كان إيمو مانيسيه في السادسة عشرة من العمر عندما التقى رئيس الأوروغواي الحالي، خوسيه موخيكا. ففي يوم ربيعي من عام ١٩٦٩، كان مانيسيه في المنزل وحده مع شقيقته بياتريس، عندما اندفع الرئيس المستقبلي من المصعد خارج منزلهم في مونتيفيديو وهو يمسك بمسدسٍ في يده. وأعلن بصوتٍ عالٍ: «استدر، وأغلق فمك، وأبقِ يديك فوق رأسك!». فتعرف مانيسيه على الفور إلى العينين الضيقتين والشعر البني الكثيف والمجعد لأحد أشهر أعضاء عصبة التوپاماروس العنيفة والجريئة. ويتذكر أنّه بعد أن هدأ احساسه الأولي بالذعر، شعر بهدوء غريب. وقال لي وكيل السفر الذي يبلغ اليوم ٦٢ عاماً عندما التقينا في المكتبة المفضلة لديه في مونتيفيديو، على مسافة قصيرة من المياه العكرة لنهر بلاتا الكبير: «أذكر أنني قلت للشاب المسلح الذي كان برفقته ألا يقلق فأنا لن أفعل أي شيء». أما شقيقته التي كانت تعاني من شلل الأطفال وتستعمل كرسياً مدولباً فنُقِلت إلى غرفة أخرى. وقال لها موخيكا: «لا تقلقي أيتها الجدة، لن يصيبك أي مكروه، فلا علاقة لك بذلك»، وعبارة التحبب العامية «أيتها الجدة» هي إحدى العبارات الشائعة على لسان موخيكا.
كان زوج والدة مانيسيه، خوسيه بيدرو بوربورا، قاضٍ سيئ السمعة، تربطه علاقات مع اليمين المتطرف في الاوروغواي وهو يملك مخزوناً من المسدسات. بعد أن غادرت العصبة، آخذة معها وثائق وأسلحة، أخبر مانيسيه أقاربه بأنّه كان مستاءً فقط لأنّ عصبة التوپاماروس سرقت آلة كاتبة كان يستعملها لواجباته المدرسية. وفي اليوم التالي، رنّ جرس الهاتف وقال له صوتٌ: «هذا نحن، الأشخاص نفسهم من يوم أمس». فشعر فجأة بالخوف مجدداً. لقد علموا بطريقة ما بشأن الآلة الكاتبة. وإذا أراد استرجاعها، قال له الصوت، يمكنه أن يجدها في بهو مبنى مجاور. وأوضح: «كما هو متوقع كانت هناك. تركوا عليها رسالة مطبوعة موجهة إلى زوج والدتي جاء فيها «حذار دكتور، نحن نراقبك»». وفي السنة التالية، رشت وحدة من التوپاماروس مبناهم بالأسلحة الرشاشة في محاولة لاغتيال الدكتور بوربورا.
استفتاء على الشعبية
خلال الانتخابات الرئاسية الماضية في الأوروغواي، منذ خمس سنوات، أدلى مانيسيه بصوته لصالح موخيكا وحزبه «الجبهة العريضة»، تحالف يساري أزاح أولاً حزب كولورادو المسيطر والحزب الوطني عام ٢٠٠٥، مع انتخاب سلف موخيكا المعتدل، تاباري فاسكيز. وأوضح مانيسيه: «من المتوقع ربما أن أشعر بالمرارة حياله، لكنه الشخص الوحيد الذي يطبق ما يعظ به». ومنذ ذلك الحين، أدار حكومة الاوروغواي واقتصادها المزدهر هذا الثوري السابق الذي ما زال ينادي بالمثل الثورية. ما زال موخيكا يتمتع بالشعبية لكن لا يستطيع الرؤساء أن يخدموا ولايتين متتاليتين: مع ذلك، مثلت الانتخابات في ٢٦ تشرين الأول/أكتوبر استفتاءً على حكومته اليسارية البراغماتية.
ويُذكَر في هذا السياق أنّ موخيكا حقق شهرة عالمية بصفته متحدثاً مشاكساً يقول الحقيقة: حصدت خطاباته التي تنتقد النزعة الاستهلاكية المتفشية في مؤتمر ريو + ٢٠ عام ٢٠١٢، وفي الأمم المتحدة في نيويورك في العام التالي، ثلاث ملايين مشاهد على موقع «يوتيوب». وسأل الحضور في ريو: «ما الذي سيحدث لهذا الكوكب لو امتلك الهنود عدد السيارات نفسه لكل أسرة كما في ألمانيا؟ ما هي كمية الاوكسيجين المتبقية لنا؟». وفي الأمم المتحدة، طلب من النواب الكف عن الذهاب إلى مؤتمرات القمة المكلفة والمسرفة التي لا تحقق شيئاً. يدعوه البعض نيلسون مانديلا أميركا اللاتينية مستذكرين السنوات الـ١٣ التي أمضاها في السجن. فيما يرى آخرون فيه ليبرالياً اجتماعياً رائداً، طرح تشريع القنب الأكثر ابتكاراً في العالم، فضلاً عن زواج المثليين واباحة الاجهاض. غير أنّه يشتهر في الغالب بطريقة عيشه. فهذا الرجل الذي يلقبه معظم أبناء بلده الأوروغواي بـ«پيپي» يقود سيارة من نوع «فولكس فاغن بيتل (خنفسة)» عمرها ٢٥ عاماً، ويعيش في منزلٍ صغير قائم على ملكية صغيرة في الريف، ويتبرع بـ٩٠٪ من راتبه للاعمال الخيرية. إلا أنّ أسلوبه الخشن المتعمَّد والعملي يسعد الفقراء من أبناء بلده، مع أنه أسلوب ناجح أيضاً في التعامل مع جزء من الطبقة الوسطى – وهو أسلوب فشل بوضوح قادة شعبويون آخرون في أميركا اللاتينية في تقليده، أي استذكار المحرر العظيم سيمون بوليفار بشكل دائم. ويدعي منتقدو موخيكا أنّه يُعنى بالأسلوب أكثر منه بالمضمون – فهو رجل عجوز جذاب وضع جانباً مسدسه ومثله الثورية. في قارة أصبحت تمثل المختبر الأكبر في العالم للأنظمة اليسارية البديلة، التي يدعي كل منها أنّه عثر على الوصفة السحرية، ما زال الكثيرون يعجزون عن أن يقرروا ما إذا كان بطلاً أو خائناً.
