«جِيس قبل تغيص. ما ينفع الجِيس من بعد الغَرَق»1.
(مَثـَل كويتي بحري قديم)
عــن الحظـرة وكائناتها
في طفولتي في الكويت، عندما كان البحر أشد زرقةً وأكثر كرمًا، مارست أنا وأقراني صورًا عديدة من الصيد البحري، من «الميدار» و«السنارة» السهلَين إلى «السالية» الصعبة فـ«الطاروف» المُتعِب ثم «القنبار» المثير، وهي جميعها طرق تقليدية كويتية لصيد السمك. وعلى الرغم من شغفي بالصيد بجميع صوره، لم يعلق بذاكرتي منه شيء مثلما علق صيدنا بداخل «الحظور» التي عشت بداخلها مغامرات حقيقيّة، كثيرًا ما رفعتْ من معدّل الأدرينالين في رأسي وأسالت الدماء من قدمي.
و«الحظور» جمع «حظرة». والحظرة – لمن لا يعرفها – تقنية شعبيّة قديمة لصيد السمك معروفة في دول الخليج العربي ومنها الكويت، تتمثل في أخذ العيدان (المصنوعة من القصب سابقًا والمعدن لاحقًا) ونَصْبها بشكل شبه دائم في وسط البحر، ثم إحاطتها بأسلاك حديدية تعمل بمثابة شِباك ذات مداخل ضيقة تسمح بدخول الأسماك فيها في حالة المدّ وتمنع خروجها منه عند الجزر. وتُنصب الحظرة بالقرب من الشاطئ أو في المناطق التي ينحسر عنها الماء، على أن تكون فتحتها باتجاه الساحل. ويكون صيد السمك بالدخول إلى الحظرة مشيًا، حيث يبلغ مستوى الماء فيها عند انحساره حتى الركبة أو يزيد أو ينقص. ولك أن تتخيّل ما يحمل الدخول فيها – وسط أسرابٍ من الكائنات البحرية الحائرة والمرتبكة – من مفاجآتٍ وإثارة، بل وخطورة أحيانًا (ما زال مرأى منظر «اللخمة» المهيب وألم ضربة «الفريالة» القاسي عالقين في ذاكرتي).
ولكن ما لنا وللضرب في شؤون التعريف والوصف في حين أن الباحث الألمعي المرحوم حمد السعيدان – الذي مرّ في تاريخ الكويت مثل شهابٍ خاطفٍ فغادرنا سريعًا وهو شاب – كفانا مؤونة التعريف حين أدرج في موسوعته الكويتية المختصرة تعريفًا للحظرة ورسمًا توضيحيًّا لها، أوردهما فيما يلي:
«حَظْرَة: حظيرة تُنصب من أعواد القصب لصيد الأسماك بالقرب من الساحل، تدخل فيها الأسماك وتتيه بين حواجزها ويصعب خروجها، وعندما ينحسر الماء يأتي الصياد ويلتقطها بيده. الجمع حظرات. والحظرة بموقعها تُمتلك كقطعة الأرض، وعند صاحبها سند ملكيةٍ، ومن امتدّت يده إلى أسماك الحظيرة لقي الجزاء».2
استحضرت كلّ ذلك وأنا أقرأ ما طالعتنا الصحف به بتاريخ ٢٧ آذار/مارس ٢٠١٨، إذ أوردت محضر اجتماع مجلس الوزراء الكويتي، الذي ورد فيه أنه تداول في جلسته لهذا الأسبوع توصية التقرير النهائي الشامل لفريق عمل تطوير جزيرة فيلكا والإجراءات التي اتُّخذت في هذا الخصوص، وأنه قد وجّه الجهات المعنيّة بالعمل على إزالة كافة المعوّقات التي تعترض مسار تنفيذ مشروع التطوير. وقد كان من جملة التدابير التي أوصى بها المجلس، في محضر جلسته تلك، «اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والعملية اللازمة لإزالة الحظور المقامة في جزيرة فيلكا».
في خضمّ الحديث عن مشروعٍ ضخم مثل مشروع تطوير جزيرة فيلكا، قد يبدو الحديث في موضوع إزالة الحظور أمرًا ثانويًّا لا يستدعي التوقف. لكن المشكلة تكمن دائمًا في التبسيط: فنعم؛ كل نقاش يجب أن يُطرح في أبسط أشكاله، ولكن لا؛ لا ينبغي أن يُعرض الأمر دائمًا وكأنه أبسط مما هو عليه في الواقع. فللأمر أبعادٌ كبرى تتعلّق باتفاقياتٍ دوليةٍ لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ارتبطت بها دولة الكويت، وبقوانين وطنيةٍ ملزمةٍ أصدرها المجلس التشريعي للبلاد.
والأهم، أن الأمر يتعلق بجزيرتنا الوحيدة المأهولة – أو على الأقل التي كانت كذلك إلى عهدٍ قريب – فالجزر تقع وسط البحر، والبحر يفصل ويصل، على عكس الصحراء التي تفصل بين الحضارات.
سأبيّن المقصود في ما يلي، وأنا أحذّر مسبقًا: من الناس من يحبّذ الخيالي، والميتافيزيقي، وألعاب المرايا. أما أنا، فلا أستطيع المساهمة إلا في كل ما كان موضوعه عقلانيًّا وقابلًا للاستدلال.
لأشرح.
«اليونيسكو» والفهم المادي للتراث الثقافي
تُعنى أدبيات «اليونيسكو» بحماية التراث الثقافي، وتدور حوله العديد من الاتفاقيات الدولية. تاريخيًّا، بدأ الحديث عن الملكية الثقافية التي تمثل فرعًا من التراث بمعناه العام. وفي هذا النطاق، تشير «الملكية الثقافية» (Cultural property) إلى نوعٍ محدّدٍ من الملكية التي تعزّز الهوية، والتفهّم، وتقدير الثقافة التي أنتجت هذه الملكية بالتحديد.
وقد كان تعبير «الملكية الثقافية» أكثر المصطلحات شيوعًا في الأدبيات القانونية، إذ كان يستخدم في معرض رد الفعل الدفاعي على تدمير الأشياء والمباني الواقعة في مناطق النزاعات المسلحة، كما كانت الحال عليه إبّان الحرب العالمية الأولى. إلا أن هذا المصطلح سرعان ما أصبح قاصرًا عن التعبير عن نطاق الحماية المطلوب، لأنه فشل في احتواء القيمة غير الماديّة للثقافة من حيث إنه كان ينصبّ على الحيازة الماديّة وحدها.
