العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

محمود محمد طه

الإسلام في رسالتين

النسخة الورقية

ولد المفكر المهندس محمود محمد طه في مدينة رفاعة بوسط السودان عام ١٩٠٩. تعود جذور والده إلى الشمال بينما والدته من قرية صفيتة غربي رفاعة. بدأ محمود دراسته بالخلوة والتحق فيها بالتعليم النظامي الأولي والأوسط برفاعة، واستمر بالدراسة التي نبغ فيها، حتى التحق بمدرسة الهندسة في كلية غوردون التذكارية - جامعة الخرطوم حالياً. عرف عنه أثناء سني الدراسة تميزه بالخصال النبيلة، حيث عرف بالصدق والشجاعة ومناصرة الضعفاء، كما عرف عنه تميزه في الألعاب الرياضية التي كان يمارسها منذ أن كان بالمدرسة الوسطى حتى التحاقه بكلية غوردون. كان تأثيره في الجامعة كبيراً خصوصاً في أقرانه، وقد عبّر عن ذلك أحد الأدباء السودانيين قائلاً: «إن محموداً كان كثير التأمل لدرجة تجعلك تثق في كل كلمة يقولها».

الفكرة الجمهورية

أنشا فكرته «الجمهورية» في تشرين الأول / أكتوبر من العام ١٩٤٥ وقد بدأت بصفة حزب سياسي أخذ اسم «الحزب الجمهوري»، وكان من أهم مطالبه وقتها الجلاء التام للاستعمار. ونادى الحزب بأن يُحكم السودان بنظام جمهوري بدلاً من النظام الملكي الذي كانت تستخدمه كل من بريطانيا ومصر لحكم البلاد. وقد سبق بحديثه ذاك الأحزاب السياسية الأخرى التي كانت موجودة وقتها، إذ انقسمت حينها الحركة الوطنية الحديثة بُعيد مرحلة مؤتمر الخريجين العام إلى أحزاب اتحادية وأخرى استقلالية.

بدأ الحزب الجمهوري المشاكسة مع المستعمر البريطاني، حيث عمد طه إلى توزيع منشورات تحثّ على النضال متخذاً من قضايا مزارعي مشروع الجزيرة وسياسة الاستعمار الثنائي تجاه قضية الجنوب منطلقات للنضال. وكان أعضاء الحزب الجمهوري يوقّعون أسماءهم على المنشورات، ممّا أدّى إلى اعتقال طه وتقديمه للمحاكمة في حزيران / يونيو ١٩٤٦ فكان أول سجين في تاريخ الحركة الوطنية، وتم إطلاق سراحه بعد خمسين يوماً.

في أيلول / سبتمبر ١٩٤٦ قامت سلطات الاستعمار بتفعيل قانون منع الخفاض الفرعوني (ختان الإناث)، لكنّ الحزب الجمهوري عارض المنشور من باب أنّ العادات السيئة لا تحارب بالقوانين بل ببث الوعي والعلم وإشاعة التنوير في المجتمع. وعندما أقدمت السلطات الاستعمارية على سجن امرأة في رفاعة ختنت هذه ابنتها. وجاء ذوو المرأة يستنجدون بمحمود الذي قام فيهم خطيباً في مسجد رفاعة قائلاً «ليس هذا وقت العبادة في الخلاوي والزوايا أيها الناس، إنما هو وقت الجهاد، فمن قصّر عن الجهاد وهو قادر عليه ألبسه الله ثوب الذل وغضب عليه ولعنه». فخرجت المدينة بأجمعها في ثورة عارمة اقتحمت السجن وأطلقت سراح المرأة. ونجم عن ثورة رفاعة تلك إيداعُ محمود محمد طه سجن ود مدني لمدة عامين ثم أتم مدته في سجن كوبر. وفي ذلك يقول الشاعر محمد المهدي المجذوب من نونيته (إلى الله):

