«في مرحلة الفطام، وأنا أحبو باكياً، وراء أمّي المنصرفة عنّي وراء الكنس، والمسح، ونفض الغبار، كنت آكل كلّ ما تطوله أظافري الغضّة من تراب العتبة، والشارع، وفسحة الدار. ويبدو أنّني أكلت حصّتي من الوطن منذ ذلك الحين»١
محمّد الماغوط
إنّ فهم النكات الكامنة في مصطلح «الوطن»، في الخطاب العربي المعاصر، صعب ولا ريب. وليس السبب في ذلك أنّ دلالات المصطلح المذكور لطالما كانت حمّالة أوجه في استعمالاتها الأدبيّة والتاريخيّة وحسب ــ وذلك يفسّر تعدّد المحاولات لفهم مصطلح «الوطن» ــ بل إنّ المصطلح بات ينوء بثقل محاولات تسييسه منذ بدء الاستعمار، والنزعات القوميّة، وقيام الدول القوميّة المزعومة على الأراضي التي كانت جزءاً من الإمبراطوريّة العثمانيّة يومًاً ما. وقد انتهى الأمر بالتصوّرات الحديثة عن «الوطن» إلى شغلها حيّزًاً بينيّاً ضمن مجالات وأصعدة مختلفة: الجغرافيّة منها، والجيوستراتيجيّة، و«الوطنيّة»، والاجتماعيّىة، والعامّة، والخاصّة، والشاعريّة، والعاطفيّة، والاسترجاعيّة، بما فيها الحنين إلى الماضي.
وفي هذا الإطار، إنّ أيّ بحث يتناول تعدّد استعمالات مصطلح «الوطن» في الأدب العربيّ القديم لا بدّ له من الدراسة المميزة التي اضطلعت بها وداد القاضي، متبحّرةً في أشكال التعبير عن الوطن، والحنين إلى الديار والمنزل الأوّل في الأدب العربيّ القديم، حيث تشمل الأمور التي يثيرها هذا التعبير الملغّز، الوطن، مفاهيم من قبيل الأهل، والقبيلة، والعشيرة، والخلّان، إذ «تلفت الوشائج الوثيقة التي تربط المرء بوطنه الانتباه، فهو قد أمضى ريعان شبابه هناك، ورضع من حليب الوطن، وطعم من طعامه، ونهل من مائه، ومسّ ترابه، وعاين أمطاره، وأنداءه، وأشجاره». وهذا الحبّ لهو «معيار رئيس في قيام الحضارة الإنسانيّة»٢.
تنبع هذه الإلفة الفطريّة مع الموطن الأصليّ من التجارب الحسّيّة، والعواطف، والذكريات التي يختبرها المرء، ويكتشفها، ويشعر بها فيما يسميه باشلار «طوبوغرافية وجودنا الحميم». كما ترسي هذه الألفة أسس الهويّة الجمعيّة الإيجابيّة. بمعنًى آخر، يقوم مفهوم الوطن على مصطلحات غامضة من الناحية الجغرافيّة، إذ إنّ «الوطن» قد لا يعني منزلًا له حدود معلومة فحسب، بل يمكن أن يشير إلى الأراضي التي تتنقّل القبيلة بين أرجائها، بما هي أوطان. ويمكن أن يشير «الوطن» أيضاً إلى مسكن حضريّ، أو مدينة، أو منطقة، أو بلد أو بلاد.
ولقد كان هذا المعنى لمصطلح «الوطن» هو السائد، حسبما أرى، إلى أن بدأ التدخّل الاستعماريّ في المنطقة في بداية القرن التاسع عشر. فبعد هجمة الحداثة الأوروبيّة، وبفعل القوى العالميّة الجديدة العابرة للحدود، أضحى مصطلح «الوطن» مشبعًا بالدلالات الأيديولوجيّة وما جاءت ترطن به النزعة القوميّة الأوروبيّة. وعلى سبيل المثال، ليس ثمّة مغالاة في الحديث عن تكوّن الوعي الوطنيّ المصري جرّاء شيوع مصطلحَي الوطن (patrie) والوطنيّة (patriotism)، اللذَين تمخّضت عنهما مغامرة بونابارت في مصر من جهة، وتشرُّب الطهطاوي لهذه الأفكار في خلال إقامته في فرنسا (١٨٢٦ــ١٩٣١) من جهة أخرى. وفي هذا الإطار، يقول سي إرنست دون (C. Ernest Dawn) إنّ الطهطاوي «ترجم كلمة «patrie» الفرنسيّة بكلمة «وطن» العربيّة، وتحدّث عن حبّ الوطن، ثمّ عن الوطنيّة في نهاية المطاف. أمّا وطن الطهطاوي، فلقد كان مصر. ولطالما كان الشعب المصريّ مميّزًاً منذ أيّام الفراعنة»٣. وفي مطلع القرن التاسع عشر، بدأ المفكّرون العثمانيّون في إسطنبول وفي الولايات العثمانيّة المختلفة بصياغة الأفكار الوطنيّة والقوميّة، تحت وطأة الأحداث العالميّة المفصليّة التي كانت تهدّد وجود الإمبراطوريّة العثمانيّة، «رجل أوروبا المريض». وصار هذا الدافع أشدّ إلحاحًاً في خلال مرحلة الإصلاحات المعروفة بـ«عهد التنظيمات» (١٨٣٩ ــ ١٨٧٨)، لكنّ مصطلح «الوطن» ظلّ غامضاً، ومحدودًا بالروح الوطنيّة العربيّة المحلّية أو الإقليميّة في إطار ما كان يُعرف باسم «الرابطة العثمانيّة». وذلك واضح في الأفكار الإصلاحيّة للمستشار، «كاتب السر» أحمد بن أبي الضياف (١٨٠٤ ــ ١٨٧٤)٤، وخير الدين التونسيّ (١٨٢٢ ــ ١٨٩٠)٥، وتلك التي ظهرت في الفكر السياسيّ عند المفكّرَين السوريَّين الآتين من جبل لبنان، أحمد فارس الشدياق (١٨٠٤ ــ ١٨٨٧) وبطرس البستانيّ (١٨١٩ ــ ١٨٨٣). وقد أوْلى هؤلاء جميعُهم مفهومَي «الوطن» و«الوطنيّة» اهتماماً