«إلى قارئ:
لا تثق بالقصيدة
بِنتُ الغياب،
فلا هي حدسٌ ولا هي فكرٌ
ولكنها حاسة الهاوية»
(«حالة حصار» - محمود درويش)
في ملحق مُزجّج يربط بين صالون منزله والحديقة، تغمره أشعة شمس شتاء برلين الهادئ، أجلسني قبالته مع فنجان قهوة ساخنة، وبدأ بقراءة مقاطع من دفتر يومياته. مع ابتسامة عارف تنير وجهه، مدركاً قوة الإفصاح الغامضة، وهو يعلم أنّ هذه النهاية التي تبدو عادية لزيارتي إلى مرسمه، مثّلت ولوجاً حميماً غير متوقع أبداً إلى عالمه الداخلي. دفاتر يومياته عبارة عن دفاتر رسم صغيرة على غرار تلك التي يحملها الفنانون الذين يرسمون المناظر الطبيعية في حقائبهم عندما يذهبون لمشاهدة المعالم السياحية. كدّسها في سلة كبيرة بالقرب منه، للحفاظ عليها. لم أتجرأ على محاولة الوصول إليها والإمساك بأحدها، لكن من خلال إلقاء نظرة خاطفة على غلافاتها، والخربشات والرسوم والملصقات التي تزيّنها، بدت أشياء غامضة وجميلة محمّلة بالأسرار. تصفّح أحد الدفاتر الذي اختاره عشوائياً، مقطعاً بعد مقطع، وقد أطلق فيها العنان بالكامل لمتعة صقل الكلمات وصياغة جمل مترابطة. عندئذٍ فقط فهمت تماماً تعلق مروان العميق بالتعبير الأدبي. عندما سلمني أحد الدفاتر، وكأنما ليشبع فضولي الطفولي المفرط، اكتشفت أنّ سجلات حياته اليومية هذه كانت مدوّنة باستخدام فرشاة دقيقة، تارة بالحبر الهندي وتارة أخرى بالألوان المائية، يشهد وضوحُها ودقتها على مهارة يد الرسام وبراعتها. كذلك، كانت ندرة الخربشات والتصحيحات على الصفحة خير دليل على ثقة الكاتب وانضباطه.
لطالما كان الأدب – الرواية والشعر – عزيزاً على قلب مروان، بقدر الرسم تقريباً. قال لي في وقتٍ سابق هذا الصباح خلال زيارتي إلى محترفه إنني لم أحزر أنه كان شغوفاً بهاتين الدعوتين، تنطويان على رموز وأسرار لإطلاق العنان لشاعرية أعماله في حقل الرسم. فيما أنا مسرورة بجمال مقطع مؤثر بشكلٍ خاص، رفع رأسه بعد أن أغلق الكتاب الذي يقرأ منه، واعترف عَرَضاً بأنه لو لم يتبع مسيرته في مجال الرسم، لأصبح حتماً كاتباً.
خلال حياته، كان أصدقاؤه المقربون كتّاباً، وينطبق ذلك على مسرحيات سعد الله ونوس ومقالاته، وقصائد بدر شاكر السياب وأدونيس، وروايات عبد الرحمن منيف ومقالاته.
والواقع أنّ منيف كان صديقه الأقرب. لم يكن تعاونهما مجرد تعبير عن التشابه العميق بين أعماله في مجال الرسم والأعمال الأدبية التي ألّفها هذا الكاتب، بل كان أيضاً خير شاهد على مصدري شغف مروان وكيف أنّ أحدهما يغذي الآخر. على مر السنين، كتب مروان إلى منيف رسائل لا تعدّ ولا تحصى، وعلى مر السنين حث منيف مروان على تبنّي دعوته ككاتب. وهكذا بدأ مسيرته، من خلال الاحتفاظ بدفاتر يوميات، حوالى العام ٢٠٠٠. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، توفي منيف وأصبح دفتر يوميات مروان الصديق الأقرب إليه.
«في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مَبسم جديدْ
أو حَلَمةٌ تورَّدتْ على فَم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة!
ويهطل المطر، مطر، مطر، مطر.»
