حدث في النصف الثاني من العام ٢٠١٥ أن وصلت السلطة في لبنان إلى تناقضها التناحري، إذ بدأت كل التسويات والصفقات تصل إلى حائط مسدود، بعدما كان النظام، ومنذ العام ٢٠٠٥ يوم اغتيال رئيس الوزراء الأسبق ومهندس اتفاق الطائف رفيق الحريري، قد انقسم على نفسه، فلم يعد بإمكانه تجديد نفسه، لا بل انقسمت الأحزاب الحاكمة بشكل عمودي حادّ بين طرفين تابعين تماماً للخارج هما ٨ و١٤ آذار.
إلا أن الصاعق كان موضوع النفايات، إثر تفجّر الصفقة التي كانت تسيّر شؤون القطاع من خلال التوافق على شركة واحدة هي سوكلين، فوجد سكان لبنان أنفسهم وسط النفايات المنتشرة في بيروت وجبل لبنان بدايةً، ومعظم المناطق اللبنانية لاحقاً. وما لبثت أن بدأت التحركات الشعبية من منطقة الناعمة (قبل الأزمة بسنوات)، وتبعتها منطقة برجا التي رفضت إقامة مطمر للنفايات في الأراضي المحطية بها، ولاحقاً مجمل قرى إقليم الخروب، ومحافظة الشمال عموماً وعكار خصوصاً بعدما بدأ التهامس على إقامة مطمر فيها.
وبين هذه وتلك، خرجت مجموعة «طلعت ريحتكم» بمبادرة من ناشطين مدنيين، في ردّ فعل على الذهنية التي تعتمدها السلطة في معالجة موضوع النفايات، وعلى الصفقات التي تهيمن على آليات المعالجة هذه.
وكرّت سبحة تأسيس المجموعات الشبابية والحزبية بحيث بدأت المواجهة تأخذ طابعاً تصاعدياً، أظهرت فيه السلطة في لبنان، وبطرفيها، مرونة عالية في اتهام التحركات الشعبية، تارةً بنسبها إلى السفارات، وطوراً بنسبها إلى أحد المحاور الدولية التي تنقسم إليها وعليها قوى ٨ و ١٤ آذار.
لم يقف الأمر عند هذا المستوى، بل بدأ ظهور التواطؤ الضمني لكل من يدور في فلك طرفي السلطة، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. فبعدما كشف الحراك الشعبي العربي تواطؤ العديد من القوى والصحف والإعلام عليه، أتى الحراك الشعبي في لبنان ليكشف الجزء الآخر المتخفّي. فما كان من الصحف، ومن مثقفي السلطة، إلّا أن كالوا جميع أنواع الاتهامات، وصلت إلى اتهام الحراك وبعض المجموعات الناشطة فيه بـ«الداعشية»، ما عبّد الطريق أمام القوى الأمنية لاستخدام العنف المفرط، وصولاً إلى حملات الاعتقال التي لم تميّز بين أي ناشط أو مناضل وآخر.
في ظل هذا كله سقط كل الكلام عن تمايز النظام اللبناني على المستوى العربي، فكشّر النظام والقوى الأمنية والشبيحة التابعون للقوى السياسية المهيمنة عن أنيابهم، بمنهجية عمل لا نستطيع التفريق بينها وبين الديكتاتوريات العربية، بحيث يمكن القول إن ما قامت به السلطات كان نسخة طبق الأصل عمّا حدث في بدايات الحراك الشعبي العربي، وصولاً للدعوات إلى استخدام المزيد من العنف في وجه المتظاهرين من قوى كانت تدّعي الديموقراطية وحرية التعبير عن الرأي.
التهمة: شيوعي!
أمّا لاحقاً، وفي يوم ١٧ أيلول من العام نفسه، فظهر كلام المعبّر الفعلي عن القاعدة الطبقية المادية للنظام، أي نقولا شماس، بما يمثله من مصالح تجّار بيروت، ليتّهم الحراك بـ«الشيوعية»، وليشن هجوماً عنيفاً على الفقراء في لبنان وعلى الفئات الشعبية التي عانت الأمرّين من التقسيم الطائفي السلطوي للنظام في لبنان، ما عيّن حدود المواجهات الطبقية بين الطرفين، وبشكل سريع: السلطة البرجوازية من جهة والطبقات البرجوازية الصغيرة والكادحة والشرائح المهمّشة غير المستفيدة من النظام من جهة أخرى.
