بَعدَ خمسة وثلاثين عاماً من دكتاتورية البعث وثلاث حروب دموية وحصار اقتصادي ظالم، حطّم النسيج الاجتماعي في العراق وعرقَلَ ديناميكية التطوّر المجتمعي، جاء الاحتلال الأميركي في العام ٢٠٠٣ ليُجهض آمال المجتمع ويُدخِل البلاد في دوامة المحاصصة الطائفية والعِرقية والحرب الأهلية المُعلَنة أحياناً، والمستترة أحياناً أُخرى. تخصّصَت حكومات المحاصصة بامتياز في احتقار الشعب والتفنن في سرقة أمواله، وكانت ورَقة الطائفية الأساس لضمان استمرارية الحكم لمجموع اللصوص والتافهين.
ركّز البعث في العراق (وسورية أيضاً وإن اختلفت التطبيقات) على السيطرة الشمولية لكل نواحي الحياة. فالتعليم والصحة والصناعة والثقافة، بالإضافة الى الأجهزة الأمنية الأخطبوطية، جلّها خَضَعَت للتبعيث بشكل مبَرمَج ومكَثَف منذ العام ١٩٦٨. لكن كان هناك حد أدنى من الخدمات، فالنظام التعليمي العراقي كان، على محدوديته، واحداً من أفضل الأنظمة التعليمية في العالم العربي والشرق الأوسط عموماً، كذلك الجهاز الصحي والخَدَمي (الماء والكهرباء، إلخ). في المقابل، لم يكن البناء والتطوير من أولويات البعث، إذ عانت صناعة الپتروكيمياويات في العراق، الوحيدة في منظومة دول العالم الثالث المُصدرة للنفط، إهمالاً كبيراً منذ تسلّم البعث السلطة عام ١٩٦٨، ولم تَستثمر الدولة ما يُذكر في تنمية وتطوير هذه الصناعة المهمة. ومن الجدير بالذكر، أن الفائدة العظمى للنفط لا تكمن في كونه مصدراً مهماً للطاقة فحسب، بل أساساً في المنتجات الاستهلاكية والصناعية التي أصبحت جزءاً لا يُمْكِنُ الاستغناء عنه في حياة أي مجتمع متطور، أو شبه متطور. أكثر من ٥٥ بالمئة من إيرادات كُبرى الشركات النفطية العالمية (BP أو Shell أو Exxon-Mobil، إلخ) مُتأتّية من حوالى أربعة بالمئة من النفط المُستَخرج من حقول الشرق الأوسط وغيرها من المناطق في العالم. هذه الأربعة بالمئة تُوظَّف في تصنيع المواد المُستخدمة في صناعة الطائرات والسيارات، وكذلك المواد الكيمياوية المستخدمة في صناعة الأدوية والعطور والأصباغ وحتى بعض مكونات المواد الغذائية.
المغزى من الشرح المُستفيض نسبياً هو إيضاح الجدلية التاريخية التي أرجعت العراق فعلياً إلى القرن التاسع عشر. عراقُ ٢٠١٥ يستورد الورق وأقلام الرصاص والإسمنت وحتى التمور والبطيخ. لقد تَغيَّر نمط الحكم في العراق مِن شمولية البعث إلى تعددية حكم اللصوص، وكل مَن وَصلَ دفة الحكم بعد العام ٢٠٠٣ لص أو/وعميل لهذه الدولة أو تلك. لكن لكل قاعدة استثناء، ومَن لم يُجارِ منظومة المحاصصة والسرقة، قُتِلَ أو نَفذَ بجلده إن كان محظوظاً. وقد تفاقم الوضع المجتمعي والسياسي في العراق بعد العام ٢٠٠٣ بسبب أدلجة الإسلام السياسي الشيعي لميثولوجيا مظلومية شيعية وفق منظور شوفيني إقصائي. إذ انتهجَ الإسلام السياسي الشيعي الأسلوب البعثي بامتياز، وتجاوزَت منظومة الإسلام السياسي الشيعي عن عمدٍ التمييز والاستغلال والقمع الذي تَعرض له أغلبية الشيعة (وجلهم فقراء) عبرَ التاريخ من قبل ثنائية السلطة الرسمية واللاهوت الديني الشيعي. والتاريخ شاهدٌ كيف استغلَ رجل الدين مَنصبه الروحاني لمصالح شخصية بحتة، وصلَت أوجها بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
«باسم الدين باكونة (سرقونا) الحرامية»...
