العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

في الذاكرة و«الخروج من العنف»

كتبتُ عن هذا الموضوع عقبَ مداخلة - رأيٍ قدّمتُه على ملخّص ورقةٍ لمجموعة عملٍ مكوَّنة من أكاديميّين ومختصّين أجانبَ وعربٍ، دَعَا إليها مركز عصام فارس في الجامعة الأميركيّة في بيروت بالتعاون مع «مؤسّسة بيت علوم الإنسان» «Fondation Maison des Sciences de l'Homme» الفرنسية، حول عنوان كبير هو «الخروج من العنف» وعنوان فرعيٍّ هو «استخدام الذّاكرة وإساءة استخدامها». وها أنا أعيد تحريرها اليوم، ربّما لراهنيّة موضوع العنف، مع تجدّد اندلاع ثورات النّاس من السودان إلى الجزائر إلى مصر إلى العراق إلى لبنان، وفي غير مكانٍ، ومع تجدّد اقتراحات «الخروج منه» بالتهديد به! إنّ العنف المرتهَن بقرار صانعيه، مادّة للاستثمار والإخضاع المستدام.

عنف الكلمة

لدى قراءتي للورقة، خِفْت. كان بإمكاني رفضُ المداخلة وإبداءُ الرأي طبعاً، لكنّي كفردٍ ربِيَ وشبَّ وثارَ في بيئةٍ من عنفٍ ملوّنٍ، ولا يزال قابضاً على جَمرتِه، غضبتُ وقرّرتُ الكلام.

الطرح في الورقة كان سليطاً، معادياً للإنسان، يريد له أن يَخمدَ ويستكين لما تُمليه عليكَ أممُ الاشتغال على ملفّات الحرب والسلم والعدالة. والخطير هنا أنّ الذي يُعيد تدوير العنف تحت مسمّياتٍ منتقاةٍ بعناية، هي مؤسّساتٌ وجمعيّات غير حكوميّة.

عنف ناعم!؟

وعليه جاءت فكرةُ مداخلتي بالضبط حول خطورةِ التسميات. أليستْ إساءة استخدامِ الكلماتِ والتسميات عنفاً؟

الكلمة تُحيي والكلمة تَقتلْ.

استعملتُ الحديثَ عن هذه الورقةِ حجّةً للتصدّي لهذه المفرَدات. مفردة العنف، المفرغَة من كلّ سياق، المُسيّرة لمفاصلَ هامّة وخطيرةٍ من أفكار المشتغلين على مشاريع، مسبقةِ الصنع، تنتظر سوقاً جديدة، في السياسة والأكاديميا والثقافة والاجتماع.

ويأتي منهم من يدعوك، بتأثّرٍ، إلى أن تشارك في بناء متحفٍ لحفظ ذاكرة معاناتِك، دون أن يسمَحَ لك بالطبع بأنْ تسمّيَ مَن المسؤول عنها، اللّهم إلّا ذلك الذي اتّفقوا عليه جميعاً.

إنّ هذه الاقتراحاتِ / المشاريع، المستثمَرة في بيئة التعب والألم وانغلاق الأفق وانعدام السُّبُل أمامَ المعنَّفين، والمدّعيةَ أنّ همّها الأساسَ إيجادُ القواسم المشتركة والذاكرات الجمعيّة للنّاس ليتحابّوا ويتصالحوا و«ينسَوا»، وهي تلعبُ غالباً على انتقاء ذاكرةٍ ما دونَ غيرها، كدعْوتنا مثلاً لنتذكّر واقعَ «الأمن والأمان»، الذي سبق «العنفَ»، وإنّها تقترح البناءَ عليه لرأْب الصدوع في إجراءٍ تخديريٍّ موضعيّ مغشوش، لا يلبَث مفعولُه أن يتلاشى حالَ انتهاء «همروجة هذا التذكّر». وبما أنَّ الشّيءَ بالشّيء يُذكَر، أستعيدُ هنا ذلك السّؤالَ الملعوب والخطيرَ هو الآخرُ، الذي اقترحَهُ علينا مركزُ «كارينغي» بمناسبة مرور سبع سنواتٍ على الثّورة والحرب. إنّه سؤالٌ مسكونٌ بفعل الندامة: «وهل كان الأمر يستحقّ كل هذا العناءِ؟».

