العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

«أيتام الغيتو»

رواية إلياس خوري الجديدة

النسخة الورقية

تصدر قريباً عن دار الآداب في بيروت رواية الياس خوري الجديدة: «أيتام الغيتو».

وبدايات تنشر المقدمة التي كتبها المؤلف لروايته.

وصلت إليّ هذه الدفاتر عن طريق المصادفة، وقد ترددت كثيراً قبل أن أقرر إرسالها إلى  «دار الآداب» في بيروت كي تُنشر. الحقيقة أن سبب ترددي كان ذلك الشعور الغامض الذي يمتزج فيه الإعجاب بالحسد والحب بالكراهية. فلقد التقيت بكاتب هذه النصوص وبطلها آدم دنّون او دانون، عدة مرات في نيويورك حيث أعمل أستاذاً في الجامعة. أذكر أنني في المرة الأولى أبديت لتلميذتي الكورية إعجاباً بوسامته. كان ذلك في أواخر شباط سنة 2005 إذا لم تخنّي الذاكرة، خرجنا بعد انتهاء الحلقة الدراسية كي نأكل ساندويش فلافل، ورأينا ذلك الرجل وهو يعد ساندويشاته بلطف وبشاشة. كان رجلاً طويلاً يميل إلى النحول قليلاً، كتفاه العريضتان تحملان انحناءة خفيفة. اختلط الشيب الأبيض بشعر رأسه الكستنائي فبدا وكأنه مكلل بهامة تلتمع. أعتقد أن هذه الالتماعة آتية من عينيه الرماديتين اللتين تميلان إلى اللون الأخضر. قلت لتلميذتي الكورية إنني فهمت الآن سبب إعجابها بهذا المطعم الإسرائيلي، فالمسألة لا تتعلق بالطعام بل تتعلق بصاحب المطعم. لكنني كنت على خطأ، ربما كان هذا أطيب ساندويش فلافل أكلته في حياتي. نحن في بيروت ندّعي أننا أفضل من يصنع الفلافل في العالم، والفلسطينيون يقولون إن الإسرائيليين سرقوا الفلافل منهم، وهم على حق في هذا. رغم أنني أعتقد أن الطرفين على خطأ، فالفلافل هي أقدم طعام مطبوخ عرفته البشرية، لأنه فرعوني الأصل والفصل، وإلى آخره...

كان اسم المطعم «بالم تري» أي شجرة النخيل، وحين اقترب الرجل الوسيم، بوجهه الشاحب المستطيل والغمازة المرتسمة في وسط ذقنه وبدأ يتحدث مع تلميذتي باللغة العبرية، التفتت سارانغ لي نحوي وأجابت بالإنكليزية، وتعارفنا. عندها بدأ الرجل يتكلم معي بالعربية، أبدت سارانغ لي  بالإنكليزية إعجابها بلهجته الفلسطينية، فأجابها بكلام عبري لم أفهمه.

وعندما مشينا وسط البرد، اقترحت سارانغ لي أن نشرب كأساً. فوجئت بالاقتراح، فأنا لا اخرج مع تلميذاتي، ولا أزال أذكر التحذير الذي وجهه لي صديقي الأرمني البارون هاكوب، الذي كان إدوارد سعيد يُطلق عليه لقب «ملك السيكس»، من ما يطلقون عليه هنا اسم «الهاراسمنت»، قال إن ادعاء أي طالبة بأنني تحرشت بها كفيل بأن يخرب بيتي ويدمّر مستقبلي الأكاديمي.

وافقت على شرب كأس مع تلميذتي لأني رأيت في عينيها كلاماً. شربنا كأس نبيذ أبيض في مقهى «لانترنا»، وهو المقهى المفضّل لصديقي الأرمني، كما أنه المقهى المفضّل لحنا العكّاري، وهو مناضل قديم في الجبهة الشعبية، وكنا نتردد معاً إلى هذا المقهى كي يشكو لي وأشكو له فشل أحلامنا الثورية.

