العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

حركة «بوديموس» الإسبانية

إننا نستطيع!

النسخة الورقية

كانوا سبعة، في 17 كانون الثاني/ يناير 2014، لتقديم مبادرة بوديموس Podemos (إننا نستطيع) في مسرح «تياترو ديل باريو» (مسرح الحي الشعبي) في لافابييس في مدريد. «قلنا في الشوارع، وفي الساحات، أجل، هذا ممكن، ونحن نقول اليوم أجل، نحن قادرون». هكذا قرر بابلو إغليسياس، أستاذ العلوم السياسية وعلم الاجتماع في جامعة كومبلوتنسي بمدريد ومقدّم برنامج «لا تويركا La Tuerka» المتلفز ومخرجه، أن يستهل الإعلان المفعم بالأمل الذي يُطلَق في هذا اليوم. «نحن لسنا لائحة. نحن صرخة. نحن الفرح لأننا الأكثرية!»، يتابع خوان كارلوس مونيديرو، وهو محرر وكاتب، وعلى غرار إغليسياس، أستاذ علوم سياسية في جامعة كومبلوتنسي. كان بين الحضور أيضاً زملاء لهما: أستاذة علم الإجتماع والباحثة كارولينا بسكانسا، والمحلل السياسي أنيغو إيريخون، إلى جانب الأخصائية في الطب النفسي آنا كاستانيو، والنقابية تيريزا رودريغز، والناشط الاجتماعي ميغيل أوربان. وقد أعلن الأعضاء السبعة المؤسسون أنّ «بوديموس» في طور التحوّل إلى حزب ــ حركة سيقدّم لائحة مرشحين للانتخابات البرلمانية الأوروبية في شهر أيار/ مايو.

بعد بضعة أسابيع، في 11 آذار/ مارس 2014، أصبحت حركة «بوديموس» رسمياً حزباً سياسياً وباشرت حملتها الانتخابية للبرلمان الأوروبي، بإدارة أنيغو إيريخون. وبفضل استراتيجية محددة للتواصل السياسي، ابتكرت «بوديموس» خطاباً جديداً يتمحور حول المفاهيم التي اغتصبتها الأحزاب الحاكمة في سبيل رسم الحدود بين نُخب النظام القائم ــ الطبقة الحاكمة ــ والشعب. وهكذا بالنسبة إلى عددٍ كبير من الإسبان، اكتسبت الديمقراطية، والشعب، والعدالة، والسيادة الشعبية واللياقة معنى جديداً. من خلال موارد قليلة، وتضامن كبير، وريادة إعلامية مميزة، وخطاب وطني ــ شعبي يتخطى التحديد الإيديولوجي أو الطبقي من دون التخلي في الوقت عينه عن النزاع، تضيف «بوديموس» مساحاتٍ جديدة إلى الساحة السياسية الإسبانية.

أما اقتراحاتها بالنسبة إلى الانتخابات البرلمانية الأوروبية فواضحة: على السلطة أن تكون مسؤولة أمام الشعب، وبخاصةٍ في ما يتعلق بقطاع الطاقة، والديون، ومسائل أخرى عدّة هي اليوم بين أيدي الأوليغارشية. ورؤية «بوديموس» استباقية. في هذا السياق، يطوّر هذا الفريق مجموعة إرشادات وضعها «فيلاريخو Villarejo» لمكافحة الفساد. وتقترح هذه المجموعة من الإرشادات سُبُلاً لتقصير فترة ولاية الممثلين السياسيين وخفض أجورهم، كما تطالب بالشفافية الاقتصادية وتعترض على تراكم مهمات المسؤول الواحد. ويطمح قادة حركة «بوديموس» الشباب إلى إجراء تدقيقٍ ومراجعة للديون واسترجاع مفهوم الوطن، الذي أُهمِل لوقتٍ طويل من قبل اليسار لصالح اليمين، «باعة الوطن» الذين سلّموا السيادة الإسبانية إلى الترويكا الأوروبية. وأخيراً يدعو قادة هذه الحركة إلى ابتعاد أوروبا عن الولايات المتحدة ويرون أنّ الحكومة الأميركية لم تتردد قطّ في إملاء سياسة الإتحاد الأوروبي خلال الأزمة الأوكرانية وتظاهرات ميدان الاستقلال في كييف.

