في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1918 تنازَلَ القيصرُ الألمانيّ فيلهلم الثاني عن العرش وتسلّم «الحزب الديمقراطيُّ الاشتراكيُّ» السّلطةَ من العسكر، لتَنشأ بعْدها حكومةُ فايمار، التي سُمّيتْ بهذا الاسم تيمّناً بالمدينة، ويتمَّ إقرارُ دستورِ الجمهوريّة في ١٤ آب / أغسطس ١٩١٩.
فشل ديمقراطيّة فايمار
يمكن تقسيم تاريخ تأسيس جمهوريّة فايمار إلى ثلاث مراحل، الأولى من عام ١٩١٩ حتى ١٩٢٣ والتي تُعتبرُ مرحلةَ الشروط المُذلّةِ لهزيمةِ ألمانيا في الحرب والأزمات الاقتصاديّة. مَطلع عام ١٩١٩ وقَعَ انقسامٌ بين الاشتراكيّين الديمقراطيّين والشيوعيّين، واندلعت «انتفاضةُ سبارتاكوس الشيوعيّة» في برلين ومناطق عدّة فتمّ إخمادها بواسطة «الفرايكوربس»، وهي مليشيا يمينيّة متطرّفةٌ موّلتْها حكومة فريدريتش إيبرت الاشتراكيّة الديمقراطيّة والجيش، وقد تمّ خلالَ القمع اغتيالُ قائدَي الحزب الشيوعيّ، روزا لوكسمبرغ وكارل ليبنخت1. كما وقعتْ محاولتا انقلابٍ يمينيّتان باءتا بالفشل، الأولى على يد «الفرايكوربس» في آذار / مارس ١٩٢٠ والثانية من قبَل الحزب النازيّ في تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٢٣.
شهدت المرحلة الثانية (١٩٢٤ - ١٩٢٩) استقراراً استطاعتْ خلالَه الحكومةُ تعويضَ الخَلَل النّاجمِ عن الأزمة وتحقيقَ الاستقرار السياسيّ والاقتصادي. أمّا المرحلةُ الأخيرةُ فمرحلةُ الأزمة الاقتصاديّة العالميّة نهاية عام ١٩٢٩ والتي صعدَ خلالَها التّيّارُ النّازيّ، المسؤولُ عن جَرّ ألمانيا إلى الحرب العالميّة الثّانية.
يُعتبر الدّستورُ الذي تمَّ إقرارُه خلالَ المرحلة الأولى من تأسيس الجمهوريّة من أبرزِ التطوّرات التي شهدتْها الحياةُ السياسيّةُ الألمانيّةُ بُعَيد الحرب العالميّة الأولى، إذ شكّلتْ تلك الفترةُ محاولةَ الانتقال نحو الديمقراطيّة والتي أعقبتْ ثوراتِ «ربيع الشعوب» عام ١٨٤٨، إلّا أنّ الدستورَ تعرّضَ للنّقد على اعتبار أنّه دشّنَ لمرحلةِ «ديمقراطيّةٍ من دون ديمقراطيّين». يعود فشلُ المرحلةِ الديمقراطيّة في فايمار إلى أسبابٍ عدّةٍ منها: إرثُ الحرب العالميّة الأولى وما حملَتْ من ضغوطٍ اجتماعيّة واقتصاديّة، والإبقاء على الطّاقم الوظيفيّ نفسِه الموروثِ من حكْمِ القيصر، ورَفْض المحافظين واليمين المتطرّف للجمهوريّة الديمقراطيّة على اعتبار أنّها نتيجةٌ للهزيمة في الحرب الكبرى ولشروطِ اتفاقيّة فرساي المُذلّة.
من جهةٍ أخرى، تَمّ اتّهام جمهوريّة فايمار بحمْلها الوباءَ الذي نَقَل حمّى النازيّة المسؤولة عن إيصال ألمانيا إلى الحرب العالميّة الثّانية. لهذا السبب، تُرخي تلك الفترةُ بظلالِها على الواقع الحاليّ في ألمانيا، فينقسم المحلّلون السياسيّون المعاصِرون إلى فريقين: فريقٌ يعتَبر تلكَ المرحلةَ بوصلةً لتقييم وقائعَ سياسيّةٍ ونتائجِها المتوقّعة على الصّعيدين الداخلي أو الخارجي، لذا يرى إمكانيّة مقارنة ما يحصل الآنَ في ألمانيا بفترةِ حكومة فايمار نتيجةَ التشابُه بين بعض الظواهرِ السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة فيها والمخاوف التي يثيرُها صعودُ اليمين المتطرّفِ إلى الحكم، الذي يبدو كأنّه يحمِل خطرَ تكرار الهولوكوست والحروب. وفريقٌ يستبعدُ تلك المقارنةَ ونتائجَها.
اندثار «الواقعيّة الجماليّة»
في الثّقافة والفنون، اعترفَت جمهوريّة الفايمار بشكلٍ أساسيّ بالمدارس الفنّيّة القديمةِ وفتحَت المجالَ أمام صعود أخرى. عرضتْ مسرحيّات يوهان غوتّه ووليام شكسبير وفريدريك شيلر بأسلوبٍ جديدٍ وتقنيّاتٍ جديدة على مستوى المشهد المسرحيّ والدّيكور، فبعدما استولى الفنُّ الهندسيُّ القوطيُّ، الذي انتشرَ في أوروبا وإنكلترا قبل العصور الوسطى، على مسرحيّات شكسبير، تخلّى بعضُ المسارح عن الواقعيّة البحتة وتحرّرَ من التبعيّة الزمنيّة واستلهمَ من الفنّ التّكعيبيّ والتّجريديّ والواقعيّة الجديدة، بل تبنّت المدرسةُ الهندسيّةُ الألمانيّةُ الحديثةُ أسلوبَ الـ«باوهاوس»2 في المسرح.