في عام ١٩٩٥ صدر عن اللجنة العالمية للثقافة والتنمية (World Commission on Culture and Development - WCCD) تقريرٌ بعنوان «تنوعّنا الخلّاق» (Our Creative Diversity)3، أشار إلى هذا الجانب من عدم التوازن عندما أورد أن الأشياء المادية– أي المباني الأثرية الكبرى والأعمال الفنية والحرفية – كانت المستفيد الأول من مفهوم المحافظة على التراث. كما جاء في هذا التقرير أن نشاطات «اليونيسكو» لتحديد المقاييس المعيارية قد ظلت تركز على حماية التراث الملموس على مدى أربعة عقود تقريبًا.4
وبذلك، أصبح هناك إدراكٌ بأن النظام القانوني الدولي لحماية التراث الثقافي العالمي لا يرى إلا التراث الملموس، ويسبغ الحماية عليه وحده، حارمًا عداه من الصور الأخرى للتراث من مظلة الحماية.
اتساع عدسة «اليونيسكو»
بانتصاف القرن العشرين، تغيّر الأمر من قصر الثقافة على الفنون والآداب وما يتصل بهما، ليتجاوزها إلى التوسعة من نسقها واعتبارها أسلوبًا متكاملًا في العيش ومنظورًا إلى الوجود. لقد أصبحت الإشارات العامة الدولية لموضوعات الثقافة تشمل الأدب والفنون الموسيقى والرقص والمسرح والتشكيل والشِعر والآثار والتاريخ والدراسات المجتمعية وعداها. دخل إلى الحياة الفكرية والثقافية مفهومٌ جديدٌ للثقافة، أوسع أفقًا وأكثر شمولًا. إن نظرةً إلى تنوّع أوجه هذا المفهوم الجديد وخصوبته تكشف عن منظور متطوّر، يرى أن الثقافة لا تتعلّق بالقراءة والكتابة فتنحصر في أوساط الدارسين من النخبة الاجتماعية، إنما تتجاوزهما إلى كل مَن له علاقةٌ باكتناز التجارب والوعي بنتائجها، الأمر الذي يعني أنّ الثقافة لغير الدارسين من شرائحٍ كالمزارعين والحرفيين والعمّال وعداهم من الأميّين الواعين لثقافاتهم التي يبدعون بها ويمارسون فنونهم من خلالها وينقلونها إلى أجيالهم الجديدة، فهي بذلك جديرةٌ بالاحترام والحماية أيضًا.5
وهكذا، فالثقافة – وفق هذا المنظور الإنساني – هي «منظومة من السمات التي تسم جماعاتٍ من الجماعات البشرية، تتجلى فيها طريقة هذه الجماعة في الحياة، وتتحدّد أنساقها القيَمية والمعتقدية والمعرفية والجمالية، التي تُعبّر عن نظرتها للوجود الاجتماعي والطبيعي».6 بذلك، فهذا يشمل الطيف الواسع من الممارسات والمعارف والعادات والقيم والأساليب الاقتصادية للعمل والإنتاج، بالإضافة إلى كل ما قد يُزاد على ذلك من قدراتٍ مكتسبةٍ ينقلها المجتمع إلى أفراده.
من هنا، فخلال السنوات الأخيرة أصبح مصطلح التراث الثقافي (cultural heritage) أكثر ذيوعًا، برغم أنه لم يكن خاليًا من المشكلات أيضًا.7 وتتضمن اتفاقية «اليونيسكو» لحماية التراث الثقافي والطبيعي ١٩٧٢ (UNESCO Convention Concerning the Protection of the World Cultural and Natural Heritage)8 أول إشارةٍ يتم فيها إيراد تعريفٍ للتراث الثقافي، إذ ورد فيها أنه يتمثل في الصروح والمباني والمواقع «التي لها قيمةٌ عالميةٌ استثنائيةٌ من وجهة النظر التاريخية أو الجمالية، أو الإثنولوجية، أو الأنثروبولوجية».9 الأمر الذي يعني أنه على الرغم من أن الاتفاقية قد قصرت حمايتها على ما هو مادّي فقط، إلا أنها ربطت قيمته المادية بالتصورات غير الماديّة عنه.
وتدريجيًّا، بدأ الاعتداد بالجوانب غير المادية للثقافة، إلى أن أخذت «اليونيسكو» موقفًا واضحًا في أدبياتها وممارساتها الحمائية، فبادرت إلى إطلاق منظومة «الكنوز الإنسانية الحية» (World Treasures) عام ١٩٩٣10، وأتبعت ذلك بـ«إعلان روائع تراث الإنسانية الشفهي وغير المادي» (Proclamation of the Masterpieces of the Oral and Intangible Heritage of Humanity) الصادر عام ١٩٩٨، ثم توّجت هذه الجهود بإصدار «اتفاقية بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي» عام ٢٠٠٣ (Convention for the Safeguarding of the Intangible Cultural Heritage)، التي مثلت قفزة حقيقية في مجال الاعتراف بالتراث الثقافي غير المادّي وحمايته، واعتبار عناصره – بما هي تقاليد ثقافية حيّة ومستمرة – جديرة بالتقدير والاعتبار.11
بين التراث الثقافي المادّي وغير المادّي
على الرغم من التطور الذي لحق بمفهوم «التراث الثقافي» كما تَقدم، إلا أن اعتبارات العولمة والتداخل الحضاري الواسع والمعقّد الذي وضع بصمته على القرن العشرين ومنه إلى الواحد والعشرين (نظم استعمار، حركات تحرّر، تعاون دولي، وسائل مواصلات واتصالات، حركة نشر، إعلام وعداها)، أدت جميعها إلى تثاقفٍ واضحٍ، سرّع – في جانبيه السلبي والإيجابي معًا – في المضيّ بفكرة التراث إلى مدًى أبعد من التعريف السابق، فأصبح للتراث معنًى عالميّ الآن، كما صار يُسبغ قيمةً خاصةً على جماعاتٍ ثقافيةٍ معيّنة.