في 25 أيار/ مايو، فاجأت «بوديموس» إسبانيا وأوروبا من خلال كسر الثنائية الحزبية بين الحزب الشعبي الإسباني اليميني وحزب العمال الاشتراكي الإسباني اللذين كانا يحتكران الساحة السياسية الإسبانية منذ نهاية ديكتاتورية فرانكو عام 1977 وبداية الانتقال الديمقراطي الإسباني. كانت نتائج الانتخابات إستثنائية بحيث جمع حزب العمال الاشتراكي الإسباني والحزب الشعبي الإسباني أقل من 50% من الأصوات. في حين كانا يملكان عام 2009 أكثر من 80%. أما «بوديموس» فقد حصلت على 1.200.000 صوت أي 8% من الأصوات و5 نواب منتخبين في البرلمان الأوروبي. في بروكسل، انضمّت «بوديموس» إلى مجموعة برلمانية أقلية تتألف من 52 نائباً، بيد أنّ الحماسة كانت بحيث إنّ بابلو إغليسياس طرح ترشيحه لمنصب الرئاسة، الذي فاز به في نهاية المطاف النائب الألماني مارتن شولز الذي أعيد انتخابه مع 409 أصوات.

تاريخ حزب بوديموس في بداياته منقطع النظير. فهو ينبع من صدق مجموعة متزايدة من الإسبان الذين فهموا الحاجة إلى بناء رواية، والثقة بالناس، وعدم الخوف، وطرح الأسئلة المناسبة، والتحدث، والمشاركة، والتلاقي والتبادل. ومنذ عام 2010 حتى 25 أيار/ مايو 2014، في غضون 4 سنواتٍ فقط، إنتقلت «بوديموس» من الاستنكار إلى التنظيم، ومن مقاعد جامعة كومبلوتنسي في مدريد إلى البرلمان الأوروبي.

في أي إطارٍ نشأت «بوديموس»؟ كيف يمكن تفسير نجاح هذا الحزب ــ الحركة؟ ما علاقة بابلو إغليسياس والأعضاء المؤسسين الآخرين بوسائل الإعلام؟ ما هي الأسس الإيديولوجية والفكرية لحركة «بوديموس»؟ ما الذي يميّزها عن اليسار التقليدي؟ ممّ تتألف بنية حركة «بوديموس»؟ وما هو مشروعها لإسبانيا اليوم؟

 

الانتقال الديمقراطي وأزمة 2008

عام 1975، ارتقى خوان كارلوس (والد فيليب، ملك إسبانيا الحالي) إلى عرش إسبانيا، وأعاد العمل بالدستور وقاد إسبانيا في «انتقالها الديمقراطي» في أعقاب النظام الذي أقامه الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو. نشأت فسحات خطابٍ جديدة في البلاد. وباتت الديمقراطية مرادفاً للرفاه وهي سوف تقدّم للإسبان خدماتٍ إجتماعية، وصحية، وتعليمية، وبنى تحتية ضخمة. كانت فكرة أوروبا تتبلور وتساهم في إعادة تشكيل النظام الانتاجي الإسباني وإعادة توجيهه نحو اقتصاد خدمات، يتمحور بشكلٍ أساسي حول السياحة والبناء. كان مفهوم المواطنية الإسبانية وما زال مستوحى من عهد فرانكو، كما أنّه كان يفترض التخلي عن السياسة مقابل نموذج ديمقراطية تمثيلية. بيد أنّ كل شيء تغيّر عام 2008، عندما اشتعلت الأزمة المالية العالمية وولّدت تأثيراتٍ لا يمكن السيطرة عليها على صعيد الثقافة الإيديولوجية في إسبانيا. وقد أصبحت انعكاساتها تصمّ الآذان ابتداء بعام 2010، خلال الموجة الثانية. وهكذا باتت المفاهيم المكتسبة والمقبولة خلال «الانتقال الديمقراطي» موضع شك. مع معدلات بطالة هائلة، وطرد جماعي، وإقتطاعات من الموازنة أملتها الترويكا (المفوضية الأوروبية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي)، بدا أنّ الديمقراطية التمثيلية لم تعد مرادفاً للرفاه. وثارت الشكوك أيضاً حول أوروبا وقد أدرك الإسبان، للمرة الأولى، منذ نهاية الحرب الأهلية عام ١٩٣٩، أنّ إسبانيا، عوضاً عن تحقيق تقدّم موعود منذ زمن، كانت في طور تراجعٍ رهيب.