قلت لسارانغ لي ضاحكاً وأنا أشرب نخبها إننا في العادة لا نشرب النبيذ بعد الفلافل، وانتظرت أن تحكي. لكنها لم تقل شيئاً، و بعد صمت بدا لي أبدياً سألتها إذا كانت عاشقة. فجأة التمعت عينا الفتاة التي كانت في الثانية والعشرين من عمرها بالدموع. لا أستطيع أن أقول إنها بكت، لكن هذا ما خُيّل إليّ على الأقل، ثم قالت إنها لا تعرف، لكنها تحبني أيضاً.

كلمة تحبني أثارت في قلبي ارتعاشاً ما لبث أن بددته كلمة أيضاً. هذا يعني أنها تحب الرجل الإسرائيلي لكنها لا تريد أن تكسر خاطري. لم يكن الحب وارداً عندي في تلك الأيام، وخصوصاً مع فتاة تصغرني بأعوام لا تحصى. لكنني وجدت في تفوّق تلميذتي الصغيرة وخفرها وجمالها الآسيوي الساحر، ما يدفعني إلى إيلائها اهتماماً خاصاً. في ذلك اليوم اكتشفت أنني كنت مخدوعاً. لا، كلمة مخدوع ليست ملائمة هنا، فالفتاة لم ترسل لي سوى إشارات إعجاب عادية، وهذا ما قد يحصل لأي تلميذة مع أستاذها. سألتها ماذا قال الرجل الكهل، فابتسمت وقالت إنه ليس كهلاً، «إنه من عمرك يا أستاذي العزيز»، ثم قالت بخبث لطيف: «إلا إذا كنت تعتبر نفسك كهلاً»؟ تجاهلت ملاحظتها وسألتها ماذا قال الرجل، فأجابت قال إنه تكلم بلهجة أهل الجليل لأنها قريبة من اللهجة اللبنانية من أجل أستاذك. قالت إن في الأمر سراً، فهي تعرف إسرائيل جيداً، لأنها عاشت طفولتها في تل ابيب، لكنها لا تعرف هوية هذا الرجل بالضبط، هل هو فلسطيني يدّعي أنه إسرائيلي أم العكس، لكنه شخصية فذّة.

لفظت سارانغ لي كلمة فذة والتمعت عيناها ببريق الحب. لم أجد ما أقوله لأنني احسست أن هناك شيئاً غامضاً. وفي لقاءٍ ثانٍ باحت لي بالسرّ، قالت إن الرجل ليس إسرائيلياً، «بلى إنه يحمل جوازاً إسرائيلياً، لكنه فلسطيني، أعتقد أنه من نواحي اللد، إلّا أنه يحب الالتباس، ولا يمانع في أن يعتقد الناس أنه يهودي».

لم ألتقِ هذا الرجل الذي يحب الالتباس بعد ذلك، كانت تلميذتي تروي عنه الطرائف، وتقول إنها تعتقد أنه زير نساء، لكنه ساحر. لم أهتم بطرائف هذا الإسرائيلي الذي يتقن العربية، أوهذا الفلسطيني الملتبس الذي يتكلم العبرية كأبنائها، ولا بسحره، شعرت بالغيرة منه، لكنها كانت غيرة خرساء. لا أدري لماذا خطر لي أنه قد يكون عميلاً للموساد الإسرائيلي، وهذا هو سبب التباساته أو تنكّره ، لكنني لم أهتم. كنت أريد لتلميذتي أن تبتعد عنه لهذا السبب فقط، وحين أخطأت وانزلق لساني ورويت لها عن شكوكي غضبت وغادرت مقهى «كورنييليا ستريت» وهو المكان الذي صرنا نلتقي فيه بمعدل مرة كل أسبوعين، لأنه بعيد قليلاً عن أعين الرقباء في «ساحة واشنطن»، التي هي عملياً مركز جامعة نيويورك حيث أعمل.

مرة قالت سارانغ لي إن آدم لا يحبني، وإنه قال لها إنه يشك في هذا الاستاذ، بل قال أكثر من ذلك. قالت إنها لا تريد أن تخبرني، لكنها أخبرتني أنه قال إنه يشكّ في نواياي نحوها، وعندما دافعت عني قائلة إنني لم ألمّح معها مجرد تلميح إلى إمكانية إقامة علاقة، غضب الرجل وقال إنه لا يقصد هذا الجانب، بل يقصد ما هو أهمّ، وسألها إذا كانت قد قرأت روايتي «باب الشمس»، وقال إن الكتّاب كائنات لا يمكن الوثوق بها، وإنها قد تجد نفسها يوماً بطلة في إحدى رواياتي.

