العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

«سلالات التمرد» لآدم هنية

من تراكم الثروات إلى الثورات

يسعى كتاب «سلالات التمرد» Lineages of Revolt، المكتوب بأسلوب واضح ومركّز، إلى الكشف عن تحليل مادي دقيق للمنطقة العربية، باعتباره خلفية لفهم الانتفاضات العربية الأخيرة. وينجح الكاتب آدم هنية في خرق الأساطير، ليس السائدة منها وحسب، بل تلك التي غالباً ما تظهر في التحليلات التقدمية أيضاً. كذلك ينسف المفاهيم التي تفيد بأنّ الانتفاضات – ونتائجها حتى يومنا هذا – تعزى إلى «سياسات خاطئة» ومؤامرات، وما إلى ذلك. ويظهر عوضاً عن ذلك كيف أنها ثمرة الاقتصاد المتطور في المنطقة، والجهود التي تبذلها الدول في سبيل تعميق هيمنة الأسواق الرأسمالية والطبقات التي تستفيد منها وتوسعتها. باختصار، يصوّر الكتاب جوهر النظام الاجتماعي في المنطقة من خلال رسم أنماط تراكم رأس المال، وبنية الطبقة والدولة، وترابط ذلك كله مع الرأسمالية العالمية. ويتألف الكتاب من خمسة فصول إلى جانب المقدمة والخاتمة.

من الاقتصاد والسياسة إلى الإمبريالية
يستعرض الفصل الأول منهجية الكتاب وفكرته. ويقول هنية إن المسائل الاقتصادية والسياسية كانت تحتلّ تفكير المتظاهرين في العالم العربي، بيد أنّ المسائل المتعلقة بالاقتصاد السياسي لم تحظَ بالقدر الكافي من الدراسة وكانت سطحية وهي تميل إلى التركيز على «المظهر السطحي للفقر والمقاييس النسبية لعدم المساواة عوضاً عن الانخراط في طبيعة الرأسمالية باعتبارها وحدة كاملة منهجية تخترق كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية». ويعتمد إطار هنية على الطبقة الاجتماعية باعتبارها فئة أساسية لفهم ديناميكيات مجتمع الشرق الأوسط، حيث تعرَّف الطبقة على أنّها علاقة اجتماعية تنشأ ويعاد بناؤها في إطار عملية مستمرة من التراكم والتعارض. بالتالي يفضي التركيز على الطبقة إلى مفهوم مختلف للدولة ولتشكيل الدولة في المنطقة. ويرى هنية أنّه لا ينبغي تصوير الدولة باعتبارها «شيئاً» قائماً بحد ذاته، بل بالأحرى مجموعة من العلاقات التي تسمح للطبقة الرأسمالية بأن تحكم. ويتتبع كتاب هنية التغيرات التي حدثت على مر الزمن على صعيد التطور المتداخل للطبقة والدولة في الشرق الأوسط، مع التركيز على ثلاثة مفاهيم رئيسة: تدويل الطبقة والدولة، والامبريالية، والنيوليبرالية.
فضلاً عن ذلك، يوجز الفصل الثاني تطور الامبريالية الاميركية والاوروبية في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وخلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. كذلك، يدرس الركائز الاستراتيجية للحكم الغربي في الشرق الأوسط، استناداً إلى القوة العسكرية، والسياسية والاقتصادية. ويلقي الضوء على استخدام الأدوات المالية مثال الديون والمساعدات الخارجية فضلاً عن مجموعة من الاتفاقات التجارية والاستثمارات التي عملت على تعميق التنمية غير المتوازنة في المنطقة، أضف الى هذا توسيع التسلسل الهرمي في الدولة واستخدام الاختلال في موازين القوى الناجمة عن ذلك لإحكام السيطرة. غير أنّ هذه الاستراتيجية لم تعمل على إعادة ترتيب العلاقات بين مناطق مختلفة في المنطقة والقوى الرأسمالية الكبرى وحسب، إنما ولدت أيضاً مجموعة من العلاقات داخل المنطقة بحد ذاتها. وقد أقام الاتحاد الأوروبي علاقات وثيقة مع دول البحر الأبيض المتوسط، وبخاصةٍ دول شمال أفريقيا، في حين أقامت الولايات المتحدة علاقة مميزة مع دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل، واستخدمت هاتين الركيزتين كمحور لجذب المنطقة تحت هيمنتها. وقد حدثت هذه العملية في إطار مواجهة مع القوى الاجتماعية والسياسية الأصلية وفي تفاعل معها، مع إعادة تشكيل أنماط الدولة والتركيب الطبقي وفتح الطريق أمام تغلغل الإصلاح النيوليبرالي. وقد غيّر ذلك أنماط التراكم داخل المنطقة بحد ذاتها مع تحقيق دمجٍ تفاضلي لمناطق مختلفة من الشرق الأوسط في السوق العالمية، مما يعكس الطابع الاقتصادي للإمبريالية وليس سيطرتها العسكرية وحسب.
ويرسم الفصل الثالث خارطة التجربة النيوليبرالية من خلال التركيز على مصر، والأردن، وتونس، والمغرب بالنظر إلى ملامحها الاقتصادية وتاريخها المتشابه: اقتصاد غير نفطي حيث تمثّل الزراعة والمنسوجات قطاعين رئيسيين في الاقتصاد. ويشرح هذا الفصل بالتفصيل برامج التكيف الهيكلي، واندماج الدول في وقتٍ لاحق في السوق العالمية من خلال الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وذلك عقب أزمات الديون التي حدثت في الثمانينيات.
وقد مرّت الخصخصة النيوليبرالية عبر مرحلتين في معظم هذه الدول: تبدأ المرحلة الأولى في أواخر الثمانينيات مع وضع الإطار المؤسساتي والتشريعي لبيع الأصول المملوكة من قبل الدولة. وخلال هذه الفترة، تمّت خصخصة ما مجموعه ٢٧١ شركة في ٧ دول مع إيرادات إجمالية تصل إلى أكثر من ٨.١ مليارات دولار. أما المرحلة الثانية فبدأت في القرن الواحد والعشرين وشهدت تسارع عملية الخصخصة مع إيرادات إجمالية من عام ٢٠٠٠ حتى عام ٢٠٠٨ تجاوزت الـ٢٧ مليار دولار. وفيما كان قطاعا الصناعة والخدمات في العقود الماضية القطاعين الأساسيين اللذين تمت خصخصتهما، أصبح قطاع الاتصالات والمال في العقد الماضي أكثر أهمية. وإلى جانب الخصخصة، حدث هجوم على العمالة وعلى شروط العمل بشكلٍ عام. وقد تمثلت نصيحة المؤسسات المالية الدولية في أنّ خفض الأجور، وتقليص تدابير الحماية الاجتماعية، يزيدان من جذب المستثمرين.