تحاك الكلماتُ ليتمّ الاستيلاءُ بها على قصص النّاس أو ربّما لتلقينهم القصص! فتُسلَبُ منهم خياراتُهم ولا يبقى لهم غيرُ نسيان ما «يُريدون» وإلّا... فالعنفُ مجدّداً! مع أنّ النّسيان، كما التذكّر، دون إجبارٍ، حقٌّ وخَيار.

في جملةٍ بديعةٍ في أحد رواياته، يقول محمّد أبي سمرة: «كأنّ الكلماتِ إذ تُمحى وتُنسى، تترك وراءها فراغاً تسكنُه قوّةٌ ماديّة غامضةٌ لا تنفكّ منها المخيّلة والذكريات».

وهل بالجيوش والمؤسسّات وحْدَها يحيا التسلّطُ والاستبداد؟

لا، بل بالكلمات أيضاً.

قد يبدو هذا من البديهيّات، لكنّه ليس كذلك على الإطلاق! فمثلاً، وفي غمرةٍ من جهلٍ وتجهيلٍ وتجاهُل، وبالتوازي مع قيامه بدوره في قتلِ وتهجير وإخضاع مَحكوميه، يخترعُ لنا النّظامُ السّوريّ «وزارةً» «للمصالحة». هي مؤسّسةٌ وكلمةٌ، في خدمة خُبثه وخدمةٍ لوسائل الإعلام «المستقلّ، المحايِد» التي تتلقّفهما، بحسب الغرض والمآرب السياسيّة.

واليومَ، بعد حرْق البشَر والحجَر، وفي «تعفيشٍ» لأرض الكلام، تبيع بثينةُ شعبان مستهلِكي سوق «الانتصارات»، ما تسمّيه بـ«وثيقة وطن»، راصدةً لها مالاً وجوائزَ، ومعرّفةً عنها «كمؤسّسةٍ غير حكوميّة»، تهتمُّ بالتّأريخ الشفويّ وتوثيق «الذّاكرة الوطنيّة».

«حتّى لا يتكرّر ذلك أبداً» «Never again»، اقتراحٌ مخادِعٌ، يبني على واقعِ عنفٍ مركّبٍ، بصفته «الحدَث»، وليس بصفته الواقعَ المتولّد من تدهور «الحدث المؤسّس» والذي يُرادُ لنا نسيانُه، بدلاً من البناء عليه. الدّرس الموّجّه لنا هنا، هو أنْ نتذكّر العنف، المجرّد، حتّى لا نكرّر الاحتجاج. ففي ذاكرةٍ أبعد قليلاً، ما أجبرنا على تسميتِه فقط «أحداثِ حماة»، لم يُسمح لنا منه إلّا بذاكرة «العنف»، وطُمس الكلامُ كليّاً عن حركة الاحتجاج والإضراب والحركات النقابيّة والحزبيّة المدنيّة الواسعة التي سبقتْه. وجاء الخطرُ الاجتماعيّ الأكبرُ بما طَبعَ الوعيَ العامَّ للسّوريين لسنواتٍ طويلة من أنّ هذه المذبحةَ كان «لا بدّ منها».

الاعترافُ بعنف الأطراف كافةً، حسنٌ، شرط أنْ نتذكّر القصّةَ كاملةً. وجميلٌ جدّاً، في معالجة موضوع العنف، اقتراحُ الخروج من جدليّة الضحايا - القتَلة. ولكن بشرط ألّا نتناسى بديهيّةً أخرى وهي أنّنا لسنا كلّنا في سلّةٍ واحدة. نريدُ أن نتذكّرَ المرتكبَ الأساسيَّ الذي مأسسَ العنفَ ووضعَ آليّاتِه، وتمايَزَ بالطبع بامتلاك «شرعيّةِ العنف»، مُدخِلاً إليه شرائحَ المجتمع كافةً بحيث أضحى هو نفسُه جزءاً منه وليس مقترفَه ومسبّبَه الأساس. وبذا نتحوّلُ كلّنا إلى مرتكبين فيمتنعُ علينا فعلُ المحاسبة، ولا يبقى لنا من حيلةٍ سوى أنْ يعفوَ اللهُّ عمّا مضى.

التوصيةُ بضرورة تحوّل الضّحايا إلى «مواطنين ناجين» هي بالضّبط ما حرّكَ الناسَ في بلادنا للنّزول إلى الشّوارع. أراد النّاسُ، ويريدون، الخروجَ من ثوب الضحيّة المستكين العاجز والتحوّل إلى مواطنين فاعلين وقادرين.

