عند الاطلاع على غلاف رواية «سمراويت» لحجي جابر الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع الكتابي للعام ٢٠١٢ تُفاجأ بالغلاف. كتب عليه اسم الكاتب واسم الرواية بلون برتقالي، ولوحة الغلاف صورة لامرأة إريترية ترتدي ثوباً برتقالياً وتنتعل حذاءً من اللون ذاته وتحمل على يدها كيساً بلاستيكياً يحوي أغراضها. تسير المرأة في أرض زراعية لعلها تسعى في اكتساب رزقها. تطوف مخيّلة القارئ وهو يرى الصورة فيعتقد بأنّ المرأة هي «سمراويت». ولكن منذ الدخول في الفصل الأول يتّضح أنّ البطلة لا تشبه أبداً صورة المرأة على الغلاف والتي تبطش في الأرض كدحاً. ربما الصورة ترمز للأوجاع والفقر الذي لا يزال يعاني منه المواطن الإريتري والمرأة الإريترية تحديداً.
يصرّ الكاتب على أنّ أحداث الرواية من وحي خياله وأنّ أيّ تشابه في أحداث الرواية وشخصياتها هو محض صدفة. ذلك على الرغم من أنّ علامات التنصيص واللون الأسود «البولد» تجعل الكلام لأناس قالوه فعلاً في الواقع، مثل حديث نارود وحديث عثمان صالح سبي، ممّا يجعل الرواية أقرب إلى رواية السيرة الغيريّة.
الرواية تحكي قصة شاب ثلاثيني عاش في المملكة العربية السعودية بنصف حنين ونصف غربة، ونصف وطنية ونصف انتماء، ونصف وحشة وصفحات شاسعة من الهوية المتشظّية. الرواية في مجملها تحكي أوجاع المغتربين الذين أجبرتهم ظروف بلادهم على الخروج منها فسمعوا عن بلادهم من آبائهم ولكنّهم لم يعايشوا الحنين ذاته. عمر البطل حكى تجربة المغتربين الذين لم يروا الوطن إلّا عبر شاشات التلفاز، وحكى عن تجربته عندما ذهب إلى حفل الجالية الإريترية واختار أن يجلس مع الشباب وفق ما طلب منه صديقه أحمد، فإذا به يقول بصوت عال: «الأغنية هذه أذكرها لكن لا أذكر المغنّي». وعندها ضجّ الشباب بالضحك وأطلقوا الصافرات وهو لا يدري لم يضحكون. يرغمه صديقه على الانتقال لمكان آخر وهو يردّد بصوت عال «فضحتنا الله يفضحك.هذا النشيد الوطني». والمشهد يعكس حدّة الغربة التي يعايشها المغتربون في منافيهم الاختيارية أو الإجبارية . في المقابل يحكي عمر عن المعاناة التي يعيشها في المملكة العربية السعودية. في طفولته لم يُقبل كأيّ ابن لأسرة عاديّة في المدرسة، إذ رفض مدير المدرسة تسجيله وقال لأمّه إنّ خانة الأجانب امتلأت. وفي اليوم التالي يذهبون لمدرسة أخرى وتتكرّر الإجابة، ويظلّ هو يحمل حقيبته ويمارس الكذب على أقرانه في الحيّ بأنّه يدرس في مدرسة بعيدة، إلى أن يلتحق بعد عامين بمدرسة ليليّة بعيدة.
تتعدّد المعاناة لدى البطل من كونه إريترياً وليس مواطناً سعودياً. عندما يستطلع سعوديين ــ بحكم وظيفته كصحافي ــ عن إعلان الحكومة عن منح الجنسية للمقيمين وفقاً لنقاط معيّنة يصطدم بقول شيخ شهير مافتئ يردّد في خطبه الآية الكريمة «إنّما المؤمنون إخوة»، مناقضاً نفسه بقوله «هذا القرار من شأنه أن يزيد البطالة بين أبنائنا». ثمّ يأتي حديث الشيخ ليقصم ظهر البطل يقول «وجود الأجانب برأيي سبب لمشاكل كثيرة، يكفي أنهم يسببون التلوّث»!! المَشاهد التي عرضها الراوي تجسّد المعاناة التي يشعر بها الوافد حتى وإن كان مولوداً في السعودية كحالة عمر. ويسرد واقعة الدكتور الذي اتصل به عمر عبر الهاتف بعد أن خدع الدكتور صوت عمر الجداوي حتّى ظنّه سعوديّاً خالصاً، فختم حديثه بعبارة «أنا دائماً أقول السعودي أحسن في كل شيء، هذا أنت صحافي سعودي ما شاء الله، أحسن من مئة جربوع من اللي بندفع ليهم!!». وتأتي قمّة المعاناة عندما يستكثر عليه كثيرون عمله الصحافي وبعضهم يظنّه موزّعاً للجرائد، وذلك لأنّ المملكة تحرّم على الوافدين الدراسة الجامعيّة. أمّا المنح الجامعيّة التي كانت تُعطى للوافدين فقد كانت تمنح بالمحسوبيّة و«كلٌّ يوزّعها على جماعته»!
كتبت الرواية بتقنية الفلاش باك أو المقاطع السينمائية. تبدأ بمشهد عودة البطل لأرتريا لأول مرة، ثم مشهد من صور حياته في جدة، ثم يعود لمشهد أرتريا ثم مشهد جدة، وهكذا دواليك حتى النهاية. سمراويت فتاة جميلة متحررة. هي ابنة روائي معارض ارتري يعيش في باريس، والدتها شاعرة لبنانية. يدخل عمر مع سمراويت في علاقة عاطفية وتكون رفيقته في تجواله وبحثه عن موطن آبائه. وتأتي نهاية الرواية لتخبره بأن والدتها رفضت زواجهما، وهي لن تستطيع أن تعترض على قرار والدتها لعلتها القلبية. منذ بداية الرواية، تجد نفسك مع البطل الذي يقف محايداً لأنّه لا يعرف شيئاً عن موطنه. صديقه أحمد يقف مع الشعبيّة وهو حزب الحكومة، بينما يقف محمود معارضاً لها، ويذهب هو لإريتريا من دون أن يجعل رؤى أيّ من صديقيه تؤثر على قراره ليختبر الوضع بنفسه. في إريتريا يلقى سعيد أحد الثوار القدامى الذي قُطعت يده في سبيل تحرير بلاده وهو يدافع عن الحزب، بينما تقف سمراويت فتاة أحلامه في الضفّة الأخرى المعارضة.
استلاب
تشبه الرواية حال كثير من مواطني القارّة السمراء الذين جعلهم شظف العيش في بلادهم يغادرونها إلى المنافي وراء المحيطات والبحار والنجوم البعيدة وهم في أشدّ حالات الشّوق إليها. لا النظامُ الاقتصاديّ ولا السياسي ولا الاجتماعي في بلادهم يحفزهم على الرجوع إليها، وهذا الأمر له أثره الكبير على تشكيل أبنائهم الذين لم يروا الموطن الأصليّ لآبائهم ولم يعاملهم البلد الذي وفدوا إليه كمواطنيه، فعاش الأبناء مثل عمر مستلبين لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.