أدهشتني ردة فعلها حين سألتني بدلال إذا كانت تصلح أن تكون بطلة رواية؟

لا أريد أن أروي عن نفسي، ولولا أن سارانغ لي كانت سبباً في إيصال هذه الدفاتر إليّ لما رويت عن علاقتي بها، وهي علاقة لم تتعدَّ غواية النظرات على أية حال. لكنني فوجئت بأن فكرة أن تكون صديقتي الصغيرة بطلة رواية أغوتها. وللأسف فإنها صارت بطلة ولكن ليس على يديّ بل على يديّ غريمي. سألتها ماذا قال عن «باب الشمس»، فلم تقل سوى أنه لم يحبها، وكان عليّ أن أكتشف موقفه بنفسي، عند عرض الفيلم الإسرائيلي «نظرات متقاطعة» في صالة «سيني فيلادج»، في الشارع الثاني عشر.

لن أروي ماذا جرى في صالة السينما وأي غضب اجتاحني، لأنه لا يحق لي أن أتطفل على حكايات مؤلف هذه الدفاتر، كما أن القارئ سوف يقرأ الحكاية بحسب آدم دنّون وسيكون هو الحكم بيني وبينه، كما أن سارانغ لي سوف تقرأ حكايتها أو شذرات من حكايتها في هذا الكتاب إذا تمت ترجمته إلى الإنكليزية، وعندها سوف تكتشف أن الرجل الإسرائيلي الذي  لم يكن إسرائيلياً، لم يحبها لأنه كان يعتقد أنها تحبني، وأن سوء التفاهم الذي طبع حياة بائع الفلافل، أنقذ الفتاة الكورية من علاقة كانت ستكون مدمرة لحياتها.

عندما جلبت سارانغ لي الدفاتر قالت إن الرجل مات محترقاً، يبدو أنه أغفى وهو يدخّن مستلقياً على فراشه، فاشتعلت أشرطة التسجيل التي كانت تمتلئ بها رفوف مكتبته، وحين وصل رجال الإطفاء كان الرجل قد مات. شكّكت في الحكاية، وقلت إنها تقليد حرفي للطريقة التي مات بها الشاعر الفلسطيني الكبير ومترجم بياليك إلى العربية راشد حسين في نيويورك، فقالت إنها تعتقد بأن آدم انتحر، وأنه قام بعملية إخراج مسرحية لموته كي تكون مطابقة للطريقة التي مات بها راشد حسين، لأنه كان يحب هذا الشاعر ويحفظ قصائده غيباً. قالت إنه أعطاها قبل موته بأسبوع رسالة صغيرة تتضمن وصيته وطلب منها ألّا تقرأها إلّا إذا حصل له شيء. طلبت منها أن تسمح لي بقراءة الرسالة فرفضت. انهمرت دموعها وهي تروي أنها قامت مع ناحوم، شريك آدم الإسرائيلي في مطعم الفلافل، بتنفيذ وصيته، وأنهم أحرقوا جثته وألقوا الرماد في نهر الهادسون بحسب طلبه. لكنها فوجئت بنجاة الملف الذي يحتوي هذه الدفاتر. كانت أطراف الملف الأزرق محترقة، والرماد يغطّي الملف كله. غير أن الدفاتر كانت سليمة، والنصوص المكتوبة بحبر سائل أسود، بدت وكأنها مضاءة بالنار. لكنها رفضت تنفيذ وصية آدم ولم تحرق الملف الذي يحتوي الدفاتر، أخذته إلى منزلها، وحاولت فك طلاسمه العربية، لكنها لم تستطع، فقررت إعطائي الملف وأخذت مني وعداً بألّا أتصرّف به من دون علمها.

أغلب الظن أن سارانغ لي اعتقدت أنني سأنفذ ما عجزت هي عن تنفيذه، وسأقوم، بسبب المشكلة التي حدثت في قاعة السينما، بإحراق هذه الأوراق، لأنني وبنزقي الأحمق، الذي غالباً ما سبّب لي الكوارث، صرخت في وجه آدم، وقلت إنه رجل تافه، وإنه هاجم كتابي لأنه لم يفهم شيئاً، فأنا لم أكتب تاريخاً بل كتبت قصة، لذا فأنا لا أعرف معنى المصائر الحقيقية لشخصيات من صنع الخيال. لا أدري لماذا أصرّ الرجل على الادعاء بأنه يعرف شخصيات روايتي، وبدا كمخبول يهذي، وكان عليّ أن اقرأ هذه النصوص كي أفهم معنى كلامه.