لقد صار تعبير «التراث» يشير – بشكلٍ أوسع – ليس فقط إلى المواقع والأشياء، وإنما يتجاوزه إلى القيمة المُدمَجة في هذه الأشياء والتي تضفي عليها جملةٌ من الاعتقادات المعاصرة والممارسات الحيّة، من تلك المقرّر لها أن تنتقل إلى الأجيال المستقبلية. وهكذا، صار مفهوم «التراث الثقافي» يتألف الآن من المواقع والمواد وعناصر القيمة التي أُسبغت عليها، وإن كان ذلك من خلال أهميتها لجماعاتٍ معيّنةٍ من البشر.12
وهنا، تجدر الإشارة إلى الطبيعة المزدوجة للتراث الثقافي كما صار يُنظر إليه الآن، فعلماء الاجتماع كثيرًا ما يصنّفون هذا التراث بأنه إما «ثراث مادّي» (tangible) أو «تراث غير مادّي» (intangible):
لقد صار مصطلح «التراث الثقافي المادّي» (tangible cultural heritage) يشير إلى الملكية الثقافيّة المشار إليها في ما تقدّم، والتي تتكون من الأموال العقارية والمنقولة من التراث الثقافيّ، أي الأشياء التي تتمثل بهيئة مواقع ونُصُب ومعالم وعداها ممّا يمكن التعاطي معه من خلال حاسَّتي النظر أو/ واللمس (أي رؤيتها بصريًّا أو لمسها يدويًّا).
وعلى خلاف ذلك، فإن التراث الثقافي غير المادّي (intangible cultural heritage) هو مجموعة العادات والمعتقدات والطقوس والممارسات والتصورات والقيم ذات الارتباط بجماعة بشريّة معيّنة، بما يعني أنه ينصبّ على الموضوعات ذات الطبيعة الذهنية أو الوجدانية. وبذلك، فإن التراث الثقافي غير المادي هو أمرٌ يمكن مشاهدته أو ممارسته، ولكن لا يمكن لمسه باليد، ومن هنا جاء وصفه بأنه «غير مادّي» أو «غير ملموس» أو «معنوي».
في الحقيقة، إن هذين أمران لا يمكن الفصل بينهما، «فالتراث لا يكون تراثًا إلا إذا صار يمكن التعرّف إليه من خلال منظومة من القيم الثقافيّة أو الاجتماعيّة، هي بحد ذاتها لها طبيعةٌ غير مادية».13 وبذلك، فإن ثنائية جانبي التراث الثقافي – أي الجانب المادّي والجانب غير المادّي – هي سِمةٌ مدمجة في التراث لا تسمح بالعزل بين الاثنين، فهما يغذّيان بعضها البعض.
لقد كان الأركيولوجي الشهير Folorunso يؤكد أن التراث المادّي لا يعني شيئًا من دون اعتبارٍ إلى ما يرتبط به من قيم ثقافيّة، فالمادّي لا يستمد قيمته إلا من غير المادّي، فيعمل الأوّل كوسيطٍ ملموسٍ يكشف الثاني عن نفسه من خلاله.14
أيًّا كان الأمر، فإن عناصر التراث الثقافي غير المادي – كما استقرّت عليها صكوك «اليونيسكو» وأدبياتها حاليًّا – تتمثّل في التقاليد واللغات وعداها من أشكال التعبير الشفاهي، فنون أداء العروض وتقاليدها، الممارسات الاجتماعية والاحتفالات والطقوس، المعارف والممارسات ذات العلاقة بالطبيعة وبالكون، والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
ما علاقة كلّ ذلك بحظور فيلكا؟
بصفتها عضوًا في منظمة الأمم المتحدة، ومن ثم عضوًا في الأجهزة التابعة لها ومن ضمنها «اليونيسكو»، صدّقت الكويت على العديد من اتفاقيات هذه المنظمة.15 وتبسط هذه الاتفاقيات – في مجموعها – مظلةً واسعةً من الحماية تكاد تشمل كل ما في الآن في جزيرة فيلكا من التراث المادّي وغير المادّي:
أولًا، إن جزيرة فيلكا مليئة بعناصر التراث الثقافي المادّي التي تغطيها «اتفاقية اليونيسكو لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي» ١٩٧٢(Convention concerning the Protection of the World Cultural and Natural Heritage)، والتي، في الفقرة الثالثة من المادة ١ منها، تناولت بالحماية «أعمال الإنسان، أو الأعمال المشتركة بين الإنسان والطبيعة، وكذلك المناطق بما فيها المواقع الأثرية، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة النظر التاريخية أو الجمالية، أو الإثنولوجية16، أو الأنثروبولوجية».17 وهكذا، فإن طيف الحماية واسع18، ولا شك أن ما في الجزيرة من مواقعٍ وهياكلٍ وقطعٍ أثريةٍ يندرج تحت هذه الاتفاقية، وتوجد في متحف الكويت الوطني الكثير من الشواهد الأثرية على ذلك.
ثانيًا، في فيلكا ممتلكاتٌ ثقافيةٌ ماديّةٌ مغمورة بالمياه، تعود لعصور ما قبل الإسلام، على شكل مصائد حجريّة للأسماك (وقد سبق أن وثّقت البعثة الآركيولوجية البولندية هذه المصائد في الجزيرة19؛ التي ربما مثلت النموذج البدائيّ الأول للحظرة)، وهي مما تنطبق عليها الحماية المقرّرة في اتفاقية «اليونيسكو» بشأن الممتلكات الثقافية المغمورة بالمياه لعام ٢٠٠١ باعتبارها جزءًا من التاريخ الإنسانيّ لا شكّ فيه، إذ عرّفت المادة ١ من الاتفاقية «التراث الثقافي المغمور بالمياه» بأنه «جميع آثار الوجود الإنساني التي تتسم بطابع ثقافي وتاريخي أو أثري، والتي ظلت مغمورة بالمياه جزئيًّا أو كليًّا، بصورة دورية أو متواصلة، لمدة مئة عام على الأقل...». ولا شك أن الحكومية الكويتية قد أبدت اهتمامًا خاصًّا بالموضوع، ففي اجتماع لجنة الشؤون الخارجية المنعقد لمناقشة مشروع القانون بالموافقة على هذه الاتفاقية، أبدت الحكومة الرأي التالي:
«إن الاتفاقية – وقد تمّت إحالتها إلى المجلس بالمرسوم المشار إليه – تكون قد جاءت بعد دراساتٍ أكّدت أهمية التوقيع عليها من دولة الكويت كعضوٍ فاعلٍ في الأمم المتحدة، خاصةً وأن دولة الكويت تعد إحدى الدول التي تذخر بمساحات كبيرة من البحر الإقليمي المتمثل في الخليج، الأمر الذي يتطلّب المحافظة على تراثها البحري المغمور بالمياه، مع مشاركة الدول الأخرى ذات العلاقة في هذا الخصوص، بما يحقق المصالح العليا لدولة الكويت عن المستويين الإقليمي والدولي».20
ثالثًا، في الجزيرة حظور خشبية تقليدية لصيد السمك (وهي ليست كثيرة، عددها حوالي ست أو سبع في ما أظن)، وبعضها له من العمر ما يجاوز المئة عامٍ بكثير (إذ تُجدّد الحظرة باستمرار لأن المياه المالحة تؤدي إلى تآكلها بمرور الزمن). فصيد الأسماك وما يدور في فلكه من حرفٍ موازيةٍ ممارساتٌ قديمةٌ في فيلكا – فغالبية الأهالي «كانوا يعملون في صيد الأسماك»21 – إلا أن مهارة تشييد الحظور ما زالت تُمارس، بما يعني أنها تصنَّف كتراث ثقافي حيّ. نتيجة لذلك، فإن هذه الحظور – بما يرتبط بها من معارف وممارسات حيّة – تصلح محلًّا للحماية التي تسبغها اتفاقية «اليونيسكو» بموجب حماية التراث الثقافي غير المادّي للعام ٢٠٠٣، حيث ورد في المادة ٢ من الاتفاقية أن عبارة «التراث الثقافي غير المادي» تعني «الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات – وما يرتبط بها من آلاتٍ وقطعٍ ومصنوعاتٍ وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءًا من تراثها الثقافيّ».22
تهجير أهالي الجزيرة
بل إن قرار إزالة الحظور هو مما ينبغي دراسته أيضًا ضمن نطاق اتفاقية الـ«يونيسكو» لحماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي لعام ٢٠٠٥، التي تقرر المادة ٨ منها أنه «يجوز لأيّ طرفٍ تحديد ما إذا كانت هناك أوضاعٌ خاصةٌ تكون فيها أشكال التعبير الثقافي الموجودة على أراضيه معرّضة لخطر الاندثار أو لتهديدٍ خطيرٍ أو تتطلّب بصورةٍ ما صونًا عاجلًا»، إذ عندها «يجوز للأطراف أن تتخذ جميع التدابير الملائمة لحماية وصون أشكال التعبير الثقافي في الأوضاع المشار إليها في الفقرة ١ طبقًا لأحكام هذه الاتفاقية».