وما قام به شمّاس أدى، وبمزيد من منطق السخرية الذي يتحكّم أحياناً بمنطق التاريخ، إلى تنشيط كافة القوى اليسارية والمنحازة إلى الفئات الشعبية ومصالحها، بعدما كانت كل محاولات تنشيطها، منذ بداية التسعينيات، بالإضافة إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب الديمقراطية الداخلية، قد وصلت إلى حائط مسدود، وأدّت إلى تطويع الأحزاب اليسارية القائمة وإلى تقويض إمكانية بناء يسار ثوري حقيقي. الأمر الذي كرس قاعدة أن السلطة، وهي تحاول أن تبعد شبح القوى التي يمكن أن تواجهها، تقوم بتكريس هذا الشبح بشكل غير مقصود.
بين هذه وتلك ظهرت وبما لا يبلغه الشك الحدودَ الطبقية للمواجهة القائمة مع النظام، بحيث وضع نقولا شمّاس، وبخفّة نيوليبرالية، الطبقة المهيمنة على النظام في مواجهة الطبقات الأخرى، أي البرجوازية الصغيرة والطبقة الكادحة. ما يعني أنه أعاد الجدال الطبقي إلى الواجهة من جديد، وذلك على شكلين:
١. شكل المواجهة التي كانت سائدة قبل الحرب الأهلية، بين طبقة برجوازية وطنية وطبقة كادحة من ناحية وبين طبقة برجوازية مهيمنة، مع ما يستدعيه من ضرورة التنبّه إلى عدم الانزلاق إلى الخطأ نفسه الذي مارسته القوى التغييرية اليسارية تلك الفترة، وهو القبول بقيادة البرجوازية الوطنية لعملية التغيير، وذلك بسبب طبيعة بنيتها المأزومة أولاً، وبسبب قدرتها على المساومة مع النظام ثانياً.
٢. عدم الانزلاق إلى الخطأ الذي ارتكبته هيئة التنسيق النقابية، بعدما حافظت على خطابها المطلبي دون الارتفاع إلى مستوى الاشتباك السياسي مع النظام، واعتماد خطاب إصلاحي جدّي يضع النقاط على الحروف. ما سمح للسلطة بوضع إسفين شقّ بين هيئة التنسيق ومختلف المطالب الشعبية، وأظهرها في موقع المدافع عن الموظفين ومصالحهم وعن مطالب فئوية ضيقة. فبدأ الجدال حول أحقية هذه المطالب، خصوصاً أن أعداداً كبيرة من الموظفين الذي يتقاضون رواتبهم، والذين دخلوا إلى مؤسسات الدولة بالمحاصصة الطائفية والعلاقات الاعتمادية، لا يقومون بأي عمل، بل يتقاضون رواتبهم كل آخر شهر دون أية إنتاجية.
ومن ناحية ثانية، يعكس الوضع القائم المأزق الفعلي الذي يواجه الحراك الشعبي من جهتين:
١. جهة نظام بوليسي قمعي طائفي لن يتوانى عن استخدام كل ما يؤبد سيطرته.
٢. جهة طبقة حاكمة يمكنها بأية لحظة التنكّر للحراك، ولمصالح الطبقات الشعبية، والكادحة، والمهمّشة، والالتفاف عليها بخطاب طائفي يشرذمها.
يستدعي ذلك التنبه إلى أن المعركة، وإن أخذت طابعاً غير طبقيّ في مرحلتها الأولى، تسير رويداً رويداً إلى طرح النقيض لجوهر النظام القائم، أي إلى المواجهة المباشرة مع المنظومة الرأسمالية. وهذا لن يكون إلّا بخطاب اشتراكي، أو بخطاب يطاول القاعدة الاقتصادية للنظام في لبنان وأيديولوجيته السائدة، في أقلّ الأحوال، بحيث لا مجال للهرب من التغييرات على المستوى الاقتصادي، وتحويل لبنان من بلد يقوم اقتصاده على قطاع الخدمات إلى بلد يقوم اقتصاده على القطاعات المنتجة. وهو ما يستتبع أيضاً، صداماً على المستوى الأيديولوجي مع البرجوازية اللبنانية بالضرورة، أولاً بالعلمانية والمساواة التامة والعدالة الاجتماعية، وثانياً بتقويض تلك المزاعم التي لعبت دوراً مفصلياً في تهجير الشباب اللبناني بهدف العمل في الخارج والعودة إلى لبنان برأسمال يسمح بفتح عملٍ خاص تحت مبدأ تشجيع المبادرة الفردية.