في الرّسم والتّصوير، نمَتْ تقنيّات الطباعة والرّسم بالرصاص والفحمِ بسبب سهولة حمْل معدّاتِه، وقد استُخدمتْ لتوثيق لحظات الحرب بالصّورة. كما سادت الطباعةُ بهدف نشْر الإعلانات الموزَّعة على الملأ والتي حثّتْ على الحرب أو ندّدتْ بها. في المضمون الفنّي، بقيَت الأنواعُ المعروفةُ كالمنظر الطّبيعيّ والبورتريه واللّوحة التّاريخيّة والعري والمواضيع الدينيّة وغيرِها، ونمَتْ مدارسُ حديثة. وتُعتبر المدرسةُ التعبيريّةُ من بين أهمّ ثلاث مدارسَ فنّية في تلك الفترة هي، إلى جانب التّعبيريّة، الواقعيّةُ الجديدةُ والواقعيّةُ السحريّة Magische Realismus. خلال تلك الفترة تغيّرَ أسلوبُ بناء اللّوحة، فتخلّى الفنانون عن الواقعيّة الجماليّة والعُمق والأبعاد الكلاسيكيّة، واهتمّوا بالعمل على سطحيّة العناصر عن طريق تكسيرِها في المدرسة التكعيبيّة أو تشويهِها وتغييرِها في المدرسة التعبيريّة، كما اهتمّوا بإظهار الحالة النّفسيّة في لوحات البورتريه، واحتلّت المواضيعُ الاجتماعيّة والسياسيّة الواجهةَ لدى عددٍ آخرَ من الفنّانين.
وعلى الرّغم من أنّ المدرسةَ التعبيريّةَ تُعَدّ من نتاج الحرب العالميّة الأولى بفعل أهوالها التي شوّهت الواقعَ فانعكسَ في اللّوحة الفنّيّة، إلّا أنّ الحثَّ على التّخلّي عن الواقع الجماليِّ والاستعاضةَ عنه بالحالة النفسيّة، أي الاستعاضةَ عن سطحيّة الخارج بعمق الدّاخل، يعود إلى كتابات الفيلسوف الألمانيّ هيغل. إذ بعد تغلُّبِ البورتريه على صورة الحاكمِ والملك في رسوم العصور الوسطى حيث اللّباسُ المزخرفُ والمظهرُ المبالَغ به، أضافَ عصرُ النهضة قيمةً إضافيّةً إلى فنّ البورتريه هي تمثيلُ الفرد وتميّزُه. وظهرتْ في القرن التاسع عشر تفاصيلُ الفرد الخارجيّة والتي عملتْ على عكس الصورة الحقيقيّة، حتّى قدّمَ هيغل أساساتٍ جديدةً لمفهوم البورتريه التعبيريّ الذي شرحَه على الشّكل الآتي: «... تشخيص ما هو مميّزٌ في الفرد وفي الموقف... حتى تتغلغلَ روحُ الشخصيّة وإحساسُها بشكل تامٍّ في اللوحة فيتمّ التعرّف على الطبيعة الجوّانيّة بشكل مطلق».
أمّا مفهومُ الواقعيّة الجديدة (Neue Sachlichkeit) فقد خرجَ من معرِضٍ فنّيٍّ عام ١٩٢٣ في المتحف الفنّيّ لمدينة مانهايم. حينها دعا مديرُ المتحف غوستاف فريدريتش هارتلاوب «مَن لم يَحلّ الفنُّ التّطبيعيّ أو التعبيريّ التجريديّ على فنّه ولا حتى الفنُّ الخارجيّ الحسّيّ البحت أو الاستدلاليّ الدّاخليّ البحت، خلال السنوات العشر الأخيرة» إلى التّجديد واستبعاد المدارس التقليدية. مهّدت الدعوةُ لنشوء «المدرسة الواقعيّة الجديدة» التي أخذت اسمَها من عنوان المعرض الفنّي. مثّلتْ هذه المدرسةُ الواقعَ في اللّوحة بشكلٍ مجرّد، متخلّيةً عن كل الجماليات والمثاليّات. عرضتْ لوحاتُها ضحايا الحروب ووقائعَ ثورة نوفمبر وإعدام الثوّار في «انتفاضة سبارتاكوس» والتّظاهرات ضدّ غلاء المعيشة والبطالةِ والجوع، وكذلك غواني شوارع برلين ومظاهر المثليّة الجنسيّة التي أبيحتْ في تلك الفترة، وحياة المراقص والبارات وكذلك موضة فايمار السّائدة حينها بتسريحة الشّعر القصيرة للنّساء وقبّعة الكاوبوت.