يدافع العراقيون اليوم عن وجودهم الإنساني ويُطالبون بخدمات تليق بالبشر في هذا العالم الذي يَحمي أساساً وجود الأغنياء وأجهزة الأمن والأمراء. آلاف العراقيين، نساء ورجال، ملأوا ساحتي التحرير في بغداد والحبوبي في الناصرية وشوارع وساحات عراقية كثيرة يهتفون «باسم الدين باكونة الحرامية» ويطالبون بإلغاء المحاصصة الطائفية وإقالة الوزراء والبرلمانيين ومحاسبة الفاسدين والسارقين. ويكمن جوهر الاحتجاجات الجماهيرية من البصرة إلى كركوك في أن نسبة مَن هم دون الثلاثين تُقَدر بما يزيد على الستين بالمئة من مجموع سكان العراق، ونسبة البطالة وسط الشباب وصلت السبعين بالمئة (ولا يزال العراق يفتقد في العام ٢٠١٥ الإحصاءات الحكومية الدقيقة لعدد سكان البلد ونسبة الشباب، إلخ. وما نُورده هنا مَبنيٌ على تقديرات فردية قابلة للمراجعة).
بدأت التظاهرات العفوية في أوائل شهر تموز/يوليو في البصرة عندما خرجَ أهلها يُنددون بالوضع المعيشي المأساوي، وفي السادس عشر من الشهر نفسه قُتِلَ الشاب مُنتَظر علي الحلفي برصاص الشرطة المحلية (في قضاء المَدينة) وهو يتظاهر ويحلم بمستقبل أفضل. واستمرت الاحتجاجات لتصل بغداد أوائل آب/ أغسطس لتُعبّر عن التدهور المستمر والمتفاقِم للأوضاع المعيشية والاقتصادية والأمنية في البلد ككل. خروج الشبان والشابات، بكثافة مميزة، خارج نطاق الأحزاب السياسية، علمانية كانت أو دينية، يشير إلى تبلور وعي سياسي يميّز بين السلبي/الإيجابي والرجعي/التقدمي بدون الحاجة إلى بوصلة ذويهم المهترئة أو التأويلات الغيبية لمُترَفي الشتات العراقي. إنّ تظاهرات الآلاف هي البداية الضرورية للتغير السياسي والاجتماعي من خلال منحىً معقول بعيداً عن المزايدات والمهاترات.