العنف لغايات حسنة
في صيف عام ١٩٦٩، قرع ضابط شرطة باب بنك استثماري صغير في مونتيفيديو، كان يملكه جزئياً وزير في الحكومة. فأدخله الموظفون، واكتشفوا عندئذٍ أنّه من مجموعة التوپاماروس. وتبعه عدة مسلحين آخرين. أخذوا ما يعادل ١٠٠ ألف دولار بحسب قيمة المال حالياً، لكن طلبوا أيضاً دفاتر حسابات البنك. ذلك أنّ موظفة في البنك، لوسيا توبولانسكي، أفصحت للـ«توباماروس» بأنّ البنك يقوم بصفقات نقدية غير شرعية، وكانت شقيقتها التوأم ماريا اليا، واحدة من المقاتلين الذين نفذوا هذا الهجوم. ترك مقاتلو التوپاماروس دفاتر حسابات البنك في منزل أحد المدعين العامين – فأُدخِل بالتالي بعض المتورطين في هذه العمليات غير المشروعة إلى السجن. وقد شكّل ذلك مثالاً على أسلوب «الدعاية المسلحة» المميز: كان استخدام العنف مقبولاً، لكنه يصبح مقبولاً بشكلٍ أفضل عندما يثبت أنّه يستخدم لغايات حسنة.
كانت الشقيقتان توبولانسكي تتحدران من عائلة ميسورة في حي بوسيتوس الراقي. وقد أخبرتني لوسيا في مكتبها في البرلمان في مونتيفيديو حيث تتولى الآن منصب عضو بارز في مجلس الشيوخ: «في الأوروغواي هناك أشخاص ميسورون وليس أثرياء». شَعر لوسيا فضي اللون وعيناها بُنيتان باسمتان، وقد خضعت لجراحة ترميم للأنف على يد جراح من التوپاماروس حاول أن يغيّر مظهرها الخارجي بعد خروجها من السجن. تزوجت موخيكا عام ٢٠٠٥، بعد ٢٠ سنة من العيش معاً – و١٣ سنة من الانفصال، عندما اعتُقلا في سجنين منفصلين. وعندما أصبح رئيساً، تمثلت مهمتها في جعله يؤدي اليمين الدستورية. وقالت: «كتيبة الجيش التي اعتقلتنا نحن الاثنين تحرس الآن مبنى المجلس التشريعي. وكان أصدقاؤنا هناك، يضحكون ويهتفون: «حان الوقت لكي يكرموكما»».
كانت توبولانسكي تلقّب في صباها بـ «النحيلة» لكنّ عصبةالتوپاماروس لقبتها بـ «الجذع» لأنّها كانت قاسية جداً. كذلك، تربّى موخيكا على يد امرأة تتمسك بالمثل بإرادة قوية، وهي والدته لوسي. توفي والد موخيكا عام ١٩٤٣، عندما كان في الثامنة من عمره فقط. وسرعان ما عمل كعامل توصيل لحساب مخبز محلي في حي «باسو دي لا أرينا» شبه الريفي، وعمد إلى بيع «زنابق الأروم» المقطوفة من النهر الصغير خلف منزلهم، لمساعدة العائلة على تغطية النفقات كلها. كانت بداية القرن العشرين مبهرة بالنسبة إلى الأوروغواي، فقد أرسلت الصوف ولحم البقر إلى أوروبا الجائعة التي مزقتها الحرب؛ وبحلول العام ١٩٣٠ اعتبرت واحدة من الدول العشرة الأغنى في العالم من حيث متوسط دخل الفرد فيها. كذلك، حظيت الأوروغواي الصغيرة بتشريعات إجتماعية متبصرة، مع تحديد يوم العمل بثماني ساعات ومع إجازة أمومة وقد أسماها البعض سويسرا أميركا اللاتينية. حتى أنها فازت ببطولة كأس العالم لكرة القدم عامي ١٩٣٠ و١٩٥٠، على الرغم من أنّ عدد سكانها لم يتجاوز يوماً الـ٣.٥ مليون نسمة. لكن في سني نشأة موخيكا، بدأت هذه المعجزة بالانهيار.
غيفارا والتحول
في فترة شبابه، عمل موخيكا لدى انريكي ارو، سياسي يساري يتمتع بالشعبية، لكنه اختبر صحوة سياسية مفاجئة عندما التقى تشي غيفارا في كوبا بعد الثورة. وبما أنّ جزءًا كبيراً من أميركا اللاتينية وقع ضحية الأزمات والتراجع، ألّف ادواردو غاليانو، وهو كاتب من الاوروغواي، كتاباً جديداً يتحدث عن اليسار في هذه القارة بعنوان «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية». وكتب غاليانو: «عام ١٩٧١ أحاطت سحابة من السرية حالات الموت بسبب الفقر في أميركا اللاتينية، ففي كل سنة، وبدون اصدار أي صوت، تنفجر ثلاث قنابل كقنبلة هيروشيما فوق المجتمعات التي أصبحت معتادة على أن تعاني بصمت». ومع التضخم الهائل والاقتصاد الراكد الذي تعاني منه الاوروغواي، قرر موخيكا ورفاقه أن يحذوا حذو كوبا، من خلال تدمير النظام القديم وتجربة شيء جديد – على الرغم من أنّه لم يتضح يوماً ما هو هذا الشيء الجديد. لم تكن في الاوروغواي جبال يمكن الاختباء فيها، وبما ان مدينة مونتيفيديو التي تشرف على سهل خصيب تملأه الأغنام وماشية «هيرفورد» البيضاء اللون هي ايضا، أصبحوا مقاتلين مدينيين استمدوا حصلوا على اسمهم من ثائر پيروڤي من القرن الـ١٨، توباك أمارو Iالثاني وقد مثلت عصبة التوپاماروس حركة واسعة – قاد جزءًا منها كاهن – لا تخشى المغامرات، حتى المكلفة منها. وانطبع تاريخها بالتجربة والخطأ، بدلاً من العقيدة، وما زالت الحال كذلك حتى اليوم.
