يرى كثيرون أن أزمة صناعة القرار في الحركات الثورية التي شهدتها المنطقة أخيراً هي بالعموم حالة إيجابية. أي أن غياب جسم سياسي ثوري موحّد وموكّل باتخاذ القرارات عموماً كان عاملاً مشجّعاً على النضال الثوري. ثارت الشعوب العربيّة من دون قائد ثوري، ولا حزب بيروقراطي. وهكذا كسرت الثورات الصورة الاستشراقية التي تربط السيرورة التاريخية لشعوب المنطقة بنخبة عسكريّة واقتصاديّة تحرّكها بحسب مصالحها الضيّقة بالعلاقة مع الدول الكبرى.
رغم أهميّة تفكيك هذه الصورة المفروضة، والتي ما لبثت الثورات المضادة أن أعادت ترميمها، تبقى الأسئلة المتمحورة حول أهميّة التنظيم وهيكليّة صناعة القرار الثوري على هامش الثقافة النقدية في الربيع العربي وما بعده. إن تهميش الأسئلة تلك مرتبط على الأرجح بالغموض النظري حول ماهيّة الثورات المضادة وعلاقتها بالسلطة.
من خلال دراسة وفهم البعد التنظيمي لأدوات السلطة وبالتالي للثورة المضادة، تتبيّن أهميّة طرح الأسئلة المتعلّقة بوسائل وأساليب وثقافة التنظيم التي رافقت الثورات الأخيرة.
أسئلة التنظيم والتنظيم الافتراضي
يتفق الباحثون على أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً أساسياً في تحريك الشارع العربي، رغم اختلافهم على حجم هذا الدور وجدواه. عموماً، ورغم الاختلافات الأساسيّة في التجارب الثورية بين مجتمع وآخر، نجحت الفئات الشبابيّة المدينية في العالم العربي باستبدال المساحة العامة التي تسيطر عليها الأنظمة بمساحة عامة افتراضيّة، ما لبثت أن استخدمت لاحقاً في الثورات لاستعادة المساحة العامة العمليّة (من خلال الدعوة في المساحة الافتراضيّة للحشد في المساحة العمليّة).
على اعتبار أنّ التجربة العربيّة كانت الأولى من نوعها في هذا المجال، فإنها اعتمدت مساراً ثورياً تجريبياً واستكشافياً مع وسائل التواصل الاجتماعي. أثبتت وسائل التواصل تلك والمساحة الافتراضيّة التي خلقتها قدرتها على التجييش والاستقطاب وفتح قنوات للنقاش السياسي.
لكن تدخّلت عوامل كثيرة في تفسير الشجاعة الجماعية في مواجهة عنف السلطة من تونس إلى البحرين، وفي استدامة التحركات الاحتجاجية. لم تكن الثورات ثورات فيسبوك كما أراد المستشرقون تأطيرها، وهذا متّفق عليه عامة. لكن آن الأوان لتعلّم الدروس من جوانب أخرى. والجانب التنظيمي يطرح أسئلة محوريّة خارج النقاش الضيّق عن جدوى وسائل التواصل الاجتماعي.
على الصعيد التنظيمي، فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخلق مساحة عامة افتراضية لم يتضمّن إنتاج تنظيم افتراضي بديل. أي أن المساحة العامة البديلة لم تكن قادرة على خلق تنظيمات افتراضيّة بديلة قابلة للتعويض عن التنظيم الفعلي للمجتمعات في الحالة الثورية. وهذا الفشل ليس نتاج تقصير ما للفئات الثورية في استخدام وسائل التواصل، بل هو توصيف للمحدوديّة الحتميّة لدور وسائل التواصل في أي حركة ثوريّة فعليّة. التنظيم الثوري هو تنظيم فعلي بحت.
في هذا الإطار، يمكن طرح الأسئلة الآتية: هل كانت الفئات الناشطة في الثورات العربية تعي هذه المحدوديّة؟ وإلى أي مدى ظنّ الثوّار على اختلاف ثوراتهم وثقافاتهم أن وسائل التواصل هي أيضاً وسائل تنظيم؟
الثورة ومعرفة الأنظمة
مع مرور الوقت وفي رد فعل على التجربة الثورية، نجحت الأنظمة إلى حدّ متفاوت في اختراق المساحة العامة الافتراضيّة وفرض رقابة ومحاسبة عليها. لم تعد المساحة كما كانت سابقاً خارج مؤسسات السلطة. ومع الاعتقالات والقمع المبرمج والمشرْعن ضد الناشطين في جميع أنحاء العالم العربي، أصبحت المساحة العامة الافتراضية على خط تماس مع السلطة، كما هو واقع الحال في المساحة العامة الفعليّة.
