لم تنقطع الشمس بعد
«نرفض إعادة إعمار بيروت على جبل من النفايات المعمارية والصناعيّة». هذا كان شعار مجموعة «سدرا» (النادي العلمي للبحث الأكاديمي في البيئة والطاقة Societé de l’Énergie et de l’Environnement Pour la Recherche Académique) والتي تأسست سنة ١٩٩٣ على يد الباحث في الكيمياء التحليلية د. ميلاد جرجوعي، والباحث في السموميات البيئية والاختصاصي في علم الأدوية الطبيعية د. بيار ماليشاف، والباحث في الهندسة النووية والمائيات د. ولْسن رزق.
التقى الخبراء في عام ١٩٨٨على أثر دعوة من رئيس التفتيش المركزي في الجمهورية اللبنانية أو «الراپوبليش ليباناس». عيّنهم الرئيس للتحقيق في حمولة مشبوهة من النفايات السامة أتت من إيطاليا وأُدخلت إلى لبنان بواسطة أحد أحزابه. قرّر العلماء الثلاثة إنشاء «سدرا» للبحث في المشاكل البيئية في لبنان، ولاسيما مشروع إعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية. في سياق عملهم، أخذوا العيّنات وحلّلوا النفايات. كتبوا وقدّموا حلولاً واقتراحات بعيدة الأمد. هُدّدوا من قبل النظام، واستجوبوا، كما تمّ اعتقال أحدهم.
بينما كنت أبحث في أعمال مجموعة «سدرا» وأغوص في تاريخ نفايات لبنان، وجدت نفسي إزاء ارتدادات تاريخية مألوفة، تربط زمكانية ومشهدية النفايات مع البنية التحتية للسياسة المحليّة في هذا البلد. إذ بينما يدور الجدل الحالي حول أهمية إنشاء مصانع لـ«تدوير» النفايات للحد من أزمات القمامة المستقبلية، تظهر «سدرا» وعلماؤها حال مدينة وقد خاضت أرضها وأرباضها وما تحت أرضها في إشكالية تدوير وتسييس النفايات في وقت سابقٍ لأواننا و«أوانها». فبين جبال نفايات لبنان التي تشكلت أو استُوردت في أثناء حرب أأهلي، وإعادة إعمار
بيروت بعد الحرب، وأزمة النفايات الآنية، علاقات وثيقة وتاريخية شاهدة على مدينة أعيد بناؤها من خلال «التدوير» المعماري والسياسي للقمامة.
في عام ١٩٨٧ أدخلت «المافيا الإيطالية» بالاتفاق مع أعضاء من صندوق حزب القوات اللبنانية
١٥٨٠٠ برميل وعشرين مستوعباً من النفايات السامة إلى لبنان.
من أجل إتمام الصفقة، أنشأ المتورّطون اللبنانيون شركة وهمية تحت اسم «Adonis Productions and Engineering». غير أنه عندما وصلت «شهادة تعريف» الشركة إلى أيدي القنصل اللبناني في إيطاليا ظهيرة ١٨/٢/١٩٨٨، لم يجد الأستاذ أديب علم الدين نفسه أمام ورقة تفيد «إتلاف كامل حمولة النفايات الصناعية [...] وتحويل جزء من الحمولة إلى رماد ورمي الجزء الآخر في مجارير النفايات» فحسب، بل وجد نفسه أمام لغة جديدة أيضاً. لغة مستنبطة، وختماً لِلُبْنَانٍ أو للجمهوريةٍ اللبنانيّةٍ التي جرت تهجئتها بطريقةٍ خاطئةٍ أو بلغة إيطاليّة افتراضيّة. تحلّقت دائرة الـ«راپوبليش ليباناس ١٩٨٧» حول فنتازيا أخرى وصفها محقق وكاتب أحد تقارير النفايات السامّة بـ«شجرة أرز تشبه شجرة صنوبر».