لقد حاولت الأحزاب الإسلامية الشيعية الالتفاف على التظاهرات، لا سيّما في بغداد، وأبرزها محاولة «عصائب أهل الحق» التقرب من بعض النشطاء المدنيين المعروفين بالتملق للسلطة. لكن لم تنجح هذه المحاولات، واستنفد الإسلاميون ــ المناوئون حيناً والمناصرون حيناً آخر للحكم الحالي، كعصائب أهل الحق وبعض الأحزاب المُنافِسة، لتفرد حزب الدعوة كحزب المجلس الإسلامي بزعامة عمار الحكيم ــ رصيدهم ورَفَضهم المتظاهرون بوضوح وإصرار. حاول الحزب الشيوعي العراقي نهاية فصل الصيف تجنيد نفوذه وشعبيته (المحدودة في أوساط الشباب) في دعم التظاهرات والسعي لقيادتها، إلا أن ذلك جُوبِه بنوعٍ من الحذر من قبل المتظاهرين الشباب، إذ إنّ الحزب الشيوعي العراقي الذي كان قادراً على حشد ما يزيد على مليون متظاهر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، أصبحَ هامشياً في الحراك الشعبي في ٢٠١٥. لا يتفهم، وربما لا يَغفر، الكثيرون دواعي مشاركة الحزب في حكومة بريمر الانتقالية حين كان العراق تحت الاحتلال الأميركي. وكانت مشاركة الأمين العام للحزب حميد مجيد موسى ممثلاً عن «المكون الشيعي» وفق التقسيم آنذاك صفعة في وجه العلمانية ومبادئ الحزب الأساسية. ثم أتت مشاركة الحزب في أكثر من ائتلاف، تارةً مع «القائمة العراقية» التي تزعمها أياد علاوي، وتارةً أخرى مع «التيار المدني» الذي يضم لفيفاً غريباً من دعاة الليبرالية في العراق وبالتحديد مِثال الآلوسي المُتَحمس للعلاقات مع دولة إسرائيل. هكذا يستعيد الحزب الشيوعي، أو الجناح المعروف باللجنة المركزية، تاريخاً مريراً من التحالفات السيئة مع حزب البعث في سبعينيات القرن الماضي. هذه التحالفات انتهت بمطاردة سلطة البعث الحاكمة آنذاك لكادر الحزب وإعدام أو تشريد الآلاف من أعضائه ومناصريه. وقد رفضَ المتظاهرون في بداية الحركة الاحتجاجية الحالية السماح لبرلمانية من «التيار المدني» باعتلاء مِنبر مع حشود المتظاهرين إن لم تتخلَ عن منصبها وامتيازاتها البرلمانية.
الفساد والمحاصصة الطائفية والعِرقية
استمرت التظاهرات في بغداد وعموم مُدن الوسط والجنوب العراقي، وإن امتازت بشيء فهو لاطائفيتها الواضحة ورفض عموم المتظاهرين لأي خطاب طائفي أو عِرقي. تباينت أعداد المتظاهرين بين ما يزيد على عشرات الآلاف في حرّ آب/ أغسطس الى بضعة آلاف خلال الأسابيع الأخيرة، ولكن الزخم مستمر حتى الآن. استقرت التظاهرات الاحتجاجية على الشباب خارج نطاق الأحزاب السياسية المساهِمة في عملية المحاصصة، وبالأساس خارج مَعمَعة الأحزاب الإسلامية الشيعية. فبين حين وآخر، شارك مناصرو مقتدى الصدر (التيار الصَدري) بكثافة في التظاهرات، ولكن سُرعان ما خفَّت حماستهم وتركوا ساحات الاحتجاج، إذ إن أبرز عناصر الفساد والسرقة في الدولة العراقية مقسمون بين حزب الدعوة وحزب المجلس الإسلامي والتيار الصدري، مع حضور ثابت وواضح لعناصر الحزب الإسلامي (القريب من الإخوان المسلمين) والقائمة العراقية (بكافة انشقاقاتها، والمقربة من التكتلات السنيّة والجهات البعثية). هكذا تخلصت الاحتجاجات الجماهيرية تدريجياً من التأثيرات المباشرة للأحزاب الإسلامية بتنوع مشاربها. وقد شاركت بعض المنظمات العمالية والنسوية في التظاهرات الاحتجاجية، إلا أن ضعف الحضور العمالي في الوسط الاحتجاجي كان واضحاً. تنظيمات النقابات العمالية والمهنية كانت مسموحة قبل ٢٠٠٣ ولكن تحت راية حزب البعث، ولم يكن هناك أي وجود مُستَقل للتنظيمات العمالية. تفاقمَ الأمر بعد ٢٠٠٣ إذ لم يُسمَح، حسب قانون الوصاية الأميركية، بتأسيس (أو بالأحرى إعادة تأسيس) تنظيمات عمالية ومهنية مستقلة.
