ثمّة ارتياح وتفاؤل كبيران حول أرجاء العالم بشأن الاتّفاق النوويّ الذي تمّ التوصّل إليه في فيينا بين إيران ودول 5+1 (الدول الخمس المتمتّعة بحق الفيتو في مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا). ومن الواضح أنّ معظم سكّان العالم يوافقون على تقييم الهيئة الأميركيّة للحد من السلاح بأنّ «خطّة العمل الشاملة المشتركة تؤسس لصيغة قويّة وفعّالة لسدّ جميع الطرق التي يمكن لإيران فيها حيازة المواد المطلوبة لتصنيع سلاح نوويّ لجيلٍ كامل، ونظامٍ للتحقّق بشأن الحثّ على تبيُّن وكبح مساعي إيران المحتمَلة للسعي السرّي إلى أسلحة نوويّة يمكن أن تستمر دون أجل محدّد».
ومع ذلك، ثمّة استثناءات بارزة لهذه الحماسة السائدة: الولايات المتحدة وحليفتاها الأقرب في المنطقة، إسرائيل والعربيّة السعوديّة. إحدى هذه النتائج هي أنّ الشركات الأميركيّة، التي سيطر عليها الغمّ، ستُمنَع من المشاركة في طهران مع مثيلاتها الأوروبيات. وتتشارك قطاعات مهيمنة في مراكز السلطة والرأي الأميركيّة وجهة نظر الحليفين الإقليميّين، حيث تسيطر عليها هستيريا فعليّة بسبب «التهديد الإيراني»، الذي يعتبره المعلّقون الرصينون في الولايات المتحدة، على اختلاف مشاربهم تقريباً، «التهديد الأخطر للسلم العالميّ». حتى الداعمون الأميركيّون للاتفاق حذرون: بسبب الجاذبيّة الاستثنائيّة للتهديد الإيراني، كيف يمكننا أن نثق بالإيرانيّين مع سجّلهم الرهيب في القمع والعنف والتدمير والخداع؟
المعارضة داخل الطبقة السياسيّة الأميركيّة شديدة القوّة إلى درجة أنّ الرأي العام قد تحوَّل بسرعة من الدعم القويّ للاتفاق إلى انقسام متساوٍ. الجمهوريّون مُجمعون على المعارضة كلياً تقريباً. ويبيّن الجمهوريّون البارزون الحاليّون الأسباب المُعلَنة. يحذّر تيد كروز، الذي يُعد أحد مفكّري هذه الجماعة، بأنّ إيران يمكن أن تبقى قادرة على تصنيع أسلحة نوويّة، وأنّ بوسعها استخدام أحدها لإطلاق نبضة [قنبلة] كهرومغناطيسيّة يمكن أن تتسبّب «بتدمير الشبكة الكهربائيّة على طول الساحل الشرقيّ» للولايات المتحدة، وقتل «عشرات الملايين من الأميركيّين». أما المتقدّمان الأكبران في الاستطلاعات التمهيديّة، جيب بوش وسكوت ووكر، فيقاتلان بشأن ما إذا كان يجب قصف إيران مباشرة بعد انتخابهما أو بعد انعقاد أول اجتماع للحكومة. أما المرشّح الوحيد الذي يحمل شيئاً من الخبرة في السياسة الخارجيّة، لندسي غراهام، فيعتبر الاتفاق «حكماً بالإعدام على دولة إسرائيل»، ما يشكّل مفاجأة للاستخبارات الإسرائيليّة والمحلّلين الاستراتيجيّين ــ وما يعلم غراهام يقيناً بأنّه محض هراء، ما يطرح أسئلة مباشرة بشأن الدوافع الفعليّة.