تسليع الزراعة
وفي السياق نفسه، ترتب عن انفتاح المنطقة على التجارة وتدفق الرساميل وتوقيع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية تأثيرات كبرى على قطاع الأقمشة والألبسة، وهو أحد أهم القطاعات الصناعية غير النفطية في المنطقة. عام ١٩٩٣، شكّل قطاع الأقمشة والألبسة ٣٧.٨ في المئة من إجمالي العمالة الصناعية في المغرب، و٣٨.٩ في المئة في تونس، و٢٩ في مصر، و١٠ في الأردن. وقد أدّت خصخصة هذا القطاع إلى انخفاض حاد في الأجور وشروط العمل. وحدث التوجه نفسه في القطاع المالي عبر مراحل تطوّره وإعادة هيكلته وذلك من خلال إزالة القيود التي تضعها الحكومة وتأثير هذه الأخيرة على تخصيص الاعتمادات، ومن خلال سياسات الإقراض، ومعدّلات الفائدة، وانفتاح القطاع المصرفي على المنافسة الأجنبية، وخصخصة البنوك الحكومية، واستحداث الأسواق المالية غير المصرفية مثال الأسهم والتأمينات على الرهونات، وأسواق السندات. وقد عنى ذلك زيادة سريعة جداً في الإقراض إلى القطاع الخاص الذي ارتفع بما يفوق الضعفين في مصر، وازداد بنسبة ٣٠ في المئة في المغرب، و٢٥ في المئة في الأردن. وكانت الاعتمادات الزائدة التي منحت إلى القطاع الخاص موجهة إلى عددٍ صغير من المقترضين المرتبطين برجال أعمال نافذين وبالتكتلات الكبيرة فكانت بالتالي جزءاً لا يتجزأ من دعم الطبقة الرأسمالية التي تقود الدولة. وبذلك، عززت الأسواق المالية عبر المنطقة من التحولات في هيكل السلطة وفي الطبقة الرأسمالية بحد ذاتها. وينتهي هذا الفصل بقمع الحركات الاجتماعية التي نمت لمعارضة هذه الإجراءات التحررية، وقد جوبه ذلك بتمركز متزايد للسلطة السياسية. ويرى هنية أنّ الدولة ما زالت ممرّ الثروة والسلطة، وأنّ الأكثر تضرراً من هذه السياسات هو جيل كامل من الشباب، ولا سيما الشابات، الذين حُكِم عليهم بمستقبل من البطالة والعمل المنخفض الأجر والاستبعاد الاجتماعي.
ومن خلال التركيز على قطاع الزراعة في شمال افريقيا باعتباره القطاع الأكثر أهمية في هذه الدول، يحلل الفصل الرابع نموّ التجارة الزراعية في تونس، ومصر، والمغرب كنتيجة للنيوليبرالية. بعد لمحة تاريخية وجيزة على التحولات الزراعية في البلدان قيد الدراسة، يُرجع هنية تاريخ خصخصة الأراضي إلى مطلع السبعينيات حيث استفادت منها طبقة ملاك الأراضي الريفية والعائلات الملكية، بينما في تونس ومصر، كانت النخب المدنية هي التي استفادت في الغالب. غير أنّ خصخصة الأراضي في الدول جميعها اتبعت وصفة البنك الدولي في التسعينيات، التي انطوت على وضع حد للدعم الحكومي وعلى توجه نحو الملكية الخاصة، وتسليع الأراضي بالتالي، وتفكيك أنظمة حقوق الملكية الجماعية، وإزالة السقوف الموضوعة على حقوق المؤجر بالمأجور وخصخصة أراضي الدولة يمكن شراؤها وبيعها بسهولة. وقد تمثلت النتيجة الرئيسة لتسليع الأراضي في إنتاج طبقة من ملاك الأراضي الكبار. وبحلول عام ٢٠٠٤، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ثاني أكثر المناطق من حيث اللامساواة في ملكية الأراضي في العالم، مباشرة بعد أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وقد أدى ذلك إلى تدهور الحياة في المناطق الريفية، والنزوح إلى المدن، وتأنيث العمالة الزراعية، وفي مصر بلغ مستوى الفقر في الريف أعلى بـ٢.٦ مرات من مستوى الفقر في المدينة عام ٢٠٠٨.
كذلك، أفضت إعادة هيكلة قطاع الزراعة إلى التركيز على أنواع معيّنة من الفواكه، والخضرة الموسمية، والزيتون، والأزهار، التي يصدّر معظمها إلى أوروبا، ما جعل الانتاج الزراعي يرتبط بشكلٍ وثيق بالأسواق الأوروبية. غير أنّ التركيز على دفع المحاصيل الموجهة نحو التصدير أدى إلى إفقار المناطق الريفية لأنّ معظم المزارعين الذين يعيشون في المناطق الريفية لم يستثمروا في قطاع التصدير، ولأنّ كبار المزارعين والشركات التجارية تسيطر على تلك التجارة. فعلى سبيل المثال، تستأثر ٧ شركات تجارية في المغرب بـ٧٠ في المئة من صادرات المغرب من الفاكهة والخضرة الطازجة. في شتى الأحوال، استأثر المصدّرون الزراعيون بزيادة هائلة في الثروة (عام ٢٠٠٩ كانت قيمة الصادرات الزراعية أكثر بـ١٠٠ في المئة من قيمة المنتج لدى تسلمه من المزرعة). كذلك، أدّى ازدياد التجارة الزراعية والتجارة الزراعية المتكاملة عمودياً إلى المزيد من ترسيخ الثروة وإلى زيادة الاستثمارات الأجنبية في قطاع الزراعة أيضاً.

