمطاً زجليّاً مماثلاً.44

للزجل قدرة مؤكّدة على التعبير عن النزاعات، ربما يكون ذا مفعول تطهّريّ، كما لديه قدرة على إدخال فاعلين سياسيّين وطائفيين جددٍ إلى عالمه. ولسببٍ غير واضح تماماً لا يزال وضِع الزجل منذ نشأته، في قلب النظام الطائفي، برِهاناته وخلافاته (وإن كان يجب باستمرارٍ قراءة ما بين سطور الشعر المُنشَد). هل يعني ذلك أنّه ظاهرةً يجب أن نتمنّى زوالها للتعجيل في زوال الطائفية؟ أو أنّه يتعيّن علينا، على العكس من ذلك، أن نأمل في أن يتكيّف الزجل أكثر فأكثر مع تطوّر وسائط الإعلام45، وبما أنه يشغل مكاناً متعاظماً على الساحة الوطنية اللبنانية، لعلّه يستطيع تمثيل كل طوائف البلد فيشجّع بالتالي على نشوء ساحة حوار سياسيٍّ معمّم على الصعيدين الفنّي والثقافي؟ أليست من أبسط ميزات الزجل أن يوصل إلى الساحة العامّة وأمام الجماهير الشعبية وجهات النظر المختلفة حول تاريخ لبنان؟ أليست مناظرة البابلية خصوصاً وسيلةً رائعة لاستحضار الذاكرة الجمعية للحرب الأهلية والنتائج التي تستطيع كل طائفة استخلاصها منها؟ ألا يستطيع الزجل المتغيّر والمتأقلم والمتطوّر أن يستخدم، كشكلٍ أدبيٍّ لـ«العدالة الانتقالية» في بلادٍ لا تزال الكثير من الرضوض السياسية حيّةً فيها؟

لتعميق هذا الحدس ودروب بحثٍ أخرى، نحتاج إلى أن ندرس مناظراتٍ عديدة أخرى لتوضيح جوانب لا تزال غامضةً: كيف تنظَّم المناظرات؟ ما الدور الحقيقي فيها للارتجال وللإعداد؟ ما دور المنحى الموسيقي والمسرحيّ فيها؟ كيف يمكن أن تفسّر مناظراتٌ أخرى مراحلَ الحرب الأهلية المختلفة وتوابعها (وخصوصاً اتفاق الطائف)؟ ماهي حالة الزجل الحيويّة اليوم، بين المنبر والتلفزيون والوسائط الاجتماعية؟ وما هي صلاته بـ«القول» التقليدي؟ سيؤدّي هذا المقال الغاية منه إذا سمح، بكل تواضع، بفتح بعض دروب البحث هذه.

  • 1. بيت هامّ، لأنّ عبارة «مرّ الكلام» ملفوظة مرّتين تعتبرُ حشواً لكنّها تشير غالباً إلى أنّ الشعر مرتجَل وغير مُعَدّ مسبقاً
  • 2. إشارة إلى علاقات زين الغرامية، الحقيقية أو المفترضة
  • 3. عباءتُه البدويّة المطرّزة غالباً بالذهب: رمز مكانته الاجتماعية الراقية
  • 4. لعب بالألفاظ: يسمَّى النائب بالعربية شيخاً أيضاً
  • 5. أي هو نفسه، لكنه أيضاً اسم أحد كبار أئمّة الشيعة
  • 6. لعب بالألفاظ حول مفردة «بيت»: بيت شعر وبيت سكن. «العرين»: الشاعر يقارن نفسه بالأسود
  • 7 . أي هو نفسه
  • 8. هجوم على المليشيات، وخصوصاً الميليشيات الشيعية والمواجهات التي قامت بينها في بيروت ١٩٨٣ - ١٩٨٤. ويشعر شحرور أنّه مقصود فيجيب في المقطع التالي
  • 9. المشير المصري عز الدين علي عامر الذي قاد الهجوم المصري على الخطوط الإسرائيلية واخترق خط بارليف عام ١٩٧٣، وهو لعب بالألفاظ لأنّ عامر تعني أيضاً «باني، معمّر»
  • 10. جناس: خليل بالعربية يعني: صاحب
  • 11. يحتمل أنه يقصد جاكلين أوناسيس، زوجة الثرى اليوناني وأرملة الرئيس جون كندي
  • 12. نجد هنا تقنية خاصة بالزجّالين كان حيدر قد وصفها: وضع الكلام في فم الخصم وهو لم يقله، ومهاجمته عليه (حيدر ١٩٨٩: ٢٠٨)
  • 13. قلعة شهيرة في جنوب لبنان معروفة أيضاً باسم Chateau de Beaufort
  • 14. معنى يصعب تمييزه (لمن يعود المؤنث في فعل طلعت؟)، لكن يبدو أنه يشير إلى أن زغلول يتمنى زيارة قبر طليع حاجّاً، إذاً يتمنّى موته
  • 15. اسمان مسلمان
  • 16. أوّل نيسان: كذبة أول نيسان
  • 17. تفجّر! أو: دع نفسك تتفجّر!
