لم أحب في البداية رواية «سيّد الذباب» لوليم غولدنغ، فأنا لا أحبّ الكنايات الرمزية. لم يرق لي أن يتحوّل لعب الأولاد إلى آلة استبداد. الآن أعيد النظر فيها إذ يخطر لي أنّ السياسة ليست بعيدة جداً عن لعب الأولاد.
كنت ولداً عندما نشبت أوّل حرب أهليّة بعد الاستقلال. كانت حرباً قصيرة أنهاها الجيش بعد أن صار قائده رئيساً للبلاد. في الثالثة عشرة كنت طفلاً معجزة لكن ما أكثر الأطفال المعجزة ذلك الوقت، يكفي أن يتكلّم الواحد مثل الراديو ليغدو منهم، وأنا كنت أتكلّم. أحفظ قصائد لسليمان العيسى وقرأت بضع أوراق من كرّاس بحجم الكفّ يحوي دستور الحزب، علماً بأن الكبار لم يكونوا قرأوها. كنت أتكلّم أحياناً أفضل من الكبار وأسبقهم في تركيب الجمل، لذا عوملت ككبير وحين شرّفوني باختياري صديقاً للحزب لم أكن أجتمع مع من هم في سنّي، بل مع كبار لا يتوقّفون عن امتداح مواهبي المبكرة. هذا ما غرّني غالباً في العمل الحزبي. كنت أشعر أني لم أكن في سني ولا في طاقتي الحقيقيّتين، كنت ألعوبة الكبار وسرّني ذلك كثيراً. لكنّها لعبة كبيرة عليّ بالطبع. لم أكن في عمري ولا في أعمارهم والنتيجة أنّي لم أكن في أيّ مكان. صحيح أنّي كنت أجتمع مع الكبار لكنّ هؤلاء كانوا خارج الاجتماع كباراً فيما كنت أنا أجد صعوبة حقيقيّة في استعادة طفولتي.
موهوب في عِشرة الكبار
كنت معهم في الاجتماع فقط لكنّي لم أكن معهم حين يلعبون الورق أو يتحدّثون عن البنات أو يجلسون في المقهى، رُكّب لي كلام ليس لي. ركّب لي عمر ليس لي. كانوا يكرّمونني بالجلوس معهم لكني لم أجدهم أفضل، كنت بينهم الوحيد الذي أسترق نظرة إلى دستور الحزب وكنت لذلك مؤهّلاً للجواب عن أسئلة من صميم العقيدة كذلك السؤال المعجزة عن الفرق بين الاشتراكية العربيّة والشيوعيّة، انتهى ذلك بي لا إلى إساءة الظنّ بالكبار فحسب بل إلى الاستخفاف بالمسألة كلّها. ما فعلته كان أشبه بالغشّ، كنت كمن يسرق من ورقة زميله. الأوراق التي بحجم الكفّ من الدستور لم تأخذ منّي سوى دقائق وكانت بكل مقياس خفيفة وسهلة، أن يضمن لي شغل دقائق موقعاً كان من الغشّ، لكنّ الأسوأ هو دوّامة الغشّ تلك التي دخلت فيها. إذا كانت قراءة بضع أوراق من الغشّ فعدم قراءتها من الكبار يعني أنّنا في عالم من الغشّ وكما يعني أنّ الحزب بكامله مغشوش وأنّه مبنيّ على خراب.
كنت ألهو، هذه هي الكلمة، فمنذ فهمت أنّ بضع صفحات بحجم الكفّ مهجورة ولا يجد أحد دافعاً لقراءتها أدركت أنّ لا شيء يصل بين المجتمعين وأنّ اجتماعنا نفسه بلا معنى والحزب، بما هو بنيان يتأسس من هؤلاء الناس وهذه الاجتماعات، ليس له وجود، وإذا كان له وجود فلن يكون سوى هراء. كنت ألهو، كنت سعيداً بصحبة هؤلاء الناس وبمكاني بينهم، لكنّي أدركت أنّ لا شيء يحسب سوى متعة الجلوس بينهم تحت الشجيرات قرب النبع. لا شيء يزن في الحقيقة سوى هذه الصحبة وهذا الوقت الذي نمضيه معاً، أمّا الحزب، أمّا الاجتماع فهما فقط مثل الأشجار ومثل النبع مكان للقاء وربّما سبب ومناسبة. هكذا كنت باكراً غشاشاً، أمّا الاجتماع فكان إطاراً للغشّ وواسطة. كنت غشاشاً ومغشوشاً وسعيداً بالاثنين. في سنّ مبكرة غدت السياسة ألعوبتي وفي سنّ مبكرة أيضاً صارت السياسة لهواً كما باتت من الاجتماعيات، أي أنّها لا تحتاج إلى أكثر من المزاج، لا تتطلّب صدقاً ولا نزاهة ولا تماهياً مع الذات. هكذا تحوّلت أشواقنا وأنظارنا على المستقبل واستثمارنا في الأمّة وخطاب التحرير، صارت هذه جميعها موكولة إلى كل شيء إلّا إلى الآلة التي توخّينا منها أن تصنعها والاجتماع الحزبيّ الذي أملنا أن يكون طريقاً إليها، سيتكرّر هذا مراراً وسنجد دائماً هذا التفاوت الهائل بين أشواقنا السياسية والوسائل والأدوات التي اعتمدناها لتحقيقها. هذا التفاوت سيغدو أكثر فأكثر سيزيفيّاً وسيبدو العمل الحزبيّ لذلك طحناً في الهواء وعبثاً في عبث.
أخذني النقاش إلى الحزب الشيوعي
كنّا عام ١٩٥٨ أي بعد عشر سنوات من سقوط فلسطين، وستّ سنوات على الانقلاب الناصري في مصر وإبّان وحدة مصر وسوريا، وبعد تأميم قناة السويس، واعتماد الاشتراكية والتصنيع الثقيل. كانت أنظارنا مشدودة إلى المستقبل ولا نشكّ أنّه يصنع أمام أعيننا وفي وضح النهار. كنا مليئين بالحماسة والطاقة والإيمان. لو تصنّع هذه الحماسة لأمكنت كهربة البلاد على مدى قرن. مع كل هذا التسييس والاستنفار لم نفعل شيئاً، بالعكس رأينا الديكتاتوريات تُبنى تحت أعيننا ولم نتحرّك. يمكن القول إنّنا كنّا قاعدة هذه الديكتاتوريات ووظّفنا حماستنا وطاقتنا في سبيلها. يمكن لهذا التسييس المفرط أن يكون آفة حقيقيّة وأن يذهب في اتجاهات غير محسوبة. لا ننسى أنّ التسييس المفرط هو عمل الفاشيّة وأنّ التعبئة اليوميّة هي أيضاً من الفاشيّة. يمكن أن نقارن ذلك مع الانتفاضات التي تقوم بها الآن أجيال لا نقول إنّها غير مسيّسة لكنّها قطعت مع زمن التعبئة اليوميّة والاستنفار الدائم، استطاعت بذلك أن تنفذ إلى سياسة مميّزة عن تلك التي تُملأ بالأبواق والمارشات العسكرية وتنبع من حاجات أخرى.
أخذني النقاش إلى الحزب الشيوعي. خسرت نقاشاً مع زميل شيوعي فوجدت نفسي على باب الحزب، لا بدّ أنّ هذا النقاش الذي ربحه الحزب كان كلّ عمله ذلك الحين. وجدت نفسي في فرقة كنت أيضاً الولد الوحيد فيها، إلى جانبي الزميل الذي هزمني وكان بالنسبة لي شاباً فبيني وبينه أربع سنوات جعلته في السابعة عشرة فيما كنت أنا في الثالثة عشرة. كان بالتأكيد نبيهاً أحسن الفرنسيّة بجهده الشخصي ويرسم، أمّا الآخران اللذان كانا معنا في الغرفة فكان واحد بطول نخلة وعقل دجاجة، أما الثاني فكان ابن ريف يتعلّم في المدينة ويقرأ بتمعّن النشرة الأخبارية السوفياتية «تاس»، ولم يكن لديهما أيّ ميزة عن الطحين الاجتماعي الذي خرجا منه. كان الأربعة تلاميذ ولم يكن لدى الحزب سوى قواعد العمل السرّي. نصل إلى مكان الاجتماع في أوقات متباعدة بمعدّل ١٠ دقائق بين الواحد والآخر ومن اتجاهات مختلفة. هذه المرّة كنّا سواسية. الشيوعيّة ليست شيئاً يستنتج من كرّاس بحجم الكفّ. وما قرأته عن الفارق بينها وبين الاشتراكية العربية لم يعد ينفع. دعاني إلى دخول الحزب فضولُ المعرفة، لكنّ الرفيقين اللذين كانا من مرتبة أعلى ويحضران اجتماعاتنا للإشراف عليها لم تكن عندهما أجوبة. كان واضحاً أنّ لديهما أسباباً للعمل الحزبي ليس الفكر بينها. لا نجد الشيوعيّة في كرّاس. مع ذلك كانت هناك كراريس لم يتكلّفوا الاطّلاع عليها. الفكر آنذاك من أي طريق كان ليس لازماً للعمل السياسي ولأيّ عمل. لم يكن الشيوعيّون أنبه من غيرهم. كانوا من الفئة نفسها ولم يكن هناك أي مقياس للفوارق، لم تكن على كل حال واضحة لأحد. كان المجتمع يُنبت مجموعات حزبيّة وطائفيّة وعائليّة بنفس الشروط تقريباً. هذه المرة كانت سهولة العمل الحزبي عبئاً علينا. لم يكن هناك أيّ متعة مع قواعد العمل السري ومع الغليان الذي غذّاه عبد الناصر ضد الشيوعيّين. احترستُ وصديقي النبيه من أن نستفزّ أحداً. أنا تكتّمت على انتمائي للحزب. بينما كان زميلانا الآخران في الفرقه لا يستطيعان الكتمان، بل كان الواحد منهما بمتعة مازوشيّة سرعان ما يترافع عن الحزب وعن مواقفه من الوحدة ومن زعامة عبد الناصر فتلحقه مجموعة يتراشق مع أفرادها الجدل الذي سرعان ما يحتد ويتحول إلى تجاذب بالأكف. أنا صوناً لنفسي لم أدخل في نقاشات من هذا النوع لكنّي فعلتها مع صديق مقرّب كنت واثقاً من أنه سيحفظ لسانه، لم يحفظه وأشاع أنّني شيوعيّ فصرت عندئذٍ أهرب منه ومن سواه. لكنّ الضغينة كانت تلعب ولم يفعل السياسيون يومها سوى زرع الضغائن. هكذا صفعني واحد أمام الدكان بلا سبب ولحقني آخر يتصيّد فرصة لضربي. أما رفيقاي المتحمسان فنالهما صفع كثير.