بالغاً. وكان البستانيّ خصوصاً من دعاة الروح الوطنيّة السوريّة، وقد «سعى إلى إرساء أسس الهويّة والصفة القانونيّة بناءً على المثل العلمانيّة وليس على المعتقد الدينيّ»، كما يرى الباحث بطرس أبو منّة٦. وعند نهاية موجة العنف الطائفيّ التي اندلعت في جبل لبنان في العام ١٨٦٠، وبعد المجزرة التي ارتُكِبَت بحقّ مسيحيّي دمشق في العام نفسه، أكّد البستانيّ أنّ الحاجة إلى إرساء أسس الوحدة الوطنيّة القائمة على التعليم العلمانيّ باتت ملحّةً. لذلك، تقول ناديا بو عليّ إنّ البستانيّ، في بادرة منه ساعية إلى المصالحة ورأب الصدع، ترجم رواية روبنسون كروزو لدانييل ديفو في العام ١٨٦١، مستحضِراً في كروزو وسيلةً لتثقيف المجتمع والوطن ككلّ٧. وكانت سورية، وهي الكيان الجيوسياسيّ الذي يشمل جبل لبنان، وفلسطين، والأردن، بنسيجها السكّانيّ المتنوّع، هي الوطن الذي كان يعنيه بطرس البستانيّ، وابنه سليم (١٨٤٨ ــ ١٨٨٤)، وغيرهما من مفكّري القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
أمّا الولايات الفلسطينيّة التابعة للإمبراطوريّة العثمانيّة، فقد شهدت انتشار الحسّ الوطنيّ، والولاءات المحلّيّة، والعربية، والوجدان الدينيّ منذ ما قبل الحرب العالميّة الأولى حتّى، وهو ما أثبته رشيد خالديّ. ويرى خالدي أنّ «موقف العرب الفلسطينيّين من الصهيونيّة السياسيّة المعاصرة قد استند [منذ قرابة نهاية القرن] إلى كلّ هذه العناصر التي كانت قائمةً أصلاً، أي الارتباط الدينيّ بأرض هي مقدّسة عند المسلمين والمسيحيّين على حدّ سواء، ورؤية فلسطين على أنّها كيان إداريّ، والتخوّف من التدخّل الأجنبيّ، والحسّ الوطنيّ المحلّيّ». وفي هذه المرحلة بالتحديد، بدأ مفهوما «الوطن» و«الوطنيّة» ينتشران في الصحف الفلسطينيّة المحلّيّة. لكن بعد التغيّرات السريعة والمفصليّة والمقلقة التي ما انفكّت تتوالى منذ الحرب العالميّة الأولى وحتّى بداية الانتداب البريطانيّ على فلسطين في العام ١٩٢٢، خضعت الهويّة السياسيّة والوطنيّة لمعظم فلسطينيّي المدن، ذوي الوعي السياسيّ والعلم، لسلسلة من التحوّلات الجسيمة٨. ثمّ إنّ صدور وعد بلفور في العام ١٩١٧، مؤذنًا بإنشاء «وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين»، عجّل في تكوّن الهويّة الفلسطينيّة الذاتيّة٩.
ومع نهاية الحرب العالميّة الأولى، وانهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتقاسم أراضيها بين القوى الإمبرياليّة، لا سيّما فرنسا وبريطانيا، رسا حال الشرق العربيّ، نوعاً ما، على انقسامه إلى «الدول» المختلفة المعروفة اليوم. فعلى سبيل المثال، استولت فرنسا الاستعماريّة على شمال أفريقيا، مع سقوط الجزائر العاصمة منذ العام ١٨٣٠. واستناداً إلى هاردت ونغري، فإنّ «قيام الإدارات الاستعماريّة، وفرض الامتيازات والتعريفات التجاريّة، ونشوء الاحتكارات والكارتلات، وتباين الأحوال في مناطق استخراج الموادّ الخام ومناطق الإنتاج الصناعيّ، هذا كله ساعد أصحاب رأس المال في توسّعهم حول العالم»١٠. وبدأت آسيا وأفريقيا تنقسمان إلى مجموعة من المستعمرات بعد الحاجة إلى إنشاء الأسواق الجديدة واكتساب النفوذ السياسيّ، فآل بها الأمر، في نهاية المطاف، دولاً قوميّةً لم يُكتَب لها أن تصبح وحدات جغرافيّةً فعليّةً أو شرعيّةً بالضرورة.
وباستثناء الحال في مصر، كانت النزعة الوطنيّة لا تزال حديثة العهد نسبيّاً في العالم العربيّ. لذلك، يقول أوخسنـﭭالد إنّ «حيثيّات [هذه النزعة]، ومعناها، وتداعياتها كانت غامضة ومستبهَمة الوجوه»١١. وفي العام ١٩١٦، نادت الثورة العربيّة، التي قادها الشريف حسين، بقيام مملكة عربيّة قوامها سورية، والعراق، وجزء من الحجاز، لكنّ اتّحادات محتملةً بين «دول» أخرى بقيت في الحسبان١٢. وتجدر الإشارة إلى أنّ «الدولة القوميّة»، بما هي نموذج جديد عن الوطن، كانت غريبةً في بداياتها، إذ بقي تماهي الفرد مع بقعة جغرافيّة محدّدة، هي الوطن، غامض المعالم. فكان الوسط المحلّيّ الضيّق وطناً، وكانت سورية في بلاد الشام وطناً، وكانت حدود القبيلة في بلاد الشام، والعراق، والحجاز، واليمن، وشمال أفريقيا١٣ وطناً، وكان مفهوم العالم العربيّ، على غموضه، وطناً. ولمَ لا؟ ففي نهاية المطاف، تظهر أيّ دراسة للأدب العربيّ الحديث أنّ مقاربة مفهوم الوطن بهذه الطريقة المتقلّبة هي المهيمنة على أرض الواقع.
