«طبّ الختيار شبّ». هي العبارة التي طالما ردّدتها جدتي التي بلغت قرناً ونصف عقد من العمر. جدتي، من جهة والدي، حقّقت رقماً قياسياً في الخَرَف بل التَرَف في الخرف.
أنجبتْ السيدة والدة الأب المصون ثمانية أولاد، أربع بنات وأربعة صبيان. وبقدرة قادر، أنجبت أختها العدد نفسه من الأولاد بالترتيب نفسه، وعليه كان الاتفاق غير الموثّق: «تزويج الأولاد لبعضهم البعض» حتى لا تضيع جينات العائلة الثمينة جداً. هكذا تحوّلت العائلة الى مثلّثات أحادية صعبة الفهم، وتتطلّب برمجة دماغية خاصة جداً.
ابنة عمي هي ابنة خالتي أيضاً. خالتي هي زوجة عمّي. ابن خالي هو ابن عمّتي. وعمّتي هي امرأة خالي!
انطلاقاً من تنامي تشبيك القرابة، ومن تماهي الوجوه والشخصيات بعضها مع بعض، كنّا في عائلتي المعلولة المصغّرة، المتكوّنة من خمسة أطفال ووالدين، ثمرة زرع لا يخلو من العفن. لكنّه العفن الأقلّ نسبة من الآخرين!
تزوّج خضر من ابنة خالته. نعم هو كذلك، لماذا الكذب؟ حين علم والدي على حين غرّة أني سأرقص على المسارح وسأمثّل، لم يُبد أيّ رأي، أو لعلّه تجشأ.
أدركت أنا بدوري آنذاك أنّه يثق بي، وأنّه فعلاً رمز من رموز الانفتاح، open-minded للغاية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم يقلق عليّ. أبلغ والدتي أنني سأصبح بيروتية ولن أكون «عكورية». وأنا قلقت دائماً: ماذا إذا رآني أحدهم ألبس «شورت جينز». ماذا إذا صدمتني سيارة ومتّ وأنا لابسة شورت جينز؟ سيراني أبي بشورت جينز وسيغضب مني لأني متّ بطريقة غير لائقة؟
أبي هو ربي. ربّ عائلتي ووليّ أمري. عضو سابق في المجلس البلدي في ضيعة تعشق الملل بدل الحياة. أبي «مؤهل أول» متقاعد في الجيش يتحدّر من ضيعة تعشق المرض لا الدلال، الفقر لا المال، الأمل لا الندب فالإهمال.
تزوّج «خضر» من ابنة خالته «فاطمة» حتماً، كما ذكر في الاتفاق المذكور أعلاه. تبادلا الحب والسنابل معاً في الحقول الذهبية في مزرعة الأغوات، وكان لأمي سحرها الخاص. بيضاء كالثلج هي، فيما والدي يريد أن يكون آغا لتكون هي زوجة الآغا. آغا لتكون هي فقط زوجة الآغا، تليق بها التسمية ويليق به المنصب.
اعتاد الذهاب إلى المدرسة حافي القدمين، على الآغا المستقبلي أن ينال العلم، فحاز شهادة السيرتيفيكا! وهي شهادة كانت عالية في الماضي وتمثل الخامس الابتدائي في يومنا هذا. وهي اعتادت القنوع فالقمع وتوريد الخدّين. كل صباح والديك واحد!
«كيكوكيك صاح الديك» هكذا تصرخ جدتي، نستيقظ ورائحة القهوة تملأ المنزل، فقبلة الصباح والمدفأة فالشنكليش والزيتون فالباص والرحيل حتى العودة. لم أرَهما، خضر وفاطمة، يوماً يتشاجران. رأيتهما يتعانقان ويتغنجان. لم يعلُ صوته مرّة ولا هي بكت يوماً. فصار نموذج الزواج عندي أصعب مئات الدرجات.
كتبت هذا المقطع قبل ثلاثة أشهر من اليوم!