وسرعان ما اكتسب أفراد العصبة سمعة عن أدائهم المسرحي الجريء. ذلك أنّ هجوماً على بلدة باندو شهد على تجولهم في الشارع الرئيسي متنكرين في هيئة موكب جنازة. وبعد عملية سرقة في كازينو سان رفايل في بونتا ديل ايستي، وهي بلدة سياحية فخمة، أعادت العصبة صندوق اكراميات الموظفين. وقد وصفت مجلة «تايم» هؤلاء المقاتلين بـ«مقاتلين على طريقة روبن هود». بيد أنّ الأشخاص الذين يحملون أسلحة ينتهون باستعمالها. وبذلك قضى ستة في الهجوم على بلدة باندو. وفي شهر آذار/ مارس ١٩٧٠، تعرّف شرطي في إحدى الحانات على موخيكا. فسحب «ال پيپي» مسدسه فجُرِح شرطيان وأصيب موخيكا بست طلقات نارية. فتم إرساله إلى سجن بونتا كاريتاس – الذي سيتحول لاحقاً إلى مركز تجاري جذاب يطل على نهر پلاتا من أقصى جنوب مونتيفيديو. هرب منه موخيكا مرتين. فضلاً عن ذلك، شارك مراهقون سريعو التأثر والانفعال كمانيسيه في التظاهرات الطلابية، ورموا الحجارة على رجال الشرطة مع توسع رقعة التظاهرات على امتداد تلك الدولة التي اعتبرت لوقتٍ طويل الأكثر هدوءًا واعتدالاً في المنطقة.
ثم أتخذت الأمور منحى خاطئاً إذ مزّقت عمليات الخطف والتفجيرات وعمليات الاعدام بدمٍ بارد سمعة التوپاماروس الرومنسية. فاستدعي الجيش، وفي أقل من سنة، تم القضاء على عصبة التوپاماروس. وكان موخيكا واحداً من آخر من ألقي القبض عليهم، في آب/ أغسطس ١٩٧٢، فيما هو نائماً في العراء ومعه مسدس رشاش من نوع «عوزي» وقنبلة يدوية تحت معطفه. وفي حزيران/ يونيو ١٩٧٣، قاد خوان ماريا بوردابيري من حزب كولورادو، وهو رئيس استبدادي يربّي الماشية، انقلاباً عسكرياً مدنياً، أنهى عهد الديمقراطية. وألقى الكثيرون اللوم على التوپاماروس بالتسبب في ذلك.
سنوات الاعتقال الطويلة
نقل تسعة من قادة التوپاماروس من زنزاناتهم وأرسلوا إلى معسكرات الجيش كرهائن – ليُقتلوا إذا عادت هذه المجموعة إلى الحياة. وقد أمضى الشاعر والروائي والكاتب المسرحي ماوريسيو روزنكوف ١١ عاماً في زنزانة صغيرة بجوار موخيكا. وطوال سنوات عدة كما أخبرني روزنكوف، لم يتمكن الرهائن من التواصل إلا من خلال نقر شفرة مورس على جدران زنزانتهم. وبما أنّه حظر عليهم استعمال الحمام أكثر من مرة واحدة في اليوم، كانوا يبولون في زجاجات المياه ثم يتركون الرواسب لتستقر في القعر ويشربون الباقي – لأنّ المياه كانت نادرة أيضاً. وكان الوضع أسوأ بالنسبة إلى موخيكا الذي ألحقت الجروح الناتجة من الأعيرة النارية أضراراً بالغة بأمعائه. لقد جعلهم السجن الانفرادي شبه مجانين. فأصبح پيپي مقتنعاً بوجود جهاز تنصّت مخبأ في السقف. لقد أصمه ذلك الصوت الوهمي الذي في رأسه. وأخبرني روزنكوف، ٨١ عاماً الآن، أنّه «كان يضع الحجارة في فمه ليمنع نفسه من الصراخ». كذلك، كافح موخيكا في سبيل الحصول على الشيء الوحيد الذي يحتاج إليه بشدّة – مبولة. كان يُسمح للرهائن بالزيارات العائلية بين الحين والآخر، فأحضرت له والدته لوسي واحدة، لكن الحراس رفضوا اعطاءها اياها. وفي أحد الأيام، حين كان سجّانوه يقيمون حفلة، بدأ موخيكا يصرخ ويطالب بها. فرضخ القائد لطلبه إذ إنه شعر بالاحراج أمام ضيوفه. وتمسّك موخيكا بالشيء الوحيد الذي يملكه، رمزاً لانتصاره على سجانيه، في كل مرة كانوا ينقلونه إلى معسكر جديد. ويتذكر روزنكوف: «لقد رفض فركها وتنظيفها؛ لدينا جميعنا عادات سلوكية راسخة من تلك الفترة. وعندما خرج پيپي، أحضر معه كل هذه التجارب التي مر بها».
بيت متواضع جداً
تمر بك الطريق الرئيسية التي تقودك خارج مونتيڤيديو باتجاه مزرعة موخيكا أو ملكيته الصغيرة عبر الضواحي الصناعية، فوق نهر ملوث وعلى امتداد مساحات منبسطة من المنازل الصغيرة المصادرة. إنّها فقيرة لكن ليست متداعية. وهناك علامات قليلة نسبياً تشير إلى الفقر المؤلم الذي يصيب أجزاء أخرى من أميركا اللاتينية، على الرغم من أنّ أزمة الديون في العالم النامي دفعت بالكثيرين إلى الفقر المدقع في مطلع هذا القرن. الأحصنة الهرمة مربوطة إلى جانب الطريق، ترعى العشب الأخضر عند الجوانب الواسعة المعشوشبة. وتشير علامة بارزة مرسومة باليد على كوخ من الصفيح بالقرب من طريق الاسفلت المليئة بالحفر إلى الممر الترابي الذي يؤدي إلى المزرعة. كذلك، تندفع زمرة من الكلاب المتحمسة إلى الخارج للقاء الزوار، ثم تهرع لمطاردة سيارة ڤان توزع قوارير الغاز. وتتبختر الديوك والغربان وطيور الحجل عبر الحقول المجاورة، فتصبح لقمة سائغة لقطط المزرعة التي تتنقل خلسة. ويقص رجال ينتعلون أحذية مطاطية بيضاء نبتة السلق في حقل تابع للمزرعة.