من المهم تذكّر أنّ الجمهوريّين قد تخلّوا منذ وقت طويل عن التظاهر بكونهم حزباً برلمانياً طبيعياً. إذ أصبحوا يشكّلون «تمرّداً راديكالياً» يسعى بالكاد إلى المشاركة في السياسة البرلمانيّة الاعتياديّة، كما لاحظ المعلّق السياسيّ المحافظ البارز نورمن أورنستين، المنتمي إلى الجناح اليميني من معهد أميركان إنتربرايز. منذ أيام ريغان، قامرت القيادة بتهوّر على جيوب النخبة الثريّة وقطاع الشركات بكونهم لن يستطيعوا اجتذاب أصوات الناخبين ما لم يحشدوا شرائح السكّان التي لم تكن تشكّل قوة سياسيّة منظّمة من قبل، ومن بينهم المسيحيّون الأنغليكانيّون المتطرّفون، الذين يشكّلون اليوم أغلبيّة الناخبين الجمهوريّين، وبقايا مُلّاك العبيد السابقين، والمتعصّبون الخائفون من أنّ «أولئك» يجرّون بلادنا الأنغلو-ساكسونيّ المسيحيّ الأبيض بعيدًا عنا، وآخرون ممن يحوّلون الانتخابات التمهيديّة الجمهوريّة إلى مشاهد بعيدة عن التيار السائد للمجتمع الحديث ــ مع أنّه ليس التيار السائد لمعظم البلدان القويّة في تاريخ العالم.
لكنّ مخالفة المعايير الدوليّة تتجاوز التمرّد الراديكاليّ الجمهوريّ. عبر درجات الطيف السياسيّ، ثمّة اتفاق عام مع الخلاصة «البراغماتيّة» للجنرال مارتن دمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، على أنّ اتفاق فيينا «لا يمنع الولايات المتحدة من قصف المنشآت الإيرانيّة إذا قرّر المسؤولون بأنّها تخالف الاتفاق، بالرغم من أنّ «الأرجحيّة ضعيفة» لشنّ ضربة عسكريّة أحاديّة لو خالفت إيران الاتفاق. ويوصي المفاوض السابق لشؤون الشرق الأوسط في إدارتي كلنتون وبوش، دينس روس، بأنّ «على إيران ألّا تشك أبداً في حال أدركنا بأنها تتقدّم في طريق تصنيع سلاح نوويّ بأنّها ستُطلق زناد استخدام القوة» حتى بعد انتهاء مدة الاتفاق، وعندما تكون إيران حرة في فعل ما تشاء. في الواقع، وجود تاريخ انتهاء بعد خمسة عشر عاماً يمثّل «المشكلة الوحيدة الأكبر ضمن الاتفاق»، كما يضيف، موصياً أنْ تزوّد الولايات المتحدة إسرائيل بقاذفات ب-52 كي تحمي نفسها قبل أن يحلّ الموعد المرعب.
ويحاجج مناوئو الاتفاق النوويّ بأنّه لم يكن كافياً، فيما يتفق بعض الداعمين مشدّدين «في حال كان ثمة مغزى لاتفاق فيينا، فهو أن يخلّص الشرق الأوسط بكامله نفسه من أسلحة الدمار الشامل». ويضيف صاحب هذه الكلمات، وزير الخارجيّة الإيرانيّ جواد ظريف، بأنّ «إيران، تبعاً لقدراتها القوميّة، وكرئيس حاليّ لحركة عدم الانحياز [حكومات الغالبيّة العظمى من دول العالم]، مستعدّة للعمل مع المجتمع الدولي لتحقيق هذه الأهداف، مدركين تماماً، على طول الخط، بأنّنا سنرتطم بعقبات كثيرة تولّدها التشكيكات في السلام والدبلوماسيّة. ويتابع بأنّ «إيران وقّعت اتفاقاً نووياً تاريخياً» والآن حان دور إسرائيل «المعارضة للاتفاق».