وبطبيعة الحال، فإن «التنوع الثقافي» قد تم تعريفه في هذه الاتفاقية بأنه يعني «تعدّد الأشكال التي تعبّر بها الجماعات والمجتمعات عن ثقافاتها...».23 كما عرّفت الاتفاقية «أشكال التعبير الثقافي» بأنها «أشكال التعبير الناشئة عن إبداع الأفراد والجماعات والمجتمعات والحاملة لمضمون ثقافي»،24 وهذه تتعلق بـ«الأنشطة والسلع والخدمات التي يتبيّن، لدى النظر في صفتها أو أوجه استعمالها أو غايتها المحددة، أنها تجسّد أو تنقل أشكالًا للتعبير الثقافي، بصرف النظر عن قيمتها التجارية».25
وفي الحقيقة، فإن فنون صناعة الحظور الخشبية، وإلى جانبها صناعة القراقير وأدوات صيد السمك وطرق تجفيفها، ووسائل تخزينها والحلويات التقليدية والخبز والعادات والتقاليد في مناسبات الزواج والمولد والوفاة والأعياد والمعتقدات المرتبطة بالطبيعة والشعر والأهازيج ومفردات اللهجة المحلية لأهالي فيلكا هي جميعها مما يندرج ضمن إطار اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي ٢٠٠٣.26
ومن أسفٍ أنه نظرًا للقرارات الحكومية السابقة والقاضية بإجلاء أهالي فيلكا وتوطينهم في الكويت، والتي أدّت إلى إخلاء الجزيرة من أهلها، فقد فقدت فيلكا تراثها الثقافي غير المادّي – المكوّن من هذه العناصر وعداها – برمّته، لأن مجتمع الجزيرة قد هُجّر بالكامل، فلم يبقَ أحدٌ من الأهالي موجودًا فيها لممارسة هذه العناصر المذكورة.
ما المطلوب؟
من جميع ما تقدّم، يقع على الحكومة واجبٌ مختلفٌ تمامًا عمّا هي بصدد عمله، بل ومضادٌّ له: إن الالتزام الحقيقي للحكومة يتمثّل في حماية حظور جزيرة فيلكا، لا في إزالتها. يُقال إن هذه الحظور لا ترخيص لها فهي بالتالي مخالفة، وإن هناك قرارًا حكوميًّا قديمًا بإزالتها. وأنا، برغم بحثي، لم أرَ هذا القرار فلا أعرف مضمونه، ولا أعلم لماذا لم تتم الإزالة في السابق، ولكن إن كان ما نسمعه من وجوده صحيحًا فالأَولى الآن هو إصدار قرارٍ جديدٍ بحماية هذه الحظور،27 وتعهّدها بالصون والرعاية اللذين تشير إليهما الاتفاقيات موضوع المقال، باعتبار أنها اتفاقياتٌ ملزمةٌ للكويت.
إن المادة ٧٠ من الدستور الكويتي تعطي السلطة التنفيذية سلطة إبرام المعاهدات شريطة عرضها على مجلس الأمّة لاحقًا بحيث يقوم بالموافقة عليها، باعتباره السلطة التشريعية، وإصدارها كقانون. وفي ما يتعلق باتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي للعام ٢٠٠٣ المشار إليها أعلاه، فقد كان في موقف الحكومة المتمثل في التوقيع على هذه الاتفاقية ثم سعيها إلى استصدار قانونٍ داعمٍ لذلك من مجلس الأمّة حرصٌ واضح على اعتبارات الالتزام.28
أما الجدل حول مدى انطباق هذه النصوص على الحظور تحديدًا فهو مسألة يمكن النقاش فيها لا شك، بل ربما كان ذلك مُحبّذًا لأغراض التداول الصحّي للأمر، لكنّ عقدة النقاش هنا هي أن هذه زاويةٌ هامةٌ تصلح مدخلًا للفت النظر إلى خطورة مثل هذه الخطوات المستعجلة ولرفع آفاق النقاش حول أبعاد نظرتنا القيمية لهذه الجزيرة.