 

التواصل السياسي الشعبي

على المستوى الأكاديمي، كان إغليسياس، وإيريخون، ومونيديرو، وبسكانسا يتأملون هذه التغيرات كلها. فجامعة كومبلوتنسي بمثابة فسحة للتجارب الاجتماعية والسياسية على المستوى النظري كما التطبيقي. هناك عددٌ كبير من الأساتذة والطلاب في صلب المنظمات ومجموعات الطلاب الجامعيين. وقد اجتمعت مجموعات عدة من الطلاب الجامعيين ابتداءً من عام 2011 من أجل صياغة مبادرة «شباب بلا مستقبل Juventud Sin Futuro» التي نشأت كنقيضٍ للتدابير المناهضة للمجتمع التي أوصت بها الترويكا والتي طبّقتها الحكومة الإسبانية. تزعم هذه المنظمات الشبابية أنّ النظام الرأسمالي غير عادل، وفوضوي، ولا يُحتمل. وترى المجموعات الملحقة بالكليات أنّ من واجبها «التدخل سياسياً في الجامعات التي تنتمي إليها، فتدمج بين الصرامة الفكرية والتطرف، والشرعية والعصيان».

تقوم «شباب بلا مستقبل» بعملية تعبئة وتشارك بشكلٍ فاعل في تظاهراتٍ مدريد. وفي جامعة كومبلوتنسي ذاتها، يؤسس أساتذة وباحثون من بينهم بابلو إغليسياس وأنيغو إيريخون مجموعة جديدة: «لا بروموتورا La Promotora» لتشجيع التفكير النقدي، وتحقيق التقارب بين العمل الأكاديمي الجاد والإنتاج الفكري الملتزم.

فضلاً عن ذلك، كان بابلو إغليسياس، وأنيغو إيريخون، وخوان كارلوس مونيديرو هم أيضاً في صلب «مركز الدراسات السياسية والاجتماعية»، وهي مجموعة بحث مناهضة للرأسمالية، لديها التزامات عميقة في أميركا اللاتينية. وعمل الباحثون والأساتذة الملحقون بهذا المركز مستشارين لدى عددٍ كبير من الحكومات مثل فنزويلا والإكوادور وبوليفيا والسلفادور وباراغواي. ويسود في مركز الدراسات السياسية والاجتماعية اعتقادٌ راسخ بأنّ أميركا اللاتينية هي المختبر الأكثر إثارة للاهتمام للتحولات الشعبية القادرة على توليد آمالٍ سياسية وإجتماعية كبيرة حول العالم.

من خلال مجموعة  «لا بروموتورا»، يلقي إغليسياس وزملاؤه محاضراتٍ وينظّمون مناظرات يجذب البعض منها اهتمام وسائل الإعلام. فإذا قناة Télé K، وهي قناة تلفزيونية إجتماعية محلية، رقمية، لا تبتغي الربح كما أنها واحدة من أقدم القنوات الاجتماعية في المدينة، تقترح على بابلو إغليسياس تقديم برنامج حواري متلفز. تسعى القناة إلى تعزيز حرية التعبير الحقيقية من خلال إعطاء الكلمة للحركات الاجتماعية والأقليات المنبوذة من وسائل الإعلام الجماهيرية. كذلك الأمر فهي تسهّل وصول المواطنين إلى وسائل الإعلام ومشاركتهم فيها.