تشبه الواقعيّة السحريّةُ، ثالثُ المدارس الفنّية السّائدة، «الواقعيّةَ الجديدة» مع إضافة عنصر السّحر أو الهلوسة، فتتفكّكُ عناصرُ اللوحة بعضها عن بعض بعيداً عن أيّ شكل منطقيٍّ أو متساوق. بل قد تعترضُ الناظرَ آلةٌ موسيقيّةٌ طائرة أو دولابٌ معلّق في أعلى اللوحة من دون ترابطٍ بينهما. تأثّرَتْ هذه المدرسة كما سابقتها إلى حدٍّ كبير بالصناعة وتقنيّاتِها الحديثة، لذلك تنتقدُ مواضيعُ المسرح التكنولوجيا الحديثةَ، كما في مسرحيّة «ماشينيست هوبكنس» لماكس براند على سبيل المثال، التي تتناولُ موضوع المصانع واستهلاكِ، كما استخراج البترول في الصّناعة، كما في مسرحية «غاز» لجورج قيصر. والجديرُ بالذّكر أنّ أسلوبَ الحياة الأميركيّ برَزَ على الساحة الثقافيّة آنذاك، وقد تمَّ التّعبيرُ عنه بالـAmerikanismus (Americanism)، وتجلّى باحتواء اللّوحات على كلماتٍ إنكليزيّةٍ وحضورِ الهندسة الأميركيّة المتمثّلة بناطحات السحاب واعتمار قبّعات الكاوبوي، وأخيراً موسيقى الجاز والبشرة السوداء كما في لوحات إريك إيزنبورغر عن المغنّية جوزفين بايكر في برلين وفي عددٍ من المسرحيّات الحديثة مثل مسرحية «جوني يتلاعب» للكاتب كرينك.
وقد برَزَ خلال حكومة الفايمار الكثيرُ من الفنّانين الذين شهدوا بفنّهم الواقعَ السياسيَّ والاجتماعيّ والثقافيّ، قبل أن تنتهيَ الجمهوريّةُ مع استلام النّازيّين للحكم، والذين لاحقوا واعتقلوا كلّ من تبنّى في فنّه الحربَ الكبرى بصفتِها حرباً خاسرةً وكلّ من تضمّنتْ لوحاتُه ثورةَ نوفمبر. وتمّ إبعادُ كلّ فنّاني الحداثة الذين لم يتكيّفوا مع قواعد الفنّ الجديدة خلال الحكم النازيّ عن الساحة الفنّيّة، ومَنعُهُم من الرّسم ومصادرة لوحاتِهم. كما اعتبرَ النّازيّون أنّ كلّ مضمونٍ فنّيّ يعرضُ أشخاصاً لا ينتمون إلى العرْق الجرمانيّ فنٌّ لا يليقُ بالشعب الألمانيّ وتجب إزالتُه. نتحدّثُ في هذا البحث عن ثلاثة فنّانينَ ألمانٍ عايشوا حقبةَ الفايمار وأحدثوا تغييراً في تاريخ الفنّ الألمانيّ الحديث وهم: جورج غروتس (Georg Grosz) كايت كولفيتس (Käthe Kollwitz)، وأوتو ديكس (Otto Dix).
غروتس والبطولة الكاذبة
ولد جورج إيرنفريد في برلين عام ١٨٧٣. وبسبب ما عايشَه في الحرب الكبرى، رفضَ الاحتفاظَ باسمه الألمانيّ فسمّى نفسَه جورج غروتس، كما فعل صديقُه جون هارتفيلد الذي حمل سابقاً اسمَ هلموت هارتزفلد. تابع غروتس دراستَه في أكاديميّة الفنون في درسْدن ثمّ في المعهد الفنّيّ في برلين. منذ بداية القرن العشرين اشتهرَ بمواضيعه الفنّيّة السّاخرة بشكلٍ جذريّ والتي عرّت القضايا الإنسانيّة الاجتماعيّة من دون رحمة.
خلال حكم جمهوريّة الفايمار، عمل غروتس على عددٍ كبيرٍ من الملفّات التي حوَتْ رسوماً خطّتْها أناملُه الشاهدة على الحرب. دعَمه على نشرها عددٌ من دُور النّشر التي لعبت دوراً هامّاً خلال تلك الفترة. تعرّفَ غروتس إلى دار مالك الألمانيّة للنّشر، التي تأسّست عام ١٩١٦ واهتمّت بطباعة الفنون الحديثةِ التي تتضمّنُ خلفيّةً سياسيّةً وبنشْر آداب الفكر الشّيوعيّ. نشرتْ دار مالك بين عامي ١٩١٧ و١٩٢٨ ستّة ملفّاتٍ فنيّة لغروتس وسلسلةً من الأعمال المختلفة إضافةً إلى العديد من الكتب. عام ١٩٢٠ صدر لغروتس ملفٌّ بعنوان «الله معنا» كردّة فعلٍ تجاه ألمانيا العسكريّة، وتمّ عرضه في المعرض العالمي الأوّل لحركة «الدادا الفنيّة» التي أسّسها غروتس وصديقُه جون هارتفيلد في برلين. ومن ملفّ «الله معنا» تمّ اختيار لوحات عديدةً لكتابه «وجه الصفوف الحاكمة». عام ١٩٢١ صدر له ملفّان بعنوانَي «في الظلّ» و«اللصوص»، اللّذان سخِرا من الطبقات العليا الحاكمة وعبّرا عن حياة البروليتاريا المقموعة. وعام ١٩٢٨ نشرت الدار ملفّاً من ١٧ لوحة خدمت كخلفيّةٍ لمسرحيّات «شفايك» للمخرج بيسكاتور في برلين. عام ١٩٣٥ صدر الملفُّ الفنّيُّ الأخيرُ لغروتس بعنوان «إنترريغوم» (مرحلة انتقاليّة) في نيويورك وحوى أعمالاً نفّذها بين عامَي ١٩٢٧ و١٩٣٦. خضع غروتس خلالَ تلك المرحلة للعديد من المحاكمات في قضايا سياسيّة واجتماعيّة مختلفة. تمّ اتّهامه بإهانة الجيش الألماني (قوّات الدّفاع عن الرّايخ) في سلسلة «الله معنا» وغُرّم بدفع ٣٠٠ مارك. ومن أعماله الفنّية السّياسية التي أثارت ضجة وفضيحةً كبيرتين لوحة «كمّموا أفواهكم وتابعوا الخدمة» في ملف «خلفية» عام ١٩٢٧، والتي يبدو فيها المسيحُ المعلّقُ على الصليب واضعاً قناعَ غازٍ على وجهِه، فتمّ اتّهامُه بالتّجديف للإله وامتدّتْ محاكمتُه حتى عام ١٩٣١ لكنّها انتهتْ بتبرئتِه. وقد تضامنَ الكثيرُ من الجمعيّات والرابطات الفنّيّة والسياسيّة معه، كما تناول العديدُ من الصحافيّين والأحزاب والكنائس والمجلّات والصحف الفنّيّة والأدبيّة هذه القضيّةَ. قام غروتس بالأصل بهذا العمل لعرضه عبر تقنيّة الإسقاط على الجدار الخلفيّ لمسرحيّة «مغامرة الجندي المهذّب شفايك» لارفين بيسكاتور عام ١٩٢٧.