لكن يمكن، في الحقيقة، مقاربة مفهوم الوطن في الأدب العربيّ الحديث والمعاصر بأكثر من طريقة. لذلك، سأعمد، في ما يلي، إلى البحث الموجز في تكوّن فكرة الوطن وما يتّصل بها من مسائل معقّدة في المـُـقتربات المختلفة، آخذًا بالحسبان مجموعة المواضيع المتواترة في هذا المجال.
المهاجرون السوريّون إلى الأميركيتَين
بدأ ارتحال المهاجرين السوريّين من الولايات السوريّة، بما فيها جبل لبنان، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد موجة العنف الطائفيّ والمجازر التي شهدتها المنطقة في العام ١٨٦٠. وكان بعض هؤلاء شبّاناً التحقوا بركب المهاجرين في محاولة منهم لتجنّب التجنيد الإجباريّ في الجيش العثمانيّ، ثمّ اشتدّت الهجرة أثناء المجاعة التي ضربت سورية إبّان الحرب العالميّة الأولى١٤. وكان للهجرة من جبل لبنان حافز حيوي، كما يرى فوّاز طرابلسي، يتعلّق بفشل العامّيّات الفلّاحية في استملاك الأرض وما تلى ذلك من ربط للاقتصاد بهيمنة تجارة الحرير، ما دفع الريفيّين إلى إرسال أبنائهم إلى المهجر لتأمين عائدات نقديّة بعد الانهيار الكبير١٥.
وقد أسّس هؤلاء المهاجرون، الذين أُطلِق عليهم في أميركا الجنوبية لقب «Turcos»، الصحف العربيّة والروابط والنوادي الأدبيّة لنشر الأدب العربيّ والأفكار «الوطنيّة». وفي حركة رومانطيقيّة ليست بالجديدة، لجأ شعراء المهجر إلى الخطاب الوطنيّ، مطالبين باستقلال سورية عن الإمبراطوريّة العثمانيّة. وكانت فكرة الوطن عندهم تعني الانتماء العربي (Arabness) والانتماء الوطنيّ إلى سورية، مع مسحة محليّة تختصّ بكلّ منهم، فكانت حمص عند نسيب عريضة ما مثّله جبل لبنان لجبران خليل جبران على سبيل المثال. وكان هؤلاء، بتوقهم الشديد إلى الشعور بالانتماء، يرون «الوطن» و«البلاد» مكاناً أسطوريّاً هو موضع كلّ رغبة، ومظهر أشكال البراءة، والجمال الطبيعيّ، والدفء، والتراث، ومستودعها. بذلك، أمسى الوطن الذي تركوه وراءهم (أركاديا) أو نعيما١٦ متخيَّلًا هو أسمى من التوجّه الشيطانيّ الديناميكيّ للحضارة الماديّة التي تمثّل كلّ معاني المسخ. هكذا يصبح الوطن، عموماً، رمزاً للهويّات الثقافيّة المتباينة. ومن سمات شعر المهجر أيضاً ارتباطه بالنضال الوطنيّ الفلسطينيّ في وجه الانتداب البريطانيّ وإعلان بلفور. وكان روّاد هذا التوجّه أدباء المهجر الجنوبيّ عامّةً، وأمين الريحانيّ، ونسيب عريضة، وإيليّا أبو ماضي من أدباء المهجر الشماليّ خاصّةً. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التوجّه قد أثّر أثراً بالغاً في أدباء سورية وبلاد الشام.
النشيد الوطنيّ الفلسطينيّ والتهجير
منذ بداية الانتداب البريطانيّ، فرضت القضيّة الفلسطينيّة نفسها مسألةً أخلاقيّة ملحّةً استحوذت على اهتمام الأدباء العرب، ليس في فلسطين فحسب، بل أيضاً في المهجر، وشمال أفريقيا، وبلاد الشام، ومصر. وفي هذا السياق، لا يعود رواج نشيد كتب كلماته الشاعر الفلسطينيّ إبراهيم طوقان في العام ١٩٣٠ ــ هو نشيد موطني ــ وانتشاره الواسع في العالم العربيّ أمراً محيّراً١٧. وفي العام ١٩٣٤، لحّن الأخوان فليفل اللبنانيّان النشيد، الذي أصبح، مذ ذاك، أقرب إلى نشيد وطنيّ على امتداد العالم العربيّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأدب الفلسطينيّ الذي يتناول الوطن والأرض لطالما كان قوّةً دافعةً تلهم الأدب العربيّ المعاصر عموماً وتزوّده بالموضوعات.