إنجذب إغليسياس إلى فكرة التواصل السياسي الشعبي. ومن خلال «لا بروموتورا»، يرى رفاقه أنّ النضال عبر وسائل الإعلام ممكن، وأنّه لا بد من السعي إلى كسر احتكار اليمين، العدائي والمحافظ، للقنوات التلفزيونية الرقمية الأرضية الإسبانية. إنهم يريدون تكييف خطابٍ أكاديمي، مملّ في بعض الأحيان، مع النموذج السمعي البصري الأكثر جاذبية. بهذا المعنى، يسبح إغليسياس وزملاؤه عكس التيار. فاليسار التقليدي يكره التواصل السياسي، وبخاصةٍ ذلك الذي يستخدم وسائل سمعية بصرية، على اعتبار أنها تشوّش العقل. غير أنّ هؤلاء يقبلون التحدي بحماسة.

انطلقت بدايات برنامج «لا تويركا» ــ ويعني الغريب والخارج عن المألوف ــ من مركز متواضع لـ Télé K في فاليكاس، الحي العمالي في جنوب شرق مدريد، في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010. في البداية، كان هذا البرنامج يُعرَض كل يوم خميس وقد حقق نجاحاً شبه فوري.

من Télé K، انتقل عرض البرنامج إلى موقع Público الإلكتروني، فاخذ جمهور المشاهدين يتسع تدريجياً. تبدأ كل حلقة بمونولوج لإغليسياس أو مونيديرو، يليه نقاش تم أداء لموسيقى الراپ. تلقّى إغليسياس دعواتٍ للظهور على الشاشات الإسبانية البارزة وقد أصبح أيقونة إعلامية حقيقية وقائداً مهاباً. يتهمهم خصومهم بالشعبوية. غير أنّ إغليسياس لا يتراجع: «الشعبويون الحقيقيون هم من يقطعون وعوداً يصعب الوفاء بها».

أصبح برنامج «لا تويركا» البذرة التي أنبتت حركة «بوديموس»، فقد سمح هذا البرنامج لنواة جامعة كومبلوتنسي بالتوفيق بين النظري والتطبيقي. تصوّروا مفاهيم مثال الطبقة الاجتماعية، أو الدولة أو الاشتراكية أو الديمقراطية، أو السلطة، أو الأوليغارشية، أو الثورة أو الهيمنة واخذوا يشرحونها. ومنذ ذلك الحين اتخذت هذه المصطلحات معنى ملموساً وتحكّمت بممارسات وتوازنات عاشها مئات آلاف الإسبان.

«الغاضبون» في الميدان

 فيما كان برنامج «لا تويركا» في بداية انطلاقته، كانت انعكاسات الأزمة تتفاقم في إسبانيا. بلغ الاستياء ذروته في مدريد بشكلٍ خاص. وخلال الأشهر الأولى من عام 2011، شجبت مجموعات عدّة من بينها «شباب بلا مستقبل»، ومشروع «الديمقراطية الحقيقية الآن» ومجموعات عدّة أخرى التدابير التقشفية ودعت إلى التعبئة. وفي 15 أيار/ مايو 2011، وصل أنيغو إيريخون إلى مدريد، آتياً من كيتو، عاصمة الإكوادور حيث كان يُجري أبحاثاً من أجل أطروحة الدكتوراه. فتوجّه مباشرة إلى ساحة «بويرتا ديل سول»، وهناك كما في عدّة مدنٍ أخرى في إسبانيا، احتشد مئات آلاف المتظاهرين. كانوا يناهضون الرأسمالية، ويؤيدون العولمة البديلة، ويسمون «الغاضبين» في إشارة إلى البيان الشهير للكاتب والمناضل السياسي ستيفان هيسيل الذي ينادي: «اغضبوا!». فالسبب الأساسي للمقاومة هو الغضب.

أخذت حركة «الغاضبون»، أو حركة 15 أيار/ مايو الجميع على حين غرّة. سعى إغليسياس ورفاقه إلى فهم التغيير الذي أدخلته هذه الحركة في الثقافة السياسية الإسبانية. فاستشفوا منه سؤالين (دون أن يجدوا أي أجوبة): وقد طُرح أحدهما على الاقتصاد الذي يعامل الإنسان وكأنّه سلعة والثاني على الديمقراطية التمثيلية التي باءت بالفشل.