ومع ذلك، فإن كل هذا لا جدوى حقيقيّة تُرتجى منه ما لم يُعهد بالأمر فيه إلى الجهة الإدارية المعنيّة ابتداءً، فينعقد الاختصاص لها دون سواها. إذ من اللافت حقًا أن قرار مجلس الوزراء قد خاطب في هذا الشأن كلًّا من الهيئة العامة لشؤون الزراعة والثروة السمكية والهيئة العامّة للبيئة وبلدية الكويت ووزارة المالية، ولكنه أغفل الطرف الأصيل المناط به تحديد الشروط الفنيّة لما يُعتبر من الآثار محلّ الحماية وما لا يُعتبر منها، وهذا الطرف هنا هو دائرة المعارف في البلاد – بموجب المادّة ٢ من المرسوم الأميري رقم ١١ لسنة ١٩٦٠ بقانون الآثار – التي تم تغييرها فيه إلى المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، حيث تناط بهذا الأخير وحده مهمة تقدير الصفة الأثريّة والتاريخيّة للأشياء والمواقع والمباني، ثم تقرير مدى الحاجة إلى تسجيلها وصيانتها29، باعتبار أن العمل «على صيانة التراث» هو واحدٌ من أهم المهامّ التي عهد بها إليه مرسوم إنشائه.30
«عقيدة الخرسانة»
في الحقيقة، وبرغم شبكة الالتزامات هذه خارجيًّا (اتفاقيات) وداخليًّا (قوانين)، أتساءل: هل يتطلّب الأمر فعلًا الدخول في معاهداتٍ دوليةٍ وإصدار تشريعاتٍ وطنيةٍ كي نعي أهمية الحفاظ على (القليل جدًّا) ممّا تبقّى من شواهد تاريخنا الكويتي؟
إن حقبة الخمسينيات التي أتت على كل ما هو تاريخي وأثريٌّ ليست بعيدة عنا، وهي ما زالت تشغل في الذاكرة الكويتية خانةً استثنائية خاصة، تملؤها فترة الطفرة التي تمّ فيها الانتقال الحادّ من مرحلة اقتصاد الكفاف (التي ما زلت أعتقد أنه لم يُؤرّخ لها كما ينبغي) إلى مرحلة اقتصاد البترول، بثمنِ فادحٍ حُسم من تاريخنا، تمثّل في شراء الحاضر بالماضي بعملة باهظة القيمة، هي مسح المشهد العمراني الكويتي القديم بأكمله وتسويته بالأرض تمامًا. أما القليل مما نراه حولنا من آثارٍ معماريةٍ تعود إلى الكويت القديمة، فإن الفضل في الإبقاء عليه ربما كان لا يُنسب إلى رؤىً سياساتيةٍ أو استشرافاتٍ حكوميةٍ بقدْر ما يعود إلى مساعٍ فرديةٍ قصدت، لحسن حظنا التاريخي، إلى الإبقاء على بعض المعالم – لدوافع لا نعرف (ولا يهمّ) ما إذا كانت متجرّدة أو مصلحيّة – بقدر ما ينبغي أن نسجّل أنها، برغم امتناننا، متناثرة وخاليةٌ من المنهجية: ديوانٌ عائلي هنا و«عَمارةٌ» بحريةٌ هناك.31
ولعلّ في شهادات المعماريين – العرب منهم والأجانب – الذين عملوا في الكويت آنذاك، فعاصروا فترة التحوّل تلك، منظورًا لافتًا لهذا الميل الكويتي غير المفهوم إلى الهدم والإحلال العَجِلَيْن. ففي عام ١٩٦٣، كتب المعماري جورج سابا شبر:
«إذا ما راقب المرء عن كثب أعمال التنظيم في الكويت فإنه سيدهش فعلًا – إن لم يذهل – للسرعة التي يتم بها البناء هنا. فما أن يتم إعداد المخططات المعنية حتى تكون أعمال الهدم والإنشاء قد بدأت فورًا، إذ يرسم المهندس شكلًا على الورق ولا يمضي أكثر من أسبوعين حتى يرى، وهو في طائرة هليكوبتر، الخطوط التي رسمها وقد تحوّلت إلى أساسات للبناء أو ساحات وميادين ويرى البنايات في ارتفاع. إن مدينة الكويت تتطور باستمرار وتجري فيها عملية تحوّل سريع».32
إلا أنني أجد أن واحدةً من أكثر تلك الشهادات إثارةً للاهتمام هي شهادة المهندس السويسري جون هنري ميلر (John Henri Miller) الذي جاء إلى الكويت عام ١٩٥٨ ليعمل في شركة «بومروي» الأميركية التي عهد إليها ببناء ميناء الشويخ. في ما يلي تعليق ميلر الذي أدهشه ما شهِده خلال مرحلة التحديث العمراني المحموم التي مرّت بها الكويت آنذاك:
«هات الجرافة! اهدم! انسف الأسوار! أفسح المكان لمدينة جديدة... للتقدّم... طرقٌ مزدوجة الاتجاه لا بدّ من أن تُشق هنا... مواقف سيارات... أما أماكن تجمّع القوافل، البيوت الأرستقراطية، مساجد، مدارس قرآنية، فبُعدًا لكل ذلك، بُعدًا لتلك الخرائب! نريد حديدًا وإسمنتًا! أبوابًا ونوافذَ معدنية. نريد طابوقًا! اخلط خرسانة... المزيد من الخرسانة ... خرسانة».33
أخيرًا، ها قد وضعنا أيدينا على تلك النقطة الحزينة من الزمن التي اعتنق فيها الكويتيون تلك العقيدة المعمارية البائسة: عقيدة الخرسانة.
ولكن يبدو أن الأمر لم يكن محض سمةٍ مميزةٍ لتلك المرحلة فقط. كنت في زيارةٍ إلى جزيرة فيلكا منذ بضعة أسابيع، وعندما تمرّ في ذهني صور الخراب الحزينة التي رأيتها هناك، ثم أضيف لهذه الصور المؤلمة تلك المنهجيّة الحكوميّة القاسية في التعاطي مع بيوت تلك الجزيرة ومعالمها القديمة، وقبلها العديد من المباني التاريخيّة داخل الكويت العاصمة (كان آخرها مسجد الشملان الذي تم هدمه أخيرًا برغم المناشدات، وبيت لوذان الذي دُرِست آثاره فمُحيت تمامًا بإغفالٍ تامّ للاحتجاجات، وما تتهامس به بعض الدوائر الحكومية الآن من وجود خطةٍ لا يعرف عنها الناس بعد من اعتزام هدم المدرسة القبليّة للبنات – هذا المبنى الجميل الذي درست فيه والدتي ضمن أجيالٍ رائدةٍ من فضليات الكويت – والذي كان الصرح الأول للتعليم النظامي الحديث في البلاد)، عندما أستجمع كل ذلك، فأنا لا أملك إلا الشعور بأن عقيدة الخرسانة هذه ما زالت مستقرّة في عقلنا الجمعيّ بعنادٍ أسطوري.
وأنا، مهما حاولت، يستغلق عليّ دائمًا فهمُ ما يشوب سلوكنا من تناقض:
كل هذا الاستحضار للماضي في خطابنا العام، مقابل كل هذا العداء لشواهِده في سلوكنا العمليّ؟ أجد في الأوّل تطرفًا وفي الثاني تطرفًا نظيرًا، والاثنان مدعاة للأسى.
