العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

الحرب على اليمن

ليليات صنعاء

النسخة الورقية

الليلة الأخيرة قبل الحرب

فقط في اليمن تودّ لو أنك قادر على تصديق ما يقال، أو الإيمان الأعمى بالـ«القائد الرمز» لينزاح الحِمل عن روحك التي تنزف من جَلدك اليومي لها، وكأنك المسؤول عن كل شيء بينما كل ما تملك مسؤوليته هو بالكاد عدد ملاعق السكر في فنجان الشاي. فقط في اليمن تكافح التشاؤم كي لا تكون المنبوذ الذي يقرأ بين الأسطر ويصاب بالخرس وقت تهليل الحشود. فقط في اليمن تصاب بانهيار عصبي عندما يتضح كل مرة أنك محقّ! فقط في اليمن، أكثر أهله يمنية هم من يودّون لو أن هناك علاجاً لمتلازمة التعلق المرَضي ببلد يأكل محبيه بهذا الشكل. فقط في اليمن، بات أقصى طموحي أن أكون مخطئة كما قيل لي طوال ست وعشرين سنة!

 

الليلة الأولى:
الواحدة والنصف بعد منتصف الليل

أشغل نفسي بالمعضلة التي تلازمني منذ المدرسة الابتدائية حول ما إذا كان اسم الضوء برقاً أم رعداً لأفسر ماهية الذي هز الشباك وراء رأسي إلى هذا الحد. ربما هي آخر أمطار الربيع هذا العام. هذه المعضلة مكّنتني من شغل بضع ثوانِ أذكّر نفسي فيها، كما كنت أفعل في حصة العلوم، بأن الضوء يسبق الصوت ولكن هذه المرة الصوت سبق الضوء مجدداً. معضلة البرق والرعد بدأت تفقد قدرتها على مواساتي بعد الغارة الثالثة. أركض صوب أمي التي تدير التلفاز لنعرف أن الحرب بدأت. ولكن حرب من ضد من؟ ولِم؟ انقطع التيار الكهربائي قبل أن يكمل المذيع جملته ولكنني سمعت ما يكفي لأعلم أن هذا الرعب برعاية الرياض وطهران. هذا الهلع هو ما ردّ به العالم على حلمنا بدولة المدنية والعدالة الاجتماعية. هذا الاحتلال الثنائي القدسية لن يقتل إسرائيل ولا آل سعود ولا آية الله، بل سيقتلني أنا. سيقتلك أن أتشاجر أنا وأبي الذي يصرّ على نومي بعيداً عن الشبّاك ويذكّرني برصاصة اخترقته في ٢٠١١. أغمض عيني وأردّد هتاف «مسيرة الحياة» من ذلك العام: «لا سعودية ولا إيران. لا وصاية على الأوطان».

 

٢٨ آذار / مارس 

الليلة عيد ميلادي السابع والعشرين. الليلة هي الثالثة والأقسى منذ ساعاتها الأولى. أنا ووالداي متكوّمان نحتضن بعضنا البعض كلما زأرت الطائرات ومضاداتها الأرضية. تخلخلت نوافذ البيت ومعها سنوني وما تبقى من زهر في قلبي. يا رب لا تفجعني في من أحب.

 

الليلة السادسة 

خور مكسر في عدن وفجّ عطّان في صنعاء. كُرات من اللهب «الشقيق» وما بينهما زحف انتقامي خرج من أوردتنا ويحتجزنا جميعاً رهائن في المنتصف.

 

الليلة السابعة 

هذه الحرب بدأت تغيّرني. بدأ الغضب يتغلّب على سلامي الداخلي. أصبحت ناقمة على الجميع. ناقمة حتى على من بقي بجانبي لأن هذا البقاء تذكار يومي بأهمية التشبث بحياة لا أملكها. ناقمة على من لم يتكبد عناء النظر إلى الخلف وهو يدكّ آخر معاقل الأمر الوحيد الذي كنت صادقة في طلبه: أن نكون بخير.

 

الليلة الثامنة 

أدركت أخيراً أننا لا نزداد إلا جبناً وخوفاً مع تقدّم العمر. يأتي كل عيد ميلاد بعد ٢٠١١ ليؤكد أنه لا يحمل عيداً وبكل تأكيد خالٍ من أي ميلاد. ومع إصراري هذا العام على مواجهة عيد ميلادي بقالب حلوى وهدايا أجمعها لنفسي إن لم يأتني بها أحد، أتتني الذكرى وهي تشبك يدها بيد الحرب. هذه المرة تأتي الحرب كإعلان رسمي لانتهاء حقبة الشجاعة، فكل عام يمضي، يقضم معه قطعة من غضاضة القلب وخفقانه البرّي ليتلوى كحصان وحشي حوّطه راعي بقر مستوطن بحبل استعداداً لترويضه وتدجينه بعيداً عن البرية. يا عشرينات العمر احتفظي لي ببقايا الهندية الحمراء والفرس الوحشية فلا يبدو أن هذه آخر الحروب التي ستقضم ما تبقى منهما، واحتفظي لي ببعض من البأس وإن فقدت مصدر بأسك.

 

الليلة الحادية عشرة 

أحياء صنعاء التي قليلاً ما تتفق على شيء سوى النكبات، تتفق اليوم على تسارع إيقاع رقص البيوت بعد أن توهم قاطنوها أن القصف منحهم فرصة لرثاء عدن والحداد على تعز. في هذه الليلة، أرقب بخدر شديد احتراق خيطان النسيج الاجتماعي اليمني المهترئة وهي تركض صوب الجحيم لتتأكد من أنها تلاشت كلياً وتتوثق من أن لا إمكانية لإعادة حياكتها مجدداً.