خرج موخيكا من منزله الصغير مرتديا سترة من صوف الظبي وبنطالاً رمادياً واضعاً جوارب في قدميه ومنتعلاً صندلاً. يعتبر الصوف تحسناً في زيّه، يُنسب الفضل فيه إلى فريق حملته الانتخابية لعام ٢٠٠٩، الذي جعله يكف عن ارتداء السترات الممزقة. وقد ساهم التقدم في السن في جعل ملامحه أكثر حدة حول العينين وأكثر امتلاءً عند الجانبين. كان شعره الرمادي الكثيف مسرّحاً بترتيب – وهي عادة أخرى اكتسبها حين ترشح للرئاسة. ثم قفزت الكلبة مانويلا ذات القوائم الثلاث تلاعبنا بحماسة. يتألف المنزل من طابق واحد شبه مخبأ بالخضرة، ويستند سقفه المعدني المموّج إلى أعمدة تحيط بممشى إسمنتي ضيق مليء بالصناديق والجرار المغبرة. كان مطر الشتاء قد أبرز أعمال الجبس غير المنجزة بالكامل. وحذر الرئيس ملوحاً: «حذار من الطين!». وتضم الغرفة الأمامية المستطيلة الضيقة مكتباً وكرسياً رخيصين ورفوفاً للكتب وطاولة صغيرة مع كرسيين غير مريحين ظهرهما خشبي، وموقد هدّار تشتعل فيه الاخشاب ودراجة هوائية قديمة من نوع پيجو تم ترميمها بدقة وحرص. وقال بفخر «أمتلك هذه الدراجة الهوائية منذ ٦٠ عاماً » متذكراً أيامه كمتسابق هاوٍ. أما الغرفتان الأخريان في المنزل فيألفهما أبناء الأوروغواي الذين رأوهما على موقع يوتيوب: ففي إحدى المرات أظهر الرئيس سريره المرتّب على عجل لفريق التلفزيون الكوري فضلاً عن محتويات براد قديم قبل دعوته لاحتساء كؤوس صغيرة من ويكسي «جوني واكر» وكحول من قصب الاوروغواي. كانت خيوط العنكبوت المثقلة بالذباب الميت تتدلى فوق رؤوسنا. وجلس موخيكا واضعاً ساقيه المتصلبتين على كرسي المكتب ليريح مفاصله ويستعد للمعركة الشفهية.
كان باستطاعة موخيكا أن يعيش في القصر الرئاسي، وهو عبارة عن قصر عمره مئة سنة في حي پرادو الراقي لكنه آثَرَ الإقامة هنا. ويقول موخيكا: «نحن نرى في ذلك طريقة للقتال في سبيل حريتنا الشخصية. إذا عقّدت حياتك كثيراً بالمعنى المادي، ستكرس جزءًا كبيراً من وقتك للسعي وراء ذلك. لهذا السبب ما زلنا نعيش اليوم كما كنا نفعل منذ ٤٠ عاماً، في الحي نفسه، مع الأشخاص أنفسهم والأشياء ذاتها. فمجرد أنك أصبحت رئيساً لا يلغي كونك رجلاً عادياً».
يستخدم موخيكا لغة تتطابق مع أسلوبه البدائي. ففي خطاب ألقاه أمام أعضاء النقابات العمالية في مونتيڤيديو في اليوم السابق، علق الجمهور على عباراته الفظة المتلاحقة التي يدعي أنّه التقطها في السجن، وأثارت لفظة «اللعنة!» موجة بهجة عارمة من قبل امرأة كانت ورائي. وقال لي موخيكا: «أعرف ما يفكر فيه قومنا، ولدى بعض الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى أعلى من الثقافة صورة نمطية معينة ويعتقدون أنّه على السيد الرئيس أن يكون أشبه بتمثال، جامد تماماً. لا يستطيع أن يكون كأي شخصٍ آخر. لكنني رجل عجوز من لحم وعظام، ولدي أعصاب وقلب. نعم، أخطأت كثيراً لكن دائماً عن حسن نيّة».
ويوضح موخيكا: «لم أُنتخَب رئيساً لأنني كنت فرداً في عصبة التوپاماروس، لكنني لم أتصرف بأسلوب حقير وأخفي ماضيّ». حتى أيام كان مقاتلاً، أصر على أنّه حاول أن يبقي العنف عند أدنى مستوياته. وهو الآن يعترف بأنه يكره الحرب الحديثة، لكنه يزدري أيضاً «النزعة السلمية الملائكية»، ويرفض التعبير عن الندم عن ماضيه العنيف. ويضيف: «الأشياء الوحيدة التي أندم عليها هي تلك التي كان بإمكاني فعلها لكن لم أفعلها». لا يتشبث موخيكا بالأحقاد القديمة – فالرجال الذين سجنوه وعذبوه كانوا بنظره أدوات بيد أشخاص آخرين. وتتمثل إحدى التناقضات التي أرستها الديمقراطية القائمة على المشاركة في أن شعب الأروغواي صوّت على الابقاء على قانون العفو الذي يحمي الكثيرين ممن شاركوا في قمع الدولة في اليوم نفسه الذي اختار فيه موخيكاً رئيساً للبلاد. ويعلّق: «لقد عانيت لكن لا يمكنك أن تتمسّك بالحقد والكره. ما كنت لأصبح الشخص الذي أنا عليه اليوم لو لم أتجاوز ما اختبرته خلال تلك السنوات».