(«أنشودة المطر» – بدر شاكر السيّاب)
الجسد بما هو مَجَاز
لدى سؤالي الصريح والمباشر له: «ما الذي يدفعك إلى الرسم؟» أجاب بدون أن يتردد ولو للحظة «لرسم تجربة الانسانية مع المآسي خلال القرن العشرين». كنت أنظر إلى مجموعة من البورتريهات، كلها صور ذاتية، باستثناء لوحتين، تجسد إحداهما بدر شاكر السياب، والثانية منيف الرزاز. لا بد من أنّ وجهي أفشى حيرتي، فابتسم ابتسامة مطمئنة وشرح لي بهدوء: «عندما اكتشفت شعر بدر شاكر السياب، شعرت بالدهشة إذ إنّ العوالم العاطفية والنفسية والمجازية والرمزية في شعره تشبه إلى حد كبير عوالمي كفنان. ذلك أنّ جوهر تجربة العيش في هذا العالم، في القرن العشرين، التي يصورها، والشعور بالوحدة والحزن والقسوة والظلم، فضلاً عن النشوة والسحر، هي في صلب عملي. تلقائياً، ومن دون الإمعان في التفكير، رسمت صورة شخصية له. كان ذلك في مطلع الستينيات، بعد استقراري في برلين بوقتٍ قصير. فهمت في ذلك الوقت أنني لم أكن مهتماً برسم البورتريهات بمعناها التقليدي، إنما بالقدرة الايحائية النفسية والعاطفية لشكل الجسم البشري باعتبارها مجازاً، أي قدرة الجسم على تجسيد توقنا الجنسي والاجتماعي والسياسي، والموانع والمحظورات. ولكي أجنّب نفسي عملية مضنية تتمثل في اختيار الأشخاص الذين يظهرون في البورتريهات التي ينبغي أن أرسمها، بدأت أستخدم وجهي وجسمي كنموذج. وبذلك كانطباع أول، يفترض من يزورون محترفي أنني نرجسي». وضحك بمكر.
جسّدت لوحته الأولى مشهداً طبيعياً صغيراً جداً وجذاباً للقاسمية، بلدة صغيرة في الريف المحيط بدمشق الذي كان في ما مضى وارف الخضرة، حيث كانت الطبقة البرجوازية الثرية تمضي عادة فصل الصيف. ويذكر مروان يوم قرر، باعتباره شاباً نضج باكراً، الانغماس في الرسم باستعمال أدوات بديلة وجدها في متناوله: غطاء علبة سيجار، وسكاكين صغيرة مستعملة، وبقايا طلاء. مفتوناً، أراد تصوير روعة وتألق المشاهد التي تنكشف من حوله، والجمال البسيط لتكوين المناظر الطبيعية، وأشجار السرو الشاهقة، والسماء الزرقاء الصافية، والتلال الرائعة التي تنحدر بلطف. ويتذكر بوضوح شديد تلك الرغبة الغامضة إنما الغامرة في الرسم ولذّة الإنجاز. بعد ذلك الصيف (عام ١٩٤٧ أو ١٩٤٨) أصبح الرسم هواية ممتعة وغامرة، لكنه لم يفكر بعد في امتهانها. وقد تركت سني آخر مرحلة الشباب هذه والانتقال إلى مرحلة البلوغ التي أمضاها في شوارع دمشق القديمة، وهو يكتشف أسرار هذه المدينة المثيرة، تأثيراً أساسياً ما زال يحمله معه حتى يومنا هذا. رسم بنشاط، وبهوَس كبير. في شوارع المدينة القديمة المتعرجة تعلّم أن يرى، بعيني رسّام، كيف يكشف الضوء، فيما تتسرب أشعة الشمس عبر التناقضات الحادّة بين الظل والضوء، وحجم الرسم وعمق الرؤية، تفصل الظاهر عن المستتر. وهنا أيضاً تعلّم، واستوعب واختبر المباح والمحظور، والقواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية من حيث الطبقة، والجنس، والاختلاف الثقافي، والمواطنة، والحياة الجنسية. خلال أشهر الصيف التي أمضاها في القاسمية، حيث استمتع بالألوان اللامتناهية وباتساع الأفق، غالباً ما تجمّع الأصدقاء من أجل الرسم، والرسم بالطلاء، والكتابة، وتلاوة الشعر. تتجلى هذه الصور واللحظات، المتّقدة في ذاكرته، كلقطات فيلم متسلسلة، بحدة مفاجئة. في معظم الأحيان، تحفظ دفاتر يومياته هذه الرحلات في الزمن، مصوّرة بمرارة، ذكريات بعيدة المنال، عن دمشق وبلدات ريفها التي لن تعود أبداً.