ومع الردّة المضادة للثورات، تبيّن أن الشعوب العربيّة عموما ــ والفئات الثورية التي أنتجت الخطاب الثوري في العالم الافتراضي خصوصاً ــ قد ثارت على أنظمة لا تعرفها. أي أن مفهوم النظام أو السلطة كان ولا يزال مبهماً. للتعويض عن الغموض، اتّجهت الثورات إلى تشخيص الأنظمة بالأفراد (حسني مبارك، معمّر القذافي، بشار الأسد، إلخ.).
صحيح أن الأنظمة الدكتاتوريّة عادة ما تعتمد على شخص الزعيم، لكن استدامة هذه الأنظمة غالباً ما تكون مبنيّة فعلياً على شبكة علاقات عسكرية ــ اقتصادية وعلى مصالح نخب محليّة وإقليمية وعالمية، كما هو الحال في الدول النفطيّة. أمّا علاقة هذه الطبقة مع الطبقات الأخرى في المجتمع فتعتمد على الهيكليّة الخاصة لكل نظام واقتصاده السياسي. رغم أنّ هذه الشبكات والعلاقات والمصالح وتوازنات القوى بين النخب متقلّبة، يبقى النظام إلى حدّ بعيد في تعريفه مؤسساتياً وبيروقراطياً.
تفترض هذه النظرة للأنظمة الدكتاتوريّة إذاً قدرة تنظيمية هائلة للسلطة. وبذلك نعود مجدداً إلى السؤال المهمّش: ماذا عن التنظيم الشعبي الثوري؟
لا شك أنّ الثورات العربية شكّلت لجاناً شعبيّة وتنسيقيات على مستوى القواعد وهيئات مناطقيّة وتيّارات وغيرها من التجمعات. في نقد التنظيم، لا نسعى إلى إعطاء صورة سطحيّة عن المجتمعات العربية في ثوراتها، خصوصاً أنّ هذه المجتمعات لم تكن في حالة ثوريّة عبثيّة. التساؤلات المطروحة عن التنظيم لا تفترض غياب الأخير، لكنها تفتح المجال لنقد أشكال التنظيم التي اتّبعت وثقافة التنظيم التي انتشرت مع الثورات.
تتحمّل الأنظمة المسؤوليّة الكبرى في تشتيت المجتمعات وتقسيمها ومطاردة أيّ محاولات لتأسيس تنظيم شعبي معارض. لكن التاريخ السياسي يعكس قدرة الشعوب على ارتجال سبل تنظيم ومقاومة. وهذا ما يحدث عادة عندما يبرز خطاب سياسي معارض بشكل عضوي، أي خطاب مشترك بين الطبقات المقموعة والمحرومة. وهذا النوع من الخطاب، والتنظيم الذي يشكله، يستمدّان شرْعيّتهما الثوريّة من قدرتهما على وصف الواقع بلغة وأسلوب الطبقة نفسها، على عكس خطاب السلطة الذي عادة ما يسقط على المجتمع.
مع انتشار ثقافة اليأس والاستسلام في المساحة العامة الافتراضية اليوم، تعود الدعوة إلى الثقة بالمساحة العامة العمليّة، حيث يشتبك العمّال مع السلطة في المصنع، والمدرّسون في المدرسة، والطلّاب في الجامعة، وترتجل كل فئة خطاباً ثورياً منبثقاً من لغتها العمليّة وصراعها اليومي مع الاستبداد. في هذا السياق، تعود الرغبة والقدرة على التنظيم. والتنظيم العضوي يمكن أن يكون لامركزياً. أي أن المسار الثوري للمجتمع يأخذ منحىً يناقض مركزيّة الدولة، كما فعلت الثورات السابقة، لكن هذه المرة يؤسس المجتمع للامركزية منظمة ديموقراطية قادرة على تمثيل نفسها وصناعة قراراتها.
في واقعَ َالأمور، التحديات كبيرة ونَفَسُ الفئات الشبابية قصير. التنظيم السياسي في الأحياء وأماكن العمل والمساحات العامة الأخرى هو الحاجة الأولى والملحّة لاستعياب هجمات الثورات المضادة، وإيجاد سبل لمقاومتها والردّ عليها.
في التنظيم العملي تكمن البدايات. وفي غياب التنظيم مساحة لموت افتراضي.
التعليقات
Well said
Well said
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.