أين محمودها الذي دفع الضيمَ
للقيْد في يديه رنينُ

عربي يثور للعِرض والدين
ولكنه الغداةَ سجينُ

طاهرالقول والسريرة والكفّ
له الخسف والعذاب المهين

ربّ رحماكَ إنه فعل الخير
ولكنه وحيد غبينُ

 

المذهب الجديد

أثناء عامَي السجن صرف محمود وقته بالعبادة والصيام الصمدي، وعندما خرج منه اعتكف في رفاعة لمدة ثلاث سنوات توقف عندها الحزب عن العمل. وعندما خرج من معتكفه، طرح طه مذهبه الإسلامي الجديد والذي يقوم على العدالة الاجتماعية وحرية الفرد واتجه بدعوته من «ملء فراغ الحماس إلى ملء فراغ الفكر». وكان ذلك في العام ١٩٥١. ثم أصدر الكتب التي يتحدث فيها عن مذهبه مثل كتاب «قل هذه سبيلي» و«الدعوة الإسلامية الجديدة»، ثم توالى إصدار الكتب «دستور السودان» و«الرسالة الثانية في الإسلام» حتى زادت كتبه ومنشورات الجمهوريين عن مائتي الكتاب.

آراء فكرية خاصة

يقول الدكتور قيصر موسى الزين إن الحركة الجمهورية مرّت في مراحل عديدة حتى انتقلت إلى أم درمان، وقد ربط محمود محمد طه نشْر فكره بتطوير تنظيم ديني وكذلك بإطلاق حملات دعوية بالشوارع. ومن أبرز أفكاره تقسيم الإسلام إلى رسالتين، تخص الأولى القرن السابع الميلادي والثانية القرن العشرين. ويشير الزين إلى تقسيم طه القرآن الكريم إلى ناسخ ــ يخص الرسالة الثانية ــ ومنسوخ ــ يخص الرسالة الأولى ــ وقد تبنى فكرة أنّ الرسالة الثانية هي التي تناسب التقدم البشري في العصر الحالي لخلوّها من تشريعات مثل الرق وتقييد حقوق المرأة، مستنداً في آرائه تلك إلى مرجعية الفكر الباطني.

ويرى محمود أنّ الآيات المكّية التي نزلت في فجر الدعوة بمكة تمثل أصول القرآن، مضيفاً أنّ الإسلام ديانة كوكبية تقوم على المساواة بين البشر, وكان يسمّي الآيات المكية «آيات الأصول» مشيراً إلى أنها قامت على الإسماح ونبذ الإكراه.

ولعل تكوّن خطى أحد أبرز مفكري السودان لم يكن بالأمر السهل، إذ يشير الكاتب محجوب عمر باشري في كتابه «رواد الفكر السوداني» إلى حياته الأولى قائلاً: «نشأ محمود محمد طه ولم يرتكب فاحشة في حياته وعاهد الله على أن يلتزم بالخلق الإسلامي، ودرس في كلية غوردون وتخصص في الهندسة، وخرج للحياة في الثلاثينيات فالتحق بالسكة الحديدية وعمل بعطبرة، وكان قارئاً نهماً في اللغتين العربية والإنكليزية... ودرس مذاهب الفلسفة وكل أنواع المنطق، حتى المنطق الوصفي والمنطق الجدلي، وله دراسات عن مدرسة الجدليين منذ الفيلسوف الألماني هيغل حتى ما كتبه ماركس، وتفرع منه ما كتبه منظّرو الماركسية، وله دراسات عن المنطق الرياضي واعتراضات على وايتهد وراسل، كما له اعتراضات على مدرسة هيغل».

معارضته للإخوان المسلمين

تميّز محمود محمد طه بأنه مفكّر فريد اشتهر بنصاعة الحجة وقوتها واستقامة الشخصية والثبات على المبدأ، وكانت له هيبة وسطوة فكرية وسط خصومه الذين كانوا من ناشطي حركة الإسلام السياسي السودانية. تميز طه بقدرته الفائقة على الاستدلال بنصوص القرآن، وكان رجلاً موسوعياً في إلمامه بالتراث الإسلامي وبمختلف تيارات الفكر المعاصر.