جعلت حركة 15 أيار/ مايو الناس يدركون غياب البديل، غيابٌ قررت «بوديموس» أن تحوّله إلى فرصة: «إما أن نشكّل هذا البديل وإما أن يُعاد تشكيل السلطة». تحليل إغليسياس وزملائه ماركسي، وهو يثبت عجز الرأسمالية عن التعافي بعد كل أزمة. باتت التدابير السابية التي استخدمت سابقاً غير قابلة للاستعمال خلال الأزمة المقبلة: استرداد معدل الربح من خلال تحويل التكاليف إلى الأجيال المستقبلية، وتدمير الطبيعة أكثر فأكثر، وجعل بلدان الجنوب، ومن بينها إسبانيا، تدفع ثمن فقدان أرباح الشركات الكبرى.

 

«بوديموس»، الحزب ــ الحركة

أثيرت خطة تحوّل «بوديموس» إلى «حزب ــ حركة» في آب/ أغسطس 2013، خلال عشاء نظّمه «اليسار المناهض للرأسمالية Izquierda Anticapitalista»، وهو حزب سياسي راديكالي صغير. اتفق إغليسياس وميغيل أوربان من اليسار المناهض للرأسمالية على العمل معاً. وقد رفض الائتلاف اليساري الإسباني الآخر، «اليسار الموحّد Izquierda Unità» بقيادة الشيوعيين، المشاركة في تحرك يساري بهذا الغموض.

كانت الخطة المعدّة لـ«بوديموس» بعيدة المنال، وطموحة جداً، كما أنّها تمتد على 18 شهراً وتهدف إلى الإطاحة بحزب العمال الاشتراكي الإسباني وبرئيس الوزراء ماريانو راخوي براي خلال الانتخابات العامة المقررة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. تعتبر الانتخابات البرلمانية الأوروبية الاختبار الأول بالنسبة إلى الحزب ــ الحركة الناشئ. وخلال الاجتماع في «تياترو ديل باريو» في لافابييس في مدريد، أعلن إغليسياس ترشّحه على رأس لائحة انتخابية إذا وقّع 50 ألف شخص عريضة على الموقع الإلكتروني لهذه المجموعة. مضت 24 ساعة وتهافت بعدئذٍ المنتسبون إلى هذا الموقع الإلكتروني، فتم توقيع العريضة وانطلقت الماكينة الانتخابية.

تستمد «بوديموس» قوّتها وقراراتها من الجماعات المحلية على غرار «الغاضبون». قد تلتقي هذه الجماعات وتناقش مواضيع مختلفة، وتقوم بالتصويت شخصياً أو على الإنترنت. عندما أصبحت «بوديموس» رسمياً حزباً سياسياً في آذار/ مارس 2014، وضعت البنية الأصلية للحزب. وفي 17 و18 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، انعقدت جمعية المواطنين في «قصر فيستألغري» بمدريد. حضر أكثر من 8000 شخص وناقشوا سوياً هذه البنية وصوتوا على تبني الوثائق التأسيسية الثلاث للحزب – الحركة: المبادئ السياسية، والأسس التنظيمية، والميثاق الأخلاقي.

وبموجب الوثائق التي اعتُمدَت في هذا اليوم، أصبحت جمعية المواطنين تجسّد مجموعة المواطنين المسجلين، وهي تضم اليوم 350 ألف شخص تقريباً. ويتمثل دورها في مناقشة القرارات البارزة والتصويت عليها (البرنامج الانتخابي، والانتخابات التمهيدية، وانتخابات المناصب الداخلية، والاستراتيجية السياسية... ). للانتساب إليها، يكفي أن يتجاوز عمرك الـ18 عاماً، وأن تقبل بالميثاق الأخلاقي، وأن تلتزم بالمشاركة بمشروع «بوديموس». فضلاً عن ذلك، تنبثق عن «بوديموس» ثلاث هيئات أخرى، تُنتَخَب جميعها مباشرة من قبل الجمعية: الأمانة العامة (برئاسة إغليسياس، منتخب)، ومجلس المواطنين (الجهاز التنفيذي) ولجنة الضمانات الديمقراطية.