عبّرَ غروتس عن الحرب كفجورٍ جماعيّ. وجدَ فيها، بصفته مشاركاً وشاهداً كجنديّ، الوحشيّةَ المطلقةَ واللاإنسانيّة. قبْلها، اعتبرَ نفسه «فنّان مجازر (أو حروب) حديثاً»، حتى أنّه درسَ، خدمةً لهذا الهدف، هذا النوعَ من فنون رسم الحرب من خلال أعمال الفنّان إميل هونتن عند بداية الحرب التي شارك فيها بشكل اختياريّ، قبل أن يكتشفَ رعب المشهد الذي لم يتوقّعْه الكثير من الفنّانين أمثاله. صارَ يرى الحرب «سوداويّة، مسخاً، وإبادة». يروي غروتس أنّه أوشكَ على أن يُقتلَ كجنديٍّ هاربٍ، لكنّ تدخّلَ الفنّانَ هاري غراف كسلر أنقذه فنُقلَ إلى مستشفى الأمراض العصبيّة، وبعدها أخليَ سبيلُه لأنّه جنديٌّ غيرُ نافع. انضمّ غروتس إلى الحزب الشيوعيّ الألمانيّ عام 1919 وذلك بعد تأثّره بثورة نوفمبر، ووَضعَ نفسه وفنَّه في خدمة البروليتاريا.
في مطبوعة «البطل» يتمثّلُ في اللوحة رجلٌ يجلس القرفصاء، متّكئاً على عكّازه وقد فقدَ قدمَيه. تعلو وجهَهُ آثارُ تشوّهاتِ القذائف أو الغاز السامّ. يبتسمُ ويحملُ بيده اليمنى الزهورَ، يشعُّ بالأمل والشّموخ السخيف. ما يريد الفنّانُ قولَه في «البطل» أنّ فكرةَ البطولة كذبةٌ هزيلة حمّست الشّباب على الحرب، فعادوا مِلؤهم الوهمُ والإعاقاتُ النفسيّة والجسديّة.
رسَمَ غروتس بأسلوبٍ واقعيٍّ خالٍ من كلّ وهمٍ عن الحرب العالميّة الأولى، فجرّدَ فكرةَ المُحارب من كلّ معنىً بطوليٍّ واستخدمَ فنّه بوصلةً للنّقد الاجتماعيّ ومحاربةِ استخدام المواطن كمادّةٍ قتاليّة، وانتقدً بالأخصّ الحكمَ العسكريَّ والرأسماليّ.
يقول غروتس عن نفسه «أعتبرُ فنّي بمثابةِ صمّام. حينها جعلتُ من استيائي هواءً. على دفاتر ملاحظاتي وهوامشِ رسائلي رسمتُ ما لم يحظَ به الواقعُ من حولي: وجوهٌ حيوانيّةٌ لرفاقي، ضحايا الحرب، غرور الضبّاط، الممرّضات المثيرات. لم أنوِ من هذه الرسوم شيئاً، بداية خالية من كلّ هدف، إلّا الحيازةَ على النّمل الغاضب حتّى القتل، الذي يحيط بهذا العالم السّخيف المنمّق».
عام ١٩٣٣ هاجَر غروتس إلى الولايات المتّحدة بعد تولّي النازيّين للحكم. وقد استولَوا على ٢٨٥ عملاً من أعماله الفنّيّة في العديد من المتاحف الألمانيّة، واعتبروها خبيثةً ومنحطّةً وغيرَ جديرةٍ بالعرْق الجرمانيّ. وبعد انتهاء الحرب عادَ الى برلين عام ١٩٥٩ حيث توفّي جرّاءَ حادثٍ تعرّضَ له.