وهي تلك الأيديولوجية التي تعتبر أن موقع لبنان الجغرافي لا يسمح له أن يكون إلّا بلداً للخدمات، فأدّت إلى تقنين القروض الطويلة الأمد الموظفة في قطاعات الزراعة والصناعة، وإلى حصرها بالقطاعات السياحية والخدماتية الأخرى القصيرة الأمد والتي تهدف إلى الربح السريع. وهو ما أدّى أيضاً إلى النزوح من الأرياف والتمركز في المدن، مع ما يعنيه ذلك من كثافة سكانية ومن ارتفاع الطلب على السكن وعلى باقي الخدمات من كهرباء وماء، وارتفاع أعداد العاطلين من العمل.
أي، وبكلام آخر، هي المواجهة مع تلك الأيديولوجية التي تمعن في ضرب الطبقة الكادحة المتضررة في لبنان، وتحويلها إلى طبقة تحلم أن تصبح شريكة في النظام، وهو ما يخالف المنطق التاريخي البنيوي الطبقي نفسه جرّاء التأزم العالمي للرأسمالية، الذي يظهر على شكل أزمات كل فترة وأخرى، وصولاً إلى الانفجار الرأسمالي نفسه في عدد من الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة، وغيرها الكثير.
دعم لثورات الدول العربية وتخوين في لبنان
وعلى مستوى آخر، أظهر الحراك اللبناني، وبما لا يدع أي مجال للشك، عقم المنطق السلطوي الناظر في حركات الاحتجاج العربية. فبعدما حاولت قوى ١٤ آذار إظهار دعمها للشعب السوري، وقوى ٨ آذار دعمها للشعبين البحريني واليمني، بشكل غير طائفي أو مذهبي، أظهر الحراك الشعبي في لبنان زيف هذه الادعاءات. إذ ما لبثت تلك القوى التي تنقسم إليها الطبقة الحاكمة في لبنان، أن أخذت موقفاً معادياً للحراك الشعبي، ما أظهر زيف ادعاءاتها الداعمة لطرف من الحركات الاحتجاجية العربية، لاسيما أنه، وبمقايسة بسيطة يستطيع أي متابع أن يضع يده على كمية الفساد المستشري في الدول العربية عموماً وفي لبنان خصوصاً، بدايةً من السيطرة على الأملاك العامة، والثروات الطبيعية، وآليات اختزال السلطة، وكيفية تقزيم الدساتير والقوانين لتتناسب مع أحجام القوى المهيمنة، وتحويل الخيرات الطبيعية إلى ملكيات خاصة، ووقف مفاعيل القوانين، والمحاسبة، وتحويل الشعب من مواطنين إلى رعايا... إلخ.
فما يهم بالأمر هو التركيز على التحركات المطلبية التي تسير كالنار في الهشيم، دون أن تظهر أي ملامح لحصرها، وهذا ما استدعى الكتابة والرصد، وإعادة خلط كافة الأوراق، إذ كيف يمكن أن تقف تلك القوى موقف الداعم لحراك اجتماعي عربي، وموقف المعارض لحراك اجتماعي في لبنان؟
لذلك، تظهر أزمة تضامن القوى الطائفية التسلطية اللبنانية في أبهى حللها، إذ إن التبريرات التي كانت تساق لدعم حراك شعبي في سورية أو في البحرين واليمن، بأي شكل كان، في مواجهة سلطات أقل ما يقال فيها إنها فاسدة، تتعارض مع الموقف المتأتي عن الحراك الاجتماعي في لبنان.