أردنا أن نعرف فطلبنا من الرفيقين المشرفين أن يرسلا أحداً لتعليمنا. كان هذا الأحد موجوداً وسمّياه لنا لكنّه لم يأت. قالا لنا إنه سيأتي ليدرّسنا تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي لكنّه لم يأت. كانت قواعد العمل السرّي تنتهي بأن تخيفنا نحن، وكنّا نحن الذين نقع تحت وطأة سرّيتنا. كنا صغاراً ولم نكن مهيئين بعد لنصبح خفيّين، لم نكن مستعدّين بعد للنّظر في ساعاتنا قبل أن نتحرك، وللدّوران نحو الاتجاه الفعلي، وللتظاهر بأنّنا لسنا نحن وللرعب من الأزمنة والأمكنة.
لم تكن هذه القواعد لازمة تماماً في ذلك الوقت لكنّنا ضخّمناها في مخيّلاتنا حتى غدت أخطبوطيّة وهائلة. لقد شملنا الرعب منها، وبدلاً من أن نشعر بخطرنا خفنا من أنفسنا. ثم إنّنا لم نكن مهيئين أيضاً للشعور بأنّنا منبوذون. لم تكن العلاقة بيننا وبين مجتمعاتنا قد وصلت إلى الحدّ الذي لا نبالي بأن نكون غرباء فيه. كنّا على وشك لكنّ الوقت لم يحن. لم نحتمل أن نمشي ونحن محاطون بالعيون. أن نعبر ولا نعرف من يتربّصون بنا، من يمكنهم أن يوجهوا لنا لطمة على الخدّ. لم يكن لنا قبل بهذا الشرّ، ولا نطيق أن يتدفّق كلّه علينا. لقد لامس ذلك الخوف الطفولي من الغيلان ومن مصاصي الدماء ولم نكن افترقنا من زمان عنه.
حزبان في ظرف أشهر
كنّا نتوخّى من شبابنا الأوّل أن يعوّضنا عن طفولات جريحة وسوء تفاهم غير مفهوم مع مَن حولنا، ولم نكن على استعداد لكي نبدأ هكذا. لم يكن في الأمر أيّ متعة. كان بوسع تعليمٍ ما أن يعطينا امتيازاً. لو عرفنا ما هي الشيوعيّة لوجدنا في ذلك ثمناً مقبولاً لانعزالنا لكنّنا الآن كنّا ندفع خسائر باهظة مقابل لا شيء. كنّا منبوذين ومتّهمين ومهدّدين بلا سبب واضح سوى أنّنا نحمل على جباهنا هذه الماركة التي لا نعرف معناها. والتي لجهلنا ما هي بدأنا نحن أيضاً بالخوف منها. كان يكفي أن نعلم أنّها تهمّه وأنّها خطيرة إلى هذا الحدّ لنتشوّش حيالها. هكذا بدأت الاجتماعات تضطرب وأخذنا نتبادل التغيّب عنها حتى توقّفت.
يمكن أن نتابع مصائر أفرادها. النبيه فوزي سقط ابنه في عمليّة انتحارية لحزب الله وتحوّل بعد ذلك إلى متديّن متفانٍ في إيمانه. الأحمق مرتضى تحوّل إلى عضو في القوّات اللبنانيّة وكتب كتباً فيها تعريض بالخميني وبالنبي محمد، جُوزيَ عليها بالقتل. الأحمق مازن نال جائزة سعيد عقل على جملة وردت في رسالة له إلى بريد القرّاء. في السادسة عشرة تعلّمت التدخين. لم أكن مستعجلاً، في ظرف أشهر عبرت حزبين، هذا أشبع تطلّعي للرجولة، عملت عمل الكبار مرّتين، يدخّن الواحد في البداية ليراه الناس وينتهي إلى أن يدخّن ليتحمّل وحدته، أنا في نصف سنة خرجت من حزبين وحيداً. كلّفتني التجربة يضع وريقات من كرّاس، ماذا كنت لأشتري بكرّاس كامل، بكرّاسين أو ثلاثة، هذا ما جعلني فوق مصاف الأحزاب. كان عليّ أن أنتظر حزباً في مصافيّ أو أخترع حزباً لنفسي.
هذا الحزب كان عليه أوّلاً أن يتعلّم، لا بدّ أن يخطر ذلك في حلم الأمين العام، تلك الآونة خطر الحلم لمثقفين وضباط وبيروقراطيين. الأرجح أن التفاسير اختلفت ولكن ليس كثيراً. لقد فسّروه مزيداً في العنف، مزيداً من التصوّف الشعبي، مزيداً من (أيها الشعب أنت إلهي). أحياناً كان التفسير هو تعطّش غير عادي للتصفية الداخلية أو ميل إلى الكذب الملحمي. كان على النماذج التي يقاس عليها أن تبدأ من نقطة صحيحة، المهمّ أن نجد البداية، الفرضيّة الصحيحة والمناسبة. يحتاج الأمر إلى رؤيا، أصحاب الرؤى يجازون بالطاعة الكاملة. كان الذين يرون الأحلام يوكل إليهم تفسيرها.
التنظيم يتحوّل إلى مدرسة. لكن صاحب الرؤيا وحده يقرأ، ليس وحده فقط. هناك أكثر من ظهير يشاركه القراءة، لا بد من أن يتكلم إلى أحد. في المدرسة هو الأكبر سناً والأعلم، والأفصح والأخفّ دماً، الجميع مستعدّون للإقرار له بذلك، شروط القيادة مجتمعة فيه وهو كلّما تكلّم واسترسل جعلها أكثر انحصاراً. لكن المدرسة تتحمّل كلّ آفات المدارس. هناك بالطبع التفتيش، هناك الفطنة والنباهة والشطارة، وهناك البلادة التي لا ينفع معها الدرس والإصغاء فمن عقله سميك لا تنفذ إليه الإبر. الحقيقة أن المدرسة كلّها لعبة، صاحب الرؤيا وظهيراه يقرأون ويتبادلون الكلام وحدهم، والآخرون تفيض عليهم النعمة ويصلهم من الحكمة والعلم رشاش أو أكثر. المهمّ أنّ صاحب الرؤيا وظهيريه وحدهم يتعلمون ويغدون أكثر أهليّة، والذي يحدث في القاعة أنّ شبه حلقة من الطاولات يجلس وراءها المجتمعون وصاحب الرؤيا يجلس بين من يجلسون. سيكون الجميع بين يديه، وسيكون القطب بينهم، وسيبقى على كرسيّه ينقّل عينيه في الحاضرين ويبلّغهم بالنّظرات رسائل متفاوتة مختلفة. لقد راهن على الناجحين كما راهن على الراسبين، وحين يصل الكلام إلى راسب محتمل يلتفت إلى زمرته ويبلغهم بالعيون أنّه لن يجد جملة واحدة مقبولة، وحين يحلّ دور ناجح محتمل تقول النظرات اسمعوا وافهموا. النظرات تبلَّغ وتشجب وتمتدح وتتآمر، والنظرات هي التي توزّع الأدوار، وهي التي تقوم بالجمع والإحصاء وتستنتج الحصيلة، والحقيقة أنّنا كنّا جميعاً خلف الطاولات لعبة هذه النظرات ومجالها، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ التنظيم كان مجموعاً موحداً في عين القطب. إنّ وجوده الماديّ والفيزيائيّ كان هناك، وبعيداً عن عين القطب كان يتشلّع ويكاد يكون غير موجود.
