أرهقت الأنظمة العربية، منذ منتصف القرن الماضي، شعوبَها بأشكال من القمع مختلفة. وأرهقت ذاتها وهي تدافع عن شرعية مفقودة بأدوات تفتقر إلى الشرعية. تبادلت الأنظمة وشعوبها العداء، دافعة بالطرفين إلى ركود طويل انفتح، لاحقاً، على التفكّك والانحلال. لا ينفصل العداء المتبادل، رغم خصوصيته العربية، عن دور دولة إسرائيل كعنصر فاعل في «تطور المجتمعات العربية»، الذي شكّلت إسرائيل فيه علاقة داخلية.
أنجز قيام دولة إسرائيل، عام ١٩٤٨، هدفين مترابطين: جاء بالمأساة الفلسطينية، ومنع التطور الطبيعي عن المجتمعات العربية، ذلك أن احتلال الصهيونية لفلسطين استولد مباشرة شعار «الرد على الهزيمة»، فالمهزوم لا يرضى عن هزيمته، كما استولد شعاراً موازياً «تحرير فلسطين» ونصرة الأماكن المقدسّة. سوّغ الشعاران اللذان اعتنقتهما الشعوب العربية قيام انقلابات عسكرية لاحقة، أعطت «الجيش» دوراً مركزياُ في صوغ صفات المجتمعات العربية، التي اعتقدت أن جيوشها «تلبّي» طموحاتها القومية.
ولادة «الدولة الوطنية»
تزامن احتلال فلسطين، كما رحيل الاستعمار عن بلدان عربية متعدّدة، مع ولادة «الدولة الوطنية» التي تقدّمت بخطاب يجمع بين التقدّم الاجتماعي وتحرير فلسطين، فلم تكن الصهيونية قادرة على الانتصار لولا «تخلّف المجتمع العربي». ترجم الخطاب العسكري هدفيه بشعار «وحدة الأمّة»، الذي رأى في الأحزاب السياسية «مرضاً» يجب استئصاله، واعتبر السياسة، من حيث هي، نقيضاً لمصالح الوطن. جعل الخطاب العسكري من السياسة، أو ما دعي بذلك، اختصاصاً سلطوياً، مرجعه الجيش، الذي خسر الحرب مع إسرائيل، واستطاع القيام بانقلابات عسكرية ناجحة، في مصر وسورية أولاً، وفي بلدان أخرى، لاحقاً.
حمل «الخطاب العسكري»، منذ البداية، عناصر تسويغه، مساوياً بين «الالتزام القومي» وتحرير فلسطين، وبين القدرة على تحقيق الالتزام وانصياع الشعب إلى إرادة «الانقلابيين العسكريين». كان في الأمر شكل المفارقة، إذ أوكل تحرير فلسطين إلى عسكريين فشلوا في مواجهة «الكتائب الصهيونية» عام ١٩٤٨. وفي انتظار إنجاز ما يجب إنجازه، قام العسكريون الذين استولوا على السلطة، ومن بداية ستينيات القرن الماضي، بتجديد خطابهم، فأدرجوا فيه «الاشتراكية»، التي تضمن التقدم والعدالة الاجتماعية، و«الوحدة العربية» التي ستوحّد ما قام الاستعمار بتجزئته. ومع أنه كان في حرب حزيران ١٩٦٧ ما يختبر وعود السلطات العسكرية، فقد جاءت الحرب بهزيمة ومفارقة جديدتين: انتصر الإسرائيليون وهزمت الجيوش العربية، وعوَض العسكريون هزائمهم بحصار الشعب العربي وقمعه، منتقلين إلى وضع جديد: بعد احتكار السلطة وإقصاء الشعب، تمدّدت السلطة وتمدّد معها إقصاء الشعب وتهمشيه، بأدوات تأديبية متزايدة. تمّ الانتقال من «الدولة الوطنية» إلى «الدولة البوليسية» التي تختصر «الشعب» في إرادة «الحاكم العسكري»، الذي يضع داخله كل ما هو خارجه، وينصّب ذاته «حراً وحيداً».