بدأت حركة «بوديموس» مسيرتها من دون أموال، وقد التزم إغليسياس ورفاقه بعدم الاعتماد على المصارف وعلى الشركات الكبرى. خلال اجتماعات دوائر الحركة في مناطق مختلفة من البلاد، يتلقون تبرعات ويطورون رويداً رويداً استراتيجية تمويلهم. وتنضوي هذه الأخيرة على ثلاثة مبادئ: الاستقلالية المالية (تتكوّن 98% من ميزانية حركة «بوديموس» من التبرعات)، والابتكار (المستوحى من الاقتصاد القائم على المشاركة، ومن القروض الصغرى، والتمويل الجماعي ومشاريع التعاون الدورية) والشفافية. كل ثلاثة أشهر، تنشر الحسابات والنفقات على الموقع الإلكتروني ويُلزَم أعضاء الأمانة العامة والمجالس المختلفة بالإعلان عن مداخيلهم.

فضلاً عن ذلك، تساهم شبكات التواصل الاجتماعية والإنترنت في زخم حركة «بوديموس». تسهّل تكنولوجيا الاتصال الجديدة مشاركة الجميع في حياة الحزب وتشكّل صلة الوصل التي تشدّ بنية «بوديموس». لا حاجة إلى المندوبين فمؤيدو الحركة المجتمعون في دوائر يصوتون على الوثائق السياسية عبر الإنترنت. حضور «بوديموس» على الشبكات الاجتماعية جليّ: برنامج Appgree، ومنتدى بلازا بوديموس Podemos موجودة على موقعReddit، وثمّة حساب على موقع تويتر (له 710 آلاف متابع) وموقع على «فيسبوك» (979 ألف إعجاب).

 

الأسس الفكرية

بالنسبة إلى الذين شكّلوا نواة «بوديموس» التأسيسية من جامعة كومبلوتنسي، لا تقتصر السياسة على الإصغاء إلى ما ينبع من المجتمع وحسب. فالسياسة تقضي قبل كل شيء وبشكلٍ خاص ببناء مدلولات واقتراحها حتى إن لم تنجح الأمور دائماً. وأسوة برفاقهم اليونانيين في «سيريزا» (ائتلاف اليسار الراديكالي)، يستمدّ قادة حزب «بوديموس» الإسبان الشبان مبادئهم الفكرية من كتابات الفيلسوفين السياسيين آرنستو لاكلو وشانتال موف اللذين وقعا معاً كتاب «الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية» وندين لهما بإعادة تأهيل الشعبوية في التيارات اليسارية. كذلك، يعتبر عمل وفكر المنظّر السياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي يرى في الهيمنة الثقافية أساساً للنضال السياسي، حاضريَن بقوة هما أيضاً. وبالنسبة إلى إغليسياس ومونيديرو وإيريخون ورفاقهم، تمثّل نظرية لاكلو الشعبوية وسيلة.

لا يكفي إيجاد ذريعة بسيطة لكبح غضب الناس، بل ينبغي أيضاَ الفهم أنّ هذا الغضب ليس اعتباطياً والاهتمام بأسبابه. وبهذه الطريقة، يستمدّون العِبَر من تجربة اليسار اللاتيني الأميركي الجديد. يعتبر تشكيل موضوعٍ سياسي جديد وإطارٍ إيديولوجي جديد مهماً بالنسبة إليهم. وهم يرون أنّه لا يمكن القيام بأي تجربة ديمقراطية من دون أجهزة الدولة. ويشكّل الالتزام القوي بالحقوق الاجتماعية وعالم العمل وتحسين ظروف المعيشة، والتعليم، والصحة، والسكن، والغذاء جزءًا من أولوياتهم. كذلك، هم يسعون إلى إنجاز تحالفاتٍ عالمية جديدة، تحكمها مبادئ جديدة.