أستحضر كل ذلك، وألتفت إلى مفارقةٍ أخرى، لكنها حديثةٌ هذه المرة، تتمثّل في كون الكويت قد فازت عام ٢٠١٥ بمقعدٍ في لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الـ«يونيسكو» لمدة أربع سنوات، ما يعني أن عضويتها في هذه اللجنة مستمرّة حتى عام ٢٠١٩ (بل إن الكويت هي نائب رئيس اللجنة حاليًّا).34
ألا يضاعف هذا من وجوب إظهار شكلٍ مسؤول من الالتزام الجادّ في هذا الصدد؟
الذاكرة الكويتية
بين أوراقي المتناثرة، أذكر أنني نقلت بخطّ اليد – منذ سنين وبالقلم الرصاص – ما كتبه إدوارد سعيد مرة، لا أعرف أين، عن الذاكرة المتشظّية للعالم العربي. أورده هنا لأنني أجد أنه ينطبق على نهجنا الكويتي في التعاطي الفوضوي مع التاريخ:
«... ذلك الجزء الكبير من حياتنا في تلك البقعة من العالم الذي ينقضي من دون تسجيل أو حفظ... ولا يقتصر هذا النقص على حياة وإعمال الأفراد، لأن كل البلاد العربية التي أعرف لا تملك دوائر حقيقية للمحفوظات أو مكاتب للسجلات العامة أو مكتبات رسمية، كما ليست لها سيطرة كافية على معالمها وآثارها وتواريخ مدنها والأعمال الفنية المعمارية فيها مثل الجوامع والقصور والمدارس... نشعر أن تاريخًا متدفقًا غنيًا يبقى خارج الصفحة، بعيدًا عن الأعين والمسامع، بعيداً عن التناول، حيث يتعرض أكثره للضياع ... ذلك أن معظم تاريخنا من كتابة الأجانب والباحثين الزائرين وعملاء الاستخبارات، فيما نكتفي بالعيش معتمدين في تقدّمنا نحو المستقبل على ذاكرةٍ شخصيةٍ وعامةٍ يعتريهما الغموض والاضطراب».
صحيحٌ ما كتب سعيد، لكنه ناقص. فعندما يتعلق الأمر بالحالة الكويتية، فالفداحة أكبر لأنها متعمّدة. أنا، مثلًا، مواطنة كويتية في الأربعينيات من عمري. ورغم أنني أنتمي إلى الكويت، هذا البلد الصغير الذي لا تزيد مساحته على ١٧ ألف كيلومتر مربّع، إلا أنني لم أزر أيًا من جزره من قبل، إلا فيلكا، لمرةٍ واحدة، ولنصف يوم، عندما كنت في المرحلة الابتدائية (ما زلت أذكر حماسي لزيارة هذه الجزيرة التي ما كنت أعرف عنها إلا صورها على طوابع البريد). كان ينبغي أن يكون ذلك الاطمئنان المتراخي جزءًا من حقوق المواطَنَة خاصتي، «ففيلكا ستكون دائمًا هناك»، كما كانوا يقولون لي، وفقًا لمنطق الديمومة الإقليمي. ولكن الآن، مع كل هذه الخطط المحمومة التي تجري على قدمٍ وساق، والرامية إلى مسح الجزيرة ومساواة كلّ ما عليها بالأرض – بما في ذلك حتى حظورها الوادعة – فأغلب الظن أن فيلكا «لن تكون هناك» بعد اليوم. وهكذا، فالأمر ما عاد يتعلّق بذاكرةٍ متشظِية – فالذاكرة الموجودة يمكن دائمًا استرجاعها وتركيبها، وإن تشظّت – وإنما إلغاء هذه الذاكرة فقدان تام لها.
يبدو أننا بصدد الدخول المتأخّر في السباقات المحمومة بين دول الخليج المتنافسة على بناء أعلى الأبراج، أكبر البحيرات، وأفخم الفنادق. أن تبني مرفقاتٍ (كان ينبغي أن تبنيها منذ عقود) فلا بأس؛ عافاك. ولكن أن يأخذك الحماس العَجِل في معرض ذلك، فتمسح كل ما هو أمامك من معمارٍ وذاكرةٍ وتاريخٍ، فهو أمرٌ يبعث على الحزن.
عندما تنحدر المواقف العامة حسنة النيّة وغير المتبصّرة إلى درك الخطأ الفاحش، يحضرني دائماً الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة إذ قال «كنا نحن الأعداء/ كنا غزاة مدينتنا».
الدور الحقيقي للحكومة
في كتابه الهام والممتع «الكويت وجاراتها»، كتب هارولد ديكسون، الوكيل السياسي لبريطانيا العظمى في الكويت في الفترة الممتدة من ١٩٢٩ إلى ١٩٣٦، عن جزيرة «فيلجه» كما سمّاها:35
«وأغلبية سكان الجزيرة يؤمنون بوجود شيطان شرير يدعى بودريا، الذي يُقال إنه يجوب البحر حول الجزيرة، وخاصة بينها وبين مسجان، فيستدرج من لا حمى لهم إلى الأعماق ويُغرقهم».36
كان المسؤولون «يقطّبون جباههم» انزعاجًا من هذه الخرافات، كما يستدرك الكاتب. أما أنا، فلا أدري ما إذا كانت هذه محض أسطورة، إذ أجد أن هذا الشيطان الذي أشار له ديكسون ما زال يجوب البحر – بهَوَس – حول هذه الجزيرة الجميلة، المسكينة؛ كل ما في الأمر أنه صار يأخذ الآن أشكالًا أخرى مُخاتلة، ولكنها تظهر للمتأمّل – بوضوح – على صورة نزعاتٍ استثماريةٍ محمومة، مأخوذة بالربح وحده، فلا ترى في ما يُحيط بنا إلا فرصًا ماليةً وعوائد تجاريّة، ثم تعمى عن كل ما عداها.
ليس في ما تقدّم دعوة إلى وقف تطوير الجزيرة. الأمر على العكس من ذلك تمامًا. فالتطوير مطلبٌ قديمٌ ومستمرٌ، بل هو تأخّر كثيرًا. لكنها بالتأكيد دعوة للاضّطلاع الجاد بالمسؤوليات التي ترتبط بذلك، كما يليق بدولةٍ ذات وعي حضاريٍ بتاريخها. فقد تكون جزيرة فيلكا أكثر بقعةٍ مثقلةٍ بالتاريخ في كامل جغرافيّة بلادنا. هذا يعني أن كل ما في هذه الجزيرة، وما عليها، وما حولها يتطلب عنايةً خاصة، تتضافر فيها اعتبارات رسم السياسات العامة وصيانة الآثار والحفاظ على الهوية الوطنية ودعم الاقتصاد والحفاظ على الأمن. المهمة ليست سهلة، لكن الحكومات ما وُجِدَت إلا لمثل هذه التحديات.