حملة التطهير
انتهى أوان المدرسة. البعض لم نعد نراهم، لقد غادروا بصمت. ا.ن الذي كان منظوراً في محلته. ص. س الذي كان موظفاً عالياً. ف. د الذي كان صاحب مزاج ناريّ، كلّهم غادروا. لم يثوروا، لم يحتجّوا. لقد وصل الإيحاء إليهم أخيراً، اقتنعوا بأنّهم شبعوا من التنظيم أو شبع منهم، ولا يمكنهم مثل الأصغر سناً أن يبدأوا من الأوّل. خرجوا وصار الصاحب أكبر سناً بل غدا وحيداً في سنّه. الأمر الذي جعله بمثابة أب للباقين. في إحدى خلوات القراءة الطويلة هذه كانت العاصفة تدور بين نخاريب قضبان النافذة المغلقة والمطر يطرطق على الزجاج، وفجأة عنّ لأحدهم أن يخرج. كنّا نعرف أنّه بعد أن يغلق الباب وراءه لن يعود. دفع الباب بيده ووقف يحيّي قبل أن يغادر. فجأة سكتت العاصفة كأنّما كان ذلك بأمر أو كانت تعوي فقط في رؤوسنا. لم يعد هناك مبرّر لها ما دام الرجل خرج بالحسنى. لم نتعب كثيراً في إقناعه. سرعان ما خاف وهرب.
لم تكن العاصفة دائماً موجودة ليهربوا تحت جناحها. أحياناً كنّا نضطر إلى أن نتصرّف نحن. نحن الحلقة الصغيرة حول الصاحب، كنا نتصرّف كفرقة إعدام. من لم يتكفّل «نقْد الاقتصاد السياسي» بإزهاقه تكفّلنا به نحن. يتعيّن علينا عنذئذٍ أن نقول له أن يرحل. كنّا نناضل لإخلاء التنظيم، نركض من مكان إلى آخر ويوافينا رفاق اكتهلوا في التنظيم نخبرهم أنهم ما عادوا ينفعون له. الذين نسوا أنفسهم في التنظيم وما عادوا يذكرون حتى كيف دخلوا، كنّا نذهب لنسلّمهم صكوك تطليقهم. كان التنظيم بالنسبة لأكثرهم أشبه برابطة عائليّة لا تحتاج إلى فكرة لدعمها ولا أحد يفكّر فيها، واليوم نذهب لنطردهم بحجّة أفكار لم يسمعوا بها. كان البعض يسكت والبعض يغضب وكنّا نفضّل أن يغضبوا فهكذا نجد حجة أقوى عليهم.
كنّا نفضّل أن يطردونا هم فهكذا نشعر أكثر بمعنى لتصرّفنا. أمّا هؤلاء الذين يصغون بدون أن يبدو عليهم أنّهم فهموا فكانوا يربكوننا، إذ لا يليق أن يحصل ما نسمّيه تطهيراً بدون معركة. كنّا بضعة أشخاص. وافقنا لحظة تطوّر في حياة الصاحب الذي كانت سيرته الشخصية هي مثال التنظيم مع فارق أنّ حياته تنمو والتنظيم لا ينمو. لذا كان ينبغي كسر التنظيم من حين إلى آخر ليتابع تطوّر الصاحب ويبقى موافقاً لسيرته. حين يفكّر الصاحب فعلى التنظيم أن يفكّر وفي الاتجاه نفسه. على التنظيم أن يسير وراء مثاله الشخصي، زمرتنا الصغيرة كانت لتدعيم هذا المثال وتحويله إلى اتجاه. لكن المسألة مع ذلك تبقى طيّ نفس الصاحب وتظلّ من أسراره. إنّ الدخول إلى نفسه مستحيل ولو أمكن لرأينا أنّ الحسابات والأفكار تتداخل وتفسّر بعضها بعضاً. أمّا الزمرة التي هي نحن فهي إسناد لا تقوم رئاسة بدونه. كنّا نبتهج كثيراً بعد كلّ حفلة تطهير ونحمل إلى الصاحب فروة رأس جديدة. لقد أدخلنا التنظيم في مرحلة الأفكار لكنّنا كنّا الوحيدين الذين نفكّر، أمّا الرؤوس غير المفكّرة فجزاؤها التطهير وهكذا يمكن تشبيه التطهير بحفلة جمع للرؤوس.
ر. أ. لم ينتظر حتى نهاية الاجتماع قال للمعترض «هذا خط التنظيم. من هـ الليلة اعتبروه هيك. المش عاجبو يطلع برّه» وطلع خمسة ودَّعهم على الباب بضحكة عالية. لا بدّ أنه تذكّر في هذه اللحظة أنّ قائداً شيوعياً قال لمنسحبين مثلهم «إلى مزبلة التاريخ». أنا تذكّرت «ما العمل» طوال الوقت، والنتيجة أنّنا نحن الذين طردنا من الاجتماع وبقيت الأكثرية التي ضدّنا فيه. كانت الحصيلة كبيرة، كنّا نركض إلى الصاحب وننثر الرؤوس بين يديه ونحتفل بعشاء متواضع في مطعم بسيط. نأكل كثيراً ونضحك كثيراً فهناك شهيّة عارمة مثل حماستنا، التي لا تُصدّق، للتطهير.
ليس من الضروري أن نتابع مصائر الزمرة. الصاحب سكت بعد أن مرّ بأدوار ملحميّة. أظنّه بدأ من وقت حضوره التاريخي. ا. أ. صار تاجراً ومني بكارثة ماليّة وهو الآن يعيش متخفّياً في شخصيّة التاجر التي لم يعد له سواها. ع. س. صار إرهابيّاً وقتل برصاص أحد زملائه. ب. س. صار كاتباً بالإنكليزية. ب. ن. صارت تقرأ أكثر بدون أن تجد من تكلّمه عن قراءاتها. أمّا أنا فأجد الآن حصّة كافية من الاكتئاب لأستمرّ في كتابة هذه السطور.
عندما انتهى التطهير وانتهت حفلة الرؤوس فقدت حماستي. انحسر الجوّ الملحميّ واحتفالات التطويب وعاد التنظيم يجرجر نفسه. كان عليّ أن أركض من اجتماع إلى اجتماع، أن أرتجل أو أجد بسرعة المادّة التي يفترض أنها، وليس سواها، التي تربي مثقّفاً بروليتاريّاً، والتي بمجرد أن تخرج من فمي تغدو لازمة وفي محلّها، وهي وليس سواها درس اليوم. كان الارتجال يؤلمني وكنت أعطي وزناً أكبر للإبداع وأعرف كيف أزن كلامي. أشعر قبل غيري بسقطاته وارتباكاته وخلطه ولا أتسامح مع نفسي لذلك، بل يعاودني ذات الشعور الذي دهمني ذات يوم في أحزاب أخرى وهو أنّني غشّاش. أنّ هذا الحكي الذي صرت مع الوقت لا أجتهد لتنظيمه أو ترتيبه، والذي كنت تقريباً أكرّره بالحرف من اجتماع إلى اجتماع، محال أن تكون له نتيجة، فكيف بأن يكون في لحظة منه كلام التاريخ أو صدى التاريخ.
عاودني ذلك الشعور القديم أيضاً بالخفّة، بالخفّة إلى حدّ الغيبوبة. كان ما يحدث في الاجتماعات الطويلة غرقاً، غرقاً فعلياً في كلامنا. كان ذلك مهانة للوقت، إذ لم يكن وقتنا هذا الذي كنّا نمضيه في اجتماعاتنا، كان طيراناً للوقت الذي يمرّ محاذراً أن تصطفق أجنحته ويوقظنا. كان الوقت هكذا يتحوّل إلى نوع من سبات، من خدر حقيقي، وكنّا بطبيعة الحال، ننسى أنفسنا، ننسى حتى شهواتنا وأحاسيسنا ونتحوّل إلى أكياس من لحم، إلى ماكينات، ذلك أنّ شيئاً من الأوتوماتية كان لا يدخل فقط إلى أفكارنا، بل إلى حركاتنا. كان الكائن السياسيّ، الذي نصيره لا يعني شيئاً سوى الغشّ إلى درجة تصديق النفس، الغش إلى درجة أنّ لا حاجة بعد إلى الصدق.
لا تطهير، لا حماسة
الكائن السياسيّ الذي كنا نصيره كان تقريباً هذا التنويم التدريجي للنفس وما يتّصل بها. كنت أدخل إلى الاجتماع وقبل الدخول كان عليّ أن أقوم بتعليق الوقت، تعليق النفس، وكان على من يحضر الاجتماع أن يكملوا اللعبة ناقصة الخيال. ذلك أنّ الخيال الذي ينشط في أوّل الانتماء سرعان ما يذبل. عندئذٍ لا يعود الخيال ينقلنا إلى المكاري طانيوس شاهين أو إلى ذي اللحية المدبّبة لينين أو ذي الياقة المدوّرة ماو تسي تونغ. حتى هذا الخيال الميغالوماني كنّا سرعان ما نفتقده، ويتبقّى لدينا الذكاء الكافي لكي لا نصدّق أنّنا مندوبون لخلافة هؤلاء أو إعادتهم، يبقى لدينا الذكاء الكافي لنضحك من هذا الخيال والسقوط في واقعية صفر تماماً، واقعيّة ليس فيها واقع على الإطلاق. إنّها هذا النوع من الغشّ الذي لا نعود نأبه له، إنّه عملنا ونحن نقبله كعمل لنا، أي أنّنا لا نعود نفرّق بيننا وبينه. أمّا هؤلاء الذين يستمرّون في تقمّص غيفارا أو لينين فكانوا بلَهاء حقاً وكنّا نعرف من حكيهم أنّهم بلهاء. أذكر ذلك الرفيق الماوي الذي التقيت به في السجن والذي أخذني من ذراعي في الباحة وصار يقول لي وهو يجرّني معه بخطواته الواسعة. يا رفيق كوبا تحررت بـسبع سنين. الصين تحرّرت بعشرين سنة. وعندما أتى به من حفلة تعذيب انهار على الأرض ولم أستطع أن أرده إلى الوعي، لكنّ الجميع ضحكوا حينما رويت الخبريّة، لم أجد بينهم من احترم حكاية تحرّر كوبا والصين. لقد وجدوها، عن حق، خيالاً. لكنّ الرفيق الساذج كان الوحيد الذي ما زال يملك قناعة خيال، فيما نحن، لم ينفع احتجاجنا على الواقع إلّا في الحياة دونه.