لكنّ الأناشيد والشعارات الوطنيّة لا تبني وطناً ولا تمنح أرضاً. فبعد الحرب العالميّة الأولى، باتت «الدول القوميّة» العربيّة الناشئة، التي قامت نتيجةً تلاقي الاستراتيجيّات الاستعماريّة، تكافح لتكوّن هويّتها الخاصّة المتجذّرة في مفاهيم الهويّة الثقافيّة العربيّة والإسلاميّة. وإذا أردنا استخدام تعبير أخيل غوبتا، كانت كلّ دولة من هذه الدول تكافح «لكتابة» تاريخ «الأمّة»، وهي كيان موحّد تشكّل في زمن الاستعمار أو بعده، وصولًا إلى ماضيها البعيد١٨. وكما يقول بينيدكت أندرسون، إنّ الأمم هي جماعات حقيقيّة لكن متخيَّلة، تركّبها الثقافة والسياسة وتعيد تفكيكها١٩. ومع صيرورة الدولة القوميّة الوحدة السياسيّة الأقوى عالميّاً، يتحدّث يي-فو توان عن أنّ «العاطفة التي كانت تربط الناس بقراهم، ومدنهم، ومناطقهم أصبحت موجّهةً نحو الوحدة السياسيّة الكبرى. وأصبح الدور الأكبر ليس من نصيب أيّ جزء خاصّ من أجزاء الدولة القوميّة، بل من نصيب الدولة نفسها»٢٠. ويشرح توان كيفيّة تحقّق هذه المركزيّة بواسطة المراسيم التشريعيّة، والخرائط، وكتب التاريخ، والأيديولوجيا على أنواعها. لكنْ حريّ بنا ألّا ننسى أنّ معظم الدول العربيّة التي تأسّست في القرن العشرين قد جعلت من «الانتماء العربي» (Arabness) أساساً تفهم من خلاله هويّتها الوطنيّة. فلطالما أكّدت كتب التاريخ، والخرائط، والأيديولوجيّات وحدة ما للأمّة العربيّة المزعومة. ثمّ إنّ الهويّة الثقافيّة لا تتوافق بالضرورة مع الحدود القوميّة، فالهويّة، بما هي سيّالة، لا يمكن أن تحتويها فكرة مجرّدة من قبيل «الانتماء العربي» (Arabness). وما تبرح سيولة مفهوم الهويّة الوضعيّ تتجاوز الحدود القوميّة، وتحرّك ولاءات مختلفةً هي، في جوهرها، محلّيّة وجماعيّة. كما أنّ هذه الولاءات هي أشدّ تأثّراً بالمعاني الضمنيّة المقلقة التي ينطوي عليها مصطلحا الوطن والأرض، وبالمعنى الحميم للارتباط بمكان معيّن (Heimat)، وأنا أعني مكاناً آمناً وإيجابيّاً قائماً على الارتباط بالجذور والذاكرة الجماعيّة بالتحديد٢١. وكما يقول إدوارد كايسي، إنّ هذا الاجتماع (gathering) «يضفي على المكان ديمومته الخاصّة، ما يتيح لنا العودة إلى المكان نفسه الكرّة بعد الأخرى، وليس العودة إلى موقعه فحسب»٢٢.
في ما يلي، سأبحث في المفهوم الصعب، «الوطن»، نسبةً إلى ثلاث استعارات متكرّرة في الأدب العربيّ الحديث: الوطن/الأرض مكاناً مؤنّثًا، والوطن/الأرض مكاناً فاقداً للحدود (مفكك الحيازات) ينطوي على خطوط انفلات ورحيل واقتلاع (deterritorialized place)، والوطن/الأرض بيتاً لأكثر من جيل.
الوطن/الأرض مكاناً مؤنّثاً
غالباً ما يُصوَّر الوطن/الأرض في الحضارات المختلفة بصورة الأنثى. فالوطن هو الكون الأوّل، أو كون الطبيعة الأمّ. وعلى سبيل المثال، تتحدّث سماح سليم عن تأنيث الخطاب الوطنيّ، وهو توجّه أصبح لا غنى عنه في الأدب المصريّ٢٣. وفي الأدب الفلسطينيّ أيضاً، يُصوَّر الوطن/الأرض بصورة الحبيبة والأمّ الأسطوريّة. كما أنّ القرية الوادعة، بما فيها من بيت ومناظر طبيعيّة، فرضت نفسها رمزاً من رموز الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة. وكان الأدب العربيّ الحديث في باكورته ينطوي على رؤية رومانطيقية ومختزلة إلى الوطن، مع ما يستدعيه ذلك من النظر إلى طبقة الفلّاحين والعوامّ كمفهوم مجرّد بطريقة سلبيّة٢٤. أمّا في فلسطين، فقد تجسّد التجريد بعد النكبة منفىً وخسارةً دائمَين للفلسطينيين. لذلك، تقول هنيدة غانم إنّ «شعراء ما بعد النكبة عمدوا إلى تصوير خسارتهم الوطنيّة باستعمال اللغة المشبعة بالإيحاءات الجنسيّة التي كان المجتمع الفلسطينيّ يتنكّب عنها آنفاً»، فكان «شعرهم مشبعاً بتصوير الوطن بصورة امرأة هي، في آن واحد، الحبيبة، والأمّ، والخطيبة، والغدّارة، والبغيّ، والمومس، والخائنة»٢٥. وينطوي جعل الوطن رمزاً للمجون والبغاء على تناقض مزدوج بين الألفة والاشمئزاز الظاهرَين، بأوضح معانيهما في رمز الأمّ/البغيّ. وتظهر هذه الاستعارة المزدوجة بأشكال متناقضة ومتداخلة في وعي الابن المنفيّ النموذجيّ. وهي تتجلّى بعبقريّة في أعمال توفيق صايغ الشعريّة٢٦، لكنّها شائعة أيضاً في أعمال غيره من الشعراء الفلسطينيّين٢٧.
وفي رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، يساوي بطل القصّة ــ وهو مجاهد سابق في حرب الاستقلال عن المستعمر الفرنسيّ، أصبح فنّاناً يسخّر موهبته الإبداعيّة ليرسم جسور مدينته قسنطينة ــ بين حبيبته وقسنطينة من خلال توظيف الخطاب الشهوانيّ. وهو يستعين بقوّة حافظته ليجمع بين الحبيب المقدّس وبين هواه الشهوانيّ، مظهِراً الجزائر، الوطن، بصورة الأمّ٢٨. لكنّ الإحباط يضع حدّاً لهذه النظرة الأنطولوجيّة، إذ يُظهِر الواقع المرّ الجزائر وطناً يتيم الأمّ، هو أشبه بالأب في حقيقة الأمر٢٩.