«أود لو عدوتُ أعضد المكافحين،
أشدّ قبضتيّ ثم أصفع القَدَر.
أودّ لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة إن موتي انتصار.»
(من قصيدة «النهر والموت» – بدر شاكر السياب)
من نهضة الاستقلال الى نكبة فلسطين
كانت العقود التي تلت الاستقلال في سورية تزخر بالاضطراب والجيَشان والديناميكية، وذكريات مروان مشبعة بعمق بحدّتها. ويروي: «كنا في ريعان الشباب، ننضح بالطاقة والأمل، وكانت دمشق مفعمة بالحيوية ثقافياً وسياسياً، وكنا ملتزمين جداً، كتاباً، وفنانين، ومعماريين، ومهندسين، شعرنا بأننا نستطيع أن نرسم مستقبل بلادنا. كان كل شخصٍ أعرفه تقريباً سياسياً، شكّلنا مجموعات وعقدنا اجتماعات استمرت لساعات. لا أعرف كيف كنا نجد الجَلَد والقدرة على تحمّل الجلوس والنقاش لوقتٍ طويل». وضحك.
على مدى قرون، شكّلت دمشق مركزاً سياسياً، واقتصادياً، وفكرياً بارزاً في المشرق العربي (إن لم يكن الأبرز)، لكن بعد إعلان قيام الجمهورية المستقلة عام ١٩٤٦، اجتاح واجب التحرر الغامر المجتمع؛ والدعوة إلى أن يرسم المرء مصيره بنفسه والتطلع إلى ذلك. فكان الشبان المدينيون من أبناء الطبقة الوسطى في صميم التحركات السياسية وحملات التعبئة. عادة ما يتم تصوير العقدين الأولين لهذه البلاد على أنهما كانا محصّنين بسلسلة من الانقلابات؛ وقد حُجِبَ بانتظام الغنى المذهل للنشاط الفكري والفني والسياسي لتلك الفترة. كان مروان – الفنان الشاب – قد تربى في هذه الفترات من الزخم الفكري والسياسي، واختبر بأم العين نهضة الاستقلال ووعوده، والدعوة إلى صياغة مصير جديد وإلغاء الظلم.
غير أنّ بلوغ العالم العربي مرحلة سيادة «الدولة الأمة» وتصورات الحداثة المرتبطة بها قد لطخته نكبة فلسطين عام ١٩٤٨، وهزيمة الجيوش العربية في الحرب الأولى ضد إسرائيل وضياع فلسطين. بمعنى آخر، كان إدراك الوعي السياسي بالنسبة إلى جيل الرجال والنساء الذي انتمى إليه مروان، مشبعاً بعمق بالحزن وخيبة الأمل. كانت هذه القوى المتناقضة أساسية لصقل حس الفنان الشاب بوجوده في هذا العالم. ويوضح: «كانت مأساة فلسطين محورية بالنسبة إلى وعينا السياسي. فقد عمّقت إحساسنا بظلم العالم تجاه العرب. لم تكن تلك مسألة مجردة مرتبطة بالايديولوجية، وكان اللاجئون الفلسطينيون من حولنا؛ قد عاشوا في مخيمات في ضواحي دمشق، إنما ارتادوا المدارس والجامعة وعملوا مع السوريين. كان التواصل معهم حميماً. تشاركنا المصير نفسه، أو هكذا نظرنا إلى الوضع».
«ليس جِلدي كوخ أفكار،
ولا شغفي حَطّاب ذكرى.
