أجمل شيء أنتقيه بعد خدمة اثنين وستّين عاماً في هذه الحياة القاحلة، هو ما عشته أثناء خدمتي الإلزاميّة في لبنان.
يأخذ الرّفاق إجازة ويذهبون إلى سورية، وأنا آخذ إجازة لأتمتّع بجنّة النعيم هنا! لبنان الأخضر بمشروباته وحشيشه وترفه وقحباته الرائعات. نعم! أنا المجنّد غانم أشرب وأدخّن وأمارس الحبّ أراقب رفاق السلاح كيف يعفّشون ذلك البلد الرّائع.
يسرقون كلّ شيء، ينسلون أسلاك الكهرباء من الجدران، يقتلعون البورسلين والبلاط، يحتطبون الأرز، يهرّبون التبغ والكحول والآثار، يهرّبون حنفيّات الماء ومقابض الأبواب. ثمّة وطن يُهرّب في صناديق التبغ!
صاحبي الذي تأخّر عن غزوة أصحابه لم يجد شيئاً ليعفّشه فصادر كلبا شارداً، وقال لي ضاحكاً: يا أخي، حتّى كلابهم تختلف عن كلابنا. بلد اقتصاد الفنادق والسياحة كلابهم كلاب سياحية خمس نجوم.
أنا غانم المجنّد العادي جدّا كنت طفلاً شقيّا ومراهقاً عنيداً ومواطناً يقف في طابور الفرن ستّ ساعات، عاشقاً يواعد نصف فتيات الحيّ ويحبّ أمّه فقط، طالباً جامعيّا يكتب الفقرات المهمّة من الكتب بالإبرة على ورق السجائر ليغشّ بسلاسة وينجح بدرجة ممتاز.
ولا شيء سوى أنّ أمّي توجّهت إلى القبلة ودعت ربّها: الله يوفقك بعسكريتك يا ابني!
فكان أن استجاب الله وكانت خدمتي في لبنان الأخضر، أزقّته خضراء، بحره أخضر، شوارعه خضراء، حشيشه أخضر، مواخيره خضراء، إنّه بلد الخصوبة.
أطير ويصير خيالي أخضر وأعود إلى عاطفة الخلق الأولى التي كنت عليها. لبنان يهيّج الغرائز مثل قراءة الشعر والرواية وسماع الموسيقى. إنّه بلد له أثر كحوليّ!
لم أحزن على رفاق سلاحي الذين قُتلوا في قضايا تهريب ودعارة وسُمّوا فيما بعد شهداء. لم أحزن على البلد الذي عفّشوه.
هذا قدر الجمال منذ الأزل: التّعفيش.
حزنت مرّتين في لبنان، مرّة عند انتهاء خدمتي الإلزاميّة، ومرّة قبل انتهاء خدمتي بعام.
كنت في بيروت في فرن الشبّاك، الساعةَ الحادية عشرة ليلاً أمتشق بارودتي وأمشي مع صديقي نشرب الجعة ونقرط الفستق ونثرثر، فجأة سمعنا صوتاً مرعباً، صوت صراخٍ وعويل وتوسّلات، صوت بكاء فجائعيّ، لا أدري إن كان ذلك الضّيق في الصدر والقشعريرة في الأطراف تُسمّى خوفاً.
ركضنا باتجاه الصوت، كان خارجاً من قبو، نزلنا بسرعة ونحن نرتجف ونبعق مثل المجانين قبل أن نصل: «إيدك لفوق ولاك... هاتوا الهواوي».
سكنتْ كلّ الأصوات، ارتفع من داخل القبو صوت: «أهلا بالشباب». توقّفنا قليلاً بأنفاسٍ مقطوعة، خرج شاب في العشرين، مجنّد سوري مثلنا عرف من لهجتنا أننا سوريون، اقترب وقال: تفضّلوا.
دخلنا بثقة وقوّة، إنهم مجنّدون سوريون مثلنا لكنهم في منطقتنا. كانوا ثلاثة مجندين يحاصرون امرأتين وثلاث فتيات وخمسة أطفال.
كانت وجوه المحاصَرين المساكين تنضح رعباً. نظرت في أعين الجنود الثلاثة وهمست لقائدهم: ما الأمر؟! فقال بابتسامة نتنة: نسوان، قليل من المتعة. تستطيعون مشاركتنا. شعرت أن حنجرتي تضخّمت وأني صرت بَجَعَةً من فرط المرارة، اقتربت من الفتى بهدوء، أحطته بذراعيّ ودمدمت: الآن سوف تذهبون من هنا بسرعة لأنّ ثمّة مؤازرة قادمة، نحن سوريون ونُحسب على أنفسنا، لا داعي لفضيحة سوف تودي بكَ مع هذين الاثنين.
انسحب الثلاثة بسرعة دون ضجيج، التفتّ إلى المساكين المتجمّدين رعباً، كنت أتصبّب عرقاً و خجلاً. «أنا أعتذر» ــ خرج صوتي على شكل دمعة كبيرة ــ «أنا تحت أمركم جاهز لأيّة مساعدة».
أخرجتهم من القبو، طلبوا أن أساعدهم في عبور الجسر، ساعدتهم. أوصلتهم حيث يريدون، شكرونا وبكوا، تقدّمت أكبرهنّ صوبي عانقتني وقالت: شو اسمك يا ابني؟
- غانم يا سيدتي.
- المسيح يحميك، العدرا تحرسك، الله يوفقك يا غانم كيفما توجّهت.
رجعنا إلى منطقتنا ونحن في ذهول تام، لولا صدفة مرورنا قرب ذلك القبو اللعين كنّ الآن مغتصبات وغالباً قتيلات مع الأطفال الخمسة.
غفوت مرغماً تحت وطأة الكوابيس واستيقظت مذعوراً على سطل ماء اندلق عليّ، عسكريّان اثنان اقتاداني إلى مكتب العقيد.
دوت صفعته على خدّي وبعق في أذُني: اسمع يا مناضل يا كتلة الشرف اسمع، ورفع صوت المذياع عالياً: مُدّ يدكَ لنصافحكَ يا غانم، أنت عنوان الشرف والأخلاق يا غانم، أَدخِلْ رفاقك إلى مدرستك يا غانم.
دوت صفعة ثانية وثالثة على خدّي وبعق العقيد: مدرسة الشرف يا عرص؟! هذه إذاعة الكتائب يا حقير، كتائب بيت الجميّل، تستشرف على حساب رفاق سلاحك؟! يا حمار يا عنّين يا عاهر. سوف أعلّمك الشرف على أصوله، خمسة عشر يوم حبس ومحروم من الإجازات حتى نهاية الخدمة، خذوه.
قابعاً في عتمة الزنزانة أقرقش خبزةً يابسة، أهمس بانتصار: الحمدلله أنّه لم يغيّر لي مكان خدمتي ولم ينقلني.
بقيت في لبنان الأخضر... زنازينه خضراء.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.