دخل اليمن حقبة جديدة من القتل والقتل المضاد في ظل تسابق أهله على إنكار ألم كل من هم دون العصبة الصغيرة ليصبح ألم العصبة هو الاستحقاق «الشرعي» الأوحد، فتنتحب كل المراثي لمعرفتها أنّ احتكار الجرح يجعل التئامه أمر مستحيلاً.

 

الليلة الثانية عشرة 

وصلتني رسالة القبول لدراسة الماجستير. أخشى أن أفرح بصوتٍ عال فأقضّ مضجع مخاوفي لتضرم نيرانها في الخبر السعيد. لذا أخبئه وأحرس سريته بعناية ولا أصرّح به حتى انتهاء المذبحة.

الليلة الثالثة عشرة 

أعزائي لا تستخسروا قليلاً من التضامن معنا. فبين كل ثلاثة متضامنين عرب واحد فقط متضامن مع اليمني، أما الاثنان الآخران فأحدهما يتقرب بنا للرياض، والآخر لطهران. ولا تخافوا، سينسانا العالم سريعاً، كما نسي الكثيرين من قبلنا ممن يعرف عنهم أكثر من اليمن الذي قد يكون أول عهدكم به هو نشرة أخبار الحرب وآخره نكتة بليدة عن القات، وما بينهما جهل مركّب بسنين من نضال لم نكلّ خلالها يوماً من أن نفسح لكم جميعاً حيزاً منه حتى ونحن نسقط سهواً من أيامكم وسنينكم.

محبتي للمتضامن الثالث الذي يكتب ويسأل كل يوم من أجلنا نحن لا من أجل تسجيل المواقف وهو يقوّينا ضد الانزلاق مع هذا الطرف أو ذاك فقط بكلمة «كيفكم، قلبي معكم!».

وأنا؟ أنا قلبي على سجن القناطر، ومخيم اليرموك، وشاطئ قابس، وشوارع بنغازي، ومقاعد الدرس الكينية، وكَرَز عرسال، ودم النيل الأزرق وجسر اللمبي، والزعتر الحلبي، وبحر بونت، وشتات الأرمن وبزق الأكراد, و و و… لا يفوق الحرب مأساة سوى تعاطف انتقائي يفاضل في كل شيء حتى بين الجثث!

 

الليلة الخامسة عشرة 

يا ليتني متّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً.

 

الليلة السادسة عشرة 

منذ أن عرفت نفسي وأنا في تعاملي مع الأزمات «سكبة سمن وسكبة عسل». فبعد ليلة كدت خلالها أن أفقأ عيني لأوقف النواح الذي لم يتوقف إلا بتهويدة وقصة قبل النوم، جاء الصباح بخدر فائق يعزّ علي أن أعرف أنه لن يصاحبني أكثر من يوم لأن «السكبة السمن والسكبة العسل»، كما يقول المثل اللحجي، تحتّم علي الاعتياد على أن الأيام مداولة. المؤسف هنا أنّ أقصى ما في السكبة العسل هو الخدر في هذه الأيام وأقصى ما في الابتهالات من تطلعات أصبح أن نرزق اللامبالاة ولو لساعات. لذا، إجلالاً لنخب الخدر المؤقت الليلة هي إحدى ليالي المغالطة بحلقة من مسلسل كلاسيكي قديم أشاهدها للمرة المليار وأتبلد أمامها وأنا أردد حوار الأبطال حتى يغلب النعاسُ صوتَ قصف صنعاء ورائحة جبّانات عدن.

 

الليلة الثامنة عشرة 

اكتشفت أنني لم أعد أصلح لغير هذه الحياة. «مش لنا الزينة وبيارق المدينة» كُتبتْ لي. لي وحدي.

 

الليلة التاسعة عشرة 

بدأت أفقد «أمميتي» التي كانت تعينني على الاندماج مع «الآخر». لا يوجد من يفهم هذه اللحظة سوى يمني مغترب داخل اليمن أو آخر عالق في مطارٍ ما يركض أقرانه لجوف بحر أو سماء أو كهف خارج بلدانهم احتضاناً «للفرص» ويركض هو بالاتجاه المعاكس حيث «عز» القبيلي بلاده. علماً بأن عودة هذا القبيلي الذي يفترش المطار لنصف شهر ستقتلع ما تبقى من عز ادّخره للزمن وستنقله من اغتراب المطارات لآخر أعنف على سبل البقاء. لكن يبقى أهون من كحت الذات وتقليمها وتغليفها للاندماج مع ذاك الشقيق وتلك الصديقة. ما دون هذه الحقيقة التي تأكل إنجازات استثمار الفرد في روحه كي لا تقع فريسة هذا التصدع المرعب، فإنه يصلح مادّة للتحليل على الصحف والقنوات وفي أفضل الحالات عبئاً على بشرية لا تزال تتهرب من أعباء أقدم بكثير في المظلومية التي حوّلتها أغنيات ومتاحف في أكثر الأحيان «عدالة».