أتذكر جيداً تلك اللحظة. ما أن قرأت عن الأرزة المحاكاة حتى توقّد شيء غريبٌ بداخلي، فرحت أبحث في كل مكان عن تلك الشهادة، شهادة التعريف الزائفة. هل كانت تلك الشجرة الهجينة التي توسطت ختم الدولة الوهمية «الراپوبليش ليباناس» والتي أعدّت رمزاً وطنياً لها، حلماً جماعيّاً وسط حرب أهلي؟
الذين، كما رأينا، انشأوا مجموعة «سِدرا» لاحقاً. قام دور اللجنة على رصد النفايات، فحص طبيعتها وتقديم مخطط لمعالجتها. تكوّنت نفايات هذه الصفقة من مواد صناعية ذات سمّيّة عالية جدّاً كالمتفجرات الكيمائية، نفايات نفط، رمل ملوّث، الديوكسين، سداسي كلور البوتاديئين، الكادميوم وغيرها، وصولاً إلى جزمات وقفازات وثياب ملوّثة لعمال مصانع، وكذلك دهان انتهت صلاحيته، وأدوية انتهت صلاحيتها وأصمغة انتهت صلاحيتها ومُنع إنتاجها واستعمالها في جميع انحاء أوروبا إلخ.
عدا عن البراميل التي تم حرقها أو رميها في البحر أو طمرها في غابات أو كسارات أو أنهر أو في مكبّات لبنان الأخرى كالنورماندي، برج حمود ونهر أبو علي، أو التي جرى بيعها كمواد أولية لمعامل «اضطرت أن تتلف منتجاتها الغريبة» في أحد المكبّات أو الأنهر المذكورة آنفاً، أو التي تم إفراغ محتواها فتنظيفها لبيعها للمطاعم التي استخدمتها لتخزين الزيتون وصنع الكبيس والعرق أو للمنازل من أجل استعمالها لتخزين المازوت والمياه. بالإضافة إلى كل ذلك، فقد وجدت براميل أخرى مكدّسة علناً في كسارات ومواقع بناء في طرابلس، شننعير، ساحل علما، بشليلي، أنطلياس، مرفأ بيروت، جبيل، غزيز، زوق مكايل، عيون السيمان، كفردبيان، وصولاً إلى ــ ومثلما استخلص العلماء عام ١٩٩٥، أي بعد ٧ سنوات على فتح الملف ــ البلد كله.
لم تكن هذه الحمولة سوى صفقة واحدة من تجارة النفايات العديدة التي استقبلها لبنان سراً في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من إيطاليا وكندا وألمانيا وبلجيكا وإسرائيل وربما غيرها، وذلك مقابل مكافآت ماليّة موّلت مشاريع الأحزاب كالـ«افق ٢٠٠٠» مثلاً أو صندوق القوات اللبنانية، ودعمت استمرارية وعدم تحلّل الوزراء ومستشاريهم الذين طال حكمهم حتى اليوم.
لم تنقطع الشمس بعد، انتظر. أنظر إلى الحائط، ينخز قليلاً، لا أبرح مكاني. هنالك قطرة جديدة من العرق على الجرف الأيمن من أنفي تتكوّم بأناة، تتجوّل متئدة نحو خدّي. تنزلق على غرّة فترحل عن وجهي وتقع على قميصي. أنظر إليها، إنني متأكدة أنها ستختفي بعد أقل من دقيقة. أنهض لأغلق النافذة، يلتصق رأسي بكتفي اليمين، أحاول أن أفصلهما بيدي اليسرى، تلتصق هي الأخرى، تتوقد ساقي. أرمق «الميثان» الذي يزجّ من جسدي، رائحته تصفعني، أغيب عن وعيي. أحلم بجوٍّ غير قائظ، لا ينفع الحلم. أرى أبو كيس من بعيد، أهلّل به رقصاً، لا أعلم لماذا أرقص. يرقص لي أبو كيس سلوْلي سلوْلي. يتكاثر ليصبح جيشاً من آباء الأكياس. يرقص الجيش، ببطء يحاكي بطالات إعلانات العطور الفرنسية، أستيقظ. تهبّ ريح خفيفة. أتوجه نحو الباب، نحو مدخل المبنى.
لم تنقطع الشمس بعد، أنتظر هذا الوقت. يرشح جسدي في القيظ وتصبح رائحتي كالزبالة. أنتظر وقتاً آخر. لا أنتظر. إنّ هذا المنزل لا يطاق. أبحث عن جبلٍ غابَ. غابة البقايا.