اليوم؟ نعم! لا تاريخ لهذا اليوم، هو اليوم الذي ستقرأون فيه النصّ، والذي استطعت أن أكتب فيه، وحلّلت فيه آلية انتقال مشاعري وتخلّصي من الشعور بالذنب أو التقنّع. وهو اليوم أيضاً الذي صرت أقرب فيه إلى أبي.
هو اليوم الذي كتبت فيه هذه الجملة الشعرية: أبي! لماذا تحرقني عيوني؟ ألم تتعوّدا على البكاء بعد؟ وكيف ينبت العشب الأخضر على قبري وأنا أعاود فتحه كل مساء قبل أن أنام!
وفي ذلك اليوم بالتحديد، كنت قابعة في المستشفى أتأمله. لا، كنت أحدّق به وبالأنابيب التي تخرج من يديه ووجهه وقدميه وقلبه. لم أستطع إنهاء النص آنذاك، لأنني كنت أريد أن أحفظ جسده ولن أدع ذاكرتي تخلو منه. وحفظته، حفظت عظامه، وتجاعيده، وشعر أنفه ورائحته، ورائحة العفن التي كانت تحاول أن تسيطر عليه، على فمه ولعابه.
كان الشعور بالذنب يقتلني، يغتالني، فما استطعت أن أغيب عنّي أو عنه. أجلس وأنتظر. أنتظر الحاضر كي يصبح ماضياً. ولم أستطع الصلاة ولا الدعاء ولا النذور. وفي حدّ أقصى استعنت بالبكاء الصامت وبالغضب من المستشفى والضجيج الهائل.
فعلت ذلك عن سابق تصوّر وتصميم، وصرت أشرب من ذاكرتي البصرية حتى أشبع. أشبع من قدميه قبل أن تُبترا ومن وجهه قبل أن يُدفن، وشاهدته عارياً!
غريب أن تشاهد الفتاة والدها عارياً، أوتساعده على الحركة، ولكنّي أريد أن أثبت هذه الـ«داتا» في رأسي. سابقاً، كفّنت جدّتي، امّ الثمانين، وغسلتها، وكانت أول مرّة أرى كيف تنحت المرأة، وكانت أيضاً المرة الأولى التي أرى فيها كيف يختفي الثدي في العظم عند الكبر، وكيف تصبح المرأة إنساناًً. حينها أصبحت أنا إنسانة، لأني استيقظت قرب جثة في سرير واحد بعد أن مارست آنذاك فعل الصلاة.
مستشفى في عكار
كنت أريد أن أكثّف التفاصيل، لأني شاهدت جدّي مبتور القدمين وأمّي تغيّر له حفاضه، ورأيت كيف ينصهر العظم باللحم والجلد، وكيف يختفي أفق القدم. كنت أريد أن أكون مستعدّة، وهو أيضاً كان يحاول بدوره أن يتأقلم مع الظروف الجديدة ومع ما يتطلب منه الاستعداد له.
في هذه الفترة كان الشبّاك الزجاجي هو المدى الوحيد الذي ينظر إليه أبي. ينظر ويبكي. يرى السهل ويتأسف ويتحسّر على حاله، ولأنه كثير الكبرياء ينزلق تحت اللحاف ويعود للبكاء من صداعه المدوّي، صداع السكتة الدماغية وصداع الضجيج من حوله. ضجيج مستشفى يستهلك المريض حتى يشفى. يشفى ربما فقط كي لا يبقى وسط الضجيج!
المستشفى! يا إلهيَ مستشفى في عكار. يشبه مخيّمات اللاجئين بظروفه الصحية، يشبه الحدود البرية بين الدول العربية، حيث الكثير من الزائرين والنفايات في كل مكان لا سيما الحمّام، طبعاً مصنوع من البورسلان: كان أبيض اللون فصار رمادياً، تفوح منه رائحة كل أنواع المأكولات وتحوّلاتها إلى براز، وتنقصه المياه والمحارم الورقية، إذ إنّه جورة تدفُق فيها ما استطعت وتخرج.