يعيش أربعة عشر شخصاً آخر في منازل صغيرة منتشرة حول المزرعة، والكثير منهم من كبار السن. لا يفرض عليهم بدل إيجار. ويوضح: «نحن أشبه بدارٍ عجزة». في الجوهر، لا يزال موخيكا ثوروياً، - أو كما يصف هو نفسه – يسارياً فوضويا. ويتابع: «أنا نصف فوضوي، أو حتى فوضوي بالكامل – هذا أشبه بحلم، بخيال. وإذا استطاع الانسان القديم أن يحكم نفسه، ربما في أحد الأيام، في المستقبل، سيتمكن الناس من أن يحكموا أنفسهم مجدداً». بعد حياة كاملة من النضال، بعمر الـ٧٩ وجد طريقة لاقامة توازن بين المثالية والبراغماتية، وهذا ما أزعج منتقديه ضمن اليسار. ويوضح موخيكا: «الرؤية اليسارية للعالم تتطلب منك أن تتخيل مدينة فاضلة مستقبلية، لكن لا يحق للمرء أن ينسى أنّ الشيء الأهم بالنسبة إلى كل إنسان هو الحياة التي يعيشها الآن. بالتالي فإنّ النضال في سبيل تحسين اليوم الحاضر ينبغي أن يصبح مهمتك الأساسية».
نهاية الدكتاتورية
ها هو وشاح الرئاسة المزين بخطوط باللونين الأزرق الباهت والأبيض، كتلك التي تغطي علم الاوروغواي، موضوعٌ في علبة ذات غطاء زجاجي في مكتبة خوليو ماريا سانغينيتي القاتمة حيث الكتب المتلاصقة في منزل في شارع هادئ بالقرب من بونتا كاريتاس. تعزز أزرار الأكمام، وأزرار السترة اللماعة وربطة عنق من الحرير بلون الباستيل الأخضر، صورة التطور الارستقراطي الصامت. أخبرني سانغينيتي فيما كان أحد الخدم يحضر لنا القهوة أنّه: «أحد رؤساء الاوروغواي الثلاثة الذين خدموا ولايتين». خسر حزبه، حزب كولورادو، ناخبين لصالح ائتلاف «الجبهة العريضة» بزعامة موخيكا - الذي يجمع في صفوفه أعضاء سابقين في عصبة التوپاماروس، واشتراكيين، وشيوعيين وديمقراطيين مسيحيين ذوي ميول يسارية. سانغينيتي مرتبك وغاضب ويرى أنّ: «الديكتاتورية حوّلت الجناة إلى ضحايا. غير أنّ عصبة التوپاماروس هي التي حفزت هذه الديكتاتورية... وكافة الانتقادات التي أطلقها موخيكا كانت ضد الديمقراطية». يُذكر أنّ سانغينيتي حظر من المشاركة في الحياة السياسية خلال عهد الديكتاتورية، مع أنّه ساعد في نهاية المطاف في المفاوضات التي وضعت حداً للديكتاتورية عام ١٩٨٤. أطلق سراح الرهائن في السنة التالية، خلال ولايته الرئاسية الأولى. وفي ذلك الوقت كان موخيكا قد حوّل مبولته المتنقلّة إلى أصص ازهار صغير. ويتذكر روزنكوف رؤيته يخرج من السجن، حاملاً مبولته بكل فخر ويختفي في بحرٍ من الأعلام يلوح بها مؤيدوه.
في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، اتبعت الحكومات التي يقودها حزب كولورادو بزعامة سانغينيتي، ومنافسوه التقليديون في الحزب الوطني، نسخة مخففة من الإصلاحات النيوليبرالية. فأبناء الأوروغواي من الطبقة الوسطى ما كانوا يريدون خصخصة الشركات الحكومية، أقله ليس من دون الضمانات المناسبة، وقد عبروا عن رأيهم هذا في استفتاء، وما زالت هذه الشركات تابعة للقطاع العام. من جهتهم، لم يرَ مقاتلو التوپاماروس، بالاستناد إلى تجاربهم الكثيرة، أي جدوى من العودة إلى العنف، فانضموا إلى «الجبهة العريضة» عام ١٩٨٩ وانهالوا عليها بالانتقادات من موقعهم اليساري، محذرين من مساوئ الوسطية. لكن الكثير منهم ما زال يعتقد أن الهيكل الفاسد لأمريكا اللاتينية النيوليبرالية سينهار، وستظهر الحاجة إلى الأسلحة مرة أخرى. وقد أخبرني أدولفو غارسيه، أستاذ العلوم السياسية الذي درس تحول التوپاماروس الملحوظ إلى السياسات الانتخابية أنّ الثوار القدامى لعبوا لعبة مزدوجة – إذ إنهم شاركوا في الديمقراطية وهم على استعداد للعودة إلى العمل السرّي إذا دعت الحاجة: «يمكن وصف هذه العصبة في أحسن الأحوال بأنها منظمة كانت دوماً مستعدة لتصبح مغمورة وسرية».
الانتخابات في الاوروغواي معقدة: لا يختار الناخبون حزباً وحسب، إنما يختارون فصيلة ضمن هذا الحزب. هم ينتخبون مجلسي البرلمان والرئيس، وغالباً ما يصوتون على الاستفتاءات في الوقت عينه. عام ١٩٩٤، عندما كانت «الجبهة العريضة» على قاب قوسين من الفوز بالانتخابات، كانت الفصيلة التي يقودها التوپاماروس لاعباً ثانوياً، مع نائبين فقط في البرلمان الذي يضم ٩٩ مقعداً. غير أنّ موخيكا كان أحدهما. وقد درج على الذهاب إلى البرلمان على دراجته النارية من طراز «ڤيسپا»، مرتدياً الملابس اليومية وعلى إضافة كلمات باللغة العامية إلى خطابه (ويقول سانغينيتي: «كان يبتكر عبارات ذكية لكنه دمّر اللغة»). عرف الناس أنّه كان يعيش في منزلٍ صغير في مزرعة، وأنّه يزرع الأزهار ولم يأبهوا لمظهره الخارجي، ولممتلكاته، أو لما إذا بدا وكأنه كان يخوض شجاراً على مقصف في إحدى حانات مونتيفيديو. هكذا وُلِد موخيكا البطل الشعبي.