فلسطين في الاقتصاد السياسي
ويبدأ الفصل الخامس بتساؤل عن الافتقار إلى تحليل اقتصادي سياسي لفلسطين على الرغم من مركزية القضية الفلسطينية. ويرى هنية أنّ الاقتصاد السياسي للطبقة الحاكمة الفلسطينية وتشكيل الدولة بمثابة حاجة أساسية لفهم الاستيطان وتجريد الشعب الفلسطيني من أملاكه. فمنذ عام ١٩٦٧ وحتى انتهاء الانتفاضة الثانية، حاولت إسرائيل إضفاء الطابع الرسمي على نظام المعازل ولوم الفلسطينيين على طريقة عمل هذا النظام. كذلك ساهم بناء المستوطنات والاستيلاء على الأراضي الزراعية ونظام طبقات المياه الجوفية في تحويل الفلسطينيين إلى أيد عاملة رخيصة ـ مثّلت تحويلات العاملين منهم في إسرائيل ربع الناتج القومي الإجمالي الفلسطيني تقريباً - وفي حرمانهم من الأمن الغذائي. ومع تطبيق اتفاقيات أوسلو، بدأت إسرائيل باستبدال العمالة الفلسطينية وجلب عمالة رخيصة من آسيا وأوروبا الشرقية، ما أدى إلى انخفاض في القوة العاملة الفلسطينية من ٣٧ ٪ إلى ١٤.٩% عام ٩٦ وتراجع التحويلات من إسرائيل من ٢٥% إلى ٦% من الناتج القومي بحلول عام ٩٦، فصار الفلسطينيون أكثر اعتماداً على القطاع العام والقطاع الخاص المؤلف من شركات عائلية صغيرة.
وقد ترافقت عملية اعتماد الشعب على السلطة الفلسطينية مع خضوع الاقتصاد الفلسطيني بشكلٍ متزايد لإسرائيل. والجدير بالذكر أنّ ٧٠ في المئة من سلع الضفة الغربية وغزة تأتي من إسرائيل، وإسرائيل هي المستفيد الأكبر من المساعدات المرسلة إلى السلطة الفلسطينية من خلال اعتماد هذه الأخيرة على الأسواق الاسرائيلية. كذلك تحصّل اسرائيل الضرائب وتقدّمها بشكلٍ دوري إلى السلطة الفلسطينية.
ويُذكر أنّ الطبقة الرأسمالية الفلسطينية قائمة على اندماج ثلاث مجموعات اجتماعية: رساميل العائدين ومعظمهم من الفلسطينيين الذين جمعوا أموالهم في الخليج، ومالكي الأراضي الكبار من عام ٦٧، وأولئك الذين راكموا ثرواتهم من خلال موقعهم كمحاورين مع الاحتلال عام ٦٧. وبحلول عام ٢٠٠٧، أتم انقسام غزة والضفة الغربية عملية قيام المعازل (البانتوستانات). وانطلقت الإصلاحات النيوليبرالية مع لقاء باريس عندما اتبعت السلطة الفلسطينية مسار التكيف الهيكلي نفسه في كل مكان. وهكذا عملت النيوليبرالية على تعزيز تشتت الشعب الفلسطيني من خلال تحويله إلى مستهلكين أفراد، وأنتجت معدلاً مرتفعاً من الفقر فضلاً عن إثراء طبقة صغيرة جداً من الفلسطينيين الذين يؤدون دور الوسيط مع الرأسمال الاسرائيلي والأجنبي. ولطالما عمل التطور الرأسمالي على مر السنين في سبيل تعزيز السلطة الاسرائيلية على فلسطين، ما ولّد طبقات من المجتمع الفلسطيني تقف في مواجهة مصالح معظم الشعب. بهذا المعنى، يعتبر فهم الاقتصاد السياسي للرأسمالية الفلسطينية ومواجهته مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بنضال التحرر الوطني والعودة.