الجدير بالذكر، أن منظمي التظاهرات الاحتجاجية جابهوا تحديّات شخصية من قبل أجهزة «أمنية» وأخرى «مجهولة» (تُقرأ ذات صلة بأحد المتنفذين في الدولة أو البرلمان أو الأحزاب الإسلامية الشيعية). وتعرَضَ البعض لحالات اعتداء وتهديد بُغية الكفّ عن المشاركة في الاحتجاجات، وربما كان أبرزها الاعتداء على الناشط وأحد منظمي التظاهرات خالد جميل رضا العكيلي وقتله رمياً بالرصاص أمام بيته في الكوت (محافظة واسط).
برغم الطابع اللاطائفي للتظاهرات من البصرة الى بغداد، فشَلت في توحيد وجهات النظر مع شباب المناطق الغربية والشمالية. فثُلث العراق، شمالاً وغرباً، لا يزال إما تحت سيطرة داعش أو مُهدداً منها. العراق، شئنا أم أبينا، خضعَ لتقسيمات عنيفة خلال العقد الأخير وسيتطلب رأب الصدع بين الفئات المجتمعية مجهوداً كبيراً يستوجب أساساً الخروج من فَخ المحاصصة الطائفية وإدراك مسائل متعددة أهمها واجب اعتذار الكثير من الوسط العلماني الشيعي عن ردود الفعل إزاء أهل الموصل ومناطق سهل نينوى عقب احتلال داعش لتلك المناطق. لقد عانى أهل الموصل والمناطق المحيطة من تهميش حكومة المالكي أساساً ومن ثمَّ إجرام داعش، ولكن للأسف الكبير شكّك البعض في دور أهل الموصل في ردع التنظيم وفي معاناتهم قبل وبعد سيطرته على مناطقهم. المطلوب هو مصالحة وطنية يقودها شباب العراق بعيداً عن الهيكلية السياسية المهترئة، وبالتأكيد بعيداً عن مفاهيم المناطقية والمحاصصة. وستتطلب هذه المسألة جهداً كبيراً لا سيّما أن حكومة نوري المالكي ساهمت كثيراً في تعميق الهوّة بين المناطق والطوائف والأديان في البلد على مدى ثمانية أعوام بسبب سياسات الإقصاء والتهميش ضد أهالي المناطق الشمالية والغربية.
المنطقة الخضراء: بؤرة الفساد
في إحدى تظاهرات البصرة (يوم السبت ٨ آب / أغسطس) رَفَعَ مُتظاهرٌ لافتةً مهترئة المظهر، عميقة المعنى، يُطالب فيها بمُحاكمة نوري المالكي على مذبحة سبايكر (التي ذهب ضحيتها ما يُقَدر بألف وسبعمئة مُجند عراقي بأيدي مُجرمي داعش). إذ حاول المالكي ونخبته عَجن فردية الحُكم الصدامي مع شمولية البعث بطائفية حزب الدعوة، وفي طريقهم قاموا بالتحضير لنهب السلطة والثروات في البلد. وفي رطانة أيديولوجية، وظّفها الإسلام السياسي بامتياز، هيأوا أنفسهم لخدمة المُحتل الأميركي ونقيضه المُموِّل الفكري (الإيراني بما يخص الأحزاب الشيعية، والسعودي أو الخليجي بالنسبة للأحزاب السنية) سعياً للحفاظ على السلطة وامتيازاتها المادية. تحت راية المالكي وحزب الدعوة، تحالفت بقايا البعث العراقي مع داعش واحتلوا ثلث العراق، فيما البرلمان ورئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية وقادة الجيش منغمسون بالنهب والسرقة في وضعٍ سريالي، أشبه باللامعقول. ترك أكثر مِن مليوني مُهجَّر (لا نازح، حسب الوصف الإعلامي غير الدقيق) سَهل نينوى وصحراء الرمادي ولا يزالون في وضع سيئ. وما يُشكل وصمة عار يندى لها جبين الإنسانية جمعاء هو السكوت المُطبق عن مصير الطائفة اليزيدية، إذ قُتِلَ مئات الرجال البالِغين على يد داعش وسُبيَتْ النساء وبِيعَتْ الشابات دون العشرين عاماً. حَصلَ كل ذلك وحكومة المالكي مستمرة بنهجها الطائفي والسرقة ليلَ نهار. لم يتغير الكثير فعلياً بعد تسلّم حيدر العبادي رئاسة الوزراء إذ حافظَ المالكي وأزلامه على سلطة النهب والسرقة.