يومها خرج آدم من قاعة السينما، ولحقت به سارانغ لي، بينما كنت أرتجف غيظاً. قلت لصديقي حاييم، إن هذا الرجل كاذب، يدّعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته، مع أنه فلسطيني، وهويته الفلسطينية هذه كانت حجته الكبرى ضد روايتي، كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من أبوين فلسطينيين.

الدفاتر التي أعطتني إياها سارانغ لي، كانت دفاتر جامعية عادية مسطّرة، من نوع five star، تترابط أوراقها بشريط معدني لولبي، نجد في صفحتها الأولى روزنامة للأعوام 2003 و2004 و2005 و2006، ويمكن شراؤها من أية قرطاسية في نيويورك. أغلب الظن أن الكاتب اشترى هذه الدفاتر في عام 2003، وأنه كان يخطط لكتابة عمل طويل يحتاج إلى كل هذه الدفاتر ذوات الأغلفة الملوّنة.

قرأت هذه الدفاتر ثلاث مرات، ولم أعرف ماذا عليَّ أن أفعل بها. واليوم وبعد مرور سبع سنوات لا أدري لماذا قررت العودة إليها، قرأتها من جديد وبعيون الزمن الذي محا كراهيتي للرجل واستبدلها بالأسى. حزنت عليه وحزنت على نفسي، وبعد تردد طويل قررت نشر هذه الدفاتر بوصفها النص الذي تمنيت أن أكون كاتبه.

الحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها هي أنني واجهت مشكلة كبرى، جعلتني أتردد كثيراً قبل أن أتخذ قراري هذا. لقد استحوذت فكرة جهنمية على تفكيري، وهي أن أسرق الكتاب وأنشره باسمي، هكذا أكون قد حققت حلمي في كتابة الجزء الثاني من رواية «باب الشمس»، وهو أمر عجزت عن القيام به. ماذا أكتب بعد مقتل شمس وموت نهيلة؟ قلمي جفّ بعد موتهما، وشعرت أنني فقدت القدرة على الكتابة، ودخلت في اكتئاب «مصارع العشاق»، في الأدب العربي، الذين يشهق فيهم الموت لحظة غياب المحبوب. ولم أجد خلاصي إلا في دانيال هابيل أبيض، بطل روايتي «يالو»، الذي أجبرني على دراسة السرياينية، ومع هذه الأبجدية الجديدة التي تعلمتها، أعدت اكتشاف الحب، بصفته باباً من أبواب الخيانة.

فكرة سرقة الكتاب لم تكن تعني نشر نصه الحرفي مثلما وجدته، بل إعادة كتابته واعتباره مادة أولية. قلت في نفسي إنني لن أكون أول من فعل ذلك، بل أنا أعتقد، وهذا ما أدرّسه لطلابي، أن كل كتابة هي شكل من أشكال إعادة الكتابة، وأن السرقة الأدبية حلال لمن يستطيعها. ولعل ما أطلق عليه النقّاد العرب اسم «سرقات المتنبي»، هو نموذج للسرقة الأدبية التي تعادل الإبداع إن لم تتفوق عليه. كما أن شولوخوف مؤلف رائعة «الدون الهادئ»، وهي من أعظم روايات الأدب الروسي، اتُهم بسرقة مخطوطتها خلال الحرب الأهلية الروسية، وهذا لم يغيّر شيئاً من أهمية الرواية أو من موقع مؤلفها في تاريخ الأدب الروسي الحديث.

لكنني، وبعد عدة محاولات لإعادة كتابة هذا النص وجدت نفسي عاجزاً عن الاستمرار، إذ بدل أن أكون سارقاً صرت ناسخاً، وبدل أن أعمل على النص، شعرت بأن النص بدأ يستحوذ عليّ، إلى درجة أنني بدأت أشعر أن حياتي تتحلل كي تصير جزءاً من حياة الرجل وحكايته، كأن حكايته بدأت تحتلني، بحيث خفت أن أفقد روحي، وأدخل في متاهة ذاكرة هذا الرجل، فقررت التخلي عن الفكرة برمتها.

