العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

الرحيل إلى الأيديولوجيا

النسخة الورقية

كنّا نزور جدي الذي يرقد في مستشفى في القدس، لم أكن أتجاوز الخامسة حين أبهرتني الحشائش الخضراء والمساحات الواسعة والمصعد الكهربائي الذي اعتقدت وقتها أنه يسافر بنا من مكان إلى مكان.

اشترينا البيض المسلوق وكعك السمسم الذي تشتهر به القدس. كان جدّي يعمل في أحد الفنادق هناك مثله مثل آلاف العاملين من قطاع غزة، وقد بدأ يعاني من مرض القلب الذي سيودي بحياته بعد ٢٣ عاماً.

في طفولتي، كانت القدس تعني الأشجار الكثيرة والوجوه المتنوعة، أي كل شيء عكس المخيم الذي تربيت في داخله، لم أشعر هناك سوى بالدهشة.

كنت أسأل جدي يومها عن كل شيء اعتبرته غريباً عني، «ليش يا سيدي هديك بشعرها؟»، فيرد «هدول يهود يا سيدي»، «ليش في شجر كثير هين يا سيدي؟»، «هاي حديقة المستشفى لزيارة المرضى».

كان الجميع مشغولاً بوضع جدي الصحي وتعب قلبه، ورغم ذلك لم ينسَ أحد هذه الطفلة التي تنظر إلى كل شيء حولها فيردّون على أسئلتها وينادونها ويسحبونها من يدها. إنه الحب على طريقة المخيم، ولاحقاً سأكتشف أن هذه القسوة الحنون علمتني الكثير.

الآن أنا في الثالثة والثلاثين من عمري، ولأول مرة منذ تلك الأيام أزور القدس. أذكر أنني مررت بها من بعيد حين عدنا من الإمارات عن طريق الأردن إلى الضفة ثم إلى غزة في العام ١٩٩٧.

لم أصدّق أنني أخيراً سأزورها، فقد تقدّمت مرات عدّة للحصول على تصريح من الجانب الإسرائيلي، وكان يأتي الرفض لأسباب أمنية. ولكني أخيراً أصبحت في السيارة متوجهة إليها من معبر بيت حانون «إيرز»، بعد أن استطاعت القنصلية الأميركية الحصول على تصريح لي ولسبعة عشر صحافيا آخرين، للمشاركة في ورشة عمل حول أخلاقيات الصحافة الاستقصائية تستمرّ ليومين، تحت إشراف المدربة الأميركية المصرية هدى عثمان.

في الطريق من المعبر للقدس، أول أمر لاحظته اقتراب السماء من الأرض، وهذا لا يحدث إلا إذا نظرت إلى أفق واسع وبعيد، فالأفق الوحيد في قطاع غزة هو أفق البحر. إن ما يجعل غزة غزة هو بحرها.

هنا تذكّرني الشوارع والمدن واللافتات المنظمة بأوروبا، لكنّ الجبال والطبيعة تذكّرني بأنه الوطن، إنه شعور بالانتماء وعدم الانتماء. سألت نفسي «هل يجب أن يكون مخيماً كبيراً كي أشعر بأنه وطني؟». بالتأكيد لا.

أعتقد أننا نحن من ولدنا في المخيمات، لا توجد عندنا عقدة المكان الأول، بل عقدة السفر، إلّا أن هذه الطريق لا شيء فيها يجعلها تشبه وطني، ليست لغة اللافتات أو شكل الشوارع، أو السائقين المحيطين بسيارتنا.

تبعد القدس ساعة ونصف ساعة عن غزة. الآن بدأت أراها واقعاً حياً، إن السياسة تشعرك أنها بعيدة جداً، والاحتلال يشعرك بأنها مستحيلة، ليست سوى ذاك الحلم في الشعارات الوطنية.

وصلت إليها في وعيي الحالي، وليس وعي تلك الطفلة. بقيت الدهشة من المساحات الخضراء ذاتها، لكن أشعر بغربة داخل الوطن... غربة لم تشعر بها جدتي يوماً وهي تروي ذكرياتها عن القدس والبلاد. وطن نقلته لي بالحكايات ذاتها، فكان وجودي كأنني لمست قصصها، لمست عالم الطفولة المتخيل الذي كان قطعة من الجنة وقتها.

إنّ الوصول للقدس أجمل بكثير من التغني بها، حتى أنه أسهل. رأيت شجر الياسمين بأنواعه في كل مكان، الأحجار القديمة والشوارع المرتفعة والمنخفضة. يقول لي الشاب الذي يعمل في الفندق «نحن هنا في القدس الشرقية يعني الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧، وهناك في الشارع المقابل القدس الغربية يعني الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨». فأردّ عليه «إذن هناك احتلالان في القدس؟!»، وربما زمنان للاحتلال، وأهمس في داخلي، «كم احتلال تحتمل المدن، وكم الزمن سخي معه؟».