من أهم ما طرحه محمود محمد طه أنّ الفكر الإسلامي على المستوى الكوني «الكوزمولوجي»، كما أنه قد تنبأ بسقوط الشيوعية قبل عقود من حدوثه الداوي، فكان من أطروحاته أن الرأسمالية والشيوعية وجهان لعملة واحدة، وهي الفكرة المادية عن الوجود. وقال إن الإسلام سيخلف النظامين الشيوعي والرأسمالي، وكان يكثر من الاستدلال بالحديث النبوي «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. وقالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يُحيون سنّتي بعد اندثارها».

ويقول الكاتب الصحفي بابكر حسن مكي في كتابه «النميري: الإمام والروليت» إنّه حاور محمود محمد طه في منزل بمدينة الثورة فقال له «أما الإخوان فهم يعتقدون أن إصلاح المجتمع مرتبط باستيلائهم على السلطة. ولذلك فإن فكرة التبليغ لديهم أساسها الحكم، بينما أساسها بالنسبة إلينا هو حركة الانسياب الثقافي اليومي للمجتمع». وأضاف محمود أن «دعوة الإخوان مصطدمة على الدوام بالتمايز الديني والعرقي بين الشمال والجنوب، إذ إنّ سعيهم نحو إقامة جمهورية إسلامية لا بد له من أن يرتطم بالجدار المسيحي للجنوب، وعندها سيجدون أنفسهم بين خيارين: إما مقاتلة الجنوبيين وفصل الشمال وإما التراجع عن إستراتجيتهم وهذا مستحيل. أما نحن فلا يهمّنا أن يكون الجنوب مسيحياً أو الغرب إثنياَ... نحن مع المثقّف الجنوبي ومثقف غرب السودان وشرقه وشماله ووسطه».

رسالة الصلاة

وقسّم المفكر محمود محمد طه نشأة الإنسان إلى أربع مراحل وذلك في كتابه «رسالة الصلاة». وأشار إلى أن المرحلة الأولى من نشأة الإنسان تعني تطوّره في المادة غير العضوية منذ بروزه في الجسد، مشيراً إلى الآية الكريمة «أوَلم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون». وبدأت المرحلة الثانية من نشأة الإنسان ببروز المادة العضوية من المادة غير العضوية، مضيفاً أن المرحلة الثانية بدأت بحيوان الخلية الأولى، بينما بدأت المرحلة الثالثة من نشأة الإنسان حيث ظهر آدم النبي الخليفة الذي خلقه الله خلقاً كاملاً، وتتميز المرحلة الرابعة من نشأة الإنسان ــ والتي يعتبرها الكاتب قفزة من قمة منازل المرحلة الرابعة ــ بدخول الحاسة السادسة والحاسة السابعة ويعتبرها درجة من درجات الترقّي.

ويرى محمود محمد طه أن للصلاة معنىً قريباً ويظهر في الصلاة الشرعية ذات الحركات المعروفة والتي فرضت في مقام «قاب قوسين أو أدنى» مضيفاً أنها تكون في مقام الشهود الأسمائي والذي يعتبره وسيلة إلى الشهود الذاتي. وأوضح طه أن عبد الترقي يشاهد وحده الفعل، ثم يترقى منها إلى شهود وحدة الصفة، ثم يترقى منها ليشاهد وحدة الاسم، وليس وراء ذلك إلا شهود الذات. وأضاف أنه في مقام الشهود الذاتي فرضت الصلاة بالمعنى البعيد، وهي الصلة مع الله بلا «واسطة»، في مقام «ما زاغ البصر وما طغى» حيث تطمس من العبد ذاته المحدثة وتبقى ذاته القديمة في صلة مع القديم، لا يفصلها وسيط ولا تقوم بينهما وسيلة وهناك تسقط الوسائل والغايات ولا يبقى إلا الواحد القهّار.