عزيزتي النفايات، لن ترحلي بعيداً
«على حافة البحر، في أجزائه اللزجة والعميقة، سنربّي بحيرات شاطئيّة ساحليّة مكوّنة من المياه العذبة المزوّدة بمياه الصرف الصحّي التي تمت معالجتها واستخراجها من محطة تنقية منفصلة. سنزرع حول المصافق الأوّليّة والثانويّة للمحطة كما أحواض التهوئة الطويلة المجهزة بين سطح الأرض والتربة غطاءً نباتياً كثيفاً مصنوعاً من الورود والنبات الخضراء. ستصنّف هذه المنطقة البركيّة المكسوّة بالشجر والنباتات المائية بالأسماك خصيصاً المعروفة بالسرلود (التي تتوالد مباشرةً من خلال السباحة)، ومفترسي بيض الناموس فتصبح المنطقة جنة للعديد من الطيور المهاجرة وبخاصةً المائية الآتية من أجل أن تستريح وتنمو. على صعيد المثال، تكثر في هذه المحمية الاصطناعية ومن ثم الطبيعية، طيور البط والإوز البري والغطاص والمالك الحزين والكركي ودجاج الأرض ولاسيما اللقلقيّات التي أصبحت نادرة والتي أصبحت المحميات المكان المناسب لها حيث يمكنها العيش والتناسل بأمان فيه. [...] على أية حال، خلال سنة أو سنتين، ستتحوّل هذه الحديقة الوطنية المخشّبة بالممرات الضيقة والمحاطة بالعشب والزهور والأشجار المسقيّة بمياه الصرف الصحي المعالجة، مكاناً للتنزه والدراسة والتأمل لسكان المدينة، وللتلاميذ والطلاب وأقارب اللبنانيين المفقودين الذين سيُنصب حجر جماعي موضوع وسط سرير من الزهور لذكراهم».
اقتطفت المقطع المذكور آنفاً من مقال «سدرا» الثالث. اخترق العلماء اجتماعات سوليدير قبل تكوينها وتوقيع عقد التجديد مع الدولة. تابعوا جدل ومخطط إعادة إعمار بيروت في أوائل التسعينيات بانتظام. نشروا عام ١٩٩٣ في الـ Revue du Liban سلسلة من ثلاث مقالات قدّموا من خلالها بحثاً، ونقداً ومخططاً للحفاظ على المدينة وترميمها دون ترحيل سكانها ودون كبح ذاكرتها.
---
المقال الأوّل:
مقدمة بيروت ووسط البلد الذي نريده.
---
المقال الثاني:
بيروت ووسط البلد الذي نريده جزيرة سياحية مريبة، كارثة في التصوّر.
---
المقال الثالث:
بيروت ووسط البلد الذي نريده: الميراث التاريخي والمساحات الخضراء.
---
عاينوا في المقالين الأخيرين مكبّ النورماندي الذي وصلت مساحته إلى ٣٦٠٠٠٠ م٢ من خليجٍ لنفايات جمّعت منذ سنة ١٩٨٥ حتى ١٩٩٤، أو كما في الظاهر، حتى اليوم. إنّ النفايات السّامة ما زالت حيّة وها هي ترتدّ اليوم، في المنزل وعلى الشارع.
عاد مشهد الرائحة بحلّة جديدة، منزليّة وسلطوية. ولم تنقطع الشمس بعد منذ بداية أواسط التسعينيات. امتدّت، تفاقمت الأزمنة، أفرغت الجبال، عمّرت، مُلئت بالنفايات، طُمرت النفايات، أصبحت الجبال جبالاً غائبة، غابة، ارتدّت وأكلت النفايات تواريخكم. تكوّم النفايات يقتل. هل لا نريد أن نموت؟ ولمن لا يعرف، فسنة ١٩٢٥، رُدِمَ البحر لأوّل مرّة في بيروت وسمّيت أرضه «جادة الفرنسيّين» المعروفة اليوم بـ«النورماندي» أو الـ«زيتونة باي».
جزمات وثياب ملوثة داخل أحد المستوعبات المستوردة من ايطاليا
الدكتور بيار ماليشاف
«حتى تلتقي المياه، قبلة برميلين» - تجهيز فني لجسيكا خزريك عرض في مركز بيروت للفن في العام ٢٠١٤
العلماء الثلاثة أمام أحد مستوعبات النفايات
ختم «الراپوبليش ليباناس» في أسفل شهادة التعريف، ١٩٨٧
نفايات على أحد الجبال في لبنان، ١٩٨٨
براميل في قبو كسارة شننعير، ١٩٩٤
براميل في قبو كسارة شننعير، ١٩٩٤
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.