رأس المال الخليجي في توسّعه العربي
أما في الفصل السادس فيستند هنية إلى كتابه السابق بعنوان «الرأسمالية والتكوّن الطبقي في دول الخليج العربي»، من خلال وضع التحليل المتعدد الأوجه الذي يورده الكتاب ضمن إطار العمل الشامل الذي يطوره في كتابه «سلالات» (أنظر مراجعة هذا الكتاب في مجلة «بدايات» العدد ٢). ويدرس هنية تشكل الطبقات الرأسمالية في دول الخليج العربي، التي لم تستمد ثروتها من النفط وحسب، بل أيضاً من صناعات ذات صلة كالفولاذ والإسمنت والألومينيوم التي استفادت من أسعار كهرباء دنيا بفضل انخفاض تكاليف النفط والغاز. ويشدد هنية على كيفية استغلال ذلك لتوحيد الهيمنة الخليجية وتعزيزها عبر الحدود الوطنية وحدود القطاع الصناعي، بما يتخطى شعار الدولة الريعية. والحال كذلك، أدى انحراف الاقتصادات الخليجية نحو النفط، بشكلٍ بدا مثيراً للسخرية، إلى روابط متبادلة محكمة مع رأسمال الدول المتطورة، ليس في قطاع النفط والغاز وحسب، بل أيضاً في التصنيع، والمال، والعقارات، والخدمات الصناعية. ويصف هنية تداخل رأس المال الذي من الخليج مع رأسمال الذي من فلسطين ولبنان، باعتماد مفهوم أولمان لـ«لعلاقات الداخلية». كذلك، يوثّق سيطرة رأس المال الخليجي على قطاعات حيوية في الاقتصاد المصري.
ومن خلال ذلك، يصوّر هنية مرة أخرى العلاقات بين الحكام العابرة للحدود والحاجة التي نتجت من ذلك إلى أن يرفع المحكومون آفاقهم السياسية إلى المستويات الإقليمية والعالمية. وهذا ما يمكّننا من فهم الدور المعادي للثورة الذي تؤديه دول الخليج عبر المنطقة في جذوره، وليس ببساطة باعتباره تفضيلاً ايديولوجياً أو دينياً من قبل رؤوس النظام. على سبيل المثال: «يثبت المثال المصري أنّ تدويل رأس المال الخليجي لم يكن ببساطة قضية ولوج إلى العائدات النفطية ونشر تدفقات البترودولار، إنما كان يتوقف على تعزيز النيوليبرالية في منطقة الشرق الأوسط ككل. فأصبحت قطاعات أساسية في الاقتصاد المصري، مثال التجارة الزراعية، والمال، والصناعة، والعقارات، مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالرأسمال الخليجي». وينتهي هذا الفصل بالتشديد على الحاجة إلى تحليل الشرق الأوسط ليس بصفته سلة من الدول - الأمم وحسب، إنما عوضاً عن ذلك «باعتباره كناية عن مجموعة من العلاقات الاجتماعية المترابطة داخلياً والتي تتخطى الحدود الوطنية». وتتمثل النتيجة الحاسمة لذلك في أنّ «أي عكس لأنماط التنمية النيوليبرالية في الشرق الأوسط يتطلب التصدي للرأسمالية في دول الخليج بحدّ ذاتها. ولهذا السبب، تعتبر الصراعات السياسية في الخليج... ذات أهمية كبرى وهي تشكل استمرارية مباشرة لتلك التي تدور في مكان آخر في الشرق الأوسط».