لم يسمح لي التزامي بورشة العمل التدريبية واليومين القصيرين بقضاء الوقت الكافي في المدينة بعد ٢٨ عاماً حرمني خلالها الاحتلال من زيارتها، كما لا يزال يحرم الآلاف غيري.

هذا الوقت القصير جعلني أخرج منذ السادسة صباحاً، لأتمشى، فقطفت الياسمين من أمام أحد المنازل القديمة في القدس الشرقية، وفكرت أنه يبقى أن أسمع صوت فيروز يصدح من مكان ما لتكتمل أيقونة القدس في متخيل ساذج.

سمعت ضجة أهل البيت، عجّلت خطوتي، فلا أريدهم أن يروني متلبسة بسرقة ياسمينهم، لكني في الوقت ذاته تمنيت أن يفتح الباب لأخوض نقاشاً مع العائلة عن الورد وغزة وأسئلة الانطباعات الأولى والزيارات الأولى، لكنني هربت.

مشيت. تذكّرني المدينة بعمان وبيروت، إلا أنها في الوقت ذاته مدينة لا تشبه إلّا نفسها. كانت أخبار التوتر في القدس تتصاعد، وتلقّيت على هاتفي رسائل إخبارية كثيرة حول ما يحدث، ولكني لا أرى شيئاً حولي.

أحياناً سطوة الإعلام، خصوصاً المؤدلج منه، تحوّل الأماكن إلى شيء آخر، وربما المشكلة في مفهومي للتوتر السياسي، فتعودته بغزة أن يكون قصفاً، وحرباً جديدة تطحن المدينة بكاملها.

غالباً نظرة الآتي من غزة إلى القدس تشبه نظرة أهل القدس لغزة. كل طرف يتعاطف مع الآخر ويعتقد أن مدينته حالها أفضل من الاخرى. سمعت أغاني وطنية من بعيد، كما تناهى إلى أذني حديث رجلين في الشارع، احدهما يقول للآخر «خربت الأوضاع».

أستمتع بالمشي, هناك هواء ومطر خفيف، «إنّها أوّل أيام المطر منذ الصيف»، كما قالت إحدى المقدسيات. أزهار الياسمين تنبت من بين الجدران العتيقة وليس فقط بجانب أبواب المنازل. إن الصراع يجعل لهذه المدينة سحرها وربما شجرها، فما أراه في هذه المدينة بغربها وشرقها، لا أستطيع أن أصفه بالتعايش، إنه سكون من نوع ما.

لا يمكن أن يكون تعايشاً إذا كان بضعة تلاميذ من اليهود الإسرائيليين ينتظرون حافلة معهدهم وبصحبتهم سيارة الشرطة، ولا يمكن أن يكون تعايشاً إذا كانت مسطرة الطفل الفلسطيني المكسورة تجعله متهماً بنيّة القتل، ويعتقله الاحتلال.

إنّ الأوضاع داخل القدس مختلفة تماماً عن المنظور الأيديولوجي الذي قد ننظر نحن من خلاله إلى المدينة. شعرت بأنّ هذا الصراع بقدسيّته يحميها من الانفجارات. هناك اتفاق ضمني على الهدوء أو كان كذلك، فلاحقاً بعد زيارتنا وصلت هبّة السكاكين لذروتها.

إنّه اختبار صعب ومن نوع جديد عليّ، معاناة مختلفة أن تعيش مع محتلّك في المدينة ذاتها ويتصرّف الجميع كمدنيين، وربما في عبارتي هذه أنّني لا أزال أنظر من خلال أيديولوجيا مكونات غزة الى القدس! فكرت هل لو ولدت وكبرت في هذه المدينة فسأستطيع أن أعيش السكون والمدَنيّة ذاتهما؟

إذا كان البحرُ جمال غزة، فسحرها الآخر هو الأيديولوجيا. إنّ القدس فيها الصراع الذي ولدتْ من أجله تلك الأيديولوجيا في غزة، ولكنها مع ذلك تبقى مدينة غير مؤدلجة، بل فيها سحر الصراع الساكن، ولغزة سحر الأيديولوجيا المتفجرّ، ولطالما كان السحران في تبدّل بفترات تاريخية كما الآن، فانفجر سكونُ القدس وسكَنَ انفجارُ غزة.