بلاغة صغيرة عن قضايا كبيرة
سوّغ احتلال فلسطين، في أربعينيات القرن الماضي، للعسكريين احتلال السلطة واحتكار القرار الوطني، وسوّغت هزيمة حزيران تحويل الدولة الوطنية إلى «دولة بوليسية مطلقة»، على اعتبار أن «القوى الخارجية المتآمرة» لا تستهدف الشعب بل القوى المدافعة عنه. ومع اختصار الإرادة الوطنية ــ الشعبية في إرادة السلطة المتسلطة انتهى زمن «التسويغ الإيديولوجي»، ترسّبت فلسطين في خطاب براغماتي، تفرضه المناسبات، واختزلت الوحدة العربية إلى تنسيق «وزارات الداخلية»، التي ترصد مخاطر تحرّر الإنسان العربي، وأسقط الفساد المتصاعد «المصالح الوطنية»، وشكّل مع الاستبداد مرجعين متكاملين، يكفلان ديمومة السلطة المستبدّة، وديمومة «الإخضاع الشعبي». انطوت الشعارات السلطوية، بداهة، على نقائضها، فزادت «الاشتراكية» من الفروق الطبقية في المجتمع إلى حدودها العليا، وتقاسمت السلطات العربية المتنافسة تمزيق «المصالح العربية»، وفقاً لقاعدة تضع مصلحة السلطة فوق مصلحة الوطن، ومصالح الحاشية السلطوية فوق مصالح الوطن والشعوب والقومية العربية، التي استقرّت بأبعاد مختلفة، في «اللاوعي الشعبي العربي».
أهملت السلطات العربية، وبعد تمكّنها من السلطة بخاصة، الخطاب الإيديولوجي، وحوّلته إلى بلاغة صغيرة تستثمر القضايا الكبيرة، وذلك في تكرار فارغ يمحو معنى القدس وفلسطين والوحدة العربية، و«التآمر الخارجي». وواقع الأمر أن خطاب السلطات الإيديولوجي، قبل التمكن من السلطة وبعده، كان يعوزه الاتساق ويسخر من العلاقة بين القول والممارسة، استمر خطاباً تلفيقياً مرجعه الأساسي: ديمومة السلطة ومصالحها. ولهذا لم تنتج تلك السلطات «مفكرين» يدافعون عنها، ولم تكن بحاجة إليهم، على أية حال، ذلك أن الحديث عن «مثقفين عضويين»، لا ينفصل عن إرادة في هيمنة إيديولوجية لم تكن ضرورية، سلطوياً، على أية حال، على اعتبار أن تسويغ السلطة يمر بالخوف والقمع وأجهزة الدولة التأديبية، ولا يحتاج إلى الإقناع، ولا يقبل بالحوار والمواقف النسبية. ولذلك انتقلت، بسهولة، من «الاشتراكية»، التي هي احتكار سلطوي للمصالح العامة، إلى رأسمالية السوق، التي لم تغادرها على أية حال، ومن «الفكر القومي» إلى التبشير الديني، ومن «علمانية» غائمة الحدود، إلى نظام هجين، لا هو بالعلماني ولا بالديني، باستثناء سلطات لم تغادر، سياسياً، العصور الوسطى.
تصنيع الوعي الديني المغلق
اجتاحت معظم الأنظمة العربية منذ منتصف القرن العشرين انقلابات عسكرية لها «إيديولوجيا وطنية عفوية»، أرادت أن تحارب «تخلفاً» لا تعرف مصادره، وأن تخلق «مستقبلاً زاهراً» لا تعرف الطريق إليه. وبسبب البنية الاجتماعية للعسكريين، الذين جاؤوا من أوساط ريفية تفتقر إلى السياسة والثقافة، ارتاح هؤلاء إلى خيار إيديولوجي تلفيقي، يجمع بين التقليدي والحداثي، والقومي والديني، ويستبعد الرقابة والإرادة الشعبيتين. فبعيداً عن المشروع العلماني الصريح، الذي تقدّم به المصري طه حسين، في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، بعد معاهدة الجلاء بين مصر وبريطانيا ــ ١٩٣٦ ــ آثر جمال عبد الناصر ، بعد ثورة ١٩٥٢، «حلاً معتدلاً» يجمع بين الحداثة والأصالة، بلغة ذاك الزمان، ويصالح بين الاشتراكية والإسلام، في انتظار وريثه «السادات»، الذي أطلق شعار «دولة العلم والإيمان». استبعد الرئيسان الديمقراطية وقاما، بنسب مختلفة، «بتأميم الحياة الحزبية»، إذ لا حزب إلا حزب الرئيس، ولا صحافة إلا تلك التي باركتها السلطة.