نسبي رَفضٌ،
وأعراسي لقاحٌ
بين قطبين
وعصري أنني أسكن حوض الرغبات
أنّ أشلائي أزهاري
أسكن حوض الرغبات
وأني ألف الماء ويَاءُ النار
مجنونُ الحياة»
(«قصيدة الوقت» - أدونيس)
في برلين لم يغادر دمشق
كان السفر إلى برلين منافياً للمنطق. في ذلك الوقت، درج الشبان العرب الذين يرغبون في دراسة الفن في أوروبا على التوجه إلى باريس أو روما. أدّت الانقلابات المتتالية في سورية إلى أعمال العنف واضطرابات سياسية. فضلاً عن ذلك، أصبح حرم الجامعات، وهو أرض خصبة لتجتذب الأحزاب السياسية أعضاء فيها، ساحة للمعارك السياسية والأعمال الانتقامية. وقد أرسلت العائلات التي تضم شباناً طموحين والميسورة نسبياً أبناءها إلى أوروبا على أمل أن يسود الهدوء والاستقرار بحلول موعد عودتهم حاملين شهاداتهم. وقد طلب منه أحد أصدقاء طفولته، وكان قد سافر إلى برلين قبل عام أو عامين لدراسة الهندسة المعمارية، أن يأتي لزيارته ويعيد النظر في قراره متابعة دراسته في باريس. بالتالي وجد مروان نفسه في برلين، عام ١٩٥٧، ملتزماً بأن يصبح فناناً محترفاً. يتذكر: «بحلول عام ١٩٥٥، شملت ممارستي الرسم في دمشق على العناصر الأساسية التي أودّ استكشافها وتطويرها لدى وصولي إلى برلين. كانت برلين قدري». ويضيف: «لقد شكّلت «القطب الشمالي» بالنسبة إلى دمشق، كانت مدينة مثيرة للقلق أهّلتني لبلوغ مدينتي».
بعد عقد، وتحديداً بعد الحرب العربية الثانية مع إسرائيل، ونتائجها المذلّة، وعسكرة الأنظمة (والمجتمعات) في كافة أنحاء العالم العربي، والقمع الشديد لحرية التعبير، اتضح لمروان أنّ الحياة في سورية قد تكون مستحيلة إن أراد أن يمضي قدماً في استكشاف فنه. هكذا ضرب جذوراً جديدة له في برلين، لكن ويا للغرابة، وكأنه لم يغادر يوماً دمشق. بدا أحد المقاطع التي قرأها من دفاتر يومياته وكأنه كُتِب في دمشق. مفتونة، سألته عما إذا كان كتب المقطع حين كان هناك. فابتسم وأجاب: «في الحقيقة، لم أغادرها يوماً حقاً».
هذا أحد تناقضات مروان الكثيرة. سكن في عالمين، وإن بطرقٍ مختلفة جداً، من دون أي تناقض جلي أو انزعاج، وابتكر أساليب يستطيع من خلالها أن يحمل هذين الانتماءين المتناقضين في داخله بخفة فريدة. وإن كان يعترض بشدة على تصنيفه بشكلٍ أساسي إما كرسام سوري (عربي) أو ألماني، فذلك لأنّ الإطار التفسيري الايديولوجي الذي يتم بموجبه تصنيف الانتماءات الثقافية المختلفة قسراً في ثنائيات متعارضة، خاطئ. هو الاثنان في آن واحد، أي أنّه «رسام سوري في برلين»، وفي الوقت نفسه لا تنطبق عليه أي من الصفتين؛ أي أنّه رسام يتغذى عمله من العوالم التي في داخله، وكأي شاعر أو كاتب روائي يكتب ببراعة بلغة ليست لغته الأم ويعيش في بلدٍ ليس وطنه الأم. تنسجم علاقة الألفة في الرسم التي أقامها طوعاً مع فرانسيس بايكون وإدفارد مونك، مع ألفة شاعرية أعمق، أي تصوّر للعالم وتجربة معيشة، معذباً بشكلٍ أساسي بين تأثيرات الغريزة الجنسية والموت – الحياة، والرغبة، والنشوة، والموت، والقمع، والعنف – الواردة في التعبير الوجودي عن العالم الذي نشأ من ويلات الحرب العالمية الثانية.