  • 18. نعرف أنّ طليع افترق عن جوقة الزجل التي كان زغلول يديرها، عام 1975، في بداية الحرب الأهلية، لاختلاف وجهات نظر لا أعرف تفاصيلها
  • 19. الرؤية الإسلامية البحتة لقصة المسيح
  • 20. إشارة إلى أليعازر البيتاني
  • 21. تعليق أحد الشعراء الآخرين: «٤١ درجة!»
  • 22. نجد هنا أشكالاً «لتمثيل خَياليّ للزمن» كنت حلّلته في مكان آخر، في اليمن (لامبير ١٩٩١) وفي الأردن (لامبير ١٩٩٧)
  • 23. أشكر كلوفيس عنطوري لهذه الملاحظة الهامة
  • 24. خصوصاً في غياب تحقيقٍ إثنوغرافي متعمّق
  • 25. في مناظرة داود ومحمود (سكني، ١٨٩٣:٩٤) تدور كل المواجهة بواسطة القرّادي. وكذلك الأمر عندما إرتجل خليل روكز ورفاقه أمام الأديب المصري طه حسين، هو أيضاً قرّادي (نعمان،٢٠١٣: ٦١)، ولدينا شهادة موثقة تؤكد أن اللقاء كان عرضيّاً (تعليق شخصي من عبد الله نعمان)
  • 26. مثلاً كما عند زين: غيرك ترك للشعر صورة مخجله لو انجلى فحم الحجر ما بتنجلي لكن انِتْ بعد الفَحَص والغربله لقينا بدمّك كربلا والجلجله نشعر بوضوح بتكرار تفعيلة بحر الرجز (مستفعلن، أو - - u -)، وخصوصاً بفضل توافق الصيَغ الشكلية - التركيبية مع كل تفعِلة ( غيرك ترك/ لو انجلى/ فحم الحجر/ ما بتنجلى/ بعد الفَحص/والغربلة)
  • 27. زغلول يا ضيف الجنوب بوجه عام/ مطرح ما بدّك غرّد وافرش ونام (شحرور) - - u - - - - - - - - - // - u - - - u - - - u - ارتدّ الكلام المرّ وارتدّ الملام بالأمس الل وجّه الك مُرّ الكلام (-) - - u - - - u - - - - - // - u - - - u - - - u -
  • 28. يمكن إيجاد رابط لفيديو عن هذه المناظرة على موقع يوتيوب (مناظرة عين سعادة. نهاية ردّته تقابل بالهتاف في كلّ مرة!