لم يكن الحال مختلفاً في الجزائر، «بلد المليون شهيد»، حيث ساوى قادة الثورة، وهواري بومدين خاصة، بين الثوري والمسلم، فإن أراد الثوري أن يكون وطنياً علمانياً، كان مصيره الإقصاء والعقاب. أمّا حزب البعث، الذي انتشر في العراق وسورية وغيرهما، فقد ساوى بدوره بين القومية والإسلام ، حيث المسلم عروبي والعروبي مسلم بالضرورة. لم يخرج الجنرال جعفر النميري، في السودان، عن هذا الخيار وانتهى، بعد تسلّمه السلطة، إلى «الخلافة»، على مقربة من الزعيم الليبي معمّر القذافي، الذي أطلق شعار: «من تحزّب خان»، مكتفياً «بكتابه الأخضر»، الذي سوّغ طغيانه الفريد.
ارتاحت «الدولة الوطنية»، منذ بداياتها، إلى «إسلام تلفيقي»، في مجتمعات تقليدية مُنعت فيها «التعددية»، وأقصي فيها المواطن عن السياسة وشؤونه الوطنية. غير أن السلطات الطويلة العمر، التي جاوز حكمها الأربعين عاماً، جاءت معها، لزوماً، بمبدأ «الإسلام والسياق»، إذ كل ظرف سلطوي يحتاج إلى إسلام خاص به. فبعد الاعتراف بالإسلام كقيمة ثقافية تفرضها «الأصالة»، جاء الإسلام كمسوغ للاشتراكية أو «وحدة الأمة»، ثم تقدم خطوة كسلاح في مواجهة «التنوع الثقافي»، مسوّغاً أنظمة غير شرعية.
بعد إخفاق متصاعد، في المجالات جميعاً، وفي سياق صعود التيارات الدينية، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لجأت الأنظمة العربية إلى الدين، «فتأسلمت»، كي تحجب لا شرعيتها من ناحية، ولتنافس الاتجاهات الدينية في «نجاحها الشعبي» من ناحية ثانية. فقرّبت منها رجال الدين، وبالغت في احتفالها بالمناسبات الدينية، وأعطت الخطاب الإسلامي مكاناً واسعاً في الإعلام والمدارس والمناسبات الرسمية، حتى بدا الدين عنصراً أساسياُ في البنية الإيديولوجية الرسمية، متحوّلاً ، بالضرورة، إلى إيديولوجيا دينية، تنتسب إلى مصالح السلطة، وإلى القوى الاجتماعية القريبة منها. أفسد هذا الانتساب المزدوج رجالَ الدين ووظائف المؤسسة الدينية، وأصبح «المشايخ» من نخبة المجتمع المسيطرة وغدت المؤسسة الدينية سلطوية بامتياز. تجلّى الأمر بوضوح كبير في تأويل الخطاب الديني، الذي نقل إلى بنيته مقولات الممارسات السلطوية للأنظمة الحاكمة.
فإذا كان تأويل الخطاب الإسلامي قد عرف، في النصف الأول من القرن العشرين، اتجاهات متعددة، تستبعد «الحقيقة الأخيرة»، فإن أنصار الإيديولوجيا الدينية السلطوية فرضوا تأويلاً واحداً، يلبّي مصالح «الحاكم الواحد»، واعتبروا ما خلاه خروجاً على الأعراف والتراث. وما مأساة الأستاذ الجامعي المصري نصر حامد أبو زيد، الذي حاول اجتهاداً دينياً طليقاً، إلا خروجه عن الرأي الواحد المفروض سلطوياً، وسعيه إلى تأويل منفتح على العلم والحياة. ولهذا طرد من الجامعة، ووقف معلقاً في الهواء، بلا دعم ولا مؤازرة، إلى أن ترك مصر ومات في المنفى. وبداهة فإن مأساته من مأساة سياقه، فقد اجتهد في زمن سلطة فاسدة تستثمر الإيديولوجيا الدينية، طغى فيه «الإسلام النفطي» وسيطر، مجتمعياً، الوعي المتخلّف، الذي يحرّض على تأويل أكثر تخلّفاً.