لم ينفع اعترافنا على الطموح الرأسمالي إلّا في تجريدنا من كلّ طموح. كنّا عمليّاً هؤلاء الكسالى الذين يتردّدون كثيراً في مباشرة أيّ عمل ويفضّلون على ذلك الحياة في نضالية سرعان ما تبدأ تطاول النفس والعقل. نبدأ في إعادة أسلافنا المباشرين إذ معظمنا تحدّر من أجداد كان الحكي تقريباً عملهم الوحيد: ملاكين أو مشايخ أو رجال دين، كانوا مجرّد بياعين للحكي وغالباً ما يتعيّشون منه، وقد تربّينا في بيوتهم على أن لا نعمل شيئاً. أذكر ذلك الرفيق الذي حدّثني عن مباراة البصاق التي كان هو وأصحابه يتسابقون فيها على إصابة الحائط ببصاقهم. أحياناً أفكّر أنّ هذه كانت تقريباً كناية صالحة عن عملنا الحزبي. كنّا في اجتماعاتنا نصيب، حين نصيب، كما كان هؤلاء يصيبون ببصاقهم، أمّا حين نخطئ فلم تكن أخطاؤنا عظيمة، حتى هذه كانت أيضاً كبصاقنا. كان الصواب والخطأ رديفين ويتساويان في انعدام الوزن.
ما أن انتهت حفلة التطهير حتى انتهت حماستي معها. ما بقي كان أشبه بالعمل المكتبي. كان وجود خصوم مباشرين دليلاً على أنّنا نملك شيئاً، أمّا في غيابهم فنحن نعرف أنّ ما نقوله لا نملكه. إنّه فقط على طريقنا إذا تابعناه، كنّا نحتاج إلى تلك المعركة ولم يفدنا في شيء أنّهم ألقوا سلاحهم، لم يفدنا في شيء أنّهم سلّموا. كان لديهم عمل أجيال، أشياء صنعها زمن حقيقيّ. أشياء وجدت حقاً، وفي مصارعتها فحسب، تراءى أنّ لدينا ما هو فعلاً لنا. بعد أن انتهت المعركة التي اخترعناها نحن بحماستنا، بحاجتنا إلى نغدو شيئاً، لم يعد لدينا أيّ مرتكز. ما كنّا نتوجّه إليه صار مع الزمن أبعد فأبعد عنّا، صار أكثر فأكثر صوّريّة. أكثر فأكثر سرابيّة. الكائن السياسيّ الذي كنّا نصيره كان فقيراً ومعدماً، ليس هذا وحسب، كان برّانياً لدرجة نتساءل معها إذا لم يكن داخلُه انتُزع وحُشي مكانُه أشياء لا تخصّنا فعلاً.
لم يكن لدينا شيء لذا حُشينا أشياء مستعملة، أشياء انتهت صلاحيّتها، أشياء لا نعرف كيف نستخدمها ولا مجالات هذا الاستخدام. الكائن السياسيّ الذي كنّا نصيره كان مصاباً بفقر دم فظيع. وجد عوضاً عنه في حكي تراكمي يكدّسه بلا حساب. أمّا أنا الذي احتاج إلى حماسة دائماً والذي لم يكن اهتمامي بالعمل السياسي سوى هذه الحاجة إلى حماسة. أنا لم أعد أشتاق إلى هذا العمل. بدا لي أنّه لا يختلف كثيراً عن استفراغ حياتنا بأيّ وسيلة أخرى، إنّه أيضاً نوع من إدمان الضجر، إنّه الرديف للسمَر الذي إذا امتدّ ساعات صار أيضاً ضجراً، كان أيضاً نوعاً من الغرق في الاجتماعيات باسم آخر إذ الاجتماعات الطويلة، والتي طولها المبالغ به علامة جدّيتها وإنتاجيتها، كانت نوعاً من العشرة والصحبة والتسلية، ومثل العشرة الطويلة أكثر مما يجب كانت تنتهي بالضجر.
الفَلَق والفرّوج والكرباج
صرت أتهرّب وخاصّة من الاجتماعات القياديّة. ذلك الاجتماع التثقيفي مثلاً، مدرسة الحزب صرت أتغيّب عنه كلّما استطعت وبالتأكيد لاحظ ذلك الرفاق الذين كانت الاجتماعات المنظّمة هذه توافق مزاجهم. تحوّلت من حيويّ في حفلة التطهير إلى بليد بعدها. بدأت أغدو شيئاً فشيئاً حالة خاصة إلى حين وزّعنا منشوراً ينتقد الجيش الذي لم يتصدّ للإسرائيليين حين قاموا بعملية كوماندوس في المطار ومرّوا على أثرها ببضع طائرات. اشتركت في التوزيع، كان على أشخاص الزمرة أن يكونوا في المقدّمة. بعد ذلك قاموا باعتقالي وتعذيبي بطبيعة الحال. عرفت عندئذٍ ما هو الفلَق وما هو الفروج وما هي ضربات الكرباج وما هي الصفعات وما هي المهانات وحتى ما هو التعذيب بالكهرباء. كنت وحدي متروكاً بين أربعة جدران لا يمكنني داخلها أن أرفع صوتي لذا أخنقه في داخلي، وتحت عسف قوة عاتية تستعملني وتحاصرني وتقع بكل وطأتها عليّ. كنت بكلّ وجودي مملوكاً لآخرين واقعاً تحت سلطانهم، جسدي الذي هو في هذه اللحظة حدود وجودي يصبح ماكنة للرعب والأذى ويتمّ تدميره وتدمير النفس التي في داخله بحيث تغدو أيّ فكرة أو أيّ انفعال بمثابة جرح. كنت هكذا ألعوبة الأقوياء الذين لا سبيل إلى نكران قوّتهم، أجسادهم نفسها تملك سلطة. عالم القوّة ينقضّ عليّ. عالم القوّة يحوّلني مثلاً. يحوّلني موضوعاً له. كنت تحت هذا العسف عاجزاً عن أن أفكّر، عن أن تكون لي قضيّة، عن أن أواجه. لقد تمّت تصفيتي هكذا من اللحظة الأولى. لم تكن لي أيّ إرادة، حتى إرادة الاستسلام. لم أجرؤ على أيّ فكرة، على كلّ ما يحتاج إلى حريّة. كانت الحرية تثير خوفي وأحاول أن أحاصر في داخلي أيّ فلتة فكر أو فلتة إرادة لأغدو بكاملي تحت إرادة معذبيّ، لأكون تحت مزاجهم. لأمنحهم في هذه اللحظة كلّ وجودي ولأعطيهم عقلي ونفسي وإرادتي أيضاً. كنت أتحوّل إلى كومة من الخوف والاستسلام. أنكرت في البداية لكنْ عندما رأيت أنّ رفيقاً سبقني إلى الاعتقال قال كل شيء، لم أفهم كيف عليّ بعد أن أسكت لكي لا أمنحهم أيضاً حجّة قانونيّة عليّ أو على التنظيم. كنت تحت أقدامهم وأيّ قانون، إذن يتبقى لي. كنت تحت أيّ قانون، أياً كان، وأقل بكثير من أيّ قانون، لذا صادقت على ما قاله الرفيق. كان التعذيب توقف لكنّ شبحه لا يزال قريباً، قلت لنفسي لست أنا الذي سمّى. إنّه هو لكنّي لم أصدّق نفسي، في مطرح مني كنت أعرف أنّي خفت. أنّني صادقت لأنجو، صادقت لأنّهم لم يطلبوا منّي أكثر. لا أعرف ماذا كنت فعلت لو طلبوا. نلت من المحقق صفعة واحدة، صفعة واحدة لكن المكان ظلّ هو المكان والعزلة هي العزلة ولا شيء يمنع أن يحفروا القلق وأن تتحوّل القاعة إلى حفلة تعذيب. صحيح أنه سمّى وأنهم عرفوا لكنّه أوقع أشخاصاً يحتالون لإيقاعهم، الأمين العام مثلاً، ثمّ إنّ المبدأ أن لا تتكلم. مزّقوا أ. أ. لكنّه لم يفُهْ بكلمة. هذا تكلّم عنه حتى خصومه. حتى هؤلاء أعجبتهم شجاعته أمّا أنا فلا أستطيع أن أتبجّح. صفعة واحدة كانت كافية. صمدت أثناء التعذيب لكنّي استنفدتُ طاقتي. كنت مستعدّاً لأي شيء كي لا يعود.