بعد ساعات ستحلّ الليلة العشرون 

هذه الأيام تذكار بكل الوعود الكاذبة والمعارك الوهمية والعمر المهدور من أجل مكتسبات شخصية لا ترى بالعين المجردة. هي تذكار بكل أيام غد كنت أحياها على فتات أمل أجمعه بعناء كل مساء قبل أن يسرقه مني الصباح مجدداً. أنا أكرههم جميعاً بفصامهم وكذبهم وبراغماتيتهم وتظاهرهم بالاكتراث لأي شيء سوى غرس وجودهم في كل مكان تطاوله أيديهم التي لا يمكن أن يحاسب «قدسيتها» أحد وهي تطاول كل بقعة أحاول أن أجد لي فضاء فيها ولو كذباً. أنا أكره كل سنين العبث التي كنت أظن أنها ستمنحني سنيناً أحلى. أكره كل من آمنت بهم وآمنوا بي. أكره الحب والصداقة والأحلام الصغيرة ومعاركها التي تجعلني أتشبث بحياة لا تشبه من الحياة سوى آلة ضخ عضلة هذا القلب المشوّه. قلب قبل أن تصدر له أوامر جديدة ليتكيف مع حالة الطوارئ الوطنية والشخصية، يود أن يستأذن الجلاد والضحية والوطني والمهاجر واللاجئ والمحلل والمعلق والموظف الأممي والباحث في شؤون كل شيء وأولياء الأمور في أن يكون له يوم واحد مخصص للنقمة والحقد على كل يوم ظننت فيه أنني سأكون بخير.

 

الليلة العشرون 

عشرون ساعة بدون كهرباء، بدون ماء، وبدون أدنى مقومات البقاء، لا الحياة، فالرغبة بالحياة صارت ترفاً، والبقاء الغريزي يحتضر. كوّمي الطحين والشمع يا صفية، واقرئي عن الذكرى الأربعين للحرب الأهلية اللبنانية. فلا حربهم انتهت ولا حربنا بدأت. وصلي الحربين وفكّري بكم من صفية هنا وهناك انتحبن معاً حتى يأتي الأجل.

 

الليلة الحادية والعشرون 

٣٦ ساعة بدون ماء أو كهرباء. أهل في عدن تحت جحيم القصف ونحن في صنعاء في قفص لا يصلح لتربية المواشي نرتّب فيه ما تبقّى من ماء للشرب وطحين للخبز بحسابات دقيقة وانبطاحات متتالية لتفادي شظايا نؤخّر استقرارها في صدورنا.

في الأثناء ينزعج «المحلل التلفزيوني» من كلمتَي «كفاية حرب»، فيقول الخبير المقيم في إسطنبول والرياض وموسكو وطهران وبيروت إنّ التيار الذي يصرخ «كفاية حرب» يتقاضى أجراً مقابل تمييع «القضية». لو كان لدي ما يكفي من الدقائق المسروقة على هاتف يوشك على الانطفاء قبل أن أطمئن على دواء ذاب في حرّ عدن، وطعامنا الذي تكالب العالم على أغاني المؤانئ والمطارات لإيقافه، لاستفسرت عن الجهة التي يمكن أن تدفع. فبعد أن قطعت الحرب أرزاق من قعد ومن قاتل على حد سواء، صرت أتمنى، ولو على سبيل النكتة، أنّ هناك من يدفع. صارت المطالبة بوقف الحرب تهمة. بالفعل كم من «خبرائنا» الموزعين على عواصم العالم سيفقدون أعمالهم لو تقف الحرب. ارحموا من بقي فينا في هذا البلد رغم حرب الداخل وحرب الخارج وارحموا ما تبقى من سقف آمال ارتطم بالأرض وبات مقتصراً على «كفاية حرب».

 

ساعات قبل الليلة الثانية والعشرين 

«عزيزتي الكهرباء، عزيزي الماء، تحية طيبة. أما بعد تقول الأغنية الصنعانية من قديم الشعر الحميني: «الهجر يومين أو ثلاث أيام /أما ثمان، يا تعب حالي!» وبما أننا في الساعة التاسعة والخمسين من رحيلكما الأليم، فأرجو الالتزام بالعرف. نذبح بعضنا خشية أن تتغير إحدى تفصيلاته وألّا يزيد الهجر عن ثلاثة أيام.

تقبّلا مني فائق الاحترام و ما عاش اللي يزعلكم».

 

الليلة الثالثة والعشرون 

أصبح أطفال الحي خبراء عسكريين. عندما اهتزّت سلالم المبنى بنا، قال حمودي ذو الستة أعوام: «سعليش (لا تخافي) يا خالة هذا صاروخ!». لكن الخالة، أنا، منشغلة عن الخوف بعد الساعات الأربع والثمانين (٤ أيام) بدون كهرباء أو ماء. والله ودارت الأيام وأصبحتِ ماري أنطوانيت وتغسلين وجهك بماء معدني يا سارة! المشكلة أن الماء المعدني وماء الشرب بشكل عام ارتفع سعرهما قبل ثلاثة أيام فقط بمعدل ٤٠٪ .

في هذه اللحظة طوابير البنزين المرابطة دون جدوى لخمس ليال تعانق طوابير الماء وكلها تتراقص بذهول مؤلم باتجاه صوت الانفجارات وكأنها تبتهل في دوائر صوفية لكي تؤجل الشظايا موعدها حتى تشفق علينا ربى صنعاء بقطرة ماء بعد أن نسينا الضوء والأمان.

 

الليلة الرابعة والعشرون 

الطائرات وصلت للأذن الوسطى، والأخريات يرتقين العمود الفقري باتجاه المُخَيخ لنسف ما تبقى من اتزان. مائة وست ساعات بدون كهرباء وأكثر من ٢٤ ساعة بدون نوم تحيل صوت الطائرات إلى بطني لأشعر بغثيان لا حل له سوى الصيام الذي يساعد على اقتصاد المياه التي قد تحتاج إليها أي زيارة للحمام. الأهم من كل هذا هو الاقتصاد في الأمل، فأنا أخفي الأمل تحت مخدتي وأخرج منه قوت اليوم فقط لأني لو أسرفت في استحضار ما في المخزون فلن يتبقى ما يكفي الأيام الآتية للقافلة التي يبدو أن مراحلها طوال، وأطول من عمر أي أمل.