أراد نصر حامد أبو زيد، «المسلم الليبرالي»، أن يستأنف جهود طه حسين في زمن مختلف، فاصطدم بسياق جديد أجهز على «تراث» طه حسين وزمنه. فقد تجرأ «الثاني» على الموروث حين كتب «في الشعر الجاهلي» ــ ١٩٢٥، وعالجه بمنهج ديكارت، وتجرأ ثانية في كتابه «الفتنة الكبرى» ــ ١٩٤٧، مع فرق كبير بين الحالتين. كان حسين حين كتب كتابه الأول حزبياً، وله حزب يدافع عنه، وكان لمصر برلمان يقبل بتعددية الرأي، وحين أنجز كتابه الثاني كان لمصر حركة شعبية ديمقراطية واسعة، يلعب المثقفون فيها دوراً كبيراً، ولا أثر «للإسلام النفطي»، الذي أراد للتعاليم الوهابية أن تمحو ما جاء به «التنوير المصري»، الممتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.
مجتمع الخوف
في فضاء سلطوي يستولد، بأدوات مختلفة، «مجتمع الخوف»، كان على الإيديولوجيا الدينية الجديدة أن تحتفي بمقولة «المراتب الاجتماعية»، استناداً إلى فهم مبتور لآية قرآنية تقول: «أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم»، حيث طاعة الحاكم، مهما كان سلوكه، من طاعة الله، والانصياع إلى رجل الدين من الانصياع إلى إرادة الله والحاكم معاً، كما جاء في كتاب الشيخ المصري محمد الشعراوي «تربية الإنسان المسلم»، الذي اعتبر «الصراع الطبقي» شكلاً من الحسد لا يقرّه الإسلام. لهذا غدا الحاكم مقدّساً، أو قريباً من التقديس، واكتسح رجال الدين مواقع المثقفين، وانتشر شكل هجين من المربّين الدينيين هم: «الدعاة»، الذين ملأت صورهم الأجهزة الإعلامية. و«الداعية» معلّم هجين، يتقن الكلام من دون أن يتقن، بالضرورة، القواعد اللغوية، أو أن يعرف الدين معرفة صحيحة. يتصرّف مرتاحاً بشكله الموروث، غطاء الرأس والذقن، ويكمل صورته ببلاغة ساكنة حدّاها الوعد والوعيد، تشير إلى الجنة وجهنم ولا تشير إلى غيرهما. والطريف، في حدود معيّنة، أنّ «الدعاة»، الذين أصبحوا من نجوم المجتمع، جمعوا ثروات طائلة من تجارة الدين، المقبولة سلطوياً، التي ترضي وعياً «جماهيرياً» ساذجاً، يساوي بين شكل الشيخ والموروث الديني. والمحقق أن قراءة الدعاة للدين أهدرت السياقين التاريخي والاجتماعي، وحوّلت الدين إلى خطاب بلاغي مجرّد، لا علاقة له بالأوضاع الاجتماعية وممارسات الحكم، وانصرفت إلى ثنائيات: الكفر والإلحاد، والدنيا والآخرة، والحلال والحرام، وجعلت من «عذاب القبر» علماً مستقلاً بذاته، له وقائعه ومفرداته والبراهين عنه. وعلى صورة التلفيق الإيديولوجي السلطوي، الذي صالح بين معاصرة لا وجود لها وأصالة مختلَقة، فإن «إسلام الدعاة» هاجم في الغرب الرأسمالي ثقافته وفنونه وديمقراطيته وفلسفته، وبارك سوقه الليبرالية، التي اندرجت فيها «أنظمة العلم والإيمان».