كولفيتس: فنّ في خدمة البروليتاريا
يقول الكاتب رومان رولاند إنّ ما يخفُق في جسد كايت كولفيتس قلبُ رجل. حازَ موضوعُ الموت والعذاب في لوحاتها على الواجهة واكتسبَ تقديراً أساسيّاً. يعبّر ابتعادُها في فنّها عن فكرة الخلاص الإلهيّ عن شخصيّةٍ ذات مبادئٍ جذريّةٍ لم يستطعْ حتّى الفنانون الذين رافقوها في مسيرتها الفنّيّة التأثيرَ عليه، فهي اختارتْ لذاك الفنّ مفهوماً آخر للإيمان والاعتقاد الدّيني لا صلةَ له إطلاقاً بالدّين المسيحيّ، كما أنّ بدايتَها الفنّيّةَ كانتْ بمثابة شاهدٍ على حَيادها عن المواضيع الدينيّة.
وُلدت الرسّامة والنحّاتةُ كايت شميت عام ١٨٦٧ وترعرعتْ في برلين. تزوّجتْ من كارل كولفيتس عام ١٨٩١ وأنجبا طفلين هما هانس وبيتر. عاشت العائلةُ في بيتٍ من ثلاث طبقاتٍ في برلين احتلّتْ عيادةُ أبيها الطبيبِ الطبقةَ الأرضيّة منه. أمّا شقيقُ كايت، كوناد شميت، فهو من مؤسِّسي المسرح الشعبيّ والفاعلين فيه لمدّة عشرة أعوام.
من أولى اللّوحات التي أدّتْ إلى تغييرٍ نوعيّ في مضمون أعمالها الفنّيّة سلسلةُ محفوراتٍ عن «ثورة الحائكين» ١٨٩٣ - ١٨٩٨. يَظهر مضمون هذه الثّورة في مواضيعَ أدبيّة وفنيّة عديدة، ويعود مضمونُها إلى حدثَين تاريخيّين هما «ثورة الحائكين» في كولونيا عام ١٣٧٠ بسبب نزاعات النقابات مع القوى السياسيّة والثورة نفسها في سيليزيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أعادتْ كولفيتس صياغة هذا المضمون التاريخيّ للتذكير بالنّزاعات التي سادتْ حينها ونتجتْ من الثورة الصناعيّة وهبوطِ اليد العاملة نتيجةً لذلك. في لوحتَي «المتسوّلة» عام 1926 و«المأوى العام» عام 1909 نرى تشابهاً في المضمون والتّقنيّة على الرغم من التفاوت الزمنيّ بين العملين، تحتضنُ كولفيتس الشّعبَ الفقير والجائعَ بوعْيها ومسؤوليّتها الاجتماعيّة تجاه الآخر.
تتميّزُ أعمالُ كولفيتس بغياب المكان والزمان، إذ يمكن إسقاطُ مضامينها في أيّ وقتٍ على كلّ مكان. وعلى الرّغم من هذه الميزة، لم تغبْ مدينتُها برلين عن أعمالها، فتُظهر لوحة «العامل الآتي من محطّة القطار» بين أعوام 1897 - 1899 عناصرَ توبوغرافيّة تعود لبرلين، كما تَظهر موهبة الفنّانة في ارتجال العمل الفنّيّ باستخدام الذاكرة.
تُظهر مجموعة كولفيتس الفنّيّةُ اهتمامَها بعلم الجسد. يبرز ذلك في لوحات الأَكت (Akt) أو العري، لعامَي ١٩٠٤ - ١٩٠٦ والتي يبدو فيها جسدُ امرأةٍ من الخلف ويَظهر قسمٌ كبيرٌ من ظهرها مع تفاصيل استدارة خفيفة تُبرز تفاصيل هيكلية الجسد وحركة العضلات. يبدو عمقُ المعرفة في تفاصيل بناء الجسد في لوحاتٍ أخرى، كما في بورتريه لـ«لوته» بين أعوام ١٩٢٨ - ١٩٣٠ و«هدفيش فايس» عام ١٩١٠ و«إيفانوف» عامي ١٩٢١ - ١٩٢٢ وكذلك لوحة «امرأة جالسة» عام ١٩١٢ و«دراسة لسبع أيادٍ» عام ١٩٢٥. حتى أنّ أحد الباحثين اعتبرَ أنّ في فنّ كولفيتس دلالاتٍ طبيّة لا يمكن تجاهلُها. أمّا في لوحتي «عطالة عن العمل» عام ١٩٠٩ و«بورتريه ذاتي جالسة أمام الطاولة» عام ١٨٩٣ فيظهر إبداعُ كولفيتس في كيفيّة عكسِها مشاعرَها وانطباعها على أبطالها. ومن تقنيّات كولفيتس المتّبعة لهذا الغرَض استخدامُ الضّوء والظّلال لإضافة طابعٍ دراميّ، أو رسمُ تعابير الوجه من دون ضرورة إظهار الوجه كالعين أو الأنف إنما الإيحاء بها فقط.
تُعتبرُ أعمال كولفيتس ترجمةً لواقع الإنسان الفقير والجائع وصرخةً من أجل العدالة والمساواة. تُمسرح لوحاتُها للموت في عالَمٍ معتم. أبطالُها المرتمون على «صدر الأرض» كما تعبّر، هم لمحةٌ ودمعةٌ عن واقع حياة الفلّاحين الألمان في الفترات السّابقة، أو ربما شاهدُ عيانٍ لاتّحاد الفنّانة مع البروليتاريا. ولا يلبث أن يلاحقَ المتمعّنُ بفنّها الاستياءَ نفسَه من كلّ الجهات، عذابات وفقر لا يخلوان من رائحة الكفاح والموت. يرى بعضُهم فيها نزعةً سياسيّةً غريزيّةً تجعل من العمل الفنيّ واقعاً يتطابق مع كلّ زمانٍ ومكان، بينما يراها آخرون تقليديّة سرديّةً مرتبطةً بعادات الحِداد الألمانيّة.