كان عليّ عندها أن أتوقّف هنا، لو كنت حكيماً وفكّرت بفعل. لست مناسباً لعمل كهذا. لو كنت مناسباً لفكّرت أنها معركة بيني وبينهم. وطوال الوقت الذي يضعونني فيه تحت القلق لن أتوقّف عن التفكير أنّ هذه هي إرادتهم وليست إرادتي وسيكون من الأفضل أن أقولها لهم بملء فمي: لن تستطيعوا. لن أتوقّف عن التفكير أنّي، وحيداً ومهجوراً وبين أربعة جدران تحت الأرض، قادر على أن أكيدهم. قادر على أن أواصل معركتي وأن أمنعهم من النفاذ إلى روحي. لو فكّرت هكذا لكانت قسوتهم عليّ أخفّ. لتحمّلت أكثر تعذيبَهم. لا شكّ أنّ الضرب مؤلم جداً لكنّ الذي يجعله أقسى هو الشعور بأنّهم يمتلكونك. إنّك هذه اللحظة مباح لهم. الذي يؤذي أكثر هو الشعور بأنّهم قادرون على أن يخفوك هنا وأنّ صوتك سيختفي معك. لو كنت مناسباً لصدّقت بأن أشياء كثيرة تتوقّف على صمودي وأنّني إن صمدت ربحت هذه المعركة. لكنّي كنت عديم الإيمان ولا أصدّق أنّ شيئاً ما يمكن أن يساوي وجودي. لا أصدّق وأنا تحت أقدامهم أنّ هذه معركة بيننا. لقد أذلّوني. كنت مملوكاً لهم بالكامل. ولم أعترض، وبالتأكيد تركتهم يدوسون على إرادتي ويقبضون على روحي. لم تكن هذه معركة بيننا. لقد استبدّوا بي وجعلوني أعوي وأتشمّم الأرض. ولم تكن معركة بيننا. انصعت لهم تماماً وكنت أرتجف من أن لا يكون انصياعي ظاهراً وأن يشكّوا لحظة في هزيمتي. أرتجف من أنْ لا أبدو خرقة وأن يظهر عليّ، بدون أن أقصد، شيء من عناد. لكنت تحمّلت أكثر لو لم يكن بؤسي يتجاوز ألمي، لو لم تكن المهانة ملء لحمي، لو لم يكن جسدي مدموغاً بها على وسعه. لو لم يكن فيّ أي ذرّة من المقاومة، لو لم أكن مشاعاً ومباحاً.
كان عليّ أن أتوقّف هنا لو كنت حكيماً، وفكّرت بعقل. لكنّي خرجت وصرت لعنة ليست قصيرة قصّة التنظيم. كانت دارت إشاعة بأنّي متّ ولمّا عدت حياً تقاطر الناس على بيتنا ليتأكّدوا من نجاتي. كان الاعتقال والتعذيب رأسَ مال ينبغي عدم المجازفة به. لم يكن لي اسم قبل الاعتقال حتى لدى الشرطة ،اليوم صار لي اسم لا أعرف كيف أتدبّره. إنّها قصة لبستْني وليس من حقّي التصرّف بها. إنّها أيضاً قصّة مدينة إذا اشتغلت المدينة بي وبرفاقي. لم يكن من السهل أن أتملّص. بقيت أسبوعاً بحاله أستقبل الزائرين. جاء الرفاق من كلّ مكان ليسلّموا علي. لم أدع شيئاً لكنّي لم أكذب حين قلت إنّي بقيت يومين تحت التعذيب ولم أتكلّم. كان عليّ أن أتوقّف لكنّي لم أفكّر بذلك. تركت المناسبة تمرّ وبعد أن مرّت عدت إلى التنظيم. عدت في أجواء المناسبة وبالطبع بدأت بحماسة. لكن الحماسة أخذت تخمد يوماً بعد يوم ولمّا انطفأ لم أعد أعرف كيف أتدبّر وقتي. صرت أحضر الاجتماعات ملولاً وبقدر متزايد من الصمت. ثمّ بدأت أنسى الاجتماعات ولا أحضر بعضها. حتى تلك التي أحضرها كنت أبقى فيها ساهماً منتظراً بصبر أن تنتهي. لاحظ الجميع والأمين العام أولهم، ولمّا حصل المحامون على نسخ التحقيق وظهر أنّي اعترفت على الأمين العام وآخرين شعروا بأنّي سرقت الاحتفال وصار ممكناً مقابلة ذلك بقعودي وكسلي. لم أتوقّف لكنّي كنت انتهيت. لم يقدّر أحد ذلك حتى أنا كنت لا زلت أقحم نفسي في أمور لست مستعدّاً لها، لم أكن قابلاً لإيمان قويّ بأشياء يخترعها بشر مثلي أعرفهم وأعرف إمكاناتهم. كان ذلك أشبه بأن أصدّق نفسي. أعرف أنّ هذا ما ينتهي إليه كثيرون إن يؤمنوا بأنفسهم. لكنّي أدرى بمناعة الأفكار التي قد تكون وحياً، قد تكون محض تنسيق وقد تكون اختراعاً بحتاً، لم أكن قادراً على إيمان محض بها. تحتاج الأفكار لشروح محكمة لا إلى إيمان.
كانت الحياة الحزبيّة كلّها لي شيئاً يمكن اختراعه على أمل أن يكون صائباً. في الشعر قد يقع الاختراع أو الوحي على صواب، أمّا الكلام فيكفي تداوله وتكراره ليغدو مصيباً، لكن الأمر يبقى اختراعاً في اختراع. إنّه لعب وقد ننسى ذلك برهة لكن ليس إلى درجة الإيمان. لم يكن العمل الحزبي بالنسبة لي إلّا كالتقارير التي أكلّف بكتابتها وأكتشف أنّها، حتى التقارير الحزبيّة، بحاجة إلى اختراع. إنّ شيئاً كالوحي يشترك في إعدادها وأنّ الوحي كلّما كان قوياً، ظهرت هي أكثر حقيقيّة. هذا الوحي ما كان ليستحقّ أن نُضرب وأن نجلد في سبيله. ما كان يستحقّ أن نتعذّب من أجله. أقلّ إهانة وأقلّ تعذيب كافيان ليتجرّد من حقيقته. هناك في العزلة وفي الوضع العبوديّ لن يصمد طويلاً. إذ كان الكلام سياسيّاً فلن تكون حقيقته أكثر. لقد ألفناه نحن أو ألف أناس مثلنا فلماذا علينا أن نموت دفاعاً عنه. قد تكون هذه الحجّة كافية لكن هناك أيضاً شيء قد تسمّيه ضعف الإيمان، الإيمان أيضاً قابليّة. هناك أناس يؤمنون بالحجر لكن هناك أيضاً استعصاء الإيمان. قد أكون أنا من النوع الثاني. والحقيقة أنّي جلدت وتعذّبت في سبيل شيء سأظلّ أنا بدون ايمان به. أهانوني وأذلّوني وكنت شريكاً لهم في ذلك فمع هذا الإيمان الضعيف لن يكون الانطراح أرضاً ورفع القدمين على آلة الفلق، لن يكون تعليقي كفروج للشواء على الآلة، لن يكون صفعي بالكفّين على أذني، لن يكون ذلك سوى عبوديّة. لقد تصرّفوا بجسدي كما لو كنت مملوكهم. كان عليّ أن أتوقّف عندها ولم أفعل لكنّ ما منعني كان أكثر من ذلك. لقد جاء الحزب.
وجاء الحزب
جاء الحزب. هذا شيء لن تظلّ أنفسنا معه. كنا من قبل تنظيماً برسم التأليف ويمكن للواحد أن يخرج ويعود بدون حرج. لكن الآن لم يعد ذلك هيناً لقد جاء الحزب ومن المفروض أن تكون حدوده أكثر امتناعاً. من المفروض أن نحترمها أكثر. أمّا كيف جاء الحزب؟. لم يتغير البلد بالتأكيد. وبالطبع لم يتغيّر التنظيم. بالضبط لم يتغيّر نسيجه الاجتماعي. كلّ ما في الأمر أنّ الأمين العام أبلغنا أن حان الوقت لنندمج مع تنظيم آخر. قبل هذا الخبر لم يظهر شيء منه على الأمين العام. كنّا مع التنظيم الآخر في احتكاك قلما كان سهلاً. فالصراع على نفس الأهداف قد يترك حزازات أكبر، ونحن كنا على وشك ذلك حينما أبلغنا الأمين العام. كانت هذه فكرته وحده لكنّه كالعادة كان قادراً على توقيت صحيح. كان أفضل عناصر التنظيم يكادون ينجرّون إلى التنظيم الآخر والسبب أنّه يحوي عدداً من مثقفين متمكّنين.