بالطبع، إسرائيل إحدى القوى النووية الثلاث، إلى جانب الهند وباكستان، التي تملك برنامجاً لتصنيع الأسلحة النوويّة مدعوماً من الولايات المتحدة، وترفض التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
كان الوزير ظريف في المؤتمر الدوريّ لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية الذي يُعقَد كل خمس سنوات، والذي فشل في نيسان/أبريل عندما أقدمت الولايات المتحدة مجدداً على إحباط الجهود لإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط (ووافقها في القرار كندا وبريطانيا). وقد قادت مصر وعدد من الدول العربية الأخرى هذه الجهود منذ 20 عاماً. وأشار اثنان من الشخصيات البارزة التي تروّج لهذه الجهود في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية وعدد من وكالات الأمم المتحدة، ومؤتمرات بوغووش، جايانثا دانابالا وسيرجيو دوارته، إلى أنّ «التبنّي الناجح عام 1995 لقرار إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط كان العنصر الأساسيّ في حزمة من العناصر التي سمحت بتوسّع غير كبير لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية»، وهي المعاهدة الأهم في الحد من انتشار الأسلحة، والتي يمكن بها، حالَ تطبيقها، إنهاء كارثة الأسلحة النووية. على نحو متكرر، كان يتم إجهاض تطبيق القرار من قِبل الولايات المتحدة، وكانت الحادثتان الأخيرتان على يدي أوباما عام 2010 ثم 2015. ويشير دانابالا ودوارته إلى أنّ الجهود قد أُجهضت «باسم دولة ليست عضواً في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النوويّة، عدا كونها الدولة الوحيدة التي يُجزَم بامتلاكها سلاحاً نووياً»، في إشارة مفهومة ومهذّبة إلى إسرائيل. ويأملان «ألّا يكون هذا الإخفاق بمثابة رصاصة الرحمة للهدفين الأساسيّين للمعاهدة بشأن التقدّم المتسارع لنزع الأسلحة النوويّة، ولإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل». وقد عنونت مقالتهما، في مجلّة آرمز كونترول أسوسييشن، «هل ثمة مستقبل لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية؟».
وجود منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط هو بمثابة طريقة مباشرة لمواجهة أيّ خطر مزعوم قد تشكّله إيران. وثمّة قدر كبير آخر على المحك بفعل تخريب واشنطن المتكرر للجهود، لحماية زبونها الإسرائيلي. ليست هذه هي الحالة الوحيدة التي تتم فيها إضاعة الفرص لإنهاء التهديد الإيرانيّ المزعوم على يد واشنطن، ما يطرح أسئلة أخرى بشأن الأمور التي تكون على المحك فعلياً.
في ما يخص هذه المسألة، من المهم دراسة الافتراضات الضمنيّة والأسئلة التي لا تُطرَح إلّا نادراً. لنتناول بعضاً منها، منطلقين من السؤال الأكثر جديّة: التهديد الأخطر على السلم العالميّ.
في الولايات المتحدة، كما لاحظنا، ثمّة كليشيه معتاد منتشر بين المسؤولين والمعلّقين الرفيعين يقول إن إيران قد نالت هذه الجائزة المروّعة. ثمّة عالمٌ خارج حدود الولايات المتحدة، وبرغم أنّ آراءه لا تشيع ضمن الآراء السائدة الأميركيّة، ربما كان لها أهميّة. وفقاً لمؤسسات الإحصاءات الغربيّة البارزة (WIN/Gallup)، مَنْ نال الجائزة هي الولايات المتحدة التي يعتبرها العالم التهديد الأكبر على السلم العالميّ بهامش واسع. فيما كانت باكستان في المركز الثاني بفارق كبير، ولعل تصنيفها تأثّر بفعل الصوت الهنديّ. وصُنّفت إيران تحتها، إلى جانب إسرائيل وكوريا الشمالية وأفغانستان.
لوحة مناهضة للولايات المتّحدة الأميركية على جدار السفارة الأميركية المغلقة في طهران
(تصوير فيليب مايوولد)
بالانتقال إلى السؤال الواضح التالي، ما هي حقيقة التهديد الإيرانيّ؟ لمَ ترتعد إسرائيل والعربيّة السعوديّة، مثلًا، بسبب تهديد إيران؟ أيًا يكن هذا التهديد، فهو بالكاد عسكريّ. أعلمت الاستخبارات الأميركيّة الكونغرس منذ عدة سنوات بأنّ إيران ذات إنفاقات عسكريّة منخفضة بحسب معايير المنطقة، وبأنّ أهدافها الاستراتيجيّة دفاعيّة، لصد الاعتداءات. وأكّدت التقارير على عدم وجود أدلّة بأنّ إيران تسعى إلى برنامج أسلحة نووية، وبأنّ «البرنامج النووي الإيرانيّ وإمكانيته لإبقاء الاحتماليّات مفتوحة لتطوير الأسلحة النوويّة جزءٌ أساسيّ من استراتيجيّته الردعيّة».