فما يسري على أنظمة الدول العربية يسري كذلك على لبنان، ليس بوصفه عربياً فقط، وليس بوصفه جزءاً لا يتجزأ من المنطقة، بل لأن الفساد لا يختلف وفق العشيرة أو المذهب أو الطائفة أو لون البشرة أو اللهجة أو الحدود أو اسم الدولة، أو الجنس... إلخ.
من هذا المنطلق بالتحديد كان حرياً تحليل ذهنية تجيز لنفسها في مكان ما، وتعارض نفسها في مكان آخر. والتحليل لا ينطلق من موقف وطني، أو من منطق مصلحي يحاول أن يظهر الموقف مما يجري في لبنان بشكل يختلف عما يجري في العالم العربي المحيط، بناءً على توجه نفعي، أو توجه مصلحي ضيّق، بل هو محاولة للبحث في توجه كوني يترفّع عن شرط المكان ليصل إلى المبدئية الثورية في النظر إلى الأمور السياسية.
وهو المنطق المبتور ذاته، ليس فقط من موقعه الأيديولوجي، بل من موقف تجريبي مباشر يقارع الواقع. فكيف يمكن التضامن مع الشعب السوري مثلاً من أجل قضايا محددة، وغض النظر عن الشعب البحريني الذي يعاني القضايا نفسها؟ لا بل كيف يمكن التضامن مع أي من شعوب الدولتين ورفض التضامن مع الحراك الاجتماعي في لبنان حول القضايا نفسها؟
هو سؤال يبدو بسيطاً بالشكل، لكنه يعكس أزمة على المستوى السياسي، لأنه يقوم على منطق المفاضلة، أو منطق الأولويات، أو منطق ينظر في الأمر وفقاً لعدد الضحايا. كأن يكون النظام في دولة أفضل من النظام في دولة أخرى، فقط لأن مواجهة الشعب للنظام في الحالة الثانية تأتّى عنه عدد أكبر من الضحايا، فاستحال العدد معياراً لبطش الأنظمة وفسادها، ودخل منطق المفاضلة بين هذا وذاك، وتأجلت المشكلة، بعدما أصبحت كيفية الموت، وهوية القتيل، المعيار المحدد للموقف من القتل ومن الأنظمة التي تمارسه.
هو هذا المنطق نفسه الذي يبرر موقف المتفرج السلبي على الحراك في لبنان، خصوصاً أنه يمس كافة مكوّنات المجتمع. وبين هذه وتلك حقل خصب لا يمكن غرسه سريعاً، خصوصاً أنه يظهر عقم المزاعم الداعمة للحراك الشعبي العربي، أو إحالتها، وبأقل الأحوال، إلى ذهنية طائفية أو مذهبية، لا تنظر إلى الشعوب ومصالحها بوصفها الأساس، بل تنظر إلى الأنظمة حسب انتمائها الطائفي. فيتظهّر الأمر وكأن الموقف من النظام، بمعزل عن أية أرضية، هو نفسه الموقف من الشعوب ومصالحها. أو لنقل، وبكلام آخر، إنها قضايا يتحكم فيها منطق النفي الهيغلي، كأن تكون قضايا التعيّن هي نفسها قضايا النفي، وهي المقولة الهيغلية التي تعتبر أن «كل نفي تعيّن، وكل تعيّن نفي».
إن النظر بهذا المنطق هو أساس المشكلة، إذ إن الوقوف إلى جانب الشعوب يختلف تماماً عن الوقوف ضد الأنظمة، حيث تستحيل المقارنة إلى أزمة تتبدّى على مستويات فتح وإغلاق باب المواجهة، وباب التضامن، أو باب الشعور بالمسؤولية الإنسانية. وهو أيضاً منطق مواجهة الأزمة النظامية بمنطق الأنظمة نفسها، أو هو النظر بعين الأنظمة لأزمة الأنظمة، بحيث يجري استبدال ديكتاتورية بأخرى، أو قمع بآخر، أو هيمنة بهيمنة، فتنتهي الشعوب من كارثة لتواجه مصيبة، وهو ما يمكن ملاحظته في الحراك المصري على سبيل المثال، وفي تمدّد منطق الثورة المضادة وإحاطتها بكل ما أنجزه الشعب المصري خلال الانتفاضة على حكم الرئيس مبارك.