بعد عقودٍ طويلةٍ من الإهمال، من المُعيب حقًّا ألّا يكون الالتفات إلى الجزيرة إلا بمنظور المال وحده. بل إنّ منظور المال ذاته يتطلب شيئًا من الخيال وسعة الأفق. تعي الدول الآن أهمية الالتفات إلى الآثار وحمايتها باهتمام، لا لاقتناعٍ سياسييها بالاعتبارات التاريخية والحضارية بالضرورة، إنما لإدراكٍ واعٍ منهم بأن مثل هذه المواقع هي عاملٌ استثماريٌّ حرج ومُدرّ للأموال إذا ما استُثمِر بحصافة.
هناك الآن ما يعرف بـ«الاقتصاد الخلّاق» (creative economy)، وهو علمٌ استُغلت فنونه أخيرًا – بذكاء – من قبل دولٍ صاعدةٍ عديدة، مثل أذربيجان وكرواتيا وجنوب أفريقيا والبحرين وقطر، للاستفادة من التراث الثقافي والاستثمار المالي فيه – مع حمايته في الوقت نفسه– بما يدرّ العوائد الوفيرة، والأمثلة كثيرة.
وبعد، فهذه الحظور تمثّل مدخلًا هامًّا للنقاش حول رؤيتنا لتطوير هذه الجزيرة التي تمثل ذاكرتنا الأبعد: ربما صار ينبغي أن نتعاطى مع حظــور فيلكا باعتبارها سياجًا حاميًا لتاريخنا.
الأمر لا يتطلب حكومةً بميزانياتٍ بتروليّة ومؤسّساتٍ بأحجام ماموثية للنجاح في جني الأموال من مشروعاتٍ ذات جوهرٍ ساذجٍ – وإن تعقّدت آليات إدارتها – كالمطاعم والمنتجعات والفنادق ومراكز التسوّق، فحتى شبابنا الصغار من رياديّي الأعمال ينجحون في ذلك هنا يوميًّا.
التحدي الحقيقي هو إدراك أن دور الحكومات أعمق من مجرد تحصيل الأموال.
أو هكذا ينبغي أن يكون.
- 1. جيس = قيس، أي: قِسْ (من قياس).
- 2. حمد محمد السعيدان، الموسوعة الكويتية المختصرة - الجزء الأول (الكويت: وكالة المطبوعات للنشر، ١٩٨١)، ص. ٤٤٧-٤٤٨.
- 3. ‘Our Creative Diversity’, Report of the World Commission on Culture and Development – WCCD, 1995.
- 4. عبد الحميد حواس، «التراث الثقافي غير المادي في الوطن العربي من منظور عربي»، المجلة العربية للثقافة (تونس)، العدد ٥٢، المجلد ٢٦، ص. ١٢١.
- 5. عبد الحميد حواس، «التراث الثقافي غير المادي في الوطن العربي من منظور عربي»، المجلة العربية للثقافة (تونس)، العدد ٥٢، المجلد ٢٦، ص. ١٢٢.
- 6. المرجع نفسه.
- 7. كلمة «تراث» هي المصطلح الذي تواضعت الترجمات العربية لصكوك «يونيسكو» على اعتمادها كمقابلٍ لكلمة (Heritage) حيثما وردت في تلك الصكوك.
- 8. دخلت هذه الاتفاقية حيّز النفاذ في ١٧ ديسمبر/كانون الأول ١٩٧٥، وصدّقت عليها دولة الكويت في ٦ يونيو/حزيران ٢٠٠٢.
- 9. Art. 1 para. 3 of the Convention concerning the Protection of the World Cultural and Natural Heritage (adopted by the General Conference of UNESCO in 1972): “sites: works of man or the combined works of nature and man, and areas including archaeological sites which are of outstanding universal value from the historical, aesthetic, ethnological or anthropological point of view”.
- 10. لبعض الدول سجلّ ممتاز في هذا الصدد من حيث إبداء الحماس لتطبيقه وخلق البنية اللازمة لإنجاحه من تسجيلٍ ونظم وتشريع، لعل منها اليابان وكوريا الجنوبية وفرنسا ورومانيا ومالي.
- 11. على الرغم من كونها قد قصرت فهمها في ما يبدو ضمن الحدود الضيقة للتراث الشعبي (الفولكلور)، إلا أن الأوساط المعنيّة في البلاد العربية قد استقبلت اتفاقية عام ٢٠٠٣ بترحابٍ طيّب، و بادر كثيرٌ منها في تنفيذ الإجراءات اللازمة لتنفيذها (الجرد، التقييد، الدورات التثقيفية، إصدار التشريعات الحمائية، وعداها). وتلعب «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم»- أليكسو (ALECSO) دورًا معتبرًا في ذلك، وهو دورٌ قديمٌ في الحقيقة، ربما يعود إلى بدايات تكونها كإدارة للثقافة ضمن الهيكل الإداري للجامعة العربية، والذي تطورت منه إلى منظمة عربية.
- 12. في عام ٢٠٠٥ أطلق الاتحاد الأوروبي The Council of Europe اسمًا محددًا على هذه الجماعات، فقد سمّاها «مجتمعات التراث» (heritage communities). انظر: Brittany Neihardt, ‘The Intentional Destruction of Cultural Heritage as a Tool for Ethnocide: The Case of Kuwait’, Georgetown University, Spring 2017, p. 5
- 13. Laurajane Smith & Natsuko Akagawa, ‘Introduction’, in Intangible Heritage, edited by Laurajane Smith and Natsuko Akagawa (New York: Rutledge, 2009), p. 6.
- 14. Caleb Folorunso, ‘Heritage Resources and Armed Conflicts: An African Perspective’, in Cultural Heritage, Ethics, and the Military, edited by Peter G. Stone (Woodbridge: The Boydell Press, 2011), p. 169.