ويصنّف التقرير التنفيذي لمعهد أبحاث السلام الدوليّ في استوكهولم الولايات المتحدة، كالمعتاد، بكونها تحتل الصدارة بفارق كبير بشأن النفقات العسكرية، تليها الصين في المركز الثاني بنسبة 1/3 من النفقات الأميركيّة. وتحتهما بفارق كبير نجد روسيا والعربية السعوديّة، متفوقتين على جميع الدول الأوروبيّة الغربيّة. فيما إيران مذكورة بالكاد. وسنجد التفاصيل الكاملة في دراسة نيسان/أبريل لمركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة الذي يجد «حالة حاسمة بأنّ دول الخليج العربيّ ذات ... تفوّق ساحق في كلّ من الإنفاق العسكريّ وامتلاك الأسلحة الحديثة». الإنفاق العسكريّ لإيران لا يشكّل إلّا جزءاً من إنفاق العربية السعودية، إذ إنّ تصنيفها يقع تحت تصنيف الإمارات العربيّة المتحدة حتى. ويتفوق مجلس التعاون الخليجيّ مجتمعاً ــ البحرين، الكويت، عُمان، العربيّة السعوديّة، الإمارات العربيّة المتحدة ــ على إيران في مجال الإنفاق العسكريّ بفارق يصل إلى ثمانية أضعاف على الأقل، وهو تفاوت يعود إلى عقود. كما يشير مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدولية إلى أنّ «دول الخليج العربيّ امتلكت وتمتلك بعض أكثر الأسلحة الفعالة تقدّماً وفعالية في العالم [فيما] تمّ دفع إيران جوهرياً للعيش في الماضي، بالاعتماد غالباً على أنظمة نشأت في زمن الشاه»، تتسم بالتخلف على نحو كبير. بالطبع، يتّسع الفارق على نحو أكبر مع إسرائيل، التي تمتلك مخزوناً ضخماً من الأسلحة النوويّة، إلى جانب الأسلحة الأميركيّة الأكثر تطوراً ودورها كقاعدة عسكريّة أجنبيّة.
بالتأكيد، تواجه إسرائيل «التهديد الوجوديّ» بفعل البيانات الرسميّة الإيرانيّة: قام كلٌّ من المرشد الأعلى خامنئي والرئيس السابق أحمدي نجاد بالتهديد العلنيّ بتدمير إسرائيل. لكنّهما لم يفعلا ــ ولو فعلا، سيكون الأمر ذا تأثير جانبيّ. كانا يتنبّآن بأنّ «[النظام الصهيونيّ] سيُمحى من الخارطة بقوّة الله» (أحمدي نجاد). بمعنى آخر، كانا يأملان بأنْ يحدث تغيير النظام يوماً ما. وهذا لا يمكن مقارنته بالدعوات المباشرة الاعتياديّة للولايات المتحدة إلى تغيير النظام في إيران، إن لم نتحدث عن أفعال تنفيذ تغيير النظام التي تعود إلى «تغيير النظام» الفعليّ عام 1953، عندما نظّمت الولايات المتحدة انقلاباً عسكرياً للإطاحة بالنظام البرلمانيّ وتكريس دكتاتوريّة الشاه الذي يحمل واحداً من أسوأ سجلات انتهاكات حقوق الإنسان في العالم. كانت تلك الجرائم معروفة لقرّاء تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى، ولكن ليس لقرّاء الصحافة الأميركيّة التي بدأت فعلياً بتكريس مساحةٍ كافية للتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان في إيران، ولكن يعد عام 1979، عندما تمت الإطاحة بالنظام المفروض أميركياً. الوقائع الفصيليّة موثَّقة بحرص في دراسة لمنصور فارهانغ ووليم دورمن.
لا تُعد أيٌّ من هذه الأفعال خارجة عن السلوك المعتاد. فالولايات المتحدة، كما هو معروف، تحمل بطولة العالم في تغيير النظام، عدا أن إسرائيل ليست متقاعسة عن هذا أيضاً، إذ إنّ غزوها الأكثر تدميراً للبنان، عام 1982، كان يُقصَد منه تغيير النظام على نحو واضح، علاوةً على ترسيخ قبضتها على الأراضي المحتلة. وكانت الذرائع واهية جداً، وانهارت فوراً. وهذا أيضاً ليس بعيداً عن المعتاد، أو شديد الاستقلاليّة عن طبيعة المجتمع، منذ الشكاوى في إعلان الاستقلال بشأن «الهمجيّين الهنود عديمي الرحمة» وصولاً إلى دفاع هتلر عن ألمانيا في وجه «الإرهاب الوحشيّ» للبولنديّين.