لهذا كله، بات من الصعب التغاضي عمّا يحدث في الشارع، أو حصره في أمر مطلبي واحد. فالنفايات منتشرة، لا كهرباء، لا مياه، لا قانون، لا أمن، لا حريات، لا عدالة، لا ضمانات اجتماعية، تعدّيات، مخالفات، نهب، فساد، قمع، سيارات بلا لوحات، قتل، قتل مضاد، والعدد الأكبر من الناس ما زالوا في منازلهم.
لم يعد من الممكن التغاضي عن الأزمة، أو الإسراع إلى الجواب الأسهل عبر القول إن الدعوات إلى المشاركة لا تصل للناس، بل إن الأمر أعقد من ذلك بكثير. فالنفايات تملأ الشوارع، تركن بين المنازل، والأبنية، تعلق بإطارات السيارات، تفوح من المكان، ترتطم بزجاج المنازل، بغرف النوم، بالثياب، بالمياه، بالصحن اللاقط فتظهر كل الأخبار ممزوجة برائحة النتانة.
لم يعد من الممكن التغاضي عن عدم مشاركة أي قطاع حيوي، أي نقابة أو رابطة أو تجمّع (باستثناء عمال المرافئ). فلا الاتحاد العمالي العام موجود، ولا هيئة التنسيق، ولا الأساتذة في المدارس والجامعات الرسمية والخاصة (باستثناء بعض المدارس الخاصة والجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية على مستوى فردي)، ولا نقابات الأطباء، ولا المهندسون، ولا القضاة، ولا المحامون، ولا أطباء الأسنان، والصيادلة... إلخ، ولا أي قطاع من المتضررين من كل ما يجري، فما هو السبب؟
لقد أنتجت السلطة معظم القطاعات الحيوية على شاكلتها، بعدما تغلغلت فيها منذ انتهاء الحرب الأهلية، بين العمال، والمزارعين، والأطباء، والأساتذة، فبات أي تحرك ليس غريباً عنها فقط، لا بل عدوها. بات كل تحرك شعبي بمثابة مَسّ مباشر بمعظم النقابيين، بمراكزهم، بحيثياتهم، بمصالحهم، بما يمثلون. لقد استطاع النظام البرجوازي الطائفي تطويع هؤلاء، والتمركز في قلب تجمعاتهم وقولبة ما يمكن أن يشكّل أي تهديد لوجوده من خلالهم. فلم يعد المعلّم معلماً، ولا النقابي نقابياً، ولا المهندس مهندساً، ولا الطبيب طبيباً، بل أصبح كل هؤلاء منفصلين عن النضال الاجتماعي، ولا تجمعهم سوى المطالب الفئوية المباشرة المتمحورة حول تحسين شروطهم المالية، ما عكس ابتعاداً عن بلورة خطاب يرتبط بالتغيير السياسي بحجة أنه يشرذمهم، فأصبحوا ممثلين بارعين في لعبة السلطة بعدما أصبحت مهمّتهم الأساسية تطويع أنفسهم وتطويع كل ما تصل إليه أيديهم. باتوا وجه السلطة القمعي الكامن، والذين لا يتحركون إلّا وفق ضرورة السلطة وليس ضرورة حياتهم الكريمة.
لم يعد من الممكن التغاضي عن الأمر، ولا يعني أن الكلام دعوة إلى الاستسلام. بل هو يعني، وبشكل مباشر، الحاجة إلى إدراك المأزق الفعلي الذي يقف الناس ومصالحهم حياله. فليس هناك من هو معهم في هذه المعركة، بل جلّ الناس ضدهم، الأكثرية الساحقة ليست معهم، بل باتت، وفي أسوأ أحوالها، أشباحاً لخصمهم.
لم يعد من الممكن التغاضي عن الأمر، المواجهة مفتوحة، وليس هناك من حل قريب. فاليوم، لا بد من العمل على تأسيس تنظيمات ونقابات ثورية يكون هدفها تثوير الفئات الشعبية من خلال النضال ضد النظام الذي يؤبد معاناتهم، ومن أجل ألّا تدخل القاعدة التي تقول إن الحركات التغييرية لا تقوم بأكثرية شعبية حيّز التنفيذ، بحيث يمكن القول بعدها، إن سيرورة تغيير النظام في لبنان قد بدأت فعلياً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.