الحاج (مرتين)، العسكري المتقاعد برتبة مؤهل أول، عضو سابق في المجلس البلدي، راعي الماعز قبل الغنم والبقر، قبع في غرفة من الدرجة الثانية، واعتقد، والله أعلم، أنّها الثانية تحت الصفر.
جاوره في الغرفة رجل من وادي خالد، وما أدراك ما وادي خالد! بل ما أدراك ما يعنيه رجل من وادي خالد! يا لسوء حظ والدي! نعم أنا كنت طبقية، وشعرت وللمرة المليون أنني أجنبية، إفرنجية (مفهوم الإفرنجي في عكار أنه أكثر علماً وجمالاً وقوّة ويعرف كيف يعيش).
أطلقت كل الاتهامات التي خضعت لها ثلاثين عاماً ضدهم، استعملتها لأنقذ والدي من جحيم اللاتعقيم. أجبرت على أن أعشق الطبقيّة والعنصرية المتأصلة بين ضيع عكار والتي تتنافس بعضها بين بعض على من هو الأكثر حرماناً أو وسخاً أو خضرةً وموتاً، ولا شك الأكثر عدداً من المجنّدين العسكريين فيها!
وحين هربت إلى سطح المستشفى ليلاً لأبكي وأدخّن سيجارة عزاءً لحالي دون أن يراقبني أحد، ويتهامس الناس حولي وينتقدوا ثيابي وشعري الأحمر، عدت لأجد عشيرة كاملة تأكل اللحم مع المريض والثوم والمشروبات الغازية، ويناول الحاضرون أبي القليل فالمزيد وجننت! كان قد تعرّض لنوبتين قلبيتين وجلطتين دماغيتين، إلى التهاب البروستات، في يوم واحد!
يومُ الفاجعات تلا مشاجرة عنيفة بيننا، الأولى من نوعها. كنت قد تبنّيت الحركة المدنية المطالبة بعيش أفضل، واعتلى صوتي الساحات العامة ككل اللبنانيين. كان هو يخشى من الانقلاب العسكري ويخاف من حرب أهلية ثانية، ومن انقطاع الشرايين بين المناطق، وانقطاعي عنه، وأنا ابنته المدلّلة والأصغر والأكثر قرباً وتفهماً. وأنا اليوم، حسب قوله، رجله الوحيد الأوحد. فلقد حضر أبي مجازر صبرا وشاتيلا ولملم الجثث وما تبقى منها، فلا يريد لابنته أن تصبغ ذاكرتها باللون الأحمر ذاته، ولا للذاكرة أن تحكم روزنامة العمر كله.
الجرس والروزنامة
تعجبني هذه الجملة: ولا للذاكرة أن تحكم روزنامة العمر كله! تعيدني إلى الطفولة، إلى مدخل باب بيتنا الخشبي المدهون بلون أبيض متصدّع، ودرج الباطون الذي يسبقه، ورنّة الجرس الكهربائي. كم كنت أعشقه! فالجرس إشارة إلى أنّ الكهرباء تزورنا ونخشى من غدرها ككل يوم، وأنّنا... لست أدري، لن أتفلسف، بصراحة، يكفي أنّ لدينا جرساً! الجرس يعني كابتن ماجد أيضاً، وطمطوم الشجاع، والحوت الأبيض وريمي وهايدي وهالة في البراري ونساء صغيرات، والحصن وصوت هادي شرارة الذي أقلّده، والأهم الأهم أنّه بعنب السيدة أم عمار.
نعم في الشمال كانت أمّ عمار، ماري دياب، مقدّمة برامج في التلفزيون العربي السوري الذي احتلّته اللبنانيّات بالدعايات والسوريّات بالمسلسلات واليابان بالكارتون والروس بالأولمبيات.