لا يؤمن أيّ محلّل جدّي بأنّ إيران ستستخدم، أو تهدّد باستخدام، سلاح نوويّ لو كانت تمتلك واحداً، إذ ستواجه دماراً مباشراً. ومع ذلك، ثمة قلق فعليّ بأنْ يسقط السلاح النوويّ في أيدي الجهاديّين ــ لا من إيران، حيث التهديد ضئيل جداً، بل من باكستان حليفة الولايات المتحدة، حيث يكون التهديد حقيقياً جداً. في دوريّة المعهد الملكيّ [البريطانيّ] للشؤون الدوليّة، كتب عالمان نوويان باكستانيان بارزان، برويز هودبوي وضياء ميان، بأنّ المخاوف المتعاظمة من «المقاتلين الذين استولوا على أسلحة أو مواد نووية مهدِّدين بالإرهاب النووي قد قادت إلى خلق قوة مكرَّسة بتعداد يصل إلى أكثر من 20000 مقاتل لحراسة المنشآت النووية بالرغم من عدم وجود أي سبب للافتراض، برغم ذلك، بأنّ القوة ستكون منيعة ضد المشكلات المترافقة مع الوحدات التي تحرس المنشآت العسكريّة النظاميّة»، التي تتعرض على نحو متكرر للهجوم بفعل «مساعدة داخليّة». بإيجاز، المشكلة حقيقيّة، ولكنها تُستبدَل بأوهام ملفَّقة لأسباب مغايرة.
تتعلق المخاوف الأخرى بدور إيران كـ«داعم أساسيّ للإرهاب في العالم،» بخاصة دعمها لحزب الله وحماس. كلتا المنظمتين ولدتا كمقاومة حرّة ضد عنف واعتداء إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة الذي يفوق على نحو كبير أيّ سمة منسوبة لهذين الشريرين، دع عنك الممارسة الطبيعيّة لقوة الهيمنة التي تكون فيها حملة الاغتيال العالميّ الخاصة بها هي المسيطر الفعليّ على الإرهاب الدوليّ.
يتشارك الحليفان الإيرانيان الشريران كذلك في جريمة الفوز بالأصوات الشعبيّة في الانتخابات الحرة الوحيدة في العالم العربيّ. كما أنّ حزب الله مذنب بجريمة أكثر شناعة هي إرغام إسرائيل على الانسحاب من احتلالها لجنوب لبنان الذي كان ينتهك قرارات مجلس الأمن التي تعود لعقود، عدا عن كونها نظاماً لاشرعياً للإرهاب، والعنف المفرط أحياناً. وبصرف النظر عن رأي المرء بهاتين المنظمتين، أو المستفيدين الآخرين من الدعم الإيرانيّ، فإنّ إيران نادراً ما تُصنَّف في مركز متقدّم بشأن دعم الإرهاب في أرجاء العالم.
ثمّة مصدر قلق آخر، أُعلن في الأمم المتحدة على لسان سامانثا باور، هو «عدم الاستقرار الذي تعزّزه إيران بفعل برنامجها النووي». ستتابع الولايات المتحدة التدقيق في هذا السلوك السيئ، كما صرّحتْ، مكررةً تشديد وزير الدفاع آشتون كارتر، حين كان واقفاً عند حدود إسرائيل الشماليّة، «بأننا سنتابع مساعدة إسرائيل لمواجهة تأثير إيران الخبيث» بسبب دعم حزب الله، وبأن الولايات المتحدة ستحتفظ بحق استخدام القوة العسكريّة ضد إيران حينما تجد الوقت ملائماً. ويكون «تعزيز إيران لعدم الاستقرار» محلوظاً خصوصاً في العراق، حين قامت، من بين جرائم أخرى، بمساعدة الأكراد في الدفاع عن أنفسهم من غزو داعش، وبنائها معملاً للطاقة بتكلفة 2.5 مليار دولار كمحاولة لإعادة الطاقة الكهربائيّة إلى ما كانت عليه قبل الغزو الأميركيّ للعراق. استخدام القوة معتاد: حينما تُقدم الولايات المتحدة على غزو بلد، وتخلّف مئات الآلاف من القتلى وملايين من اللاجئين عدا عن التعذيب الوحشيّ والتدمير الذي قارنه العراقيّون بغزو المغول، جاعلةً العراق أكثر البلدان بؤساً في العالم وفقاً لإحصاءات WIN/Gallup، مغذّية في الوقت ذاته الصراع الطائفيّ الذي يمزّق المنطقة إلى أشلاء، واضعاً الأساس لهيمنة داعش إلى جانب حليفها السعوديّ ــ هذا هو «ترسيخ الاستقرار». أما أفعال إيران الشنيعة فـ «تعزّز عدم الاستقرار». ويصل الاستخدام الاعتياديّ أحياناً إلى مستويات تكاد تكون سورياليّة، كما حين يشرح المعلّق الليبراليّ جيمس تشيس، المحرّر السابق لمجلة فورين أفيرز، بأنّ الولايات المتحدة سعت إلى «تدمير استقرار حكومة ماركسيّة منتخَبة بحرّية في تشيلي» لأننا «كنا مصمّمين على السعي إلى الاستقرار» (تحت حكم الطاغية بينوشيه).