ثوري يميني... وثوري يساري
يوم كان يُفترض بلوسيا جعله يؤدي اليمين الرئاسية، كان بانشو فيرنازا، مسؤوله الاعلامي قد رتب للقاء معه عند الساعة ٨ صباحاً لمراجعة الخطاب. غير أنّ فيرنازا وهو مدير تنفيذي في شركة اعلامية رفيعة المستوى في مونتيفيديو، تأخر بضع دقائق، ووجد أنّ موخيكا الفارغ الصبر ذهب يتجول في الارجاء. وأخبرني فيرنازا أنه: «ذهب في جولة على جراره». لقد وظفه موخيكا من أجل حملة انتخابية رئاسية بدأت بمعركة للفوز بترشيح «الجبهة العريضة» ضد دانيلو أستوري، وهو ديمقراطي اشتراكي معتدل – سيصبح في نهاية المطاف نائب الرئيس موخيكا، حرصاً منه على أن تكون حكومته حكومة ملائمة للأعمال التجارية. ويقول فيرنازا ممازحاً، إن ذلك أشبه بلقاء بين ثوري يساري وثوري يميني. وقد هدد اصحاب فيرنازا في مجال الأعمال بمغادرة البلاد في حال فاز موخيكا. ويتابع فيرنازا: «خلال ٤٠ عاماً من العمل المهني، لم ألتقِ يوماً شخصاً يملك مرونته وقدرته على التعلم. إنه الأقل استبداداً بين كل السياسيين الذين عرفتهم». كذلك اعتبره فيرنازا أيضاً فوضوياً وغير منظم ومليئاً بالأخطاء. لكن بفضل ذكائه السياسي الأصلي وموهبته في الارتجال تمكن بسرعة من أن يتحول من ثائر يرتدي قميصاً ممزقاً إلى مرشح رئاسي جدي. حاولوا تخفيف مخاوف المشككين من رجل يشتهر بعباراته الفظة وبالمقابلات التلفزيونية التي يجريها وهو أشعت الشعر ومن دون طقم أسنانه الاصطناعية. والأهم من ذلك كله أنّ پيپي روّج لنفسه. لطالما كانت عصبة التوپاماروس تتمتع بحس ترويجي ذكي، وتصريحات موخيكا اللافتة كانت تشكل مادة جدية للتقارير الإخبارية. ويتابع فيرنازا: «لقد كان عالقاً في صورته النمطية الخاصة. بالتالي غيّر شخصيته، ليظهر مرونة سياسية أكبر بكثير مما اعتقده الناس. سرّح شعره ودأب على وضع طقم أسنانه الاصطناعية». أصبح موخيكا الرئيس، وباتت الفصيلة التي ينتمي إليها والتي يقودها توبولانسكي المكون الأكبر لـ«الجبهة العريضة».
عززت الاصلاحات الاجتماعية التقدمية التي أنجزها موخيكا شهرته العالمية، لكنه أقل تأثراً واعجاباً بها من محبيه. ويعلق قائلا: «هي تناسب حس الحرية وحقوق الإنسان الخاص بنا، لكنها لا تحل المشكلة الأساسية ألا وهي الفروقات الطبقية». ويرى المسؤولون عن حملته أنّه ليس تقدمياً إشتراكياً بطبيعته. ويقول أحد الناشطين في مجال الصحة الجنسية إنّه «يشبه الانسان الاوروبي الحديث الأول نوعاً ما»، غير أنّه يعبّر عن امتنانه للقانون الذي شرعن الإجهاض في الأسابيع الـ١٢ الأولى من الحَمْل؛ وكان فاسكيز، وهو متدين من الروم الكاثوليك، قد صوّت برفض قانون مشابه خلال الولاية الرئاسية السابقة لـ«الجبهة العريضة». غير أنّ سيرجيو ميرندا ورودريغو بوردا، أول ثنائي مِثلي يتزوج في السنة الماضية، لم ينسبا معظم الفضل في ذلك إلى موخيكا. وأوضح ميرندا في المكاتب الصغيرة لشركتهما التي تُعنى بتنظيم نشاطات سياحية لمثليي الجنس: «لسنوات طوال، حارب أناس كثر في سبيل تحقيق ذلك. ومن جهته ما زال الرئيس يشير إلى المثليين من الذكور والاناث بصفتهم «يعانون ازدواجية جنسية»».
ويعلق موخيكا: «كل ما نفعله هو الاعتراف بشيء قديم قدم البشرية. ولعل أفضل ما في الأمر أن يتمكن الناس من العيش كما يحلو لهم». وهو يرى أنّ هؤلاء يعاقبون مرتين بفعل الفقر وعدم تقبل وضعهم كضحايا حقيقيين. ويوضح: «يواجه أولئك الذين يعانون ازدواجية في الهوية الجنسية مشاكل حقيقية إذا كانوا فقراء. فيما إذا كانوا أغنياء يتم تقبلهم. يبدو ذلك قاسياً لكنها الحقيقة كما أراها. وأكثر النساء اللواتي يعانين التمييز هن النساء الفقيرات. فالذكورة تستفحل في المستويات الدنيا. لا يعامل مجتمعنا الفتيات الفقيرات معاملة جيدة. ثمة نساء ينتهي بهن المطاف منبوذات مع الكثير من الأولاد. وبالنسبة إلي، هذه إحدى أهم المعارك في سبيل تحقيق العدالة». خلال الحملة الانتخابية الرئاسية ضُبِط وهو يشتكي من «النساء المثقفات اللواتي يعتقدن أنّهن يتعرضن للظلم»، أو اللواتي يتحدثن عن عاملة التنظيف التي تعمل لديهن، «في حين أنها في الحقيقة الخادمة». ويذهب ٩٠ في المئة من راتب موخيكا الذي يتبرع به إلى الأمهات العازبات.
تشريع الماريجوانا
لم يدخّن موخيكا يوماً الماريجوانا، لكنه مدمن على التبغ. لطالما وجد الزوار أنفسهم يدخنون خلسة سيجارة مع الرئيس الذي يسارع إلى إطفاء سيجارته لدى سماعه صوت سيارة لوسيا. ويقول: «ثبت أن أسلوب المنع يفشل فشلاً ذريعاً. إذا أردت التغيير، لا يمكنك أن تستمر في القيام بالأشياء ذاتها. عمدنا إلى تنظيم بيع الماريجوانا وهذا، بطبيعة الحال، أمرٌ ينبغي أن تنجزه الدولة. نريد أن نخرج متعاطي هذه المخدرات من مخبئهم وننشئ وضعاً حيث يمكننا أن نقول: «أنت تبالغ في ذلك. عليك التعامل مع الوضع». يتعلق الأمر بوضع الحدود». وترى الأحزاب المعارضة في ذلك تجربة ستنفجر في وجه «الجبهة العريضة» في موعد الانتخابات. فمعظم أبناء الاوروغواي يمقتون هذا القانون، الذي لن يلغى بسبب فوز فاسكيز في الانتخابات الأخيرة.