- 15. كان انضمام الكويت إلى منظمة «اليونيسكو» في ١٨ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٠. وتباعًا، صدّقت الكويت على العديد من اتفاقيات هذه المنظمة، وهي في مجملها تهدف إلى صون التراث وحمايته. وهذه الاتفاقيات هي: اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي ١٩٧٢، اتفاقية حماية أنواع التعبير والتشكيل الثقافي (التنوع الثقافي) ٢٠٠٥، اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية خلال النزاع المسلح ١٩٥٤، اتفاقية منع التصدير والاستيراد غير المشروع للممتلكات الثقافية (منع التهريب) ١٩٧٠، اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي ٢٠٠٣، اتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه ٢٠٠١. انظر: وليد حمد السيف، «التشريعات الكويتية لصون التراث الثقافي غير المادي»، ورقة عمل مقدمة للدورة الثالثة لبناء القدرات في مجال التراث الثقافي غير المادي، مسقط، سلطنة عمان، ٨-١٠ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٤.
- 16. الإثنولوجيا (Ethnology) هي الدراسة المقارنة لأوجه الاختلاف والاتفاق بين الحضارات، لاستنباط تعميماتٍ حول أصولها وتطورها وتنوعها. وفي السنوات الأخيرة، أضحى أغلب الموضوعات التي كانت تعالجها الإثنولوجيا تقع ضمن اختصاص علومٍ أخرى، مثل الأنثروبولوجيا. انظر: شاكر مصطفى سليم، قاموس الأنثروبولوجيا (الكويت: جامعة الكويت، ١٩٨١)، ص. ٣٠٤-٣٠٥.
- 17. الأنثربولوجيا (Anthropology) هي علم دراسة الانسان طبيعيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا. والمصطلح منحوت من كلمتين يونانيتين هما Anthropos (إنسان) وLagos (علم)، وتعنيان معًا «علم الانسان». انظر: شاكر مصطفى سليم، قاموس الأنثروبولوجيا (الكويت: جامعة الكويت، ١٩٨١)، ص. ٥٦.
- 18. Art. 1 para. 3 of the Convention concerning the Protection of the World Cultural and Natural Heritage (adopted by the General Conference of UNESCO in 1972): “sites: works of man or the combined works of nature and man, and areas including archaeological sites which are of outstanding universal value from the historical, aesthetic, ethnological or anthropological point of view
- 19. الآركيولوجيا (Archaeology) هو علم الآثار القديمة، وهو يهدف إلى إعادة بناء تاريخ الحضارات السالفة لدراسة تطور الحضارات البشرية. انظر: شاكر مصطفى سليم، قاموس الأنثروبولوجيا (الكويت: جامعة الكويت، ١٩٨١)، ص. ٦٢.
- 20. مجلس الأمة، «التقرير رقم ٢١ للجنة الشؤون الخارجية عن مشروع قانون بالموافقة على اتفاقية بشأن حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه»، ص. ٣ (نظرته اللجنة باجتماعها المنعقد بتاريخ ٦ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٦).
- 21. هـ. ر. ب. ديكسون، الكويت وجاراتها، ط. ٢ (الكويت: صحارى للطباعة والنشر، ١٩٩٠)، ص. ٣٨.
- 22. Art. 1: “For the purposes of this Convention, 1. The “intangible cultural heritage” means the practices, representations, expressions, knowledge, skills – as well as the instruments, objects, artefacts and cultural spaces associated therewith – that communities, groups and, in some cases, individuals recognize as part of their cultural heritage”.
- 23. المادة ٣ من اتفاقية اليونيسكو لحماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي ٢٠٠٥.
- 24. المصدر نفسه.
- 25. المصدر نفسه.
- 26. د. وليد السيف، اتصال شخصي، ٢٨ آذار/ مارس، ٢٠١٨.
- 27. ولا شك أن هذا متاحٌ دائمًا، وذلك بموجب المرسوم بالقانون رقم ٤٦ لسنة ١٩٨٠ في شأن حماية الثروة السمكية، التي تعطي جهة الإدارة سلطة إصدار هذه التراخيص، فقد ورد في المادة ٥ من هذا القانون: «لا يجوز إقامة المصايد البحرية كالحظور والقراقير وغيرها إلا بعد الحصول على ترخيص من الجهة الإدارية المختصة بالثروة السمكية. ويعين في الترخيص موقع المصيدة ومقاساتها وفتحاتها».
- 28. المرسوم رقم ١٧٦ لسنة ٢٠١٤.
- 29. المادة ٢ من المرسوم الأميري رقم ١١ لسنة ١٩٦٠ بقانون الآثار: «تناط مهمة المحافظة على الآثار بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ويعود إلى هذه الوزارة وحدها مسؤولية تقدير الصفة الأثرية والتاريخية للأشياء والمواقع والمباني، والحكم بأهمية كل أثر وتقرير الآثار والواجب تسجيلها وصيانتها ودراستها والانتفاع بها».
- 30. المادة ٢ من المرسوم الأميري بإنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كما نشر في الجريدة الرسمية «الكويت اليوم»، العدد ١٤١، ٢٢ يوليو/نموز ١٩٧٣.
- 31. «العَمارة»، بفتح العين، وجمعها «عماير»، هي مخازن كانت تُبنى على ساحل البحر (السيف) في الكويت القديمة، تُباع فيها لوازم السفن الشراعية، كالأخشاب والمسامير والحبال والزيوت (دهن الصِلْ)، وقد تباع فيها أيضًا أدوات البناء والمعمار كالجندل والباسجيل والحديد وعداها. وقد أزيلت جميع العماير من ساحل البحر في حركة التنظيم المعماري التي مرت فيها الكويت الحديثة حتى لم يبقَ منها الآن إلا واحدة أو اثنتان على حدّ علمي، مثل عمارة الخالد الكائنة في منطقة القبلة، على شارع الخليج مقابل قصر السيف، والتي يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل لبعام ١٩١٥، أي قبيل عهد الشيخ مبارك الصباح (مبارك الكبير).
- 32. سابا جورج شبر، «علم التنظيم وتطوّر الكويت» (الكويت: بلدية الكويت، ١٩٦٣).
- 33. جون هنري ميلر، كاديلاك كوكاكولا، ترجمة محمد بن عصام السبيعي (الكويت: هكسوس للإعلام والنشر، ٢٠٠٩)، ص. ٦١.
- 34. تم انتخاب الكويت بالإجماع لمقعد نائب رئيس الدورة السادسة للجمعية العامة للدول الأطراف في حماية وصون التراث الثقافي غير المادي. انظر: جريدة النهار، ١ حزيران/ يونيو ٢٠١٦.
- 35. إثر تقاعده، عُيّن ديكسون بمنصبٍ رفيعٍ في شركة نفط الكويت، وتوفي في الكويت عام ١٩٥٩.
- 36. هـ. ر. ب. ديكسون، الكويت وجاراتها، ط. ٢ (الكويت: صحارى للطباعة والنشر، ١٩٩٠)، ص. ٤٢.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.