 

الليلة السادسة والعشرون 

هذه الحرب تجعلنا نظن أن حياتنا قبلها كانت مثالية، ولكننا في قرارة أنفسنا نعلم أن هذا غير صحيح. لم تكن كل أيامنا حالية حسينة. المسألة هي فقط أن الحرب تجعلنا نظن أن سيئ الأمس مهما كان حجمه أفضل بكثير من اليوم. الحرب تجعلنا نسهب في أسباب تقبّل كل ما كنا نرفضه بالأمس علّ دعواتنا بانتهاء اليوم تُلبّى مقابل أن نذر كل أماني ومعارك الأمس قرباناً لهذا الدعاء. هذه الحرب تجعلنا نقطع الوعود بألّا نعاود ممارسة الرفض للواقع لأن أي واقع أفضل من اليوم. هذه الحرب تجعلنا نرهن كل معاركنا ورغباتنا الفردية التي ناضلنا سنين من أجلها، وهي مسلّمات لدى غيرنا، مقابل حفنة طحين وبضع قطرات ماء وساعة كهرباء. الموت ليس أسوأ ما تحمله هذه الحرب، فإبادة سقف التوقعات مقابل أن يكون البقاء منتهى رغباتنا هو أسوأ ما يحدث، والأسوأ على الإطلاق هو التنقيب عن لبنات ما كنا نريد إن انتهت الحرب لإعادة إعمار سقف توقعات جديد سيبقى مشوهاً جريحاً منهكاً حتى وإن سمحت الهدنة والتسوية السياسية بإعادة إعماره.

 

الليلة السابعة والعشرون 

لكل شيء مرة أولى. اليوم أول مرة تلتهب الدنيا من حولي ويغطي الدخان ما تبقى من بأس. اليوم عرفت معنى التعبير الصنعاني «نكعتْ بطوني» فبطني بالفعل سقطت وانصهرت وأتلفت عظامي ولم أقوَ على الوقوف وجلست فوق الرصيف أرمق اللهب. برسم كل العيون التي تقافزت من محاجرها وهي تبحث عن مستقر الصاروخ، برسم صوت أمي المرتجف على الهاتف، برسم الدخان الذي لا يزال يخفي الخسارة، برسم «سرينات» (صفارات) الإسعاف التي تلاحق أنفاسي، لنصلي على الأمل ولنشيعه قبل تشييعنا.

 

ساعات قبل الليلة الثامنة والعشرين 

ما زالت قدماي ترتعشان بعد أن نسف صاروخ الأمس ما تبقى من صحتي النفسية المهترئة ونثرها على الجسر الذي كاد أن يهوي بنا. صديقاتي ينعين صديقة لهن اسمها لينا وزوجها عبد المؤمن وابنهما قضوا جميعاً تحت ركام البيت الذي لم يحتمل بدوره ذلك الصاروخ. أما صديقتي بلقيس التي لطالما وجدتُ في حجرة معيشتها متنفساً لكل ما قيل لنا على الدوام إنه يجب ألّا يقال، فقد التقطت صورة تأملتها كثيراً بحثاً عن كرسي ابنتها شمس التي تستمع لأحاديثنا بشكل دوري ومبكر جداً في عامها الأول الذي أكملته قبل شهر. بلقيس كتبت بالأمس:

«كل زجاج تكسر ونشر في الصور يساوي كسراً في القلب. ليس لأهمية ذلك الزجاج، بل لمدلول عدم الأمن وقرب الاعتداء ودخوله منزلك ولو من نافذة كان يمكن أن تكسره بمحبة كرة طفل يلعب بعفوية. ليس الزجاج هو ما ننشر. نحن ننشر جراح أرواحنا. فزع قلوبنا. وجع فقد وطن يتحطم وينتثر كزجاج النوافذ يتحطم كجدران البيوت. هو بيتنا الكبير الذي يهدمونه على رؤوسنا».

نحن في اليمن لسنا بخير، طمنونا عنكم!

 

الليلة التاسعة العشرون 

ليس كل ما في إجباريات الحرب سيئاً. هذه الحرب علّمتنا أن نفرح بالانتصارات الصغيرة التي أصبحت مجردة بما يكفي لأعيننا. انتصارات من قبيل «دَبّة غاز» ، ربطة خبز، سيارة أجرة أو حافلة بها ما يكفي من البنزين لمشوار قصير، والأهم خصلات امتدت على حين غفلة وأصبحت قابلة للتجديل والاحتفاء بالقرارات الأممية التي أنستني المقص لوهلة. هذه الحرب جعلتنا أقدر على الاحتفاء بالآني الذي طالما استبدلناه بمعارك مستقبل يبدو أبعد من نجوم صنعاء التي كان دخان المشتفات النفطية يحجبها لأكثر من أربع سنوات. هذه الحرب جعلتنا نحتضن من نحب ونلتصق بهم ونعيش آناً أكثر حميمية عوضاً عن صولات الغد الكامن وراء النجوم.