لم تتّخذْ كايت من أيّ فنانٍ مثالاً أعلى، لكنّها قدّرت الفنان ماكس كلنغر الذي تناول فنُّه المواضيعَ الشعبيّة الحياتيّة اليوميّة من معاناةٍ وفقر، فتأثّرتْ بلوحاته ومنها لوحة «حياة». وكان صديقُه كارل شتاوفن - برن أوّلَ أستاذٍ لكولفيتس في برلين، وقد تعلّمَت منهما تبنّي المواضيع الحياتيّة عبر الرّيشة والقلم وكذلك تقنيّة الخرْط أو التنميش، طبع محفورات الخشب والنّحاس على الورق. شكّل اكتفاؤها بالقليل من سلّم الألوان واستخدامُها التخطيطَ بالأسود والألوان الداكنة مبدأً بذاته ومدرسةً اختارتْها بوعيٍ فنّيٍّ وسياسيٍّ متكامل. في سلسلتَي «ثورة الحائكين» و«حرب الفلاحين» (١٩٠٢ - ١٩٠٨) حازتْ كولفيتس للمرّة الأولى انتباهَ عالم الفنّ، والذي أدّى عام ١٩٠٦ إلى حصولها على جائزة «فيللا رومانة» التي يمنحُها كلنغر، والتي حازها في العام نفسِه الفنانُ المعروفُ ماكس بكمن. اعتمدتْ كولفيتس في رسم هذه اللوحات، والتي تعود إلى بداية مشوارها الفنّيّ، على الأسلوب الطبيعيّ الواقعيّ الذي يختلفُ عن أعمالها اللاحقة التي تضمّنتْ نفحاتٍ من المدرسة التعبيريّة تَظهر عبر الحدّ من التّفصيل والاكتفاء بدلالاتها.
كتبتْ كولفيتس في مذكّراتها «أنا حاملةٌ ومطوّرةٌ لبذوره. لذلك عليّ أن أكون مخلصةً في الخدمة. منذ أن أدركتُ ذلك أصابني الفرحُ والصلابة. ممنوعٌ عليّ أن أنجزَ فقط عملي، بل كلّ شيء. هذا يوضحُ لي مغزى ما يُحكى عن الثقافة الذي لا يمكنُ أن يتحقّق إلّا من خلال إنجاز الواجب عن طريق الفرد. عندما يعي كلٌّ منّا لواجباته ويقومُ بها، حينها يتمّ ما هو حقّاً خير. إنّ ثقافة شعبٍ كاملٍ لا يمكن بناؤها على غير ذلك». تعكس كولفيتس في بَوحها فلسفةً قائمةً على تقنيّة الواجب والإرادة كعنصرٍ أساسيٍّ للتّطوّر الثقافي. وعلى الأرجح ما لم يسمحْ لها بالانضمام إلى الشيوعيّة هو هذا التعبيرُ والعودةُ إلى البذور وواجبات الجماعة. تبنّتْ كولفيتس الفكرَ الاشتراكيّ من عائلتها، وعلى الرّغم من أنّ مواضيعها القريبةَ من هموم البروليتاريا توحي بامتلاكها فكراً شيوعيّاً ناضجاً، غير أنّها لم تنتمِ يوماً إلى الحزب الشيوعيّ الألمانيّ، وهي تُعتبر من مؤسّسي الواقعيّة الاجتماعيّة.
للأسف، لم تُعجبْ هذه المضامينُ السياسيّين والطبقةَ البرجوازيّة حينها، ففي عام 1898 حاول وزير الثقافة عدم جعل كولفيتس تكسبُ الميداليّة الذهبيّة، فخطبَ أمام القيصرِ قائلاً «بما يتعلّق بحيثيّات الموضوع والأداءِ الطبيعيّ للعمل الفنّيّ الذي تنقصُه كلّيّاً كلّ عناصر التلاؤم، لا أعتقدُ على ما تقدّمَ أنّه من الممكن أن يسمح لعملٍ كهذا بالاعتراف الرسمي به من قبل الدولة». ولكنْ بعد 47 عاماً، وتحديداً في 26 تشرين الثاني / نوفمبر 1945 تمّتْ تسمية شارع «فورتا بلاتس» باسم «كايت كولفيتس بلاتس» بقرارٍ من رئيس البلدية التّابع للحزب الشيوعيّ الألمانيّ ونائبه التابع للحزب الاجتماعي الديمقراطي.
أهمّ ما يميّز كولفيتس خُطاها الواثقةُ واستقلاليّتُها في رسومها ومخطوطاتها التي تُبرز عظمةَ التقنيّة وكثافةَ المشاعر بقوّة غريزيّة خالية من التردّد. وترجع جذورُ الإلحاح في أعمالها إلى التّجارب القويّة التي اختبرتْها، وإلى نشوئها في عائلةٍ مشبَعةٍ بالفكر الاشتراكيّ، الأمر الذي يفسّر مواضيعَها المنتقاةَ من المسارح الاجتماعيّة والسياسيّة. يستشفّ الناظرُ في أعمالها خليطاً من المسؤوليّة الاجتماعيّة والإرادةِ والإصرارِ الفنّيّ الواعي، فأعمالُها تحوي حكمةً مستقاةً من عالمٍ عميقٍ خالٍ من كلّ شعاع أو فكاهة، إنّها إحدى أهمّ الفنّانات.