الوطن/الأرض مكانًا مفكك الحيازات، للرحيل والاقتلاع تغطّي الصحاري والبوادي، وهي موطن قبائل العرب والبربر الأمازيغ، رقعةً واسعةً من العالم العربيّ، شاملةً شبه الجزيرة العربيّة، وسورية، ومصر، والسودان وليبيا، وشمال أفريقيا. وفي هذا الإطار، يرى دولوز وغاتاري أنّ «حياة البدويّ هي المعزوفة الفاصلة بحدّ ذاتها، فحتّى عناصر منزله تُفهَم نسبةً إلى المسار الذي لا ينفكّ يحدّدها إلى الأبد»٣٠. فمسار القافلة يوزّع الناس، أو الحيوانات، في العراء الأصمّ المطبق. ومن هذا المنطلق بالتحديد، لا محطّ رحال للبدو، ولا طريق، ولا أرض، وإن كان حالهم ينافي ذلك في الظاهر. «وإن كان البدويّ فاقد الحدود الأوّل، فإنّ ذلك لأنّ «إعادة الأقلمة» (reterritorialization) مستحيلة في حالته، خلافاً للمهاجر، وخلافاً للمقيم الذي ترتبط حدوده بشيء ما. فعلاقة المقيم بالأرض تستند إلى عنصر ثالث، هو إمّا نظام المُلكيّة أو أجهزة الدولة»٣١.
يقول عبد الرحمن منيف، ابن نجد في الجزيرة العربية، الذي نُفِيَ من وطنه بسبب آرائه السياسيّة، «أنا واحد من الناس محروم من الوطن إذا صحّ التعبير، وعشت في كل الأقطار العربية تقريبًا»٣٢. ومع أنّ منيفاً أمضى أوقاتاً طويلةً في عمّان، وبغداد، ولبنان، وسورية ــ وهو القوميّ العربيّ الذي يرى البلدان العربيّة كلّها وطناً له ــ يظهر قوله هذا إحساسه بتشظّي انتمائه. وفي هذا الإطار، تعكس خماسيّة منيف الملحميّة، «مدن الملح»، إدراكاً مفكّكاً للمكان في شبه الجزيرة العربيّة، حيث يبرز التفكيك والاقتلاع كمظهر من مظاهر عهد الاستعمار وما بعده. وتبدأ خماسيّة منيف باستعراض واحة رعويّة هي واحة وادي العيون. وهذه الواحة هي ديرة قبيلة تحيا بوئام مع الطبيعة ومخلوقاتها، حيث تتنقل القبيلة بين عدد من المنازل التي تراها بيتاً لها. وتظهر القصّة، شيئاً فشيئاً، التغيّرات الحادّة التي تعصف بالصحراء وسكّانها بعد اكتشاف النفط، والتدخّلات الاستعماريّة، وفساد الأسرة الحاكمة. وتجدر الإشارة إلى أنّ تهجير السكّان وتدمير البيئة الطبيعيّة، هو، بمعنى ما، تفكيك للحيائز/الحيازات بما ينطوي عليه من تغريب واقتلاع عبر فقدان أبناء القبيلة هويّتهم ووجهاتهم المكانيّة، ومحاولتهم إنشاء علاقة مع بيئتهم الطبيعيّة الجديدة من جهة، ومع نشوء السلطنة بقوانينها المتعدّدة من جهة أخرى.
ويبدع طاهر جاعوط في إظهار الصحراء ببعدَيها المجازيّ والحقيقيّ مكاناً فاقداً للحدود في روايته، «اختراع الصحراء» (L'invention du désert) (١٩٨٧). وتأخذ رواية جاعوط منحًى مرناً متعدّد العناصر يوظّف المكان، والهويّة، وتاريخ «الأمّة» الجزائريّة لحبك القصّة. لذلك، فهو يقول: «لكن لا بدّ للكتابة عن موضوع ومكان بهذه السعة والحدّة ــ أعني موضوع المرابطين في بسكرة ــ من أن تتشظّى أو أن تترسّب. أمّا احتمال بلوغ الوجهة النهائيّة أو محطّ الرحال الأخير، على سبيل المثال، فهو مستحيل قطعاً. فلو حدث ذلك، كيف يمكن أن تُلبِس الكلمات الغياب سوى لبوس الأجساد والجثث؟»٣٣. وفي دراسة لرواية جاعوط، يقول ابن سمية إنّ الصحراء هي «كناية عن النصّ المستحيل الذي يحاول كتابته عن الجزائر»٣٤. ويقتبس ابن سمية قول جاعوط إنّ «الأرض ليست محدودةً بحدود واضحة، بل إنّ الوطن يُخترَع مرّة تلو الأخرى بعد ولادات لن تثمر إلّا قليلًا. وتكون ثمارها، إن خرجت من أكمامها، مرّةً كالنارنج. فالرياح الخارجة من صلب الرمال، والسلطات المتغيّرة أبداً، ما تفتأ تولّد حدوداً مختلفةً، أو طرداً وشيكاً، أو عوائق جديدةً تمنع الترحال»٣٥.
أمّا روايات إبراهيم الكوني، التي تتخذ الصحراء موضوعاً يثير الدهشة، فلا تكتفي بربط مسألة الهويّة بقفار أفريقيا الشماليّة الفاقدة للحدود، لا سيّما الصحراء الكبرى، بل تربطها أيضاً بالعلاقات المتعدّدة التي تجمع أبناء الشعب الطوارقيّ بالصحراء. ففي روايات الكوني، تغدو العلاقة مع الصحراء، الوطن، في تغيّر مستمرّ. ويقول بطل رواية «برق الخلّب» للكوني إنّه وجد وطن القبيلة «أرضاً بلقعاً موسومةً بالدمن»٣٦. وفي هذه الرواية، تقدم القبيلة على رحلة مؤثّرة طويلة بحثاً عن الوطن المجهول الذي ينشده أبداً أبناء قبيلة الطوارق الأحرار الذين «يصنعون الصحراء بقدر ما تصنعهم هي»٣٧.