إذا كانت الأنظمة المتسلطة، الطويلة العمر، قد حوّلت الانتخابات البرلمانية إلى «فولكلور برلماني»، قوامه تأييد المرجع الأعلى، والأحزاب السياسية، «المسموح بها»، إلى «فولكلور حزبي»، فقد غدا الخطاب الديني السلطوي فولكلورياً بدوره، يستعيد «الماضي المؤمن» وعظمته، ويلحق به السادة الحكّام، ويبشّر بعضهم بالجنّة. كان بديهياً في سياق تجهيلي، يتكامل فيه الدعاة والحكام، أن تزدهر لفظية دينية ماضوية تتحدث عن: الخلافة والبيْعة وطاعة أولي الأمر والجهاد و«الإعجاز العلمي القرآني» وقوة الإيمان و«سذاجة العلوم الحديثة»، ووصل التلفيق الذي جاوز حدوده إلى بعض الجامعات الرسمية، التي عرفت بتاريخها التنويري، قبل رحيل الاستعمار وبعده، فعقدت ندوات مشتركة بين رجال العلم ورجال الدين، «تشرح» دور «النصوص الدينية» في شفاء الأمراض المستعصية. بل إن المصري الشهير مصطفى محمود، الذي أُطلق اسمه على جامع شهير في القاهرة، مايز بين «العلم اللدنيّ»، المنبعث من القلب المؤمن، و«العلم الدنيوي» الزهيد الذي توزّعه المدارس الرسمية والجامعات، علماً أنه كان في المناهج المدرسية الرسمية «المتأسلمة» ما يفصل بين الرواية «الملحدة»، والرواية المؤمنة، وبين الشعر الذي يقبل بـ «الشرع»، والشعر المغاير المنفلت من قيود الدين والشريعة.
التراث بين اجتهادين
كان عادياً في العقود الأخيرة من القرن الماضي، كما في مطلع الألفية الثالثة، أن تزدهر دراسات التراث ــ التي أراد بعض التنويريين العرب، في زمن آخر، إعطاءها تأسيساً جديداً حال أحمد أمين في مصر، على سبيل المثال. اجتهد التنويرون، قدر المستطاع، في تعيين مفهوم التاريخ ونبذ «التَدَرْوش» والأقاصيص الدينية، عاملين على «ترهين الموروث» كي يصبح جزءاً من ثقافة الحاضر في الحياة الثقافية الاجتماعية. وعلى خلاف ذلك، ساوت الدراسات التراثية السلطوية بين قضايا التراث المجرّدة وقضايا المجتمع، متوسلة مقولات هجينة مثل: اللاوعي الشعبي، الذي يمكن توزيعه على الحاضر والماضي معاً، أو الوجدان الديني العربي ــ الإسلامي ــ على اعتبار أنّ هذا الوجدان متجانس في جميع الأزمنة، وأنه في وجدانه المتجانس لصيق بـ«الحكمة الدينية» الإسلامية. شيء قريب مما قال به المغربي الشهير محمد عابد الجابري، الذي أهدر السياقين التاريخي والاجتماعي واحتفى بمصطلح: بنية العقل العربي المتحرر من السياسة والإيديولوجيا. ومع أن بعضاً من هذه الدراسات ارتكن إلى مفردات: العلمي، الإبستمولوجي والقطع المعرفي، فقد وطّد، عملياً، صورة الفكر القديم، وصمَت عن السياق السلطوي الذي ألغى الشروط الاجتماعية للعمل الفكري.
ربما يكون في مآل دراسات التراث، التي عني بها الماركسيون العرب في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، قبل أن تأخذ منحى سلطوياً، ما يضيء، ولو بقدر، مآل المثقف العربي، الذي تحزّب في تحليلاته ذات مرة، وانتسب إلى الأحزاب السياسية وأسهم في تأسيسها، إلى أن جاءت التحوّلات الاجتماعية العاصفة، وقذفت به إلى خيارات ضيّقة، فرضها الحلف الصريح والمضمر بين السلطة المتأسلمة و«أدعياء الدين». تراجع المثقف، الذي كان مأخوذاً بالنقد السياسي وانتقل، ما تبقى منه، إلى النقد الثقافي في عناوينه «الكبيرة»: الأنا والآخر، الإبستمولوجي والإيديولوجي، التفكيك ونظريات اللغة، إلخ. وواقع الأمر أن المثقف العضوي أو ما كان يدعى بذلك، عرف في الربع الأخير من القرن الماضي وما تلاه أزمات ثلاث: شهد «نهاية» أوهامه الإيديولوجية، وهو المؤمن بالتقدم و«عدالة التاريخ». ونهاية علاقة «الجماهير» بالأحزاب السياسية، والتحاقها بالجماعات الدينية التي تسمح بتحزّب المؤمنين ضد المشركين. وعاين أيضاً التداعي الثقافي الذي اخترق المجتمع العربي، بدءاً من انهيار المؤسسة التعليمية، العالية منها والمتوسطة، وصولاً إلى تدهور اللغة العربية، الذي رافق صعود الفروق الاجتماعية، وجعل «اللغة العربية» من نصيب الفقراء واللغات الأجنبية، والأميركية منها بخاصة، من نصيب النخبة.