الثورة وأزمة النيوليبرالية
كذلك، تم تكريس الفصل الأخير لأزمة النيوليبرالية والثورة العربية. وفي سياق شرح عوامل مختلفة طبعت ثورة كل دولة بالتفصيل، يشدّد هنية أيضاً على الموضوع الموحد المنبثق عن الانتفاضات: أنّ الحركات الشعبية جسّدت ما هو أكثر بكثير من إطاحة الطغاة المكروهين. إن التركيز على المظهر السطحي للتظاهرات يحجب فحواها الحقيقي: «فالمعركة ضد الاستبداد السياسي مرتبطة حتماً بديناميكية الصراع الطبقي. وبذلك لم تعكس هذه الانتفاضات مجرد أزمة تتعلق بشرعية النظام أو قلقاً على الحرية السياسية وحسب، إنما كانت في جذورها، تواجه نتائج التطور الرأسمالي بحد ذاته». لذا تبقى الأسباب الجذرية لهذه الانتفاضات من دون معالجة، واحتمال تجدّد الصراع قائماً دائماً. ويتمثل السبب الرئيسي لهذا التفاؤل الحذر في الوضوح المتزايد للديناميكيات الاجتماعية والطبقية التي حفزت هذه الحركات، وفي التعبئة الجريئة المستمرة. فملايين الأشخاص الذين خرجوا إلى الشوارع للمرة الأولى عام ٢٠١١ هم أنفسهم قد تغيروا بشكلٍ جذري. ذلك أنه على العملية الثورية إما أن تمضي قدماً لمواجهة الرأسمالية بحد ذاتها أو أن تهمد لجيلٍ آخر. وحقيقة أنّ هياكل الملكية تتدفق اليوم في أنحاء المنطقة كافة، وبين المنطقة والدول الامبريالية، لها انعكاسات على صعيد الدولة والطابع الطبقي لأي ثورة ضدها. وتشير خاتمة هنية إلى أهمية انتفاضات المنطقة بالنسبة إلى عالم في ثورة ضد الأزمات، والتقشف، والقمع. ولأنّ الأمل البازغ في المنطقة يمثّل بارقة أمل بالنسبة إلى المستغَلّين والمقموعين في العالم أجمع، يصبّ نجاح الثورة في العالم العربي في صالح الجميع.