 

الليلة الرابعة والثلاثون:
ذكرى ناصر الرابعة 

أتذكر حديثنا في أول خيمة نصبت في الساحة قبل أن ترتقي السماء بليلة، كنت واثقاً أنه لو اختار الجميع الزناد، تختار الهتاف وطوبى لك يا هتّيف خيمتنا. قد أكون تجاوزت دموع أصدقائنا واختناقات ريم بعد أن أودعوك حجرة الفولاذ الباردة بانتظار رحلة التراب. قد أكون تجاوزت اصطحاب تلك الصورة التي وجدت مستقراً أعلى كل رف صادفته في تنقلي من بلد لآخر، حتى أخفيتها أخيراً كي لا يجلدني الشريط الأسود بعد أن اعتصرتني السنوات الأربع الماضية وجففت إجاباتي وابتهالاتي على حد سواء. لكن شفق غروب هذا اليوم كل عام لا يزال يشق صدري نصفين وكأن تابوتك لم يكن، وكأن الوردات الجورية أعلى الضريح الذي سُرِق لم تكن، وكأن الثابت الوحيد هو ملاحقتي للخط الأحمر لأن الطفلة بداخلي كانت تؤمن بأن غروب الشمس هو الذي سيأخذك بالفعل، كيف أوقف هذا اللهيب بداخلي وكيف أرمّم هلالي قلبي وكيف أوقف توسلاتي للغروب بأن ينتظر قليلاً حتى أصل لحجرة الفولاذ الباردة قبل أن يجعلها إغلاقها ثلاجة موتى لا أكثر؟

يا ناصر، العام الرابع أتى والناس بين ذابح وذبيح، وأنت لا تزال هتّيفاً. طوبى لك الهتاف، وما أقساه بقاؤنا في انتظار المذبحة.

 

الليلة التاسعة والثلاثون 

مطر في غير موسمه! يا مطر أخفِ دموعنا واغسل قبورنا وأفرح أطفالنا وزيّن ليالينا المقفرة. يا مطر، غطِّ صوت القذائف في عدن والصواريخ في تعز والأنين في مأرب والطائرات في صعدة. يا مطر أوهِم صنعاء ببراءتها من كل هذا الدم. يا مطر، صوتك خافت لا يغطي ولا يخفي. يا مطر، اكذب علينا أكثر، أكثر قليلاً ولو لليلة.

 

الليلة الأربعون 

المجد لشارع هائل للمطبق والفاصوليا والخبز الطاوه والتُمبُل والشاهي القوطي وآيسكريم ملاي التواهي والسمبوسة والهريسة. المجد للسلتة والعصيد والمرق الحامض وسوق القات وتُتن أبو بادي. للإسكافي العجوز وبسطات الشارابات و الطراريح والسياكل ودوري كرة قدم الحواري.

الله لا قطع لسانك رزق فلم يعد هناك يمن إلا فيك.

 

الليلة الثالثة والأربعون 

حسن نصر الله لم تكن يوماً خيبة بالنسبة لي لأنك لم تحمل في نظري أملاً قط. لكنك كنت أملاً للكثير من الصادقين الذين آمنوا بكاريزما الوهم. ما زالت يداك تغرقان في الدم في سورية ولم تبذل أدنى جهد لأن تغسلهما قبل أن تغمسهما مجدداً في اليمن. أين هي الوجهة المنهكة القادمة؟ لا يهم. فأنت لا تنتهي من وجهة ما قبل أن تهلك أخرى. ألم تتعب بعد؟ هل ما زالت جهنم تنادي بالمزيد؟ ألا يمكن على الأقل أن تحتجب عنا قليلاً وتتركنا نحن والمراثي دون أن تضاعف المنايا بمنية أخرى من خطاباتك؟ ألم تعرف الفقد قبلنا؟ ألم تدرك حاجة الإنسان إلى الحداد؟ هل جربتَ أن ترتاح قليلاً وتزورنا على راحلة السلم ولو لمرة؟ هل فكرت أن عدن بها ساحل يمكنك أن تستريح فيه من وعثاء الدم وتسلّم نفسك لعود أحمد قاسم وهو يغني لساحل العشاق؟ هل فكرت أن وراء قلاعك المحصنّة بعيداً عن الأبيض المتوسط هناك وراء الحطام وقود خطاباتك بقايا من بخور و لبان وبهارات وشيدر وفوطة وشِمْيز وروتي صندوق وأطفال ينتظرون المطر ليغنوا له «يا مطر مطيرية يا سراج الليلية»؟ لم أتوقع منك أن تكترث لنا فأنت لم تكترث لأهلك ولا لجيرانك قبلنا. فما بالي بالشعب البعيد الغريب الذي رفع صورك يوماً ما رغم كل شيء علّك تردّ لهم أرضاً سرقت في النكبة، لكن لم يعرف أنك ستكون أنت نكبتهم! من أدمن الحرب لن يفهم وأنت صرت مدمناً يصيبه السلم بأعراض الانسحاب التي تشبه انسحاب النيكوتين البطيء من الدم.

لكن أرجوك توقف عن الحديث عنا. اصمت واتركنا لمصيبتنا أجارك الله من المصائب.

الليلة الرابعة والأربعون 

ارتفع منسوب التحرش الجنسي كماً ونوعاً في شوارع صنعاء بشكل جنوني وكأن انعدام المواصلات والاضطرار إلى المشي ساعات للتمسك بما تبقى من فتات لقمة العيش تحت حر الشمس تارة وبين الحفر التي يعرّيها المطر تارة أخرى لا يكفي. بل على كل واحدة منا خرجتْ للشارع أن ترتطم بعالة على البشرية جل غايتها هي توسيع تلك الثقوب التي نحملها نحن النساء في قلوبنا بسبب حرب لم نخترها.

هذه المرة، يصنع الرجل اليمني من ذلّه وإحباطه الشخصي عنفاً يفرغه على كل امرأة تمشي في الشارع وكأنه لا يكفي أن الأرض من تحتها ترفض أن تبتلعها لتخلصها من هذا الهوان المركّب بل عليها أيضاً أن تستقبل هذا القيء اليومي برحابة صدر كونها ما زالت على قيد الحياة. يا رجال هذا البلد يكفيكم استقواء علينا وانحناء للطائرات والدبابات والجوع والذل فنحن الحياة التي ما زالت تقاوم في هذا البلد الذي يحتضر جراء خياراتكم. هذا الشارع لنا فنحن من حمل راية السلم والعدالة فيه ونحن من يرمم الحياة التي تهدم فوق رؤوسكم كل يوم.