إن مفهوم «الطغمة»، والمقصود النخبة الحاكمة، إحدى أبرز مقولاتهم. وغالباً ما يأتي إغليسياس على ذكر هذا المصطلح خلال مداخلاته الإعلامية المتعدّدة. ومفهوم الطغمة هو الآلية التي تستطيع من خلالها الطبقة المهيمنة اقتصادياً أن تتحوّل إلى الطبقة المهيمنة سياسياً. وتحتفظ هذه الطبقة بامتيازاتها كافة وتجتاح مؤسساتٍ أخرى أيضاً تابعة للدولة، مثال القضاء، والنقابات العمالية، وصفوف الموظفين الحكوميين، إلخ. تتخطّى مقاربة «بوديموس»، ذات الجذور اليسارية، الانقسامات التقليدية لليمين واليسار. إنهم القوم «الذين في الأسفل مقابل من هم في الأعلى» والذين يدعون إلى التغيير.

 

«بوديموس»

«بوديموس» عبارة عن تحرّك حركات على حد تعبير بابلو إغليسياس، تجمعات عفوية، من دون أساس، ولا قادة، مواطنون من كافة أنحاء إسبانيا إجتمعوا ليضعوا حداً للخوف والخضوع. وقد أدّت هذه المجموعات غير الرسمية دوراً حاسماً في فوز حركة «بوديموس» في انتخابات البرلمان الأوروبي في أيار/ مايو 2014. وبعد عام، سوف يبلغ عددهم تقريباً الألف خلية وهم لا ينحصرون داخل الأراضي الإسبانية. في الساحات العامة في مدريد وبرشلونة، تثور الحشود ابتهاجاً يوم الأحد 24 أيار/ مايو 2015. تُسلَّم مفاتيح المدينتين إلى «الغاضبين». وقد حققت «بوديموس» نجاحاً كبيراً في الانتخابات البلدية الإسبانية. فمثلاً، سوف تُنتخَب آدا كولاو عمدة لمدينة برشلونة، ومانويلا كارمينا، عمدة للعاصمة مدريد، وكلتاهما مدعومتان من حركة «بوديموس».

في آذار/ مارس 2015، قبل بضعة أشهر من الانتخابات العامة الإسبانية، كانت «بوديموس» في طليعة إستطلاعات الرأي مع 22% من الآراء المؤيدة. بيد أنّ خلافاتٍ مع اليسار الموحّد وعدد من الأحزاب اليسارية الأخرى، واتهامات بالتخلي عن القيم الراديكالية، واستقالة مونيديرو، وتأثيرات الأحداث الأخيرة في اليونان جعلتها تتراجع. وفي استطلاعٍ للرأي أجرته «رويترز» في 19 تموز/ يوليو، قبل 5 أشهر من الانتخابات التشريعية، لم يعد لدى «بوديموس» سوى 15% من الآراء المؤيدة. وبذلك، بات على هذا الحزب ــ الحركة وخلايا العمل جاهدين بلا كلل ولا ملل على تعزيز موقفهم قبل الانتخابات العامة الإسبانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. غامر إغليسياس برِهانٍ طموح، قبل 18 شهراً. وعد بإطاحة ماريانو راخوي وبأن يصبح رئيس وزراء إسبانيا المقبل. هل سيربح رهانه؟


المراجع:

  • Bescansa, Carolina, Iñigo Errejón, Pablo Iglesias, Juan Carlos Monedero, Ana Dominguez, and Luis Giménez. Claro Que Podemos. De La Tuerka a La Esperanza Del Cambio En España. Barcelone: Los Libros Del Lince, Nov. 2014. Paru en Français aux Editions Indigènes, Mai 2015.
  • Rios, Pere. «A NEW POLITICAL FORCE. Podemos Is Breathing New Life into a Decadent Democracy.» El Pais, May 29, 2014.
  • E. Cué, Carlos. «Spain's Two-party System Dealt Major Blow in EU Elections.»
  • El Pais, May 26, 2014. Accessed August 16, 2015.
  • «Las raíces de Podemos». ABC
  • http://www.abc.es/videos-espana/20140531/raices-podemos-3598546833001.html
  • Morel, Sandrine. «Séisme Politique En Espagne.» Le Monde, May 25, 2015.
  • Tremlett, Giles. «The Podemos Revolution: How a Small Group of Radical Academics Changed European Politics.» The Guardian, March 31, 2015.
  • Ortiz, Jean. «Podemos Et La Machine à Perdre» L'Humanité, July 22, 2015.
العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥
إننا نستطيع!

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.