في الطبقة الوسطى
والسلطة الطبقية
على الرغم من مساهمات الكتاب، يجدر طرح عدد من الأسئلة.
أولاً، يركّز تحليل هنية بشكلٍ أساسي على الطبقة الرأسمالية وبعض الانعكاسات على صعيد العمل والطبقة العاملة، وتبقى الطبقة الوسطى غائبة في الكتاب. وعلى الرغم من أنّ هذه الطبقة تشكّل شريحة مهمة من الشعب، وعلى الرغم من أهميتها بالنسبة إلى المشاريع السياسية، لا يخبرنا الكتاب شيئاً عن طبيعتها، وعلاقتها بالطبقة الرأسمالية أو الطبقة العاملة. وهذا عيبٌ أساسي في كتابٍ يعنى بالثورات، والثورات المضادة في المنطقة. ماذا حلّ بالطبقات الوسطى التي كانت تشغل الوظائف العامة بعد الخصخصة؟ أين يعمل أفرادها الآن؟ هل يعملون في المنظمات غير الحكومية؟ هل تقلصت الطبقة الوسطى؟ أو تبدّلت تركيبتها؟ وما موقع أفراد منها في مشاريع الطبقة الرأسمالية؟ ما هي ايديولوجيتها؟ وما علاقتها بالطبقة العاملة؟ وبدايةً من هم أفراد الطبقات الوسطى اليوم؟ وأين يعملون؟ ثانياً، وفي ما يرتبط بالنقطة الأولى، على الرغم من المساحة الكبيرة التي أعطيت للطبقة الرأسمالية في الكتاب، نطّلع على تكوين رأس المال ضمن الطبقة نفسها إنما ليس على ما تفعله كطبقة لتعزيز قوتها وبخاصةٍ عندما نتحدث عن نظامٍ رأسمالي ينتج الكثير من الظلم. وهذا ما جعل الكتاب أشبه باقتصادٍ سياسي اقتصادوي. كذلك تُحلل الطبقة باعتبارها اسماً حركياً لرأس المال لا يرتبط بسلطات سياسية محلية ولا بطبقات داخلية أخرى، وتقتصر عواقبها الاجتماعية على استغلال العمل والطبقات العاملة. بالتالي يهدف الكتاب إلى تحليل تكوين الطبقة، وينبغي قراءته من منطلق أنّ تغيير السياسات الاقتصادية وأساليب الإنتاج، يؤدي إلى بروز طبقة رأسمالية، تحلل من منظور تكديسها الثروة عوضاً عن ثقلها الاجتماعي أو خلفيتها الاجتماعية وانتماءاتها السياسية.
ثم إن التحليل لا يطاول كيفية ارتباط هذه الطبقة بالطبقة السياسية، أو بالكاد، فضلاً عن كيفية استغلال هذه الرأسمالية للدولة لأغراض تكديس الثروات. ويُذكر أنّ علاقة الطبقة الرأسمالية بالطبقة الوسطى ليست وحدها الغائبة، بل أيضاً علاقتها بالطبقة السياسية، التي يمكن اعتبارها لأسباب كثيرة جداً قد اضحت طبقة رأسمالية. وبمعنى آخر، ما من تحليل لتزاوج السياسة والأعمال في الكتاب.
ثالثاً، وردت خلاصات سريعة، في بعض الأحوال، دون المزيد من التحليل. على سبيل المثال، انتهى تحليل برامج التكيف الهيكلي وآثار الأزمات الاقتصادية الناتجة منها على الفقراء بخمس صفحات تناولت معاناة الجيل الشاب من البطالة دون ذكر نسبة الشبان مقارنة بعدد السكان.
في المحصّلة، يشكّل الكتاب مرجعاً بارزاً بشأن تراكم الثروة والتغيرات الاقتصادية في المنطقة خلال العقود القليلة الماضية.

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥
من تراكم الثروات إلى الثورات

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.