الرسالة الثانية

ويرى محمود محمد طه أن الرسالة الثانية أجملَها المعصوم إجمالاً ولم يقع في حقها التفصيل إلا في التشاريع المتداخلة بين الرسالة الأولى وبينها، كتشاريع العبادات وتشاريع الحدود، ذلك حسب قول الكاتبة أسماء محمود محمد طه والكاتب الدكتور النور محمد حمد في كتابهما «نحو مشروع مستقبلي للإسلام». وأضافا أن القرآن لم يبيّن منه بالتشريع وبالتفسير إلا الطرف الذي يناسب الوقت الذي جرى فيه التبيين بما يتناسب مع طاقة الناس وقتئذ. وقد أضافا في كتابهما عن الرسالة الثانية أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكمل لأن السير في مضماره سرمدي، مشيرين إلى «عند» في الآية الكريمة «إن الدين عندالله الإسلام» بأنها ليست ظرف زمان ولا مكان وأنما هي خارج الزمان والمكان، مضيفين أن الَسير بالقرآن في مضمار الإسلام سير إلى الله في إطلاقه وهو بذلك لم يتم تبيينه وإنما تم إنزاله بين دفتي المصحف ولم يتم تبيينه – على حد قولهما.

محكمة الردّة والإعدام

في العام ١٩٦٨ رفع شيخان من شيوخ جامعة أم درمان الإسلامية دعوى حسبة طالبا فيها بإعلان ردّة الأستاذ محمود محمد طه عن الإسلام، وانعقدت وقتها محكمة صورية ولم يمثل طه أمامها ولم يستأنف حكمها لعدم اعترافه بشرعية المحكمة. ثم أودع السجن ثانية عقب تأليفه لكتاب «اسمهم الوهابية وليس اسمهم أنصار السنّة» الذي أغضب السلطات الدينية بالمملكة العربية السعودية، فأودعه نظام مايو السجن بعدما كان قد أصدر قراراً من قبلُ بمنعه من إلقاء المحاضرات العامة.

عندما أصدر الجمهوريون كتاب «الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة» الذي انتقدوا فيه سلطة مايو حينها، اعتقلت الأخيرة طه وأودعته السجن هو وعدداً من الجمهوريين، وبقوا في السجن حتى صدور قوانين أيلول / سبتمبر والتي عرفت بقوانين الشريعة الإسلامية، ليطلق سراحه في ١٩ كانون الأول / ديسمبر ١٩٨٤. عندها أصدر منشوره «هذا أو الطوفان» الذي طالب فيه بإلغاء قوانين أيلول / سبتمبر١٩٨٣ كما طالب بوقف الاقتتال في جنوب السودان، فأعيد اعتقاله في الخامس من كانون الثاني / يناير ١٩٨٥ كما اعتقل عدد من الجمهوريين قبله.

في السابع من كانون الثاني / يناير مثل المفكر محمود وأربعة من تلاميذه أمام محكمة الطوارئ. وفي العاشر من الشهر عينه أصدرت المحكمة برئاسة القاضي المكاشفي طه الكباشي حكمها بإعدام محمود محمد طه بحكم الردة ليصدّق على الحكم رئيس الجمهورية جعفر نميري ويتم تنفيذ الحكم في ١٨ كانون الثاني / يناير ١٩٨٥.

ابتسامة وداع

وما بين الجدل الكثيف الذي أثاره الأستاذ محمود محمد طه حياً وميتاً، بين متفق معه ومختلف، كانت ابتسامته الوضاءة التي افترّ وجهه عنها عندما نزع الغطاء عن وجهه قبيل تنفيذ حكم الإعدام به، قد لفتت أنظار العالم، واسترعت شاعرية علامة السودان عبدالله الطيب فقال مصوّراً المشهد:

كشفوا وجهه ليعرف أن هذا
هو الشخص عينه محمود

قرئ الحكمُ ثم صاح به القاضي
ألا مثله اقتلوه، أبيدوا

كبّر الحاضرون للحدّ مثل
العيد إذ جمعهم له مشهود

وأراهم من ثغره بسمةَ الساخر
والحَبْل فوقه ممدود

وعلى وجهه صفاء وإشراق
أمام الردى وديع جليد

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦
الإسلام في رسالتين

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.