كنّا بعشرين مثقفاً جيداً قادرين على أن نصنع تنظيماً. عشرين مثقفاً محترفاً يكاد كل واحد منهم أن يكوّن حزباً. كان المهمّ أن نملك نظرية اقتصادية عن البلد. هذا ما كان ينقص وبدونه لا نكون حزباً. كان ينقص أيضاً أن نشبك بين الاقتصادي والسياسيّ والإيديولوجي. أن نشبك بين الأحداث وبين محصلة ذلك. أن نشبك بين عناصر التنظيم ونسهّل اندماجهم في جملة واحدة وإنشاء واحد. كان هذا كله لا يحتاج إلى أكثر من عشرين شخصاً متمكناً. أمّا العمليّة نفسها فكانت مرتكزة على الابتكار. الابتكار ونوع من الخيال القادر على التركيب. تركيب فكرة على فكرة وتركيب مبنى من كل ذلك. كنّا تقريباً وحدنا بدون تحالفات وبدون ضغوط سياسيّة وحتى بدون ممارسة، لذا كان هذا الخيال طليقاً وقريباً من التكامل وقادراً على الإبهار. كان هذا يجعلنا واثقين جداً من أنفسنا ومتعالين على غيرنا الذين ليست لهم ملكتنا. الآخرون يعبّرون عن أوضاع لا يقدرون على مغادرتها بينما كنا أحراراً وغير مقيّدين بأيّ وضع. لقد أفادنا انفلاتنا السياسيّ وتلاءم كثيراً مع مقدّراتنا الفكريّة وجعلها تظهر في أفضل حالاتها. لم تكن سياسات الآخرين غير ارتباطات غير مفهومة وبدون قدرة على الدفاع عنها وبدون فوارق كبيرة. أمّا نحن فلم تكن لنا ارتباطات ندافع عنها، وكنا نملك لذلك فوارق حقيقيّة نحسن أن نسنها وأن نواجه بها. كانت ممارستنا هي هذه الردود التي نحسنها وقلّما نخرج من هذا المحيط الكلامي. كنّا نحسن تصنيع الكلام وتصنيع المواقف واستغرق ذلك تقريباً كلّ ممارستنا.
في داخل التنظيم كان العشرون مثقفاً يتصرفون كما لو كان الحزب قائماً. في البداية انتشروا في التنظيم واستقلّ كل واحد بخلّية. ذلك جعل الخلايا تواكبهم في الابتكار. بسرعة صار التنظيم يتكلّم لهجة واحدة، بسرعة تعمّمت أساليب ومقدّمات وطرائق تفكير، بسرعة صار التنظيم فطراً نرجسيّاً وغدا الرفاق خلايا هذا النرجس الكبير. كان هذا يظهر في الأغلب في مجادلاتنا مع الأحزاب الأخرى التي سرعان ما تتحوّل إلى مباريات نربحها. لقد ابتكرنا الجملة السياسيّة التي كان الآخرون يفتقدونها ويحلّون محلّها التكاتف الشعبوي. العشرون عضواً أخذوا على عاتقهم أن يكونوا مثالات للتنظيم، لهذا كانوا يمانعون في أن يحتلّوا مراتب فيه، لكنّ هذه الممانعة كانت بدون قصد تعبّر عن شعورهم بمكانتهم وخوفهم من أن تطابق هذه المكانة مرتبة مسمّاة، أو هو شعورهم بأنّهم بهذه المكانة لا يحتاجون إلى مرتبة. المهمّ أنّ المراتب التي شاركهم في الامتناع عنها أفضل العناصر صارت منحة لعناصر عادية للغاية وهذا ما جعلها غير فاعلة. لقد بدت المراتب الأعلى وكأنّها انتقاص من أصحابها. فحيث كان العشرون مثقفاً كان الثقل.
عشرون مثقفاً
بالطبع كان التنظيم يساس من الأسفل. ذلك بدا بعد وقت غير مفهوم وبدأ البحث فيه. بالطبع كان العشرون المترفعين عن الحضور الشخصيّ. لا يتجاوزون أشخاصهم في المراتب فقط. بل يتجاوزونها في الداخل، في كل ما يمكن اعتباره علاقة شخصيّة. حاذروا أن يجعلوا من حبّهم أو كرههم حداً تنظيميّاً. هذا ما عتّم بالكامل على علاقاتهم الشخصية وجعل النقاش، حتى حين يشوبه شيء من ذلك، لا يظهّره وبالتالي لا يمكن لمن لا يعلم أن يلحظه.
كانت المشكلة بدأت تظهر. التنظيم يدار من الأسفل. إنه مقلوب وغير عمليّ. كان العشرون مثقفاً هم أول من شعروا بالمشكلة المتسببة عن تواريهم أنفسهم. عندئذٍ أخذوا يتبادلون التفاسير ويتراشقونها أحياناً. كان العجب الأكبر أنّ النموذج اللينيني «المركزية الديمقراطية» غير ملحوظ من قِبل أشخاص اعتبروا أنفسهم أمناء على النظريّة. كان هذا النموذج هو مثالنا التنظيمي، لذا استغرب أكثر العشرين أن يفوتهم ذلك وأن ينجرّوا إلى غيره. لقد سقط من ذاكرتهم أحد الكتب التأسيسية، تكفي استعادته ليكون الأمر محسوماً. لم يكن هذه سوى الفراغ. مع ذلك تجرّأ قليلون ونازلوا. قالوا لسنا تنظيماً شيوعياً، نحن مجموعة مثقفين تتنافس على القراءة وتختلف عليها. لم يكن لمسابقات القراءة هذه أيّ معادل في التراث اللينيني. كان علينا أن ننتظر سنيناً لنقرأ بدون حرج «تنظيمات المثقّفين». الخلافات التنظيميّة في التراث اللينيني ذات مدلول طبقي وعلينا أن نفهم خلافاتنا هكذا. لم يكن هناك شيء بدون هوية طبقيّة وافتراض ذلك لا يعني سوى الخبط في الفراغ. كان لينين معنا، خصومنا، حتى لم يستشهدوا به، لم يعتبروا أنّهم بحاجة إلى ذلك. لم يكن سقف الخلاف هنا بالنسبة لهم، اعتبروه أنّه بالتأكيد في مكان آخر. بالنسبة لنا لم تكن لديهم أي حجّة، لم يكونوا حتى داخل النقاش، كانوا فقط يناكفون. استغربنا عنادهم، كان جدلهم مجرّد لجاجة. كانوا في معظمهم من التنظيم الآخر الذي بالكاد اندمجنا معه. لم نفهم هذه المكابرة «ضدّ لينين»، لم نفهم إصرارهم عليها. كان المؤتمر الأوّل للتنظيم انتهى بإقرار المركزيّة الديمقراطية وبانتخاب مكتب سياسي لم يضمّ بعض العشرين مثقفاً. كان هذا بديهياً فعدد أعضاء المكتب السياسي لم يبلغ العشرين، لكنّ هذا لا يمنع أنّ واحداً أو اثنين أبعدا عن قصد. حتى عمليّة الإبعاد هذه لم تكن ملحوظة، على الأقلّ بالنسبة لنا، فكلّ هذا جرى فيما كان حتى وقت قريب التنظيم الآخر. الذين أبعدوا والذين كانوا وراء الإبعاد كانوا منه، والذي قال إنّ الخلافات خلافات مثقفين فحسب كان أيضاً منه. لم يكن الوقت حان حتى لنلاحظ ذلك. بعد المؤتمر الأول لم يطل الوقت حتى بدأ الاشتباك، دار حول الطريقة التي يمكن بها للمكتب السياسي أن يكون مرتبة أعلى. هل يكفي عضو واحد منه ليشكل سلطة؟ كان بالإمكان حل هذا الإشكال وبالفعل وجد حلاً: المكتب بكامل أعضائه، باجتماعه هو سلطة وإذا اختلف عضو منه مع مرتبة أدنى بُتّ الخلاف في اجتماع قريب له. كان هذا الجواب بسيطاً ومرضياً للجميع. أزيحت المشكلة وكان ينبغي الانتظار قليلاً حتى يهدأ التنظيم بل كان ينبغي الصبر والتغاضي، فالجدل حول المسألة ترك ذيولاً وأثار في حينه غباراً ليس بالقليل. ولا بدّ أنّ اللغط الذي صاحبه سيستمر وقتاً بعد طي المشكلة. بالفعل ظل الصخب على حاله في قاعدة التنظيم ولا بد أن المشادّة التنظيمية حميت في بعض أجزائها.
بداية التساقط
حمل عضو المكتب أصداء هذه المشادّة إليه. كان المكتب قد ابتكر حلاً رضيه المخالفون وأحرى به أن ينتظر حتى يفعل فعله. المشكلة انتهت وبقي على الوقت أن يكمل. الغريب أن المكتب الذي أبدى تفهماً للمشكلة لم يبد التفهم نفسه لذيولها. حين نقل إليه العضو أصداء المشادّة اعتبر أعضاؤه أنّ الكيل طفح، وبات لازماً اللجوء إلى العقوبة. كان في المكتب السياسي أربعة أعضاء من تنظيمنا المندمج وثلاثة من التنظيم الآخر. بين الثلاثة واحد جاء من سفر طويل وآخر كانت حصانته الأخلاقيّة تمنعه من أن يصغي لما هو خارج العلاقات التنظيميّة، لذا لم ينتبه المكتب لما يتململ في القاعدة، لما فيها من حزازات مزمنة ولما هناك من خصومات وجروح ومشاعر سيئة. ثمّ إن تنصّل البعض من العلاقات الشخصية كان حقيقياً، إلى حدّ لم يشعروا معه بوجود هذه العلاقات وبقوّتها وتأثيرها، في حين أن ذلك لم يعن بالنسبة لآخرين سوى كبت ينتظر مناسبة لينفجر. هكذا ما أن صدر قرار التجميد بحق أربعة أعضاء، حتى بدأ التنظيم يغلي، وبسرعة غير متوقّعة ساند أعضاء أكبر هيئة في التنظيم الأعضاء المجمّدين الذين كان القرار يلزمهم بمقاطعتهم. ساندوهم وهكذا انفرط جزء كبير من التنظيم وخرج في ضربة واحدة معظم أعضاء التنظيم الآخر المندمج. لم يكن مضى شهران على المؤتمر الذي بدا ما جرى وكأنه من ذيوله.