  • 29. مثال: طليع حمدان يستمع لموسى زغيب. يمكن إيجاد رابط لفيديو عن هذه المناظرة على موقع يوتيوب
  • 30. يظهر كوشمان معتمداً على تفكيرٍ منطقيّ، ولكن أيضاً على معطيات ميدانية، أن الإهانة قد تكون شخصيّة وغير منكرَة (أو ليست موضع اعتذار)، وإذاً تكون جزءاً من اللعبة (Kochman 1983, 333)
  • 31. حتى وإن كان التدخّل الأجنبي أثناء الحرب الأهليّة حقيقةً واضحة، من المؤكد أن هناك بعداً بلاغيّاً يلعب دوراً سياسيّاً هامّاً بتضخيم المسألة، وبالترافق مع آليّة تلاعب نفسيّ معروفة. يجب إذاً مقارنة عدّة أشكالٍ للتطهّر، ذاك الذي يمكن أن يقوّي الطوائف المتعصّبة بجعلها تتصارع فيما بينها (صلوخ، ٢٠١٥: ٧)، وبالعكس، ذاك الذي يمكن أن يقوّي التعايش بينها. ولكن هل نحن متأكّدون من أنّه لا توجد هناك توليفات خفيّة بين الاثنين؟
  • 32. إثر حرب الجبل ١٩٨٢ - ١٩٨٣ التي انتصر فيها الحزب الاشتراكي التقدمي، ألف طليع حمدان عدة قصائد عنيفة ضد «القوات اللبنانية»، المتهمة بأنها أرادت الاستيلاء على الشوف في «حرب الجبل». يمكن إيجاد رابط لفيديو عن هذه المناظرة على موقع يوتيوب لم ترتجل هذه القصيدة ارتجالاً في إطار مناظرة، لكنها أُعدّت لسهرة نظمها الحزب التقدّمي الاشتراكي. يذكر Hazran قصائد أخرى مشابهة، يؤكد فيها طليع انتماءه إلى الطائفة الدرزية (١٩٨٩). هذا مع أن طليع حمدان اشترك في عدّة مناظرات خلال الحرب في بيت الدين العام (١٩٨٥) وعين سعادة (١٩٩١)وعلى شاشة تلفزيون لبنان (١٩٩٣) يمكن إيجاد رابط لفيديو عن هذه المناظرة على موقع يوتيوب لكنّه في هذه الأخيرة يذكر النزاع بطريقة أكثر ديبلوماسية بكثير. في المقابل، دافع زين شعيب، في هذه المناظرة الأخيرة، عن شرعيّة الدولة اللبنانية بشدة، دون شك مع اطمئنانه إلى نجاح اتفاقية الطائف (أكتوبر ١٩٨٩)
  • 33. يذكر الكاتب بصورة خاصة أحمد بيضون، وكمال صليبي، ووجيه كوثراني (خيزران، ٢٠٠٩)
  • 34. على أكثر تقدير «ابن الشوف»، كما في مناظرة بيت الدين ١٩٨٥
  • 35. مناظرة بيت الدين (١٩٨٥) يمكن إيجاد رابط لفيديو عن هذه المناظرة على موقع يوتيوب
  • 36. هذه مناظرة أخرى في غاية الأهمية على الصعيد التاريخي، وقد سمّيت «مناظرة المصالحة»
  • 37. وهذا تفصيل لاذع لأن طليع حمدان ليس من الشوف ولكن من قضاء عاليه المجاور للشوف
  • 38 . في القرن التاسع عشر، كان كبار الإقطاعيّين الدروز يوظّفون العديد من الموارنة كفلاحين. ونلاحظ السخرية غير المقصودة لهذا الكلام عندما نعرف أن الحزب «الاشتراكي» و«التقدّمي» يؤيّد هذا الخطاب الطبقيّ
  • 39. ما كان يسمّى «القول»، الذي هو السلف المباشر لزجل المنبر، استمرّ في التداول محلّياً في القرى بطريقة تقليدية حتى نهاية القرن العشرين. في الوقت نفسه، لا يمكن الفصل التام بين القول والزجل، فنجوم الزجل غالباً ما تمّ اكتشافهم في مناظرات القرية أو العائلة فقط، مثل أوّل شاعر منبر كبير، شحرور الوادي
  • 40. لنتّفقْ على التسميات: «الجبل» بما أن تعريف لبنان في تلك الفترة من الانتداب الفرنسي لم يكن يتضمن الجنوب وجبل عامل. أما الشوف فهو حالياً جزء من منطقة جبل لبنان الإداريّةُ
  • 41. بالنسبة للمشاركين الشيعة في أولى مناظرات الزجل (وخصوصاً علي الحاج في جوقة خليل روكز)، تجدر دراسة موقفهم السياسي الذي لم يكن محسوماً بالتأكيد
  • 42. في مقطع لم يُذكر من مناظرة البابلية يمتدح طليع نبيه بري بحماسة
  • 43. أصبح ضروريّاً أنّ نميّز بالاسم مناظرات الزجل عن النصوص الأخرى العامّيّة المؤلفة في سياقاتٍ أخرى، بنفس الطريقة التي من الضروري فيها التمييز بين الزجل المنبري و«القول» التقليدي
  • 44. كما هو معلوم، سنة بيروت هم خصوصاً من هواة الشعر العامي مثل شعر عمر الزعنّي، ولكنهم لم يشاركوا في مناظرات زجلية
  • 45. منذ سنوات، تعرض قناة OTV التلفزيونية برنامج مناظرات زجل يقدّمه الشاعر الكبير موسى زغيب
العدد ٢٥ - ٢٠٢٠
التحديات والنزاعات ٢/٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.