ظاهرياً، لا يستند رسم أوجه الشبه بين لندن (دع عنك برلين)، في أعقاب الحرب العالمية الثانية في خمسينيات القرن الماضي، ودمشق، إلى أسس متينة، خصوصاً بالنظر إلى الدمار المادي الذي لحق بالمدينتين الأوروبيتين. لكن، إن نظرنا عن كثب إلى الموجات الفكرية والسياسية الجارفة التي سادت في ذلك العقد، والى وعود «الحداثة» التي اجتاحت العالم الى حين إقامة جدار برلين، من جهة في أوروبا التي ما زالت تتعافى من ويلات الحرب، ومن جهة أخرى في الدول الجديدة ذات السيادة جنوب البحر الأبيض المتوسط، وبخاصة بما حملته من بشرى التحرر على الصعيد العالمي، التطلع إلى بناء مجتمعات قائمة على مبادئ العدالة، والمساواة، والكرامة - فلن تبدو لندن ودمشق مختلفتين تماماً - أقله ليس بالنسبة إلى الطبقات الوسطى المدينية المثقفة التي دعيت إلى تغيير ورسم مصير دولها للتنعم بغدٍ أكثر إشراقاً. فضلاً عن ذلك، إن نظرنا عن كثب إلى الدعوات إلى التحرر وإلى الفهم (المعاصر) للمواطنة، والتحول في النظرة إلى الفرد، وواجباته، وحكم القانون الذي يحمي الحريات بما فيها الحريات الشخصية والجماعية، عندئذٍ أيضاً، لن تبدو لندن ولا برلين مختلفة جداً عن دمشق. ينتمي مروان، وبايكون، ومونش، والسيّاب، وفاتح المدرّس، ومنيف، كما عدد لا يعد ولا يحصى من الشعراء، والكتاب، والراقصين، والمخرجين، إلى جيل ما بعد الحرب من الفنانين والمفكرين الذين كانوا يحظون بالتقدير في لحظة تاريخية وفي مجتمعات حيث كان الخيال السياسي والجنسي يشكّل معاقل التحول الراديكالي في إطار «الشعور المأساوي بالحياة» نقلاً عن كتاب الفيلسوف الاسباني ميغيل دي أونامونو المشهور الذي يحمل العنوان نفسه.
«هُوذا أقْرأُ في اللّحظةِ أجيالاً
وفي الجُثّةِ آلاف الجُثَثْ
هوذا يغمرُني لُجُّ العَبَثْ
جسدي يُفْلِتُ من سَيْطرتي
لم يعدْ وجهيَ في مِرْآتِهِ
ودمي يَنْفُرُ من شَرْيانِهِ.
ألأنّي لا أرى الضّوءَ الذي يَنقلُ أحلامي إليهْ؟
ألأنّي طَرَفٌ أقْصى من الكونِ الذي بارَكَه
ُ غيري وجَدّفْتُ عليهْ؟
ما الذي يَجْتَثّ أعماقي ويمضي
بين أدغالٍ من الرّغبة بلدانٍ - محيطاتِ دموعٍ
وسلالاتِ رموزٍ؟
بين أَعْراقٍ وأجناسٍ - عصورٍ وشعوبٍ؟
ما الذي يفصلُ عن نفسيَ نَفْسي؟
مَا الذي يَنقضُني؟
أَأَنا مُفْتَرقٌ؟
وطريقي لم تعدْ، في لحظةِ الكشفِ، طريقي؟
أَأَنا اكثرُ من شخْصٍ، وتاريخيَ مَهْوايَ، وميعادي
حريقي؟
ما الذي يصعدُ في قَهْقَهَةٍ تصعدُ من أعضائيَ المختنقهْ؟
أَأَنا اكثرُ من شَخْصٍ وكلٌّ
يسألُ الآخرَ: مَن أنتَ؟ ومِن أينَ؟
أأعضائيَ غاباتُ قتالٍ
... في دمٍ ريحٍ وجسمٍ وَرقَهْ؟
(«قصيدة الوقت» - أدونيس)
البعث أو الرسم
كذلك، كان ذاك «الرسام السوري في برلين» شاباً يحمل تطلعات، ورغبات وأشواقاً – وجودية، وسياسية، وجنسية – بوضوح كبير، إذ إنه كان على بيّنة من المحظورات المحافِظة التي تربّى على التقيد بها. يشارك بشغف في معركة التحرر من القيود القاسية للنزعة المحافظة لما يسمى بالتقليد. في البداية، بدا له أنّ دمشق (أو سورية) ستكون الميدان لشن تلك المعركة، فضلاً عن لوحاته، لكن سرعان ما تبين أنّ أعماله سوف تمثل الميدان الحصري لتجسيد تلك الصراعات. وهذا واحد من الأسباب التي دفعته إلى استخدام وجهه وجسده بانتظام، وبهوس، باعتبارهما الشخصية الانسانية التي تجسّد وتكشف كل ما هو مقموع، ومحجوب، ومكتوم، وفي الوقت عينه ذاتي وشامل – هي الصحوة الجنسية لصبيّ، والنزعة المثيرة إلى العنف، والتعقيد الشديد المترتب عن الامتثال للهوية الجنسية، ولجم التوق إلى الشبق المثلي، وخدعة الشمولية، ومآسي الحداثة، كلها مجتمعة.