ما يطلبه الرياضيون!
الجرس يعني أنني أستطيع أن أتابع السيدة ماري دياب تقدّم لنا رقصاً على الجليد، لمدّة عشر دقائق، وبلاط أرضي جاهز، وجواربي أيضاً، أرقص وكلّ الجمهور يصفّق لي، الراقصة تنهمك في الدوران وأنا بالإيحاء حتى الدوران.
وهناك، دائماً هناك، وظيفة للجرس الأنيق وصوته الحادّ، الأكثر حدّة وحبّاً. يدقّ الجرس، أركض، أستعمل فراملي العضلية، أفتح الباب، أرى قدمين ببذلة عسكرية وحزام، وأنظر إلى الأعلى حتى تؤلمني رقبتي، إنّه أبي!
جلب معه لوحة البيت الوحيدة، اللوحة المقدّسة التي يأتي بها في بداية كلّ عام، إنّها الروزنامة الورقية وقد علّقها على الحائط قرب التلفاز. إنّها اللوحة المعاصرة، فكلّ يوم تتجدّد بسلخ ورقة منها ويوم من عمرنا، هل تذكرونها؟ تلك التي في خلفية أيامها لائحة من المقولات والأطباق والنكات والحزازير والمُثل العليا، زوّادة لليوم بكامله لصحة الروح والجسد، ومصدرً للتسلية لا مثيل له. كيف لا؟ وقد علّق والدي السنة المقبلة كلّها على حائطنا وثبّتها بالمسمار، هو كان يجلب الزمن معه، يثبته ونتحكّم به! هكذا كنت أعتقد أنّنا سنفعل بقيّة العمر! يثبت أبي الزمن، و«أشخ» أنا عليه ليلاً. أن أفكّر هكذا منذ طفولتي يزيدني استغراباً الآن.
النوم على البطن
أنتظر موعد النوم، أنام على بطنه، أيّ بطن هذا؟ إنه «كرش». يشخر خلال الليل، البطن يعلو وينخفض، وترتفع معه درجة الاسترخاء وصمت الليل وسواده.
- فاطمة
- ممم
- قومي
- شو؟
- قومي
- عِمْلِتها
- إيه
- يا الله هلّق
- إيه
- مْتَرّمِتها (مؤقتتها)
- ما تضربيها
- هلق
- إيه
- قمت قمت
وأنا أسمع كل هذا وأكمل النوم. على بطن والدي الذي يعود لاستقبالي.
لطالما اعتقدت أنّ تحكّمه بالزمن قويّ، كحين غيابه عنّا وعودته محمّلاً بالكثير من الأشياء. كنت أعتقد أنّه تأخّر في المجيء لأنّه يجلب معه الكيسين السحريين الغريبين، البرتقال والبصل، نعانق الأول ونشتم الآخر، ونأكل كالضباع كل ما نستطيع. وكي يغرينا أكثر، كانت الجيوب تمتلئ بالحلويات. أصلاً كان الزي العسكري بالنسبة لي منبعاً للسكاكر والحب واللعب، وعلكة غندور تحديداً، حتى لو كانت حارّة مشوّهة الملامح بسبب طول الطريق.
كان يأتي بالكيسين اللذين يتحوّلان إلى «ليف» الاستحمام، فما تحبّه سيؤلمك بعد قليل! أوّل درس حياة تعلّمته والله يشهد على ما أقول. وكلّ بداية تعني اقتراب النهاية، والعكس صحيح.
حاضري على البلاط وماضيّ على بلاط آخر، ووعيي لاواعٍ الآن واللاوعي يعي بمقدار عدم جهوزيتي لفقدانه.
اتصل بي أخي ذلك اليوم، مردّداً أنّ الوالد أصرّ وألحّ على أن يراني فقط اليوم. تحسّبت من أنّه يودعني. ذهبت وجالسته حتى نمت مستيقظة واستمررت بالنظر إليه فيما استمرّ أبي بالنظر عبر الزجاج كمن يقلّب في بانوراما حياته وتدمع عيناه.