إنّ ثبات الصراع يغذّي ديناميكيّة الأيديولوجيا، لكنّ الأخيرة نادراً ما غذّت الصراع في القدس. وإذا كانت عبارتي الأخيرة صحيحة، فكيف يحدث أنّ هناك أكثر من أربع وعشرين عملية طعن في أقل من شهر؟ إنها فورات الغضب التاريخية اللازمة لتُذكّرنا بالصراع، وليعرف الجميع قيمة السكون.
رجعت إلى الفندق لأجد فيروز تصدح في صالة الاستقبال. ابتسمت في سرّي، فقد اكتملت أيقونتي الآن.

إنّ حقيقة أنّ جدّي كان يعمل يوماً في هذه المدينة، ومشى في شبابه بشوارعها وهو ينتظر راتبه كي يعلَم أبناءه التسعة وبناته الثلاث في جامعات مصر وليبيا وغزة، هي ذكرى أثّرت فيّ أكثر من أيّ شيء آخر.

أمشي وأحاول أن أعرف ماذا كان يدور بذهنه وقتها, هل كان يفكّر أن يوسّع بيت المخيّم بغرفة أخرى؟ لقد كان دوماً يعطيني مصروفاً أكثر من صديقاتي وأنا في المدرسة الابتدائية، كما كان فخوراً بأبنائه وبناته جميعهم. توفّي قبل أن يعرف أنّ هذا البيت سيتحوّل إلى فتات في حرب ٢٠١٤.

لم أبكِ في القدس، لم أشعر بتلك المشاعر الكلاسيكية، ربما لأني أعايش الأيديولوجيا، ولا أعيشها داخلي، إلّا أنّني لن أنكر أنّني بكيت داخل المسجد الأقصى، وأنا أدعو لعائلتي. الذاكرة تعطي للأماكن هيبتها، إنّها مثل اللحظات التي تشبه لحظة ولادة طفلك الأوّل، أو لحظة تخرّجك أو حبّك الأوّل. إنّ الذاكرة تضخّم الأحاسيس، وتحوّل الواقع أسطورة، لذلك فإنّ سمعة الأماكن ولحظاتنا الأولى أكثر هيبة منها ذاتها.

يدخل من إحدى بوابات الأقصى السياح الأجانب ويلتقطون الصور. لم أشعر بأنّني أختلف عنهم سوى بدخولي للصلاة في المسجد. في داخلك غصّة ما تذكّرك أنّك غريب عن كلّ شيء هنا، أو ربما هذه هي المشاعر الاعتيادية لكن لا أحد يصرّح بها، فتكفي صورة «سيلفي» هناك لتبرهن العكس.
التقطت بضع صور تشبه كلّ الصور التي يلتقطها المئات يومياً، لكنّها أبداً لا تشبه صورة تلك الطفلة في ذاكرتي التي أكلت الكعك وحوْلها المئاتُ من الوجوه المتنوّعة والفرِحة.

وقت زيارة الأجانب ينتهي عند الساعة الثانية والنصف ظهراً، هناك محاولات من قبل المستوطنين ليكون لديهم ساعات محدّدة. إنّهم يقسمون المسجد الأقصى زمانياً. دخل أمامنا مستوطن وحوله ثلاثة رجال شرطة إسرائيليين، وخرج من البوابة في الناحية الأخرى من باحة المسجد الأقصى، فتصاعدت تكبيرات المرابطين والمرابطات.

استفزاز مجّاني، وصناعة للكراهية، لتتذكر فجأة الصراع. إنّ هناك توازناً ما يجعل الأشياء لا تصل حدّ الانفجار، وسكوناً لا يصل حدّ التعايش. إنّها الهوية العقائدية القوية للمدينة، فهي مهبط الأديان الثلاثة، وهنا ميزان الضبط.

عدتُ إلى الفندق في القدس الشرقية. هناك ازدحام، اضطرت السيارة إلى أن تقف أمام البيت الذي قطفتُ ياسمينَه صباح اليوم. فُتح الباب، نظرت وانتظرت باهتمام لأرى مَن مِن المفترض أن يكونوا أصدقائي الخياليين، إلّا أنّ من خرج هو مستوطن وأبناؤه الذين يرتدون القلنسوات الصغيرة على رؤوسهم.

صُدمت، وأوّل ما فكرت هو كيف يكون بيتاً قديماً وحجراً مقدسياً، وعراقة وورد الياسمين ويعيش به من هو مستحدَث زمانياً ومكانياً. لاحظ السائق صدمتي فقال «كانت هناك عائلة عربية، لم تستطع الاحتفاظ بالمنزل، ووضعت خيمة لمدة طويلة أمامه، ثم رحلت». لحظتها لم يسعفني سوى تذكر كلمات جدي حين أتعبني التغيير في المدينة الجديدة، «ولا يهمّك. يا سيدي، ستعودين بعد قليل إلى غزة»، فاستعجلت الرحيل إلى الأيديولوجيا.

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.