ويمكن إيجاد السبب الحقيقي وراء قانون الماريجوانا بالقرب من مسقط رأس موخيكا في پاسو دي لا أرينا، حيث يتحول الاسفلت إلى تراب وحيث المنازل صغيرة وفقيرة. تنتظر زمرة من الشبان حلول الغسق. ويوضح والتر بيرناس، صحافي استقصائي وابن عامل بناء، فيما كنا نتراجع نحو إحدى الطرق الفرعية: «في هذا الوقت تحديداً يظهر الأطفال الذين ينتجون معجون الكوكايين». ومعجون الكوكايين هذا منتجٌ سام ينتج عن عملية تنقية الكوكايين، وهو ذو تأثيرات مشابهة لما يسمى كراك الكوكايين، وهو يفسد مساعي موخيكا الهادفة إلى إخراج الناس من شباك الفقر. تلك هي كما يقال المشكلة الاجتماعية الكبرى في الاوروغواي التي تفاقم الفقر وتغذي الجريمة. يتعاطى أكثر من ١% من سكان مونتيڤيديو هذه المادة، ويرتفع هذا المعدل في هذه الأحياء الفقيرة المهمشة حيث تبدأ أسواق المخدرات المتاجرة بعد حلول الظلام. ويود موخيكا أن يبعد أرباح الماريجوانا عن تجار المخدرات، مع تحرير موارد الشرطة في آن. في دولة تحقق نمواً اقتصادياً دراماتيكياً كهذا، لم يعد القلق الشعبي يتمحور حول الوظائف، أو الفقر، أو الاقتصاد، بل حول العنف، وانعدام الأمن ومعجون الكوكايين.
في هذا الاطار يوضح بيرناس: «إنه جيلٌ ضائع. دماغهم متضرر لدرجة أنهم لا يستطيعون حتى أن يتمتعوا بالادراك الكافي للحفاظ على وظيفتهم». الخوف من العنف حقيقي ومتزايد. فالأشخاص الذين اعتادوا أن يأخذوا ليلاً القمامة إلى حاويات النفايات التي في الشارع باتوا ينتظرون الآن حتى الصباح. في السابق، دفع الفقر الناس إلى حاويات النفايات بحثاً عن الطعام، وكانت ربات المنازل يضعن بعناية فضلات الطعام في أكياس منفصلة. والآن بات المدمنون على معجون الكوكايين يأخذونها. ويصف خوان آبات، مالك المخبز العائلي حيث عمل موخيكا في صباه، كيف أنّه منع مرة من تحضير طلبية على يد زمرة مراهقين من أفراد العصابات المدمنين على معجون الكوكايين. وتابع: «رشقوا سيارتي بالحجارة، فاضطررت إلى المغادرة». وفي الانتخابات التالية في تشرين الأول/ أكتوبر، سيصوّت أبناء الأوروغواي على استفتاء لخفض سن المسؤولية الجنائية للبالغين من ١٨ إلى ١٦ سنة. عندما يعود موخيكا إلى هنا، يرى مجتمعاً أثرى وأضعف في آن. هذا هو جزئيا رثاء رجل عجوز لأيام الطفولة البريئة التي قضاها في جمع الحطب، وبيع الزهور، ومطاردة الأسماك في النهر الصغير، إنما هو أيضا جزء من خطابه الموجه ضد النزعة الاستهلاكية، والأنانية وما يسميه «الفقر العقلي». ويعلق: «أصبحت حياتنا أسهل بكثير، لكن ذلك يقضي على إبداعنا».
الحاجة إلى الرأسمالية
يظهر بشكلٍ جزئي تمثال نصفي لتشي غيفارا من رف للكتب في مزرعة موخيكا. ويوضح الرئيس: «كان شخصاً لا ينسى، يحطم القوالب والنماذج الراسخة. طبع مرحلة شبابنا بكاملها». بيد أنّ الرجل الذي نسف في ما مضى المصانع التي يملكها الأجانب، مستوحياً ذلك من غيفارا، يقدم لهم الآن اعفاءات ضريبية. وعلّق بالقول: «أحتاج إلى الرأسمالية لأحقق النجاح، إذ عليّ أن أفرض الضرائب لأتمكن من الاهتمام بالمشاكل الخطيرة التي نواجهها. فمحاولة التغلب على كل ذلك بشكل مفاجئ يعرّض الشعب الذي تقاتل من أجله للمعاناة، بالتالي عوضاً عن الحصول على المزيد من البحبوحة، تحصل على مال أقل». لم يرافق أفراد عصبة التوپاماروس جميعهم موخيكا في رحلته نحو الاشتراكية الواقعية اللينة. وصرّح الرهينة السابق جورج زابلزا حديثاً: «لقد تركوا مُثُلَهم في زنزانات السجن». ويرى موخيكا أنّ «بعض الرفاق القدامى لن يفهموا. هم لا يفهمون معركتنا لمواجهة مشاكل الناس اليومية، وأنّ الحياة ليست مجرد أوهام وتخيلات».