أريد أن أتذكّر

أنا أريدُ أن أتذكّر، مرّاتٍ ومرّات، كيف وَلّد غضبُ السّوريين في ٢٠١١ طاقاتٍ إبداعيّةً ومخيّلةً هائلةً، وكيف مارس السّوريون فعلَ احتجاج هو الأهمّ على الإطلاق في تاريخهم المعاصر. وأريد أنْ أتذكّر كيف طبَعَ هذا الاحتجاجُ الحياةَ العامّةَ لمجمل السّوريين، وكيف شَهدنا انطلاقاً من أعوام ٢٠١٣ - ٢٠١٤ - ٢٠١٥ - ٢٠١٦، مظاهراتٍ لجماهير موالية، قُمعتْ، في حمص واللاذقيّة، استخدم الغاضبون فيها نَفْسَ الشّعارات واللافتات والأغاني الثورية ونَفَسَها، مطالبين بإسقاط «المحافظ» ومحاسبة «المسؤول».

واليومَ، وفي قلب البلد المكلوم، وفي أكثر مناطقه حساسيّةً، يتجرّأ النّاسُ المعطوبون في كلّ مفاصل حياتهم، على الحاكم وصَحبه، في الشّارع كما في الأغاني.

لقد أصابَتْني لوثةُ الذّاكرة، كما أصابت أخوةً لي كُثراً.

وإنْ اجتاحت تلك اللوثةُ كلَّ شيء فقد عصفتْ بالثّوابت والجّوامد... وانفتحتْ بوّاباتُ السّؤال: وهل لدينا نحنُ السوريّينَ ذاكرةٌ واحدة، حتّى عن الثّورة بالذّات؟ ألَا يمشي جمعُ الاتّفاق والاختلاف، التناقض والتلاقي، التّماهي والتّضاد...التذكّر والنسيان، نحوَ مَخرج ما؟ هل الهدفُ أنْ نُجبرَ أنفسَنا، في خدمةٍ لأساطير وفولكلور «ذاكرة واحدة للجميع»، على البحث قَسراً عن مشتركات؟ ألَا نريد أن ندْفعَ عن كرامتنا عنفَ كرنفالات الاحتفاء بالنهايات؟

ولئن تبدّى، ما تلطّى زمناً، خَلف سجالٍ عن أصل المشروبات والمأكولاتِ بين حلب والشام... فكيف لا نواجهُ أنفسَنا بأنّ سوريا أثبتتْ في سنوات الجمر هذه أنّ لا مواطنةَ فيها ولا وحدةَ ولا سلاما؟ ولِمَ لا نتفكّرُ فيها كتراب مقلوب وأرض خام؟

ولماذا لا يُقبل علينا العالَمُ «الحرُّ»، ليُنصتَ، ليختبر، ويَخرج بخلاصاتٍ غنيّةٍ تَخدمُ الإنسانَ؟ بدل اكتساحنا بمفرداتٍ جاهزةٍ، جامدةٍ، خبيثةٍ وعنيفةٍ، يقضي بها، بسطوة ماله واستقطاباته على ذاكرةٍ، قد تبدو لوهلةٍ هشّةً سهلةَ الامّحاء، وإذ بها إنْ أمسكناها، صلبةٌ، عصيّة!

ما أحلاها أصواتُنا والنّغمات والكلمات. هادرةٌ، ساطعةٌ، كاشفةٌ، كثيفةٌ، تشير بلا موارَبةٍ إلى مَوطن العنف ومَخْرجه. عابرةٌ للبلاد، تتلاقى كأنشودةِ خلاصٍ واحد، بلغاتٍ ولهجات:

«قول ما تخفشي / السيسي لازم يمشي»
«تسقط بسّ»
«يتنحاو قاع»
«شلع قلع»
«كلّن يعني كلّن»،
و«هيلا هيلا هو...»

كلّنا يعني كلّنا، وفي كل مرّة امتلكنا معنى وجودنا وقبضْنا على إمكانيّة قوّتنا في التغيير، تكالبتْ علينا جرعاتُ العنف المنظّم الممنهَج، من أنظمتنا المباشرة، مستقويةً علينا بأممِ المصالح الدوليّة وشركاتها المساهمة، من زارعي العنفِ وحارسيه.

 

العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.