 

الليلة الخامسة والأربعون 

السلام على صعدة. على فقرائها ورمّانها ونوافذها. السلام على صباحها بعد ليل لم يكن أسوأ ما فيه هو القصف، بل شماتة القريب واستهزاء الغريب الذي طلب منهم البحث عن أماكن آمنة. يقف العسيري تارةً «مهنجماً» وتارةً أخرى كخريج يبتهج باختياره لقراءة خطاب التخرج. لكن ولا لمرة واحدة أخذ هذا الرجل أو بلده أرواح من في هذا البلد المحاصر على محمل الجد. هم يعلمون أننا لن نستطيع أن نفعل شيئاً سوى أن نموت بطائراتهم أو بدباباتنا. هم يعلمون جيداً أننا لا نملك شيئاً سوى أن نموت.

 

الليلة الستون 

عدد الحيوات التي نشتريها ونقايضها ونفقدها كل يوم في سباق مع الزمن لنعيش كل شيء ولو وهماً حتى يسقط هذا الأخير صريعاً كغيره. مثلاً تزوجت وطلقت وترملت وأنجبت وتيتمت ويتّمت. أيضاً حصدت الشهادات العليا وفقدتها وكتبت ومسحت وعملت وطُردت ورُقيت وتقاعدت وخسرت وربحت ومَزقت وتمزقت. في ليلة ما كنت بيتاً وفي أخرى زقاقا وفي أخريات سرادق عزاء وفي الباقيات مذياعاً قديما لأغنيات منسية عن القادم الأحلى. في ليلة أخرى كنت فساتين وفي غيرها أكفاناً.

ستون ليلة من الأسر والخلاص، من الشك واليقين، من مواجهات حتمية وأخرى ارتطمت بي دون أن يختار أحدنا أن يكون نداً. ستون ليلة أكلت من العمر معظمه وتجاويفه وثناياه. ستون ليلة عبثت بالروح عبث القرصان بالغنيمة. ستون ليلة استعملت فيها مخزون الجلد الذي يفوق مخزون الدبابات من وقود «العدو» فهل من هدنة لإغاثة الروح؟

الليلة التاسعة والستون 

لعصريات عدن حاستان لا يلزمك سواهما. أنف يستنشق طبخة البخور التي تتسلل من بيت لآخر في تحّدٍ يجمع نساء «الحافة» اللاتي تصرّ كل واحدة منهن على أنها أمهر صانعات البخور حصراً. وثانية الحاستين هي أذنٌ ماهرة تستطيع التنقل بين دربكة الزنقور وعود أحمد قاسم وتخدّر باقي الحواس لتكف عن الشكوى من «كهر» النهار الحارق.

عدن مغناج، «فنقة» كما تذكرها عاميتي العدنية تملس الحناء على شعرها وراحتيها بانتظار أن يستحي الشَيب من أن يغزو هامتها فتعاود مجارحته بلبَن العصفور والأخضريَن.

عدن مغناج السوق والشاطئ والأزقة ترتّب دبابيس شعرها وأقمشتها المشجرة وتترك مكان الفل والكاذي خالياً بانتظار أن تهديها أنيستها اللحجية مرسال عصريات البندر.

 

الليلة السادسة والسبعون 

كل حرب تأتي وتقايضنا دون أي مفاوضات توافقية، فتأخذ قدراً من سكينتنا الداخلية وتمنحنا قدراً من الشك. عندما تتوالى الحروب، يتضاعف الشك، فالقطرات الفارة من الصنبور المُحكم الغلق تبدو أقرب إلى وقع أقدام لا بد من أن صاحبَها مسلحٌ وسيعتقل شخصاً ما، ويا خوفي إن لم يجده أن يعتقل أياً كان عوضاً عنه. أما الرعد، فهو بكل تأكيد صدى انفجار صاروخ لا يمكن أن يكون قد سقط إلا فوق رأسي، ولا يمكن إقناعي بغير ذلك، فلا بد من أنني أحدّث نفسي الآن من عالم الغيب. أما صوت الهاتف، وخصوصاً ذاك الأرضي، فهو بكل تأكيد يحمل خبراً كارثياً يتطلب من المتصل إثبات أنه لم يحدث بالترويح عني لمدة لا تقل عن ١٠ دقائق من التمويه والتشتيت. الشوارع المكتظة تعني أن المجاعة أوفت متطلبات حضورها الكامل ولم يعد تأجيلها ممكناً، وبكل تأكيد سيذبح الناس بعضهم بعضاً على عتبة المنزل من أجل كيس طحين. الشوارع الخاوية تعني أن الناس يعرفون شيئاً لا أعرفه، ويبدو أنه مفزع للحد الذي دفعهم للاختباء.