كما حصل في دول أخرى في المنطقة، ساهم ازدهار اقتصادي غذته إلى حد كبير حاجة الصين المتزايدة إلى الغذاء، في انتشال أعداد كبيرة من الناس من شباك الفقر، بانخفاض من ٤٠ إلى ١٢٪ خلال عقد واحد. تراجع الفقر المدقع عشرة أضعاف خلال الفترة نفسها. ويُذكر أنّ هذا الازدهار صادف أثناء رئاستي موخيكا وفاسكيز، عندما حقق الاقتصاد نمواً بنسبة ٧٥٪ وازداد الانفاق العام بنسبة ٥٠٪ تقريباً. كذلك، تم ردم الفجوة في الثروة في الاوروغواي، لأسباب من بينها أنّ حكومة فاسكيز طرحت ضريبة الدخل الأولى في البلاد. وازداد الإنفاق الاجتماعي الذي يستهدف الفئات الأشد فقرا. وبذلك، يملك كافة تلاميذ المدارس في الاوروغواي أجهزة حاسوب مجانية، على الرغم من أنّ أجزاء من النظام التعليمي لا تزال معطلة. لكن لم تحدث أي تغييرات جذرية على البنية السياسية أو الاجتماعية الأساسية في الأوروغواي، ويعود ذلك جزئيا إلى نظام مؤسساتي معقد يعيق ذلك. فقد رفضت المحاكم على سبيل المثال ضريبة على الأراضي اقترحها موخيكا. وأوضح أستاذ العلوم السياسية غارسيا أنّ النظام الديمقراطي في الأوروغواي خاضع للكثير من الضوابط والتوازنات، وأنه على الرئيس أن يحكم من خلال الحوار، وتحصين البلاد ضد الشعبوية التي عاثت فسادا في أماكن أخرى في القارة.
موخيكا الذي أصبح أخيراً براغماتياً ما عاد يحارب العولمة التي، من خلال ربط موائد العشاء الصينية بمزارع الأوروغواي، تموّل هذا التحول الملحوظ. وأوضح «هذا أشبه بما أراه عندما أنظر إلى المرآة وأرى تجاعيدي. لا أشعر بالتعاطف حيالها، لكن لا مفر منها. علي أن أكافح لأتحكم بها قدر استطاعتي لأنني إن بدأت أبكي كطفل لن أغيّرها». ويرى موخيكا أنّ فشل العولمة الصارخ يتمثل في غياب الاشراف السياسي «هي سيئة لأنّها تخضع للسوق وحسب. لا تملك أي سياسات أو اي حكومة. كما أنّ الحكومات الوطنية لا تقلق إلا حول انتخاباتها المقبلة، لكن هناك مجموعة من المشاكل العالمية التي لا يعالجها أحد». ولا يعني ذلك أنّ الرأسمالية حققت فوزاً كاسحاً. ويضيف موخيكا: «لا أعتقد أنّه من المحتم أن يعيش العالم في ظل الرأسمالية. فذلك يوازي عدم الايمان بالانسان. والانسان حيوان لديه الكثير من العيوب ولكنه يتمتع أيضا بقدرات مذهلة».
دون كيخوته الاورغواي
ما زال موخيكا يؤمن بالصراع الطبقي. يقول: «أجل، إنها حرب حتماً». لكن هذه الحرب، المجردة من الثورة والتي أسقط عليها الواقع، تُخاض الآن في ميدان ضيق جدا. ولعل أكثر ما يثير قلقه هو الرواتب وحقوق النقابات. كذلك، أخبرني غارسيا أنّ موخيكا كان مكبلاً بسبب وضع مجموعته ضمن ائتلاف «الجبهة العريضة». وأوضح «الاستثنائي في الامر أنه لدينا مجموعة من الاشتراكيين الثوريين الذين لم يؤمنوا بالديمقراطية، ثم حولوا أنفسهم إلى خبراء في البحث عن الأصوات لكنهم في نهاية المطاف لا ينجزون إلا إصلاحات دنيا وحسب في النظام». ومع ذلك، قفز الحد الأدنى للأجور بنسبة ٥٠٪ خلال ولاية موخيكا، مما يوحي بأنه لم تكن هناك حاجة ربما إلى اصلاح جذري لاتخاذ خطوات كبيرة في الطريق نحو حلمه المستحيل. والواقع أنني عندما سألت سكان الأوروغواي إلى أي حد غيّر موخيكا بلادهم، أجاب البعض أنّ الاوروغواي وتقاليدها المتمثلة في الاعتدال والحوار، هي التي غيرته. وقال لي الخبير الاقتصادي ارنستو تالفي إنّ «تحوله هو في الأساس انتصار للديمقراطية الليبرالية».
غالباً ما أتى أفراد عصبة التوپاماروس السابقين الذين التقيتهم على ذكر دون كيخوته. وقد أخبرني موخيكا أنّ تشي غيفارا جسّد روح الفارس المتجول المجنون والمهووس بالشرف الذي ابتدعه ثرفانتس. حتى أنّ أحد الكتاب الشبان ألمح إلى أنّه جرى الترويج للرئيس عن عمد بصفته دون كيخوته العصر الحديث. ولا شك في أنّ رفضه المساومة على الشرف الشخصي – الذي يتجسد في أسلوب حياته البسيط في المزرعة – يتطابق تماماً مع هذه الرواية. ومع أحلامهم المثالية وحبهم السابق للعنف «العادل» إنما غير المجدي في نهاية المطاف، يعرف التوپاماروس كل شيء عن محاربة الأعداء الوهميين. لكنّ عزم موخيكا على الاستمرار في التجارب شهد على تطابق المثالية مع البراغماتية. وحيث أنّ التقشف هو داخل منزل الرئيس، وليس خارجه، تبدو الاتهامات بالخيانة مجرد اتهامات جوفاء لا أكثر.
بعد حديثنا، انتعل الرئيس جزمة موحلة وأراني مباني المزرعة. كانت سيارة الفولكس فاغن ذات اللون الأزرق الفاتح مركونة في مرآب مغبر ذي أبواب مصنوعة من ألواح معدنية صدئة. قال: «نادراً ما تتعطل، كما أن قطع الغيار الخاصة بها تباع بأبخس الأسعار، والتأمين عليها رخيص». أما حلمه لدى انتهاء ولايته الرئاسية فيتمثل في إقامة مدرسة زراعية للشبان في حظيرة فارغة بجوار المزرعة. ويوضح: «بما أنني كرست نفسي لإصلاح العالم عندما كنت شابا، لم أنجب أي أطفال». وفيما كنا نغادر، سألت العامل الذي يقطف الِسلق عن الرئيس فأجابني: «إنّه رجل عادي». بدا قوله هذا أشبه بمديح.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.