فيما غضب آخرون لأنّ الولايات المتحدة ستتفاوض مع نظام «وضيع» مثل إيران، مع سجلّها المروّع في حقوق الإنسان، وحثَّ، بدلًا من ذلك، على السعي إلى إقامة «حلف مدعوم أميركياً بين إسرائيل والدول السنّيّة» ــ بحسب ليون فايسلتيير، المحرر المشارك في الدوريّة الليبراليّة المحترمة ذي أتلانتك، الذي يعجز، إلّا بالكاد عن إخفاء كراهيته العميقة لكلّ ما هو إيرانيّ. ويوصي هذا المثقّف الليبراليّ المحترم بصرامة أنّ من الواجب على العربيّة السعوديّة، التي تجعل من إيران تبدو جنّة فعليّة بالمقارنة معها، وإسرائيل، بجرائمها الشنيعة في غزة وأماكن أخرى، التحالف لتلقين إيران درساً جيداً. ربما لا تكون هذه التوصية لامعقولة كلياً لو تأملنا في سجل حقوق الإنسان للأنظمة التي فرضتها الولايات المتحدة ودعمتها في أنحاء العالم.
بلا شك، تشكّل الحكومة الإيرانيّة تهديداً لشعبها، بالرغم أنها ــ للأسف ــ لا تحطّم الأرقام القياسيّة في هذا المجال، ولا تصل إلى مستوى الحلفاء المقرّبين. لكنّ هذا ليس محور قلق الولايات المتحدة، أو إسرائيل والعربيّة السعوديّة بكل تأكيد.
كما أنّ من المفيد التذكير ــ كما يتذكّر الإيرانيّون حتماً ــ بأنّ يوماً لم يمرّ منذ العام 1953 دون أن تقوم الولايات المتحدة بالإيذاء القاسي للإيرانيّين. حالما أطاح الإيرانيّون نظام الشاه المكروه المدعوم أميركياً عام 1979، سارعت واشنطن لدعم الهجوم الإجراميّ لصدّام حسين على إيران. بل مضى ريغان شوطًا أبعد حين أنكر جريمة حسين الكبرى، أي اعتداءه بالأسلحة الكيميائيّة على السكّان الأكراد في العراق، وألقى اللوم على إيران. عندما حوكم صدّام على الجرائم التي ارتكبها برعاية أميركية، تم إقصاء هذه الجريمة المروّعة من الاتهامات، إلى جانب جرائم أخرى كانت الولايات المتحدة متواطئة فيها، لتنحصر التهمة في إحدى أصغر جرائمه، قتل 148 شيعياً عام 1982، وهي التي لا تكاد تشكّل حاشيةً في سجلّه الإجراميّ الشنيع.