وجهه وجسده عبارة عن تسوية، وذريعة، ومظهر خارجي. تسوية لقبول الحشمة الدمشقية، لحماية خصوصية أشخاص في حياته، مثال خدّوج، المربية التي كانت تساعده في الاستحمام وهو صبيّ على وشك البلوغ، والتي وبّخته ممازحة بسبب تحديقه في صدرها العارم في ما هي تنظف بالصابون جسده العاري. لازمته هذه الحادثة القوية لسنوات وقد استوحى منها سلسلة لوحات بعنوان «خدوج I» و«خدوج II» (وكلتاهما تعودان إلى عام ١٩٦٦) حيث يظهر كشخصٍ بالغ، كشخصية ذكرية ترتدي ملابس أنثوية، وتغطي بذراعيها أعضاءها التناسلية، فيما شحمة أذنٍ واحدة تتدلى نحو الأسفل، فتوحي بما قد يكون لساناً أو مهبلاً أو عضواً تناسلياً ذكرياً، آخذاً وضعية ملتوية، وهو ينظر مباشرة إلى المشاهد، كما لو ألقي القبض عليه متلبساً بجرم فاضح. كذلك، الذريعة بالنسبة إلى جيل ملتزم سياسياً، ينتقد بشدة فشل الحركات السياسية التقدمية في تحرير مجتمعاتها من نير النزعة المحافظة، والظلم، والنظام الذكوري، وكراهية النساء، وقد خاب ظنه بها.
عندما وصل إلى برلين عام ١٩٥٧، كان مروان عضواً في حزب البعث وممثل الحزب في ألمانيا والنمسا وسويسرا بين الاعوام ١٩٥٧ و١٩٦٢. ويوضح مروان: «آثرت الاستقالة في ذلك العام بعد أن دخل أستاذي ومعلمي إلى محترفي في أحد الأيام، وقال وهو يقف ورائي بعبارات بسيطة ومباشرة، إنّ الوقت قد حان لكي أختار ما إذا كنت أريد أن أصبح فناناً أو مناضلاً سياسياً. غادر فشعرت بكلماته وكأنها تطعنني. فكرت في أنّ فناناً ناجحاً سيكون أكثر فاعلية بكثير من ناشط سياسي، فقدمت استقالتي إلى الحزب». كان أحد مؤسسي الحزب والمنظرين الرئيسيين فيه، ميشيل عفلق، أحد أصدقاء طفولته وجاره في دمشق.
تمت إطاحة عفلق ومنيف الرزاز، نائبه، بعد ذلك بوقتٍ قصير. ولا شك في أنّ هذا الشرخ داخل الحزب شكّل خيبة أمل رهيبة، ومنذ ذلك الحين، تلتها خيبات كثيرة. تم إسكات «الجسد السياسي»، أسوة بـ«أجساد الشخصيات» – التي تتقمّص جسد مروان – وتعميتها وتشويهها. وأخيراً، شكل وجهه وجسمه المظهر الخارجي الذي سمح بتجسيد العذابات الشخصية والذاتية التي مر بها الفنان ليتردد صداها مع توجه عالمي لتجاوز الهوس الذاتي المكتوم والمسرف، والحتمية الاثنوغرافية، ليصبح في آن واحد فريداً بشكلٍ ملحوظ وعالمياً بشكلٍ مقنع، بما هو العمل الآسر لرسام يسكن عالمين عدائيين يبدوان غريبين.