تخليق الإنسان الفقير
الاحتجاج والتمرّد والثورة من صفات «الفئات الميسورة»، هذا ما وعتْه الأنظمة المستبدّة، التي قوّضت بممارساتها المختلفة الطبقة الوسطى العربية، التي كانت تنتج الأحزاب والمثقفين والمنصرفين إلى السياسة بشكل عام. بسبب منظور سلطوي غايته الإفقار الاجتماعي، تفككت الطبقة الوسطى واندرجت غالبيتها في الفئات الفقيرة، والتحق بعض منها بالسلطة، وهم القادرون على التكيّف مع برجوازية رثّة، ومتوحشة كما قال البعض، تبدأ بالسلطة وتنتهي إليها، حيث السلطة هي الحاكم الأكبر والمالك الأكبر في آن.
ارتكنت الأنظمة العربية، الفاسدة والمفسدة، إلى ما يمكن أن يُدعى «الإفقار المجتمعي الشامل»، اقتصاداً وسياسة وثقافة وقيَماً. ففي منظور تسلطي، يضع كل ما هو خارج الحاكم أُفقِر، عملياً، معنى الوطن وأُفقر المواطن العادي الذي «تعطيه» السلطة ما يضمن استمرار عمله في أجهزتها، وتختزل ثقافته في تلقين واستظهار سلطويين، ولا تمنحه من الحقوق السياسية إلا «شكلانيات فقيرة». عبّر الروائيون عن هذا الوضع بصيغة «الكائن الأجوف»، أو «الكائن المفرغ من جوهره»، الذي يتعامل مع الواقع خائفاً وينصرف من الحياة خائفاً، كما لو كائن الخوف هو الحق الأكيد الذي تضمنه له «سلطة فقيرة» تتمدد في الاتجاهات جميعاً. لا غرابة أن يرتعب «المواطن» من وجوه السلطة في أكثر تفاصيلها هامشية، بدءاً من «شرطي المرور»، الذي نقله فساده إلى مقام «الأعيان»، إلى «معلم المدرسة» الذي يبيع الأسئلة والإجابات. تضيء هذه الظواهر معنى «مجتمع الخضوع»، في مراتبيّته الصارمة، أو «مجتمع الخوف» الذي يجعل من السلامة الشخصية اليومية هدفاً كبيراً، أو «مجتمع التخوين»، بلغة الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، حيث القمع يعطي الإنسان طبيعة ثانية، تغاير طبيعته الإنسانية الأولى.
لم يكن هدف التربية السلطوية توليد «الإنسان السلبي» فقط، الذي يرضى بالحاكم وبابنه الذي سيرث موقعه بقدر ما استهدفت «الذاكرة»، التي كان عليها أن تنسى ما تعلمته من أنظمة سابقة، كالحديث عن النقابات ومعاقبة المرتشي على سبيل المثال، حال الأغنية العربية الهابطة والمسيطرة، التي تفسد الذوق وتحجب فناً «سابقاً» كان فيه شيء من الذوق الرفيع. والمحصلة أن كل نظام مستبد يعتبر ذاته بداية مطلقة، تجبّ ما سبقها من بدايات، الأمر الذي يختصر التاريخ الوطني، في رموزه المتعددة، في شخص «الحاكم الأول»، الذي لا تاريخ له.