عودة الكهرباء بعد انقطاع تام لأكثر من عشرين يوماً تعني أن الضوء آتٍ من مركبة فضائية ستنزل مخلوقات تنتقم لنا منا. كل ذلك محتمل، والأصح يمكنني التظاهر بأنه كذلك لأنني دائماً منفتحة بشكل متصالح على عاداتي الغريبة. إنما الأمر الذي يدفعني للجنون هو أنني أخاف الهدوء! أصبحت أرتعد لفكرة أن يومين بلا قصف قد يعني أن الغارة الآتية ستعوّض كل الأهداف التي تجاهلتها. الأفظع هو كمّ الشك الذي استوطن روحي جارفاً طمأنينة السنين بكل سخاء ليقنعني أن يومين بلا قصف قد يحملان حمل ما هو أسوأ من قصف أعنف. ربما هو فَقدٌ ينخر ما تبقى خارج مستوطنات الخراب التي خلفتها الحرب بداخلي. تلك اللحظة المقتبسة من مسرح الدمى الموجود في رأسي، والذي يخرجه الشك باحتراف، تصل المسرحية إلى أوج جنون مُخرجها حين تبدأ بتخييري بين خاتمتَي الهدوء؛ غارةٌ مميتة أم فَقدٌ موجع؟ المشكلة أنّ دمار الغارة يمكن أن يعاد ترميمه، وجرح الفقد يصير ندبةً تلتئم مع الوقت. أما مسرح الشك هذا، فيلازم أهل الحرب حتى تأتي الحرب التالية بمستوطنات جديدة.

 

الليلة الثمانون

تعلّمك الحرب أن تصبح مراوغاً جيداً. تراوغ قطرات الماء وما تبقى في قعر «دبّة» البنزين. تعلّمك أن تزرع الفلفل الأحمر المجفف في قلب ما تبقى من الطحين لأن المرحلة لا تسمح أبداً بمشاركته مع السوس. تراوغ رنة الهاتف لأن احتمالات الأخبار التي لا سبيل لمراوغتها أعلى بكثير من غيرها. تراوغ وجهك وملامحه بإضفاء مزيد من التحجر الذي يعينك على العمل وأداء المهام اليومية، فأقل زلة ستفتح شلالاً من دموع تحفر أخاديد غائرة في الخدّ تعكس الدرك الذي يسكنه قلبك الآن.

كلاعب كرة يراوغ حتى يقع في فخ التسلل، تكتشف أن الأهداف التي سدّدتها في مرمى الحرب، منتشياً بغلبتك على البؤس وقدرتك على البقاء، لن تحتسب لأن جميعها كانت تسللاً اكتشفه الحكم في الليلة الثمانين. فأي غلبة هذه بعد ثمانين ليلة من المراوغة مع كل شيء؟ قد ننجح في التحايل على الغاز والثلاجة، فليس ضرورياً أن يؤكل الطعام ساخناً أو يحفظ بارداً، أما أن تظن أنك تحايلت على دواخلك ثمانين ليلة، فكل الوقت بدل الضائع غير كافٍ لتغيير النتيجة الوحيدة: روحك الآن خرقة بالية بالكاد تصلح لمسح الغبار من على الهاتف لتستقبل خبراً جديداً من المؤكد أن لا مجال لمراوغته.

الليلة الحادية والثمانون 

عندما تنتهي الحرب، سيبقى الذعر قابعاً في أجوافنا وسنفقد أعذار التنفيس عنه. سنعود لقطيعتنا مع المرايا وللركض في الاتجاه الآخر بعيداً عن أسرارنا ومكامن ضعفنا التي تلوي الأذرع وقت السلم بعد أن تنتهي أسباب الخوف المشروعة. عندما تنتهي الحرب ستطفو كدمات ما قبل الحرب على جلودنا مجدداً وستذكر الواحدة منا كم أتعسها ونفاها اختلافُها وشرّدها عن الجمع، وأنها لم تنتم للجماعة في حياتها إلا لحظة القصف. هناك صوت دفين نحميه من الأخلاقيات لأنه يصلّي أن تبقى رائحة البارود دائماً كي لا نعاود اشتمام خيباتنا وجيفة الأسرار المشينة التي كلما تطاير رذاذها في الهواء، أدركنا أننا غرباء وأنّ وحدها الحرب جعلتنا ننتمي ونشبه ونشابه.

 

الليلة المائة 

أعرف تماماً معنى الجرح، فجسدي خريطة لسقطة ذلك العام وانزلاقة العام الذي قبله. فلطالما كنتُ خرقاء المشية منذ تعلمت المشي. هذه الخرقاء تعلمت السخرية من قدر الماء المغلي الذي أحرق رقعة من ذراعها عندما كانت طالبة في الإعدادية، كما سخرت من أدراج القلعة الأثرية التي رأت وقتها أن بإمكانها تخطّي صيرورة التدرّج التي كان يمكن أن تجنبها الدائرة المقيمة في منتصف ركبتها اليسرى منذ المدرسة الابتدائية. مع المضي قدماً في العمر، مضت مشيتي الخرقاء بخفة لتختفي الندبات من على الجلد وتبدأ جروح القلب وتقرحاتها المزمنة. عندما نكبر، تصبح الجراح غير المرئية صعبة الاندمال مقابل تلك التي يخيطها الجلد الملتئم كإسكافي محنّك. مائة يوم من الفقد والحرمان والخذلان والأسف والحداد والتسلق المستمر لأسوار اليوميات المنهكة والانفصال عن كل ما كانته خرقاء المشية، أوضحتْ أن خرقاء القلب تدرك الآن تماماً أن حياتها لن تعود أبداً كما كانت، ولا يوجد مرهمٌ أو حتى عملية تجميل تستطيع إعادة نسج ما قُصّ وطُعِن ونُهِش.

مائة ليلة تعني تعميد الجرح وتوثيق وجوده وإعلام صاحبته أن جرح الماء المغلي كان أرحم بها منها.

 

الليلة الأولى بعد المائة 

هذه الليلة دشنت بشخص أطلق النار أمام آخر وسط الزحام، ليس أول إطلاق نار أشهده ولن يكون الأخير، ومجرد هذا الإدراك يعني أنني تخرجت بامتياز من مرحلة الأمل بالعودة إلى ما يشبه ما قبل المائة ليلة، وكخريجة جديدة، هاأنا أبحث عن وظيفة حياتية تلائم وضعي الجديد. أهنئ نفسي بإجتياز امتحانات الوهم بتفوق، وأتطلع قدماً لحياة تناسب معطيات تخرجي، فمنذ اليوم أنا أصبحت فعلياً ابنة حرب، حرب طويلة غير عابرة لا تشبه سابقاتها. فوجب علي، أنا، أن لا أشبهني.