«السراب المرائي لنا
والنهار الضَريرْ
ولنا جثَة الدّليلْ،
نحن جيلَ السفينهْ
نحن أبناء هذا الزمان الصغيرْ.
أسْلمتْنا البحارُ الأمينهْ
البحارُ التي تُرتِّل مرثيّة الرّحيلْ
أسْلمتْنا إلى المتاهْ.
نحن جيلَ الحوار الطّويل
بين أنقاضِنا والإلهْ.»
(«الزمان الصغيرI » - أدونيس)
حياة في مرايا
عوضاً عن اعتماد تأريخ زمني مترابط في دفتر يومياته، تتبع المواد نسق الاعترافات الحميمة، والأدق أنها جردة بمخاوفه، وأشواقه، وأحزانه. هو خير شاهد على الواقع السياسي في العالم العربي. على سبيل المثال، خلال الأسابيع التي سبقت الاجتياح الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣، تحفل النبذات بالغضب واليأس، إذ يصف ببراعة الشقاء الذي سيتحمله العراقيون، ويهاجم الأنظمة العربية التي تجبن أمام قسوة المخططات الأميركية، كما يندد بغدر الديمقراطيات الأوروبية التي تجرّ تلك الانظمة وراءها. ويسجل، متحرراً من أي قيد، معاركه الضارية مع شياطين الإلهام، وتركيب اللوحة، ومزج الألوان، والرسم، الذين من نسج خياله. إنها مسيرة النضال مع لوحة، وفق تعبيره، «ترفض أن تشقّ طريقها وأن تستسلم». يوضح مروان أنّ شغله في الرسم مسيرة طويلة ومضنية جداً، يكتنفها صراع داخلي عنيف. خلال زيارتي محترفه، أراني بقايا عمل قديم كان يمقته فمزقه بعد أن أنجزه بوقتٍ قصير، لأنّه ما عاد يتحمّل رؤيته. قبل أن «تنجز» اللوحة، وتستقر في شكلها النهائي، يمر مروان بفترة عذاب شديد، ويقول ساخراً: «يتطلب ذلك الكثير من الجهد والمجازفة لتفادي الفشل. وغالباً ما يستغرق وقتاً طويلاً، إنها أشبه بعملية تقطير». مقطعاً بعد مقطع، على مر السنين، تصف دفاتر يومياته سعيه المعذّب لإنجاز كل لوحة، والخوف الذي يلازمه حتى حلول تلك اللحظة.
تتناثر المرايا بين أنابيب الطلاء، والأقلام، والأوراق، والفراشي في محترفه، مرايا صغيرة توضع في حقيبة اليد، ومرايا حجمها ملائم لتوضع في الحمام، ومرايا كبيرة بحجم كبير أشار إليها بمكر، الواحدة تلو الأخرى، وكأنه ساحر يكشف عن أسرار مهنته. والواقع أنّ هذه المرايا لا تكشفها، إنما قصائد بدر شاكر السياب، وعزرا باوند، وأدونيس، ومحمود درويش هي التي تكشفها. ويعلّق: «أردت أن يرى الناس لوحة، وعندما أستعمل وجهي ورأسي، لا يبدّد المرء أي طاقة في فك رموز هوية صاحب هذه الملامح التي تظهر بين طبقات الطلاء»، وضحك بمكر مجدداً.
فيما كنت جالسة في وسط محترفه، وسط معرضٍ للبورتريهات (الوجوه والرؤوس) والأجساد التي تظهر الفنان في شبابه، ثم رجلاً في منتصف العمر، أدركت أنّ أعماله ليست تجسيداً لأفكار، إنما هي تجسيد لانكسارات عوالم داخلية عدة متعددة اللغات، تسكن في داخله. ومروان، السوري في برلين، رسام وجوه وشخصيات استشعرت كرب الإنسانية، ومصائبها وعجائبها، وفرحها، في القرن العشرين. إنه على حد تعبيره رسّام «آثار الوقت الذي يبقى».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.