لم ننتبه في حينها إلى أنّنا نتعقب مشكلة جذورها في التنظيم الآخر قبل الاندماج. لم يحدث بعد المؤتمر الأوّل سوى انفجار علاقات تأسست في هذا التنظيم، وسواء كانت مراقبة أو مكبوتة فإنها انتظرت هذه المناسبة لتنفجر. لا بد أنّ انتخابات المؤتمر قد أضيفت إلى رصيد هذه الخلافات وساهمت في تفجيرها. ما ذكره «جميل» ركن هذه المجموعة عن العلاقات كان حقيقياً ومعيشاً. لا نستطيع ونحن نقرأ عن منافسة المثقفين أن نفكر فقط بغيرة المثقف الأضعف من المثقف الأقوى، بل بتعالي هذا الأخير وسلوكه المزدري. يمكننا أن نفكّر، حيث يصعب الفرز، بسلوك الإثنين الاستفزازي. لم تكن منافسة المثقفين حقيقية فقط بل مستفحلة، فالأرجح أنّ مساندة معظم أعضاء التنظيم الآخر للأربعة المجمّدين كانت تستقطب احتجاجاً مركزاً ضد رفيق في المكتب السياسي فالإضراب كان موجّهاً، والأرجح أنّه شعر بذلك فوجد عذرا لمغادرة المكتب السياسي والبعد عن التنظيم، وبالتالي ما يتبقّى من تاريخ التنظيم يمكن اختصاره في متابعة العشرين مثقفاً، وهذا رقم اعتباطي، ومراقبة توزعهم ونهاياتهم التنظيمية. والحقيقة أنّهم تساقطوا عند كل محطّة. لكنّ هذا التساقط تقطّع على مدى زمني غطّى عمر التنظيم
عندما قيل إن أعضاء من الهيئة اتهموا المكتب بالاستبداد، لم تكن هي المرة الأولى التي يسمع فيها أعضاء المكتب تهمة كهذه. في البداية قاس كلّ واحد نفسه على هذه التهمة، لم يكن أيّهم قادراً على أن يستبدّ. لقد وجدوا بالتأكيد واحداً واحداً أنّها لا تلائمهم، لكن عندما تكلموا تكلموا المكتب لا أفراد. إذا كانت التهمة لا تلبسهم كأفراد فإنّها لا تلبس المكتب بالتأكيد. بدأوا بالضحك، قال كلّ عن نفسه إنّ مثله في أمراضه وهشاشته لا يستطيع أن يستبدّ، لكن في النهاية تحوّل ضحكهم إلى غضب.
كان الخصوم يرشقون بأول تهمة يجدونها في قاموسهم، هذا غير جدّي على الإطلاق، وإذا سمحوا به فإنّ هذا اللعب يمكن أن يستغرق كلّ حياة التنظيم. كانوا سمعوا كلاماً كهذا وردّوا عليه في حينه، لكنّ استمراره يعني إصراراً على لعب لا يزيد عن التراشق بالألفاظ. كان بين الضحك والغضب مسافة لحظة، لذلك لم يكونوا أكملوا ضحكهم عندما قال أحدهم بلهجة تصرّ على مخارج الحروف إنّ المسألة لم تعد تطاق وأن لا بدّ من مواجهة. قيل هذا الكلام ليترك أثراً، وبالفعل أخذ الانتباه يتروّس وساد صمت وازن. عندها نهض مجدداً واقترح التجميد شهراً. لم يكن هذا خطَرَ لأحد، لقد سقط في فراغ وبالفعل وجد فوراً مكانأ يملؤه. لم يجب أحد، لقد وجدوا أمامهم هذه القطعة في محلّها فلم يصدّوها، بدأوا يتكلّمون وكأنّ المسألة حسمت وأخذوا في تبنّيها. من خاف من هذا القرار قيل له إن الخوف لا ينفع، وهكذا وبدون أيّ تفكير فعليّ على الإطلاق، اتخذ قرار التجميد.
تمرّد على المكتب السياسي
ثمّ لمّا أخذت الخلايا تحتجّ واتّضح الإضراب التنظيمي، عاد السبعة في المكتب إلى الاجتماع. لقد أخذ قرار التجميد بدون تفكير جدّي وكان النظر فيه لا يزال ممكناً. فهم أنّ نصف الخلايا على الأقل تمرّدوا على القرار وعلى المكتب الذي اتّخذه، لكنّ أعضاء المكتب لم يشعروا بمسؤوليّة تجاه المشكلة. لقد تكلّم القانون وليسوا هم الذين قرّروا. حكمت المركزيّة الديمقراطية و لا حيلة لهم تجاه الأمر. لم يشعروا حتى بمسؤوليّة تجاه التنظيم. بالطبع لم يخطر لأحد تجاه هذا التمرّد أن يراجع قرار التجميد نفسه، لم يخطر لأحد أنّ تمرّداً بهذا الحجم يدين المكتب، وعلى الأقلّ يضغط عليه، وعلى كلّ فهو حدثٌ لا يمكن تجاوزه، ولا بد على الأقل من الوقوف عنده ومعالجته، ولو بمساومة من أيّ نوع، ولو بمفاوضات من أيّ نوع، ولو باعتذار إن لم يكن نقداً ذاتياً. كان ذهاب نصف التنظيم بالنسبة لأعضاء المكتب دليلاً إضافياً على صحّة قرارهم، وسلامة تلك المركزية الديمقراطية التي استعادوها، فأمر بهذه الفداحة مثل على التردّي الذي كان فيه التنظيم، وضخامتُه من ضخامة هذا التردّي، والاسترسال فيه جرم مضاعف، وخطأ يستفاد مرّتين. لقد انتصر المكتب وفي اجتماعه سخر أعضاؤه جهاراً من الإضراب التنظيمي وتبادلوا بابتهاج أخباره وحكوا عن فلان أنه قال هذا وفلان تصرّف بذاك، وأكثر الأخبار تسلية كانت أخبار الأربعة المجمّدين. كاريكاتورية هذه الأخبار تجعل منها شهادات على صحة قرار المكتب، وفي غمرة هذا الابتهاج كنّا تقريباً سعداء بخروج نصف التنظيم، وبدا أنّنا نلنا تأييداً ساحقاً لتدبيرنا، وأنّ الضجة التي أثارها كانت بقوّة وحجم مصداقيته بل، وكانت صدى حكمته وصحّته.
بسرعة تنادت الخلايا إلى الاجتماع، وكان جوابها على قرار التجميد قطعَ رجْل أعضاء المكتب السياسي عن اجتماعاتها. هكذا بات أعضاء المكتب السياسي مطرودين من الخلايا، لكنّ المكتب السياسيّ ولو مطروداً من الخلايا يظلّ هو المكتب السياسيّ. لم تفكّر الخلايا المتمردة بانتخاب مكتب لها، بينما المكتب الذي فقد ثقة نصف الأعضاء تمسّك بشرعيّته. كان التنظيم ولوقت لعبةَ تجاذب الطرفين، في النتيجة لم يكن هناك أيّ حرص عليه منهما هما اللذين اكتفى لكل منهما بلعبته. كان الأعضاء من شتات أحزاب ومنظمات سبق أن تمرّدوا عليها، لذا كانوا أسرع إلى إعلان تمرّدهم والاندفاع فيه. كان التمرّد يطبع تقريباً ممارستهم وهو إلى حدّ كبير رغبتهم الخاصة وفنّهم، لذا مارسوه كوجه آخر لعملهم الحزبي. لم يكن أعضاء المكتب أقلّ تمرّساً منهم، لذا لم يساوموهم ولم يعتذروا لهم. كان همّهم الأكبر هو إبطال لعبتهم وقلبها عليهم، لذا رفضوا عرضهم ولم يتنازلوا إلى النقاش معهم. تركوهم هكذا أمام الفراغ الذي سرعان ما اجتذبهم. لم يطل الوقت حتى سكت الصوت في القاعدة التنظيميّة، كان هذا آخر تمرّد لهم، ذهبوا وذهب معهم الخمسة الذين هم من ضمن العشرين مثقفاً. سيكونون منذ الآن مجرّد مثقّفين وسيجدون بالطبع نظريّة لوضعهم الجديد. لم يكترث المكتب ولا هم اكترثوا، بدا واضحاً أنّ مشروع التنظيم الجديد لا يزيد كثيراً عن لعبة التمرّد هذه. كان هذا أكثر ما يجذبهم إليه. لقد جاؤوا ليتمرّدوا فحسب، وبالطبع رحّبوا بالفرصة التي منحهم إيّاها المكتب السياسي. أتاح لهم هذا أن ينقلوا هواهم إلى الداخل وأن يحوّلوه إلى ملهاة حزبيّة. لم ينتبه أحد مع ذلك إلى أنّ ذلك كان حكماً مبكراً على التنظيم. إلى أنه انتهى في بواكيره، ولن تكون حياته بعد ذلك سوى سلسلة من الانقطاعات.