التطبّع بطبائع الاستبداد
خلقت الأنظمة العربية الطويلة العمر مرحلة تاريخية جديدة، أرغمت «المثقف القديم» على تغيير نمط حياته، بقدر ما أجبره «نسيج المجتمع الفاسد» على خيارات لم يعرفها لتحصيل رزقه. فلم تعد الصحافة هي الصحافة، ولا الحزب هو الحزب، وتحوّلت النقابات إلى شيء قريب من الأحجية. لذا أصبح «الحزب الجماهيري» نقيضاً للحزب، فهو مجموع من المرتزقة والمتكسبين، وأخذت الجماهير موقع «الرعاع» القديم. بل إن هذه الأنظمة مارست «نهاية الإيديولوجيا»، قبل إعلان السوق الليبرالية عنها، ذلك أنها جعلت الأجهزة الأمنية بديلاً عن الحزب والجماهير والإيديولوجيا، بالمعنى المتعارف عليه. وبسبب النسيج الاجتماعي الفاسد، الذي تشرف عليه السلطة وتهندس علاقاته، والذي اتسم بالإثراء السريع والإفقار المنهجي، ارتبك معنى «الطبقات»، وترسّب «الصراع الطبقي» فوق طبقة سميكة من الانصياع والإذعان والتديّن الجماهيري والصمت القسري. ولذلك انتهى المضطهدون والمستغلون إلى كتلة واسعة تدعى: الفقراء، مقابل «الأثرياء» أو «أصحاب الأموال»، الذين تتكشف «طبقيتهم» في علاقتهم بفئة قمعية مسيطرة، جعلت من أجهزة الأمن وسيلة لتكدس الثروات. كان الماركسيون يقولون: لا طبقات إلا في عملية الصراع الطبقي، التي تعني وجود طبقات متمايزة، «ارتبكت» ملامحها في الأنظمة العربية الفاسدة، إلا إذا اعتبر «الفقر والتدين الجماهيري» ممارسة طبقية في شروط معينة.
انطوت المجتمعات العربية، المحكومة بسلطات مستبدّة طويلة العمر، على ما يربك «النظر التقليدي»، اعتماداً على أطروحتين تقول أولاهما: لا وجود لطبقة إلّا في آثارها الاجتماعية الفاعلة، وذلك في سياق جعل من السلطة هي الفاعل الوحيد. وتقول الثانية: لا وجود لطبقة، بالمعنى الحقيقي، إلا في تعييناتها الثقافية. ولكن ما هو التعيين الثقافي في مجتمع محكوم بإيديولوجيا سلطوية تلفيقية، وبإيديولوجيا دينية مغلقة ترفض السلطة وتنصاع لها في آن؟ وما هو الفرق بين هاتين الإيديولوجيتين اللتين تتقاسمان وجوهاً مشتركة، تحيل إلى «واقع وهمي» لا يمكن تحديده؟
كان عبد الرحمن الكواكبي يقول: «إن طال عهد المستبَدّ بهم بالحكم الاستبدادي، تطبّعوا بطباعه، وأخذوا بقيمه». ترجمت الطبائع التي استولدتها السلطات، في مستوى أول، خصائص «المجتمع الخائف»، الذي تخترقه القدرية والانغلاق الفكري و«التديّن القطيعي» وعدم الثقة بالذات وبالآخرين والبحث القلق عن الرزق وعدم الثقة بالمستقبل، وعكست، في مستوى ثانٍ تفكك القيم المحايث «للمجتمع المفسد»، الذي يساوي بين المصالح الصغيرة والحقيقة، وبين الخضوع والأمان.
أخفقت الأنظمة المستبدة في نشر إيديولوجيتها «المعلنة»، المحدثة عن وحدة الشعب والأمّة وتأمين الاستقلال الوطني، ونجحت في نشر «إيديولوجيتها المضمرة»، الفاسدة المفسِدة، المرتبطة بتقنين حاجات المواطنين اليومية. استبعدت، في الحالين، السياسة والحوار المجتمعي، منتهية إلى تفكيك «الشعب»، الذي هو مقولة سياسية، ومنتج لا وجود له إلا بأدوات سياسية. أفضى كل هذا إلى صعود النزعات الطائفية والجهوية والعشائرية والقبلية والعائلية، وكل ما يهمّش المجتمع والشعب والوطن. تجلّى غياب السياسة، في المجتمعات المستبّد بها، في سيطرة الأجهزة القمعية على غيرها، وتجلى غياب الوعي السياسي، مجتمعياً، في سيطرة الانتماءات الضيقة على الانتماء الوطني. عبّرت الجماعات الدينية عن أولوية «المعتقد الديني»، على الوطن، كما جاء على لسان الناطقين باسمها: «من لا دين له لا وطن له»، وعبرت الفئات المتسلطة، الطويلة العمر، عن أولوية المصالح السلطوية على الوطن والمجتمع. نفت الأولى معنى «الشعب»، الذي هو مقولة حديثة، وهمّشت الثانية معنى «الدولة» وهي مقولة حديثة بدورها، ذلك أن الدولة تعرّف بالمجتمع الذي تؤمن مصالحه، وتضمن له الرعاية والحماية. ولهذا هزمت الحداثة الاجتماعية، في البلدان العربية، مرتين: هزمتها سلطات تأخذ بقيم تقليدية، إذ الحاكم هو الحر الوحيد، وهزمتها شعوبها التي ردّتها سلطاتها إلى وضع الرعية.