إنّ أعمال كولفيتس المتضامنةَ مع الشعب الفقير تطرحُ التساؤلَ عمّا إذا كان هناك أملٌ بالخلاص. فبوجود الحروب التي لا نهايةَ لها، والجوعُ المستشري في العالم كما النزوحُ للبحث عن الأمان والسلام، صوَر الأطفال القتلى وأمّهاتُهم المعذَّبات، تصلح كشاهدٍ على واقِعٍ مشترَكٍ ومرير في كلّ زمانٍ ومكان.
ديكس ورسمُ الموت
وُلد فيلهلم أوتّو ديكس في الثاني من كانون الأول / ديسمبر عام ١٨٩١ في مدينة غيرا. في سنّ الرابعةَ عشرةَ تعلّمَ الرسمَ لمدّة أربعة أعوام على يد فنّان الديكور كارل زنف، تلتْها أربعةٌ أخرى في مهَنيّة الفنون في مدينة درسدن. في تلك الفترة استَخدمَ في الرّسم الأسلوب الانطباعيّ والتعبيريّ، ولجَأ عشيّةَ الحرب العالميّة الأولى إلى المدرسة الطليعيّة Avantgarde فالرسمِ التّكعيبيّ، كما استخدَمَ أسلوبَ المدرسة المستقبليّة Futurismus. تطوّعَ ديكس خلال الحرب في الخدمة العسكريّة، الأمر الذي انعكَسَ إلى حدٍّ كبيرٍ على رسالته الفنيّة.
أكملّ ديكس بعد الحرب دراستَه الفنيّةَ في أكاديميّة الفنون التشكيليّة في درسْدن، وفي عام ١٩١٩ انضمَّ إلى حركة Dresdner Sezession واتّصلَ في الوقت نفسِه بمؤسّسي الدادائيّة وشاركَ في معرِضه العالميّ في برلين عام ١٩٢٠، كما فعلَ غروتس. بعد ذلك صدرتْ لوحةُ «الخندق»، إحدى أهمّ أعماله الفنّية المُعادية للحرب والتي رسَمَها بين عامَي ١٩٢١و١٩٢٣. رسَمَها بالألوان الزيتيّة، واستَخدمَ أسلوبَ الواقعيّة الجديدة، وقد استفزّت الكثيرَ من الباحثين وأثارتْ نقاشاتٍ سياسيّةً حادّةً بسبب مضمونها العنيف. يرتبطُ موضوعُ اللّوحة مباشرةً بدوره في الحرب، والذي لعبَه بإرادته، إذ كان محارباً على المدفع الرشّاش في الخنادق. تأثّرَ ديكس، كما الكثيرون ممّنْ شاركوا في الحرب، بنيتشه وكتابِه «الإرادةُ نحو السلطة»، وخصوصاً الجزء ٨٥٣ الذي يحملُ عنوان «ولادة التراجيديا» وعلاقتُها بفلسفة التطهير، إذ عاشَ ديكس هذه المرحلةَ التراجيديّة، مرحلةَ تطهير النفوس من الأدران، كما تشير النظريّة، عبْر مشاهدةِ وعَيش المأساة. ترجعُ هذه المقولةُ إلى أرسطو، وقد تناوَلَها نيتشه من بعده في مؤلّفاته.
تتحدّثُ لوحةُ «الخندق» عن مجزرةٍ وقعتْ خلال الحرب العالميّة الأولى، فتُظهِر عدداً كبيراً من الجثث المشوّهةِ والممزّقة بين الخراب. ليس سهلاً وصفُها لكونها مفقودةً، فما يُعرفُ منها ليس سوى لقطاتٍ فوتوغرافيّة بالأسود والأبيض، إلّا أنّ بعض مَن رآها في متحف «فالراف ريشارد» في كولونيا وَصفَ الخندقَ المرعبَ والأجسادَ الممزّقة، ولم تَسلم إلّا أقنعةُ الغاز وساعات اليد. ومادّةُ الفوسفور الصّفراءُ المنتشرةُ بين تفاصيل اللوحة التي تبدو فيها الأمعاءُ المتطايرةُ وقطَعُ اللّحم والدّم في كلّ زاوية. تبدو في اللّوحة أيضاً علاماتُ الحياة على بعض الجنود رغمَ وجوهِهم الممزّقة، وفي عُمق اللّوحة جبالٌ بالألوان، خريفيّة دراميّة شهدتْ على ما حصل آنذاك في جنوب مدينة سواسون الفرنسيّة. لهذا السّبب صادرَ النازيّون اللوحةَ وتمّ اعتبارُها ابتداءً من عام 1940 مفقودة.