أريد أن أرى البحر
«أريد أن أتوقّف عن العمل، سآخذ أمّك إلى بيروت، إلى سينما سكالا! إلى الجنوب، إلى وادي رام، إلى كثير من الأماكن التي حلمت أن أزورها. أريد أن أخرج، أن أجلس على شرفة منزلي، أن أرى أرضي وزرعي، أريد أن أرى البحر أيضاً...».
- هل تذكر البحر ومشوار البحر السنوي يا أبي؟
- نعم!
- تضعنا حوالى العشرة أطفال في السيارة، وتسوق بنا.
- نعم!
- ننزل الشاطئ، نغيّر الملابس، ننزل الماء، فيما تتناول أنت ووالدتي البوظة العربية.
- نعم!
- وعندما تنتهي البوظة، سرعان ما تشعر بالحر فتشير لنا بيدك الصارمة أنْ نخرج من الماء وينتهي المشوار!
- نعم! تبّاً لك ولذاكرتك!
يضحك. يضحك أبي، وتتشعّب ذاكرتي وتغوص كما عيناي. صرت ابن بطّوطة. وصرت أرحل عبر الزمن وأعود إلى الحاضر وأخاف من عدم جهوزيتي للمستقبل.
«اذهبي، لا توقفي حياتك، واعبريها، لا تتركي شيئاً تريدينه ولا تفعلينه، كوني مغامرة وتألّقي... لا تؤجّلي. فلا أحد سوف ينتظرك».
كم كنت أريد أن أسمع هذه الكلمات من قبل، وكم كنت أودّ أن أسترجع المغامرة منّي، والجريئة فيّ. فأنا يا والدي مزيج من جنونك وعصاميّتك، ومن أمراض أمي ونكرانها وقوقعتها على الذات. كم كنت محظوظة أنّك عايدتني الثلاثين هكذا، وأنّك الآن فقط عدْت كما كنت، كما كنت أراك أنت، حين كنت أنا بعيدة عنك، وكنت أنت كما أنت.
حقا هو ليس إلهاً، وكم انتقدته وكرهته أحياناً، لكن حين تحضر الحياة هكذا بكثافة تتداخل كل التصنيفات والمراحل. تتضارب الأولويات وتنتهي كل أنواع المهن. نتّفق أنا وهو على أنّنا مدمنان معاً على العصامية وكلمة «لا».
أوّل «لا» قالها هو لوالده. «لا» لن أبقى في المزرعة، وهرب إلى أولاد عمّه.
أبوه الذي خلّف إمبراطورية وراءه من لا شيء، وأولاده من بعده ومن بينهم خضر، اعتقد أنّه هو أيضاً الأفضل. فمحمود قصته وحدها تتطلّب نصاً آخر، والعمّ الأكبر علي كنت أعتقد أنّه جدّي وأرفض ذلك لأنّه سمين وقصير، فيما خالد لا أفهم عليه أيّ كلمة، وأعتقد أنّ الأفق ينقصه والسماء لا تحتضنه.
الأنكى أنّ عدم محبّتي للعائلة، وبصياغة أخرى، عدم تقديري ربما، أو بعدي واختلافي عنها، سهّل عليّ نموّي وتصالحي مع أمراضي النفسية لدرجة أنني بُحت ببعضها، وبدرجات سطحية منها، أمام أبي أخيراً. بحت بها واجتزت أشواطاً سريعة من حياتي، ومن عُقَدي. أنا لا أملك الوقت ولن أبوح بما يعذّبه، لن أقول له كيف تكسّرت عظام وجهي، وأنني لم أقع عن الكرسي ولم أصطدم بالخزانة بل ضُربت. ضُربت حين حاول أحد ممارسة السلطة بغيابه. فعلاً لا يليق الصولجان بأيّ رجل ولا الأمومة بكل امراة ولا الحكمة بكل عمر.