وحاصل القول، وبعيداً عن الرطانة «الغربية»، التي تفتقر إلى المعرفة أو النزاهة، أو إلى الطرفين معاً، فإن توصيف العالم العربي بالتطرف والعنف والإرهاب، لا يقرأ في «جوهر عربي» مجرد، ولا في «جوهر إسلامي» عجيب، إنما يقرأ في طبيعة السلطات، التي هُزمت أمام إسرائيل وقامت ، لاحقاً، بهزيمة شعوبها، سعياً وراء «عالم عربي مستقر»، يؤمن مصالح إسرائيل ومصالح الرأسماليات المختلفة، المعنية بما هو «تحت الأرض»، لا بما هو فوقها، بلغة الأميركي ديك تشيني، إبّان الهجوم على العراق.
فقد عرفت الحواضر العربية الأساسية (القاهرة، دمشق، بغداد)، قبل قيام إسرائيل، حياة طبيعية لا مكان فيها للعنف والتطرف الدينيّين، وعرفت، ولو بقدر، السياسة والأحزاب السياسية، بعيداً عن زمن الاستقلال الوطني، الذي تزامن مع ولادة إسرائيل، ووحّد بين احتكار الشأن الوطني العام وإلغاء حقوق المواطنة.
الاستبداد وارتباك الأفق العربي
إذا كانت الحداثة الاجتماعية تتضمن الديمقراطية والاعتراف المتبادل بين البشر ونسبية الأحكام وتعددية القيم والنظر، فما هي حظوظ الحداثة في بلدان عربية حرمت خمسين عاماً من الممارسات الحداثية؟ كيف ترجع السياسة إلى مجتمعات أفقرت من السياسة؟ وكيف تستقيم المواطنة في بلدان حرم المواطنون فيها من حقوق المواطنة المتعددة؟ كيف تعترف بالعلمانية جماعاتٌ واسعة ساوت بين الكفر والعلمانية؟ والواقع أنه: لا جواب. فكل طبقة منتصرة تقلّد الطبقة التي هزمتها في أشياء كثيرة. والسؤال في علاقته «بأطياف الربيع العربي»، هو: ما هي القيم «الوليدة والقديمة» لدى شعوب عربية لم تنتصر، بعد، في صراعها ضد الأنظمة المستبدة؟
تحضر في هذا المجال مقولات ثلاث لا ينقصها الارتباك: استمرارية الصراع بين قديم عميق الجذور وجديد «فقير البنية»، وسيرورة تحويلية معقّدة يفعل فيها الداخل والخارج معاً، فلا تزال الولايات المتحدة تراقب مشهداً عربياً لا تريد لجديده أن ينتصر ولا لمجتمعاته أن تستقر وتزدهر. تمس المقولة الثالثةُ الإنسان العربي، القومي في لغته والديني في انتمائه والواضح، أحياناً، في طائفيته، وغير الواضح في «وطنيّته»، لأنه يرى في الطائفة، لأسباب سلطوية، وطناً. تتبقّى «قوى المتقدم» المهمّشة، التي عليها أن تقرأ واقعاً اجتماعياً لم تتوقعه.
مهما يكن مآل «الحراك الثوري العربي»، الذي انطلق قبل سنوات، وسيستمر طويلاً، فإنه جسّد الحدث الأكبر في تاريخ العرب الحديث. فقد أجبر أكثر من طاغية على التنحّي أو على إبراز وجهه الكامل، وهو أمر ليس مألوفاً في الحياة العربية، المعقدة والمقيّدة، التي اخترقتها تبعية واسعة ومتجدّدة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.