بدِّل المياه والرمال بفراش.
بدِّل الملابس بأخرى غير مبلّلة من دون الحاجة إلى ترتيبها.
ضع سقفاً أو شادراً بدل السماء فوق رؤوسهم.
«جفِّف الصورة»!
بهذه الخطوات البسيطة، سيبدو الأطفال في مكانهم الطبيعي، في وضعهم الطبيعي. سيبدون أطفالاً يغطّون في نوم هانئ. نعم فالأطفال ينامون هكذا بفوضوية، أياديهم مرفوعة إلى الأعلى، أرجلهم متفرقة، منهم مَن ينام رافعاً رأسه إلى الأعلى، ومنهم من يفضّل النوم على بطنه، منهم مَن يخفي وجهه، ومنهم من يلقي برقبته إلى الخلف.
الأطفال النائمون يفردون أجسادهم كالأحلام لا يلتزمون بجغرافية الفراش أو حدوده.
إذا ما جُفِّفتَ المياه من مكان التقاط صور مأساة غرق اللاجئين السوريين على ضفاف الحدود الأوروبية ستتبدّل الحقيقة المُرّة، وكأن هؤلاء الأطفال لم يُضطروا إلى الهجرة أو المخاطرة أو الموت.
تضعنا الصورة أمام حقيقة أنه بات من الصعب رؤية أطفال سوريين غارقين بنومهم، وكأنه كُتب علينا أن نراهم غارقين بدمائهم أو بغبار الدمار الذي تخلّفه البراميل الحارقة أو بظروف مخيمات اللجوء القاهرة أو غارقين في البحر.
هكذا ببساطة تحوّل الأزرق الكبير، حامل همومنا إلى مصدر لها، تحوّلت صرخاتنا الصامتة والموجّهة مباشرة صوب زرقته، صرخات نحيب يستعر في صدورنا. وحكاياتنا التي نحملها إليك هذه المرة حكايات مكفّنة بأبيض يتماشى ولون أمواجك المتكسرة.
أرقام
حكاياتنا اليوم، مبلّلة بدموع أهل وأطفال وأقارب وأصحاب وأحباء، لم يبقَ لهم من أعزائهم إلا صورة، وطعم قبلة وداع أخيرة على وجناتهم. تقول التقارير إن نحو ١٦٠ ألف مهاجر وصل بحراً إلى اليونان ، يضاف إليهم ١٧١٦ مهاجراً وصلوا عن طريق البر، في الفترة بين الأول من يناير/ كانون الثاني و١٤ أغسطس/ آب ٢٠١٥. وخلال تلك الفترة لقي أكثر من ٢٤٠٠ مهاجر مصرعه خلال محاولة عبور المتوسط للوصول إلى أوروبا. وذكرت المفوضية العليا للأمم المتحدة للاجئين أن أكثر من ٣٠٠ ألف مهاجر عبروا البحر المتوسط منذ يناير/كانون الثاني هرباً من النزاعات في أفريقيا والشرق الأوسط.
المهاجرون ليسوا جميعهم من السوريين، ولكن يبدو أن العامل الجغرافي في متابعة الأحداث يفرض نفسه علينا وعلى آرائنا وعلى تحليلاتنا، وقد ازدادت حوادث وفاة المهاجرين إلى أوروبا، سواء أثناء عبورهم البحر المتوسط حيث قتل أكثر من ٢٣٠٠ مهاجر منذ بداية العام، أو على أراضي الاتحاد الأوروبي، حيث كانت آخر مأساة العثور على جثث ٧١ مهاجراً في شاحنة تبريد متروكة على حافة طريق في النمسا.
هذه الأرقام تضعنا أمام واقع مرير، تشتدّ حدّته مع عدم وجود سجلات لهؤلاء المهاجرين غير الشرعيين، فيتحوّلون إلى صور تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي مذيّلة بعبارة «اختفى/ت في البحر» وتفيض اللوعة مع التعليق الذي يقول «اختفت مع أطفالها في البحر».
انتشار الصور المأساوية لا يُنبئ بحل في الأفق، وبخاصة مع إصرار الاتحاد الإوروبي على موقفه من الهجرة غير الشرعية، وتشديد الإجراءات على الحدود، إذ إن مَن ينجو من «قوارب الموت»، يبقى عليه التسلل إلى الحدود البرية واجتياز الأسلاك الشائكة أو المعوّقات التي تستخدمها السلطات من أجل الحد من التسلل إلى داخل البلاد.
تشير تقارير إلى أن بعض الضحايا يسقطون بيد المهرّبين أنفسهم، أو حتى يقومون بتصفية بعضهم البعض متشبثين بغريزة البقاء، ومن الروايات قيام عصابة تهريب بإغراق أحد المراكب المطاطية عن قصد بعد أن رفض اللاجئون نقلهم إلى مركب أصغر حجماً خوفاً من الغرق أو أن مجموعة من اللاجئين ألقت بمجموعة أخرى في البحر.
مكة أم «القبر الأبيض المتوسط»؟
تصعب إشاحة النظر عن تلك الوجوه النائمة، ثغور مفتوحة تكشف أسنان «الحليب»، أو تأخذ شفاهها شكل مثلّثات فارغة في الوسط، وعيون أبت جفونها أن تغلق بإغماضة كاملة، للحظات قليلة تظهر وكأنها تغط في نوم «الغزلان» الهادئ.
تُرى على ماذا تسمّرت نظراتهم الأخيرة؟ مَن فارَق الحياة قبل مَن؟ هل أسلمت الأم الروح وهي تأمل أن ينجو أطفالها أم أنها تعمّدت أن تغرق بعد أن أيقنت أنها ستصل إلى الشاطئ من دون الذين غامرت لأجل مستقبلهم؟ هل تكسّرت أصواتهم على صخب الأمواج، أم أن أجسادهم الصغيرة لم تحتمل برودة المياه؟ هل وصلوا إلى القعر قبل أن يعيد البحر لفظهم؟ أم أنّ طراوة أرواحهم طافت بهم إلى الشواطئ جثثاً هامدة؟
هل لنا أن نتأمل أن تنجح وجوه الأطفال الغرقانين، في ما فشلت صور أطفال المجازر الدموية بتحقيقه، فقط لأن الأولى التُقطت على ضفاف دول تؤمن بحقوق الإنسان؟
هل يدوّي صدى تلك الشهادات «الصامتة» التي تتناوب تكاوين وجوه صغيرة لصبيان وبنات على الإدلاء بها، عمّا حلّ بهم هناك في رقعة من الأرض، حيث هربوا من حمم المدافع والطائرات خوفاً على أجسادهم الطرية، ليسقطوا فريسة الماء؟
بقعة الضوء التي أنارها أوروبيون وخصوصاً في النمسا واستقبالهم الحافل للاجئين غير شرعيين وصلوا إلى بلادهم، قابلها على مواقع التواصل الاجتماعي حملة تنشر صور جثث الأطفال والضحايا على الشواطئ مذيّلة بعبارة «مكة كانت أقرب» في إشارة إلى عدم فتح الدول العربية باب اللجوء للسوريين، ما دفع بهم إلى «القبر الأبيض المتوسط» كما سماه أحد الناجين من قوارب الموت، ليحاكوا الانتقادات المبطنة التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لدول الخليج بعدم مدّ يد العون في موضوع استقبال اللاجئين رغم أن أوضاع بلادهم تسمح بذلك.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.