أجبر والدي على ملازمة المنزل ومغادرته بالسيارة مرة أسبوعيّاً ليغيّر النمط. ومن كان يخزّن التبغ العربي في علب الحليب تحت السرير، توقّف بكلمة واحدة، فالقلب لا يتحمّل.
لعبة الموت
في الحقيقة، أبي جبان أيضاً!
يا للهول! هذا العصامي المارد، يختبئ من الإبرة، من كل دواء، في الزاوية، من أي بداية وجع، يرفع يده ويهرول، يعتقده الجميع أنّه قد خرف وهو يخاف الألم قبل أن يأتي. وعندما يزوره صديقه تختفي عنه ملامح التعب ويباشر الكلام والمديح والسياسة والذمّ.
لمّا غادر الرفيق، آه يا أمّي! يا أمّي وينك!
في الحقيقة يصعب التصديق. يصعب التصديق أنّنا متشابهان لهذه الدرجة: لون البشرة، العينان وأصابع القدمين، الرجْلان، اليدان، والحمد لله أنّني لا أملك أنفه وليتني أخذت منه غمازتيه. نتشابه أيضاً بمدنيتنا ونظرتنا إلى العالم وأحياناً إلى الدين: أعترف أخيراً بأنّ كل دين مسيّس، وكل فكرة هي دين، وأنّنا بالدين واختياره أحرار، وأنّه يضعف أمام الناس والنميمة فتذهب عنه هذه الأفكار ويمشي مع القطيع كي لا يعاكس التيار.
في المرض تحضر الذكريات، وفي الصحة يحضر المستقبل والأمنيات. في المرض يصبح كل زي عسكري بدلة مدنيّة وكل عيب مصارحة، ويصبح كل مكتوم مصارحة.
تقع الكارثة. تدرك أنّك وحدك حقّاً، لك أهل يحبّونك وبيت يضمّك إن لجأتَ إليه، ولكن لا مرايا تعكس صورتك هناك. لا قناع حتّى تلبسَه لهم، لا لباس، ترى نفسك شبح نفسك هناك.
تدرك أنّ صورة العائلة الجميلة والكبيرة، التي علّقتها عوضاً عن الروزنامة القديمة، صورة تضم جميع الأحفاد، فيها الشقيقان وزوجاتهما والأبناء والبنات، والأختان والصهر الأوحد ولهم بنت، والأب والأم، وأنا تائهة بأي زاوية أركن.
حالياً قرب والدي. غداً قرب أمّي حين تحتاج إليّ. بعد غد قرب الأخت. ومتى سأركن أنا قرب ناي؟
تدرك أنّها صورة، لحظوية، آنية، فانية، غير طويلة الأمد، وأنّ السلطة إذ تضمّك، عنك تبعدك، وأنّ الأنا لولاه ما تحقّقت ولولا مرضُه ربما لما انصهرت فانسلخت، وأنّي الآن جاهزة، ربما، إلى حدّ ما...
وأدرك الآن أن لي ولأبي لعبة تجمعنا منذ الطفولة: «يا عباد الله وحّدوا الله، انتقلت إلى رحمته تعالى، المرحومة مريم خضر حمود، وإذا كنت عنجدّ يعني عنجدّ عنجد ميتة ارفعي إيدك اليمين لفوق! إذا كنت عنجد عنجد عنجد ميتة، ارفعي إيديك الاتنين! وإذا كنت عنجدّ أربع مرات ميتة، ارفعي إجريك الاتنين!». «ماتت ماتت ماتت»، و«يغرغرني» وإستيقظ من الموت لأموت وأستيقظ ضاحكة. حتى لعبتنا يا أبي أو «الكود» الخاص بنا ينبع من الموت، والموت لا ينبع إلّا من الحياة. فدمتَ حياً، أو مهما دمت فدُم ضاحكاً.
يتبع
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.