كذلك، يعيش الفلسطينيّون الخاضعون للاحتلال في أرضهم ووطنهم و«البدو» منهم في الشتات واقعاً من الترحال. فهم يقاسون معاناةً مستمرّةً لإعادة تعريف أرضهم، وإعادة تحديد ماهيّة هويّتهم، ولغتهم، ومساكنهم تحت مرأى دولة تُوغل في ارتكاب الفظائع، هي دولة العين الإلكترونية القمعية الـ«بانوبتية».
وفي الأدب الفلسطينيّ رمزان متكرّران يفصحان عن الوطن في حالة التفكك والاستلاب (deterritorialized reality)، هما الصبّار والجسر. فالصبّار يزرعه أهل الريف في فلسطين للفصل بين حقولهم٣٨، علماً بأنّ كمال بلّاطة قد أشار إلى أنّ «أقدم صوَر لفلسطين تعود إلى القرنَين التاسع عشر والعشرين تظهر شجيرات الصبّار فيها بكثرة، متبعثرةً في الأرجاء». لكن بلّاطة يتابع قائلاً إنّ «الصبّار أصبح رمزاً مشحوناً بالدلالات العاطفيّة المتضاربة منذ نشأة الدولة اليهوديّة. فمن جهة، جعل يهود إسرائيل من هذه النبتة المحلّيّة رمزاً وطنيّاً لهم، ورأى الفلسطينيّون فيها سلب وطنهم متجسّداً أمام أعينهم»٣٩.
والجسر أيضاً رمز مشحون بالمعاني في الأدب الفلسطينيّ. فالجسر رمز مركّب يدلّ على التواصل، والتقريب والقدرة على الحركة، وعبور الحدود، والوصول، والترابط، والمرور. وهو يرسي أسس الاجتماع، ولمّ الشمل، و«تجسير» المسافات. كما أنّه يرمز إلى انفصالٍ غالباً ما يرتبط بالتضحية٤٠. غير أنّ تنظير هيدغر للجسر كـ«شيء يجمع» بين الإنسان والأربعة التي هي الأرض، والسماء، والآلهة، وكلّ من هو فانٍ٤١، ينطلق من رؤية «قومويّة جماليّة» (national aestheticism)٤٢، كما يرى هيليس ميلير الذي ينتقد مبادئ الطوبوغرافياعند هيدغر٤٣. أمّا في الأدب الفلسطينيّ، فعبور الجسر هو حدث شخصيّ يولّد «تجربةً داخليّةً مؤلمة»، بكلّ ما فيها من تعقيدات. كما أنّ الجسر «مكان انتقاليّ تغييريّ»، وعتبة تقع بين فواصل الزمن الطبيعيّ وخارجها، في قلب الذاكرة ومكنوناتها الأليمة. وقد أظهرت ذلك نرمين الحرّ بعد أن درست مدى تعقيد عمليّة عبور الجسر الذي يفصل فلسطينيّ الشتات عن وطنه ويصله به في آنٍ معاً٤٤.
وفيما يفرش خليل حاوي أضلعه جسراً لتعبر عليه الأجيال الفتيّة نحو «وطن» هو «الشرق الجديد»، يبقى الجسر عند محمود درويش، حياة معلّقة بين الدخول والخروج، والذات والآخر. وهو فيض من الثنائيّات، و«برزخ بين منفى وأرض مجاورة»٤٥.
قال لي صاحبي، والضباب كثيف
على الجسر:
هل يُعرَف الشيء من ضدّه؟
قلت: في الفجر يتّضح الأمر.
...
قال لي: كلُّ جسر لقاء... على
الجسر أدخل في خارجي، وأسلم
قلبي إلى نحلة أو سنونوة
قلت: ليس تماماً. على الجسر أمشي
إلى داخلي، وأروّض نفسي على
الانتباه إلى أمرها. كلّ جسر فصام،
فلا أنت أنت كما كنت قبل قليل،
ولا الكائنات هي الذكريات٤٦.
البيت أو الدار
«بيت العائلة» هو كذلك من الاستعارات الأخرى الدالّة على الوطن. من هذا المنطلق، تقول كيمبيرلي دوفي إنّ البيت بحدّ ذاته هو علاقة أو معنى معيش٤٧، «فالبيت ليس إلّا هيكليّةً معقّدةً توجّهنا في المكان، والزمان، والمجتمع. وهي قائمة على العلاقات المنظّمة». وفي هذا الإطار، يرى باشلار أنّ البيت هو «ركننا من العالم»، وهو «أحد أهمّ العوامل التي تدمج أفكار الإنسانيّة، وذكرياتها، وأحلامها». كما أنّ المسكن يعني الألفة، والاحتواء، والعناية. والبيت ينفتح على بيئته ويتّصل بشبكة من العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة. بذلك، يكون البيت، هو «البناء الثابت وأقسامه، وعمليّة بنائه نفسها، من مصادر الاستعارة المجازيّة المشتركة»٤٨. وفي ما يلي، سأضرب مثلَين أدبيَّين ظرفيَّين يظهران استخدام هذه الاستعارة في الأدب العربيّ الحديث، على تأثّرهما بالظروف الاجتماعيّة السياسيّة التي تمخّضا عنها.