كان صدّام صديقاً مقرّباً من واشنطن إلى درجة أنّه مُنح امتيازاً لم يُمنَح إلا لإسرائيل: كان له الحصانة في مهاجمة سفينة بحريّة ما أودى بحياة 37 شخصاً من طاقمها ــ بارجة USS Stark عام 1987. وهذا ما فعلته إسرائيل في هجومها عام 1967 على البارجة USS Liberty. كادت إيران تسلّم بالهزيمة بعد فترة وجيزة من إطلاق الولايات المتحدة لعملية براينغ مانتيس ضد السفن الإيرانيّة ومنصّات النفط في المياه الإقليميّة الإيرانيّة. وكانت ذروة العمليّة في إسقاط طائرة مدنيّة إيرانيّة في المجال الجوّي الإيرانيّ من قِبل البارجة USS Vincennes، دون أن تشكّل الطائرة أيّ تهديد فعليّ، موقعةً 290 قتيلًا ــ والتتويج اللاحق لقائد البارجة بوسام شرف بسبب «تصرّفه الجدير بالتكريم على نحو استثنائيّ» ولمحافظته على «جوٍّ هادئ واحترافيّ» خلال الفترة التي حدث فيها الهجوم على الطائرة. «لا يسعنا إلا الوقوف رعباً بفعل هذا الإظهار للاستثنائيّة الأميركيّة»!، كما علّق ثل راغو.
بعد الحرب، تابعت الولايات المتحدة دعم عدوّ إيران الأساسيّ، أي عراق صدّام حسين. بل إنّ الرئيس بوش الأب قام بدعوة المهندسين النوويين العراقيين إلى الولايات المتحدة من أجل تدريب متقدّم في مجال إنتاج الأسلحة، ما شكّل تهديداً خطيراً جداً على إيران. وكُثّفت المقاطعة على إيران، بما فيها مقاطعة الشركات الأجنبيّة المتعاملة مع إيران، إضافة إلى أفعالٍ تهدف إلى منع إيران من الاستفادة من منظومة التمويل الدوليّة.
في السنوات الأخيرة، تزايد العداء ليصل مرحلة التخريب، وقتل علماء نوويين (عبر إسرائيل على الأغلب)، والحرب السيبريّة، حيث يتم كل هذا بجو من الغرور. يعتبر البنتاغون الحرب السيبريّة فعلاً حربياً، يبرّر رداً عسكرياً، بالتنسيق مع الناتو الذي أكّد في أيلول/سبتمبر 2014 على أنّ الهجمات السيبريّة قد تحرّض التزامات الدفاع الجماعيّة لقوى الناتو عندما نكون الهدف، لا المعتدين.
ولكن، من المنصف، على أية حال، الإضافة بأنّ ثمة انحرافات في النموذج قد حدثت. قدّم الرئيس بوش الابن هدايا كبيرة لإيران عبر تدمير عدوّيها الأساسيَّيْن، صدّام حسين وطالبان. بل إنّه وضع عدو إيران العراقيّ تحت التأثير الإيرانيّ بعد الهزيمة الأميركيّة التي كانت كبيرة جداً إلى حد أنّ الولايات المتحدة أُرغمت على التخلّي عن أهدافها المُعلَنة رسمياً بشأن إقامة قواعد عسكريّة، وضمان حرية دخول حصريّة للشركات الأميركيّة إلى مصادر النفط الهائلة في العراق.
هل ينوي القادة الإيرانيّون تطوير أسلحة نووية اليوم؟ بإمكاننا اتّخاذ القرار بأنفسنا بشأن مدى معقوليّة إنكاراتهم، أما بشأن وجود نوايا كهذه في الماضي، فالأمر خارج نطاق التشكيك، بما أنّ التأكيد كان علنياً على مستوى السلطة الأعلى التي أعلمت الصحافيّين الأجانب بأنّ إيران ستطوّر أسلحة نوويّة «بكل تأكيد، وأسرع مما قد يعتقده المرء». وقد كان أبو برنامج الطاقة النووية الإيرانية والرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرّية واثقاً من أنّ خطّة القيادة «كانت تهدف إلى صناعة قنبلة نوويّة». كما أشار تقرير للسي آي إيه إلى «عدم وجود أدنى شك» بأنّ إيران ستطوّر أسلحة نوويّة لو قام جيرانها بذلك (وهذا ما فعلوه).