خرج خمسة، خرج كثيرون
خرج خمسة، قد يكونون ستة أو سبعة من العشرين. خرج معهم كثيرون، بعضهم اختفى تماماً، لم يعد يرى حتى في المقاهي التي ارتادها في الأمس. انفصل حتى عن أصدقائه. لقد كانت هذه نهاية فعلاً، ربما لم تتسع حياته لنهايات أخرى. حين بدأت الحرب الأهليّة سمعنا أنه عاد وتحرّك قليلاً، لكن ذكره بعد ذلك سيختفي تماماً. لقد انتقل بقوله وصلاته إلى ريفه الأول. كان هذا ربما، آخر عهده بالمدينة. منذ الآن سنراه كثيراً في قريته الماضية وعائلته، وسننتظر وقتاً طويلاً قبل أن نراه وجيهاً في قريته أو ركناً في نقابة، أو ناد وحتى رابطة عائلية. هناك من أصابه هوس دينيّ وراح يفتّش عن مكان يختبئ فيه من حرب نووية قادمة. لقد رجع من أميركا بنبوءة كهذه وعاش وقتاً يرتعد منها ثم نسيها وعاد إلى مجرى حياته. هناك من بقي الحادث في ذاكرته، وظلّ يتحدّث كما لو أنّ التجميد غيّر في تاريخ المنطقة. كما لو أنّ الديمقراطيّة قتلت ذلك الحين وكما لو أنّ العمل الثوري لم تقم له بعد ذلك قائمة، كلّ هذا بالتأكيد بمؤامرة من المكتب السياسي لا على الديمقراطية فقط ولكن على التنظيم وغالباً على البلد... وبالطبع كان هناك من استمر يقرأ كثيراً ويكتب أقلّ ولا يفكّر لحظة واحدة في أن يعاود العمل الحزبي، فيما أخذ آخر يستجرّ ذكريات لم تقع.
كان حادث التجميد نهاية الحياة السياسيّة لكثيرين. بدا مناسباً كخاتمة دراماتيكية لتجربة تقطّعت بين عدّة أحزاب وآن لها أن تتوقّف. المفاجئ أنّ كثيرين منهم عادوا إلى الدرس وانتشروا بعد أن نالوا الدكتوراه في جامعات البلد، بينما وصل بعضهم في الدولة إلى منصب مدير عام ولن يعتم الوقت حتى نجد أحدهم نائباً بينما فشل إثنان في الوصول إلى البرلمان، وكانت المفاجأة الثانية أنّ أحدهم صار وزيراً في وزارة قصيرة العمر اختفى بعدها تماماً.
بعد ذلك صار التنظيم، من وقت إلى وقت، ينزف نزفاً سريعاً يتوقّف بخروج بضعة أعضاء. خمسة أو ستة خرجوا مع رفيق اشتكى من مبالغة التنظيم بلبنانيته. خمسة أو ستة خرجوا تأييداً لصين ماو التي دعمت النميري ضد الحزب الشيوعي السوداني لم يبق في النهاية من العشرين سوى واحد كان صار واحداً «حتى في العمر» لكنّ النزف استمرّ، هذه المرّة بدون مناسبة واضحة على الأقلّ بدون مناسبة سياسيّة.
كأنّنا حزب
هذه حكاية حزب لم يقع. إثبات ذلك سيكون صعباً كإثبات أنّ الحرب العالميّة لم تقع. لد تشقّق كثيراً لكنّه تشقّق كحزب فهو حتى في انشقاقاته وربما بسببها كان حزباً، كان الانشقاق يستنفد غريزتنا السياسية ويشحذها وكنّا أثناء النقاش، العارم الذي يشمل كلّ وحدة تنظيميّة ويجتاز التنظيم جيئة وذهاباً عدّة مرات في اليوم، كنّا بسبب هذا النقاش وأثناءه نشعر بأنّنا في معركة تستحقّ أن يكون مخاضها حزباً. لقد أعطتنا هذه المعارك المقْدرة على أن نتكلّم عند مفارق لبنانية وعربية وعالمية، ونشعر عند كل مفرق بأنّنا نؤسّس وأنّنا نجدّ وأنّنا نبتكر. كان يكفي أن نستمع إلى أنفسنا لنزداد إعجاباً به ولنشعر أنّنا نتلقّى كلامنا من التاريخ، أو أنّنا وقعنا، من دون أن نقصد، على وعي سابق علينا بكثير. لا نلبث بعد أن نتكلّم حتى نؤمن بكلامنا وننقله إلى غيرنا الذين يتلقّونه كحقيقة أكيدة وهكذا نزداد إيماناً إذ نصدّق من صدّقونا ونحسب أنّ شيئاً فاتنا هو الذي وجدوه في كلامنا وحملهم على قبوله. كانت نرجسيّة التنظيم توزّعت على أعضائه الذين إذا وازنوا بينهم وبين أعضاء الأحزاب الأخرى شعروا بفوقيّة عليهم، سرعان ما تغدو مقياساً أو معياراً لأهمّيتهم. لم يكن هناك من مآل لهذا الإعجاب بأنفسنا ولهذا الانتشاء بابتكارنا سوى الحزب، الذي وحده، يمكن أن يكون عظيماً وعبقرياً بدون أن نقع في الغرور.
الإعجاب بالحزب فرض علينا هكذا ولن ننسبه إلى أنفسنا، فالحزب ولو تشكل منّا يتيح لنا الخروج من أنفسنا، وبوسعنا أن نصبح كلّما اعتددنا به أكثر تواضعاً، بل هو كلما تمجّد وتعظّم جعلنا أكثر توارياً. إنّه نوع من مخبأ ضخم للجميع وبوسع الجميع أن يكونوا في داخله، وأن ينسبوا إليه أكثر أفعالهم اعتداداً وغروراً. إنّ الحزب هو المغرور وهو المعتدّ وهو النرجسيّ، وهذه جميعها تحسب له. إنها الثقة بالموقع والثقة بالمكان والثقة بالزمن وبالتاريخ، مجموع الذاتيّات يمكن أن يؤلف موضوعيّة ويمكن أن يقع على شيء يشبه القدر ونسمّيه أحياناً أخرى التاريخ.
فكرة الحزب لا تختلف عن الحزب، إنّه مشروع دائم وأبديّ، وإذا لم يتحقق الآن فلأنه لا يتحقق إلّا في المدى الزمني. لذا فإنّنا لا نسأل أنفسنا في لحظة أين الحزب، إنه بالتأكيد ينتظرنا ويكفي أن يوجد في أفكارنا ليكون موجوداً، إنه في الانتظار وسيعثر عليه أحد، ستعثر عليه مجموعة فلا شك أنّه موجود، وإلّا فماذا يفعل الزمن وماذا يفعل التاريخ. إنه موجود وإلّا فلماذا نحن ولماذا وجدنا.
المهمّ هو التحليل
في المؤتمر الأوّل قدم تقرير سياسي وآخر تنظيمي. كتب التقرير السياسي بالطبع رفيقٌ كان أثناء كتابته هو التنظيم وهو الحزب، ولم يكن بأيّ حال فرداً من أفراد أو عضواً من أعضاء. اعتمد التقرير السياسي على تجارب التنظيم التي كانت حتى حينه قليلة: إضراب في معمل في العاصمة، حراك في معمل في الأقاليم وأمور أخرى أقل اهمية. استطاع التقرير السياسي أن يشبك بين هذه الممارسات البسيطة وبين وضع البلد وآفاقه، وأن يستنتج من تجربة التنظيم الضئيلة هذه تحليلاً للعلاقات السياسيّة والطبقيّة في البلد ولحظة تطوّرها ومساره ومستقبلها. كانت تجارب أقلّ من هذه قادرة على استنتاج كهذا، فالمهمّ هو قدرتنا على التحليل، وهي قدرة لا يهمّ معها أن تكون التجربة صغيرة أو كبيرة. المهمّ هو العقل الذي يرى ويحلّل، هذا العقل سيكون حجم التجربة امتحاناً له. إذا كان ناضجاً ووافياً ففي وسعه أن يستنتج من أصغر تجربة ما لايستطيع عقلٌ أقلّ ووعيٌ أقلّ أن يستنتجه من تجارب كبيرة ووافية. القدرة على الشبك والاستنتاج والاستشراف هي التي تقرّر والحزب، إذا كان هناك من حزب، فهو هذا الدماغ الذي يشبك ويستنتج ويستشرف. الحزب هو الذي يرى إلى أبعد، وليس مهمّاً بعد ذلك أن يكون كبيراً أم صغيراً. الرؤية الصحيحة والخط الصحيح هما اللذان يقرران وسيكون بعد ذلك على الزمن أن يتدخّل ويقرّر. لا بأس أن يضيع الرفيق بين كلامه وكلام التنظيم، بل لا بأس أن يعجبه كلامه إذا كان الحزب هو الذي يتكلّم على لسانه. ليس له أن ينتظر حتى يتكلّم الحزب على لسانه فشيوع الكلام العائد غالباً إلى مكانة الرفيق هو الدليل على ذلك. سريان الكلام وتردّده لا يتركان مجالاً للشك في أنّ الحزب، هذه المرّة، هو الذي تكلّم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.