عين وردة
في رواية «عين وردة» (٢٠٠٢) لجبّور الدويهي، يأتي بيت آل الباز، وهم أفراد عائلة مارونيّة برجوازيّة، استعارةً تحاكي الوطن المضطرب الآيل إلى الخراب، وقد فقد ألفة الأيّام الخوالي وبهاءها. وجاء «الغرباء» يستولون عليه، ممثّلين بآل حمد خضر المانع، وهم مسلمون من عرب لبنان، أي من البدو. وتنطوي الرواية على بنية قصصيّة متشعّبة تتناول عدداً من الموضوعات والأمثلة. وهي مكتوبةً بلغة شعريّة تنظر في بنية البيت على المستويَين الحقيقيّ والمجازيّ، فتحاكي الأبعاد الهندسيّة فيه وحميميّة الغرف والانفتاح على ذاكرة العائلة وعلى الموقع الجغرافي، والتغيّرات التي تطرأ عليه والمتلازمة مع التخلخلات في بنى السلطة. ومن وظائف استعارة «البيت والعائلة البرجوازيّة» الآيلة إلى التفكك في هذه الرواية عرض تاريخ لبنان الحديث، والحرب الأهليّة، والخوف المرضيّ من الآخر بطريقة تضيء على الأيديولوجيّة الشوفينيّة اللبنانوية.
البيت الأندلسيّ
يغدو البيت في رواية واسيني الأعرج (٢٠١٠) مسرحاً لأحداث رواية متعدّدة الأجيال تتتبّع تاريخ العائلة الموريسكيّة الجزائريّة منذ نشأتها في القرن الخامس عشر، بل إنّه المحور الذي تبني حوله هذه الرواية متعدّدة الأصوات استعارة الوطن من حيث إنّه تاريخ، وذاكرة، وانتماء. وتوظّف الرواية التاريخ توظيفاً دلاليّاً مبتكراً يضع القصص الشخصيّة في قلب المذكّرات ــ المخطوطة الموريسكية هي بمثابة السرّ، كما أنها تمثّل سُرّة البيت ــ ويجمع المشاهد من العصور المختلفة حول تاريخ الأجيال المتعاقبة التي سكنت بيت العائلة. يجعل هذا كلّه من الرواية كنايةً قوميّةً عن الجزائر العاصمة، وهي الوطن الذي يتخبّط في صراعات اجتماعيّة وسياسيّة مستعصية، يضاف إليها أزمة الهويّة التي يكابدها. ويبرز بيت العائلة، بطابعه الأندلسيّ الظاهر في هندسته، وحديقته المسوّرة ونافورتها، ونباتاته، وضوع روائحه وطيبها، وأثاثه، وأحداثه، وذكرياته رمزاً يرفض شدّة فساد دولة ما بعد الاستعمار، والحزب الشموليّ، والأثرياء الجدد من الطبقة البرجوازيّة القوميّة الأبويّة، التي يشير الراوي إلى أفرادها باسم «الضباع».
تحدّي الوطن/الأرض
عند الحديث عن الوطن/الأرض من موقع هامشيّ متزعزع، أو من المنفى، يخرج الصوت مغاضباً معارضاً، يعكس موقفاً «بدويّاً» منطوياً على مفارقة العداء للوطن. وعلى سبيل المثال، يتحدّى شعر محمّد الماغوط، في سخريته اللاذعة وغير المألوفة، الأيديولوجيا السائدة عن الوطن والأمّة. ويلحظ جون عصفور وأليسون برتش أنّ «الموضوع المتكرّر في شعر الماغوط هو الوطن الحبيب، الذي يظهر غدّاراً تارةً، ومغدوراً به تارةً أخرى، مع بقائه (أي الوطن)، في نهاية المطاف، غير مكترث بأمر سكّانه الأقلّ حظّاً»٤٩.
ومن الظواهر الأخرى التي برزت في عصر ما بعد الحداثة، والتي تستحقّ الذكر، ظاهرة أدباء المنفى. وهم أصحاب الهويّتَين والوطنَين، إذ يكتبون من الوطن الآمن عن ذاك الآخر، ما يسبغ معنىً جديداً على الهويّة والانتماء٥٠. ترى كيمبرلي دوفي أنّ «معنى البيت لم يكن ليهمّنا لولا إمكانيّة فقدان المأوى»٥١، إذ إنّ الانتماء إلى البيت يصير ملحّاً وزائلاً أكثر من أيّ وقت مضى إذا ما وُضِعَ بمحاذاة إمكانيّة فقدان المأوى. لذلك، ابتنى إدوارد سعيد من منفاه «بيتاً» مصنوعاً من خساراته، وفقدان مأواه، وبداوته٥٢.
لكن في ظلّ فقدان الوطن والتشرّد في عصر العولمة الوحشيّ الذي يقلب أعراف المكان، والهويّة، والثقافة رأساً على عقب، ويفقد البشر والأمم ما ألفوه من حدود، وفي ظلّ التغيّرات العنيفة والمرعبة التي ما برحت تطرأ على العالم العربيّ، مع ما يرافق ذلك من تغيّر الحدود وزوالها، لا يسع «المواطن» العربيّ إلّا أن يلتجئ إلى الكيانات السابقة على الدولة، كالقبيلة، والطائفة، وغيرها من أشكال الولاء ومن الخيانات المختلفة.
- ١. محمّد الماغوط، سأخون وطني، 410.
- ٢. «Dislocation and nostalgia», in Myths, Historical Archetypes and Symbolic Figures in Arabic Literature, 1999, 8.
- ٣. Dawn, «The Origins of Arab Nationalism», in Khalidi, et al. (eds.): The Origins of Arab Nationalism, New York, 1991, 4-5.
- ٤. إتحاف أهل الزمان، 1963، 4/ 240- 59.
- ٥. Youssef Choueiri, Arab History and the Nation-State, 1989, 57-59.
- ٦. Abu-Manneh, «The Christians between Ottomanism and Syrian Nationalism», IJMES, 11.3 (May, 1980): 297.