كلّ هذا كان تحت حُكم الشاه، السلطة الأعلى المُشار إليها. أي خلال الفترة التي كان فيها المسؤولون الأميركيّون البارزون ــ تشيني، رامسفلد، كيسنجر، وآخرون ــ يحثّون الشاه على متابعة البرامج النووية، ويضغطون على الجامعات لدعم تلك النشاطات. تحت هذه الضغوط، عقدت جامعتا إم آي تي، اتفاقاً مع الشاه لإدخال الطلاب الإيرانيّين في برنامج الهندسة النووية مقابل هبات مالية من الشاه، بمواجهة اعتراضات قوية جداً من الهيئة الطلابية، مقابل دعم قوي من الإدارة، في اجتماع سيتذكّره الكادر القديم في الجامعة جيداً دون أدنى شك. ولدى سؤاله لاحقاً عن سبب دعم هذه البرامج حين كانت تحت حكم الشاه، ومعارضتها حالياً، أجاب كيسنجر بصراحة بأنّ إيران كانت حليفاً آنذاك.
بعيداً عن السخافات، ما هو تهديد إيران القوي الذي يسبّب كل هذا الخوف والحنق؟ المكان الطبيعي الذي نلجأ إليه من أجل الحصول على إجابة، هو الاستخبارات الأميركية مجدداً. تذكّروا تحليلها القائل إنّ إيران لا تشكّل أيّ تهديد عسكريّ، وإنّ مبادئها الاستراتيجيّة دفاعيّة، وبرامجها النووية (حيث ليس ثمة جهود تُبذل لتصنيع القنابل، على حدّ علم الاستخبارات) «جزء جوهريّ من استراتيجيّتها الردعيّة».
مَنْ، إذاً، سيهتمّ بإجراء ردعيّ إيرانيّ؟ الإجابة بسيطة: الدول المؤذية التي تهتاج في المنطقة ولا تريد التسامح مع أيّ شرط بشأن اعتمادها على العدوان والعنف. سنجد في الطليعة الولايات المتحدة وإسرائيل، مع العربية السعودية التي تسعى بكلّ جهدها للانضمام إلى النادي عبر غزوها للبحرين لدعم سحق الحركة الإصلاحية من قِبل الدكتاتوريّة، والآن هجومها الدمويّ على اليمن، مسبّبةً تعاظم الكارثة الإنسانية هناك. وهذا التوصيف متناغم مع الولايات المتحدة. قبل خمسة عشر عاماً، حذّر بروفيسور علم الحُكم في جامعة هارفرد، المحلّل السياسيّ البارز سامويل هنتنغتون في الدوريّة المكرّسة فورين أفيرز، من أنّ الولايات المتحدة، بالنسبة إلى معظم دول العالم «أصبحت القوة الكبرى الخبيثة»، وذلك بسبب «التهديد الخارجيّ الأعظم الذي تشكّله على مجتمعات تلك الدول». وقد تكرّرت كلماته بعد فترة وجيزة على لسان رئيس الجمعيّة الأميركيّة للعلوم السياسيّة، روبرت جيرفس، الذي أشار إلى أنه «في عيون معظم دول العالم، في الواقع، تعتبر الولايات المتحدة هي الدولة الخبيثة الأساسيّة». وكما رأينا، يدعم الرأي العام الدوليّ هذا الرأي اليوم بنسبة كبيرة.
علاوة على ذلك، تُرتدى العباءة بكثير من الغرور. هذا هو المعنى الواضح لإصرار القيادة والطبقة السياسية، في وسائل الإعلام والتعليقات، على أنّ الولايات المتحدة تحتفظ بحق اللجوء إلى القوة لو قرّرت، وعلى نحو أحاديّ، بأنّ إيران تنتهك التزاماً ما. وهذا أيضاً مبدأ رسميّ مديد للديمقراطيّين الليبراليّين، إذ إنّ العقيدة الكلنتونيّة، مثلًا، تنص على أن للولايات المتحدة حق اللجوء إلى «الاستخدام الحاديّ للقوة العسكريّة» حتى لو كان هذا لغايات مثل «حرية وصول مستهترة إلى الأسواق الرئيسيّة، ومنابع الطاقة، والموارد الاستراتيجيّة»، دع عنك الاهتمامات «الأمنيّة» أو «الإنسانيّة». وإنّ الالتزام بهذه العقيدة يتأكّد على نحو جيد في الممارسة، إذ يكاد لا يكون ثمة داعٍ لمناقشة هذا بين الناس الراغبين بالنظر إلى وقائع التاريخ الحاليّ.
تلك هي بعض المسائل الحسّاسة التي ينبغي أن تكون محور التركيز في تحليل الاتفاق النوويّ في فيينا، سواء دعمه الكونغرس أو خرّبه، كما سنكتشف لاحقاً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.