 

الليلة التاسعة بعد المائة 

اكتشفتْ أمي بعد التصاق أذنها بصدري أول ثلاثة أشهر من ولادتي أن نبضات قلبي أسرع من المفترض. صدقت أمي حدسها أكثر من الطبيب الذي اعتبر تساؤل أمي وساوس طبيبة لا أكثر. وبعد فترة أكد الطبيب تلو الآخر أنني وُلِدتُ بصمام مُرتخٍ يجعل دقات قلبي «مختلفة». كما أصر الأطباء طوال حياتي على أن هذا الارتخاء لا يغير شيئاً باستثناء المضادات الحيوية التي يجب أن أستبق بها أي تدخلٍ جراحي، ورفضوا منحي أي علاج قائلين إن أعراض الارتخاء تؤلم أضعاف حجم الحالة التي يولد ملايين البشر بها دون ضرر. منذ ليلة الأمس ودقات قلبي تسابق أنفاسي للحد الذي جعلني أتهرّب من الجلوس قرب أمي التي هي وحدها تستطيع سماع دقّات قلبي. أحاول استجداء هذا الصمام اللعين ليشتد قليلاً ويساعد هذا القلب المتعب على جبر كسوره، ولكن يبدو أن النهار يصل الليل الذي انتهى بكابوس زامن طائرة هزّت الجدران التي كنت أحتمي بها من محتوى كابوس عكر ساعات النوم المسروقة حتى طلع الصباح الذي حمل لي يوماً جديداً فرّق بيني وبين رصاصتين بأقل من متر واحد لسبب لا أزال أجهله كجهلي بالذي كان سيحدث لو أدركتني الرصاصات.

ولدت بصمّام مرتخٍ يحول بيني وبين لملمة دقات قلبي التي اختارت أن تبقى رعناء دون ضابط أو كابح، والأهم دون حالة طبية تسمح بوصف علاج يوقفها كذلك الذي يوقف أعراض باقي الحالات، فالعَرَض هنا هو البقاء على قيد الحياة!

 

ليلة الشهر الخامس 

توقفت عن عدّ الليالي بعد أن بدأ الشهر الخامس يطرق الأبواب. بدأت أعد الصور عملاً بنصيحة أمي التي تقول إنّ حقيقة وجود أيام حلوة عشتها ستمنحني المزيد. تحولت عن عد الضحايا إلى عد أغنيات أحمد قاسم التي يحفظ أبي معظمها عن ظهر قلب علّي أهديها إليه حين أعود.

أحرس شالي الصنعاني وعلبة البخور العدني بحرص أكبر من حراستي لجواز سفر قد يغيّر غلافه من قتل العدد الأكبر منا بعد حين. أبتعد عن معارفي هنا لأن سؤالي عن الذي حدث يضاعف الهالات تحت عينين لم تختارا أن تريا كل ما حدث.

أشكر لبيروت سائقي الأجرة الذين لا يعرفونني وفي كل مرة نتبادل الحديث عن ضيعة لبنانية من اختياري أدّعي أنني منها بمساعدة لساني الجاذب للهجات علّي للحظة أنسى أن الأمان الآني لا يعوض هذه التغريبة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً. وحدهم سائقو سيارات الأجرة هنا يذكرون الحرب دون السؤال عن المنتصر، هم من يتذكر أن أحداً لم يربح الحرب اللبنانية، وفي تلك الفكرة مساحة لي لأطمئن أن على هذه الأرض من يحس بما أحس، وهذه أقصى درجات الألفة التي أطلب في هذه الأيام. مَن يعلم أننا وحدنا من نخسر كل يوم للحد الذي يجعل سؤال معارفي المنخرطين في الصحافة والسياسة هنا عن الذي حدث عصياً على الإجابة عندما كلما أريد قوله أنني أسير كل يوم بجرح لا أعرف كيفية تقطيبه، وكشفه أو إخفاؤه يجعلانه غائراً للحد الذي لا تستطيع أحر التعازي رثاءه. هذا هو ما حدث وما دون ذلك فتفاصيل.

الشهر الخامس للحبلى يعني مرور أكثر فترات الحَمل حرجاً كما لمست من صديقاتي الأمهات. أما الولوج في الشهر الخامس من الحرب فيعني اقترابنا من نصف العام والسير بثبات نحو إتمام عام سقط سهواً من أعمارنا التي لو اجتمع المخيط تلو الآخر على جمعها، فلن تعود.

الشهر الخامس يعني أن الوقت قد حان لتعديل بزّة الاغتراب فيبدو أن ارتداءها سيطول ولن يفهمها سوى من ارتداها. تنهي فيروز «سنرجع يوماً إلى حيّنا» فأرفع السماعات لأذني وأدندن «يا ليت عدن مسير يوم» وأنا أفتش عن «صنعاء اليمن صنعاء اليمن فيها مناظر عالية. فيها البنات الحاليات مثل الغصون الراويات»، وأغلق نوافذ الأخبار العاجلة لأعاود ورد كل ليلة؛ لأتذكر وجوههم ووجوههن وأردد الأسماء بصوت تسمعه جدران الحجرة المظلمة في حيّ بيروتيّ عتيق أعلم جيداً أن لليالي أهله وردآً كوَردي تماماً.

العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥
ليليات صنعاء

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.