سوف يُلاحظ القارئ أن هذه الدفاتر تتضمن نصوصاً غير مكتملة، تزاوج بين الرواية و السيرة الذاتية، وبين الواقع والتخييل، وتمزج النقد الأدبي بكتابة الأدب. لا أعرف كيف يمكنني تصنيف هذا النص من حيث الشكل أو المضمون، فهو يمزج الكتابة بكتابة تمهيدية ويخلط السرد بالتأمل، والحقيقة بالخيال، كأن الكلمات تصير مرايا للكلمات، وإلى آخره...

وفي النهاية أريد أن أؤكد أن هذا الكتاب يضم المخطوط كاملاً كما وصلني من سارانغ لي، لم أضف إليه كلمة واحدة، سوى كتابة عناوين الفصول الداخلية التي أعتقد أنها ضرورية من أجل أن تشكّل دليلاً للقارئ، كما لم أحذف منه شيئاً، حتى النقد العنيف الذي وجهه المؤلف لروايتي أبقيته على حاله، وأنا متأكد من أن القارئ الكريم سوف يجد فيه إجحافاً في حقي وظلماً لي ولكتابي.

أعدت ترتيب الدفاتر، لكنني ترددت أمام الدفتر ذي الغلاف الأحمر الذي يحتوي في بدايته على ما يشبه مخطط الرواية الأصلية التي يبدو أن المؤلف عدل عن كتابتها، وقررت نشره على حدة بصفته مشروع رواية، ثم صرفت النظر عن ذلك حين اكتشفت أن هذا المشروع يخترق الدفاتر كلها ويتداخل بها، كما ترددت أمام العديد من المقاطع التحليلية التي وجدتها في الدفاتر الأخرى، حيث لم يقم المؤلف بحذفها بل تركها لأنه كان يعتقد أن كتابه لن يُنشر، أو أنه سيقوم بتنقيح الكتاب قبل نشره...

قررت في البداية أن أضع هذه المقاطع التي تشبه المخططات كهوامش، ثم فكرت بأن أطبعها بحرف سميك ومختلف، لكنني حذفت الاقتراحين، لأنني مقتنع بأنه لا يحق لي ذلك، وأن القارئ سوف يدخل مع هذه المقاطع في لعبة الكتابة الداخلية، ليكتشف، مثلما اكتشفت وأنا أقرأ هذا المخطوط، جماليات البدايات وسحر العلاقة بين الكاتب ونصه. كما جعلت النص التمهيدي، الذي وجدته وحده في دفتر ذي غلاف أزرق، وهو نص صغير يشبه الوصية، مقدمة لهذا الكتاب.

المخطوط كان بلا عنوان، والحقيقة أنني وضعت لائحة بالعناوين الممكنة لأخلص إلى اقتراح وضع اسم المؤلف كعنوان، فيكون عنوان هذا الكتاب «دفاتر آدم دنّون». وبهذا يكون مؤلف هذا الكتاب قد نجح في ما فشل فيه جميع الكتاب، وهو أن يتحوّل إلى بطل لرواية عاشها وكتبها.

لكنني غيرت رأيي في اللحظة الأخيرة قبيل إرسال هذا المخطوط إلى الناشر، وقررت أن هذا الكتاب يكشف حقيقة لم يتنبّه إليها أحد، وهي أن الفلسطينيات والفلسطينيين الذين استطاعوا البقاء في أرضهم، هم أولاد الغيتوات الصغيرة التي حشرتهم فيها الدولة الجديدة التي استولت على بلادهم ومحت اسمها. فقررت أن أضع لهذا الكتاب عنوان «أولاد الغيتو»، وبذا أكون قد ساهمت ولو بجزء يسير في كتابة رواية لم أستطع كتابتها.

وفي الختام أعتذر من سارانغ لي لأنني لم أستشرها في مسألة نشر هذه الدفاتر كرواية بقلم آدم دنّون، لكنني على يقين بأنها ستفرح حين تجد نفسها في عداد أبطال هذه الرواية.

العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥
رواية إلياس خوري الجديدة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.