عام ١٩٢٢ انتقلَ ديكس إلى ديسلدورف حيث تعلّمَ تقنيّةَ الغرافيك لدى فيلهلم هربرهولز. وبعد عامٍ تزوّجَ من مارتا كوخ، طليقة الدكتور هانس كوخ الذي له منها ولدان. انضمّ ديكس في ديسلدورف إلى مجموعة شباب راينلاند الفنيّة Junge Rheinland وكذلك إلى مجموعة الفنّانين الذين عَرَضوا أعمالَهم في غاليري يوهنا أي Johanna Ay. انتقلت أي عام ١٩٠٧ إلى ديسلدورف حيث أسّست محلا لبيع القهوة بين مبنى المسرح وأكاديميّة الفنون، ما جعل روّادَ قهوتها من الممثّلين والفنّانين أمثال أوتو ديكس، ماكس إرنست، أوتو بانكوك وغيرهم. ومع بدء الحرب الأولى أسستْ أي أيضاً غاليري عَرضَ فيه الفنّانون أعمالهم، وقد أصبح هؤلاء لاحقاً أصدقاءها بعدما دعمتْهم مادّيّاً عبر تقديم قروض. وقد أبدى الفنّانون تجاه أي تقديراً وامتناناً فأطلقوا عليها تسمية «الأمّ أي»، كما مثّلوا شخصَها في لوحاتهم، ومنهم ديكس.
عام ١٩٢٥ انتقلَ ديكس إلى برلين حيث شاركَ في معرض «الواقعيّة الجديدة»، وكذلك في معارضَ عدّة كـ«الدوكومنتا» في كاسل. وفي عام ١٩٢٧ عملَ بصفته بروفسوراً في الأكاديميّة في درسْدن. وبعد ثلاثة أعوام أنهى عملَه «الحرب» الذي بناه على شكل تربتشون، أي لوحٍ ثلاثيّ، استخدم فيها الألوانَ الزيتيّة على الخشب ورسمَها بالأسلوب الألمانيّ القديم، وقد تضمّنتْ مواضيعَ عن الحرب الكبرى وتجربتِه الشخصيّة فيها. تبدو في اللّوحة المركزيّة طبيعةٌ متصحّرةٌ مليئةٌ بالجثث وأعضاءِ الجسد المنتشرة. وسط هذا المشهد، يظهرُ جنديٌّ على قيد الحياة وهو يلبسُ قناعَ الغاز. تشبهُ طريقةُ بناءِ اللوحة إلى حدٍّ ما بناءَ لوحة «الخندق». في شمال التربتشون صفٌّ من الجيوش يمشي وسطَ الضّباب، وفي اليمين وجوهٌ كثيرةٌ تراجعتْ رافضةً المواجهة، من ضمنها جنديٌّ يحاول رفْعَ زميله ومساعَدته. ما رسَمَه ديكس في «الخندق» هو نفسُه خلال لحظةٍ من لحظات الحرب التي عاشها.
بعيداً عن الحرب، تتضمّنُ لوحاتُ ديكس ما يُسمّى بـ«الكوزمو»، أي الفضاء الخارجيّ وعناصره. هكذا يظهرُ بورتريه شخصيٌّ له بين عامَي ١٩١٨ - ١٩١٩ ممثّلاً نفسَه بالقمر كما لوْحته «امرأة ورجل» عام ١٩١٩ المحفورة على الخشب والتي تصوّرُ المرأةَ كقرصِ الشمس والرجلَ كالهلال. يستخدمُ ديكس في «الولادة» عام ١٩١٩ عناصرَ الكوزمو والفضاء الخارجيّ نفسَها من نجومٍ وشمسٍ وقمر. يحمل مزْجُ تلك العناصر دلالاتٍ رمزيّةً لديه تتعلّق بمسألة الحبّ Eros والموت، إذ تدورُ تلك المعاني حول الأنا المرْكز.
عندما تولّى النازيّون الحكم تمّتْ إقالة ديكس من منصبه كبروفسور، وبِيعَ منزلُه في ديسلورف بالقوّة، كما تمّ الاستيلاءُ على ٢٦٠ عملاً من أعماله من المتاحف الألمانيّة. وخلال الحرب العالميّة الثانية، وتحديداً في العام ١٩٤٥، استُدعيَ للخدمة العسكريّة فوقَعَ في قَبْضة الفرنسيّين وتمّ جرّه إلى معتقلات كولمار والألزاس مع ستة آلاف معتقل الذين منهم من فَقَدَ حياته هناك. عام ١٩٤٦ عاد إلى همنهوفن الألمانيّة واستخدَمَ في رسمه تقنية اللازور، أي استخدام اللّون الشفّاف فوق اللون الأساسيّ، واعتمدَ الأسلوبَ التعبيريّ، لكنّه لم يتبنّ الواقعيّةَ الاجتماعيّة، المدرسة السائدة حينَها والتي انضمّتْ إليها كايت كولفيتس، ولا المدرسةَ التجريديّة التي سادتْ بعد الحرب العالميّة الثانية.
عام ١٩٤٩ رفضَ ديكس منصبَ بروفسور في «الأكاديميّة الرسميّة للفنون التشكيليّة» في شتوتغارت، وحصل عام ١٩٥٩ على ميداليّة استحقاقٍ وتقدير من الجمهوريّة الألمانيّة وعلى جائزة «كورنليوس». وفي عام ١٩٦٦ حصلَ على تقدير الشّرف من مدينة غيرا وكذلك في درسْدن و هامبورغ عام ١٩٦٧. وفي العام التالي نال جائزة «هانس توماس» وجائزة «رمبراندت» الممنوحة من معهد «غوته - زالتسبورغ». وفي ٢٥ تموز / يوليو ١٩٦٩ توفّي ديكس بالجلطة في مدينة زنغن.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.