- ٧. Bou Ali, «Butrus al-Bustani and the Shipwreck of the Nation», Middle Eastern Literatures, 16.3 (2013): 2.
- ٨. Khalidi, «The Formation of Palestinian Identity», in Rethinking Nationalism in the Arab Middle East, 1997, 172-73.
- ٩. Khalidi, Palestinian Identity, 158-72; Illan Pappé, «De-terrorising the Palestinian national struggle», Critical Studies on Terrorism, 2. 2 (2009): 132; Edward Said, Reflections on Exile, 2000, 421.
- ١٠. Empire, 2001, 332.
- ١١. Ochsenwald, «Ironic Origins», in The Origins of Arab Nationalism, 1991, 200.
- ١٢. Hourani, Arabic Thought, 288-92; Muslih, «The Rise of Local Nationalism»,167-85.
- ١٣. في منطقة جبال الأطلس الصغير، موطن الأمازيغ، تعني كلمة تمازيرت البيت، والوطن، والريف، والقرية.
- ١٤. Hitti, The Syrian in America, 1924; Charles Issawi, «The Historical Background of Lebanese Emigration», in, The Lebanese in the World: A Century of Emigration, 1993, 13-31.
- ١٥. انظر: تاريخ لبنان الحديث، 2008، 78-81.
- ١٦. ما يطلق عليه إحسان عبّاس ومحمّد يوسف نجم «الغاب» (الشعر العربيّ في المهجر، 1957).
- ١٧. الأعمال الكاملة، 2002، 128- 29.
- ١٨. Akhil Gupta, «The Song of the Nonaligned World», in The Anthropology of Space and Place: Locating Culture, 2011, 328.
- ١٩. Imagined Communities, 1991, 6-7, 12.
- ٢٠. Yi-Fu Tuan, Space and Place, 2011, 177-78.
- ٢١. لم أغفل عن أنّ مصطلح (Heimat) الألماني، وهو مصلح معقّد قد أُشبِعَ بالدلالات في اللغة، والثقافة، والأيديولوجيا الألمانيّة على مدى القرون الفائتة. انظر مقالة نايل ليش التي يناقش فيها دراسة هيدغر عن «السُكنى، والبناء، والتفكّر»، NeilLeach. «The Dark Side of the Domus», The Journal of Architecture, 3.1 (1998): 31-42. لكنّني أستخدم المصطلح هنا لأعني به «البيئة أو المحيط« (milieu)، ومكانًا حميمًا مألوفًا يكون إليه الانتماء.
- ٢٢. Edward S Casey, «How to Get from Space to Place», in Senses of Place, 2011, 26.
- ٢٣. The Novel and the Rural Imaginary in Egypt, 1880-1985, 2004, 20-21.
- ٢٤. Ibid., 63-74.
- ٢٥. Honaida Ghanim, «Poetics of Disaster», International Journal of Politics, Culture, and Society, 22.1 (2009): 34-35.
- ٢٦. الأعمال الكاملة: المجموعات الشعريّة، «النشيد الوطنيّ»، 53.
- ٢٧. Ghanim, «Poetics of Disaster», 34-35.
- ٢٨. انظر، على سبيل المثال، أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد (بيروت: دار الآداب، 2000)، 27، 164، 184.
- ٢٩. مستغانمي، ذاكرة الجسد، 289.
- ٣٠. Gilles Deleuze and Félix Guattari, A Thousand Plateaus, 1987, 380.
- ٣١. Ibid., 380-81.
- ٣٢. الكاتب والمنفى (بيروت، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1994)، 28 و288.
- ٣٣. Tahar Djaout, L'invention du Désert, 1987, 31.
- ٣٤. Réda Bensmaïa, Experimental Nations, 2003, 74.
- ٣٥. Bensmaïa, Experimental Nations, 79.
- ٣٦. إبراهيم الكوني، برق الخلّب (بيروت: دار النهار للنشر، الطبعة الأولى، 1999)، 3 و17.
- ٣٧. Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus, 382.
- ٣٨. Nasser Abufarha, «Land of Symbols: Cactus, Poppies, Orange and Olive Trees in Palestine», Identities: Global Studies in Culture and Power, 15.3 (2008): 346.
- ٣٩. Kamal Boullata, «‘Asim Abu Shaqra: The Artist’s Eye and the Cactus Tree», Journal of Palestine Studies, 30. 4 (2001): 68-69.
- ٤٠. جرّار، «حين تركنا الجسر والنهايات: رحلة خلاصية»، في عبد الرحمن منيف 2008، 188.
- ٤١. «Bauen, Wohnen, Denken», 147; see also, Jeff Malpas, Heidegger’s Topology, 2006, 233-34.
- ٤٢. Miller, ibid., 217, 252; see also Karsten Harries, The Ethical Function of Architecture, 1997, 152-66.
- ٤٣. Topographies, 1995, 216.
- ٤٤. نيرمين الحرّ، الذات المصدومة في السيرة الذاتيّة العربيّة الحديثة (بيروت: الجامعة الأميركيّة في بيروت، 2015).
- ٤٥. محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد (بيروت: دار رياض الريّس للكتب والنشر، 2005)، 148.
- ٤٦. محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد، 129، 135-36.
- ٤٧. Kimberly Dovey, «Home and Homelessness», in Home Environments, 1985, 34.
- ٤٨. Zoltan Kovecses, Metaphor, 2010, 19.
- ٤٩. Muhammad Al-Maghut, Joy is not my Profession, 1994, 9.
- ٥٠. Waïl S. Hassan, Immigrant Narratives (Oxford University Press, 2011).
- ٥١. Dovey, «Home and Homelessness», 44.
- ٥٢. Edward Said, After the Last Sky, 150; Reflections on Exile, 170, 185-86.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.