أجبرت التظاهرات رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي على تقديم مذكرة إصلاحات إلى البرلمان. والقيمة الفعلية تَكمُن في إدراك السياسيين العراقيين أن الأمور تغيرت وأنّ الآتي أعظم. أضحت حكومة العراق، وهي الأكثر فساداً في منظومة الدول حسب تقارير الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية، منذ العام ٢٠٠٣ وكراً للفساد السياسي والمالي، وتفنّن الإداريون في السرقة والنَهب. فقد اكتشفنا أن في العراق ما يزيد على سبعمئة منصب وكيل وزير (عدد الوزارات كان ٣٣، طلبَ العبادي أخيراً تقليصها إلى ٢٢) وما يزيد على ألف مُستشار وأربعة آلاف مُدير عام، وشبكة هائلة من الحماية لكل مسؤول حكومي. هذا بالإضافة إلى الامتيازات الخيالية لنواب البرلمان، والتي مكّنت الكثير منهم من أن يصبحوا أغنياء جداً بين ليلة وضحاها ــ ومصارف وعقارات لندن وجنيف وبيروت ودبي وعمان وأنقرة واسطنبول خير دليلٍ على ذلك. ومن المُضحك المُبكي، على سبيل المثال لا الحصر، أجرى برلمانيٌ عملية جراحية (بواسير) في ألمانيا، في العام الماضي، على نَفَقة الدولة بكلفة خيالية تُقدر بمئتي ألاف دولار لسببٍ يصعب فهمه منطقياً.
بعد إعلان العبادي نيته إجراء إصلاحات، من ضمنها إلغاء مناصب وكلاء رئيس الوزراء والجمهورية ودمج الوزارات وإلغاء بعض المناصب الوزارية والكثير من مخصصات نواب البرلمان وغيرها، سافر رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي نوري المالكي إلى بيروت للتأكد، على أغلب الظن، من سلامة ثروته المودعة في مصارف لبنان. ثم توجه إلى طهران للحصول على التأييد والدعم (وربما ضمانات بعدم محاكمته عن ملف الفساد المالي والسياسي والعسكري بما يخص سقوط محافظة نينوى تحت قبضة داعش الهمجية). أصبح العراق بالنسبة إلى كثيرٍ من السياسيين الذين واكبوا الاحتلال الأميركي، غنيمة تُستَغل إلى آخر قطرة نفط!
ربما نكتشف لاحقاً إلى أي حدٍ رَهنَ سياسيو المحاصصة العِرقية والطائفية أرضَ العراق وخيراته الطبيعية (الماء والنفط والغاز الطبيعي) للشركات الأجنبية خدمةً لمصالح شخصية ونَزوات آنية. فمن غير المعقول أن يزيد إنتاج العراق النفطي على الأربعين مليار (ألف مليون) دولار سنوياً منذ عام ٢٠٠٤، ولم تُنجِز الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية (التي تُقطِر فساداً أيضاً وتسيطر عليها أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في معظم مُدن وأقضية الوسط والجنوب العراقي) مشروع إعمارٍ واحداً أو تُشيِّد مدرسة حديثة، فضلاً عن توفير أبسط المتطلبات المعيشية كالكهرباء والماء الصالح للشرب، أو الأدوية غير الفاسدة. باختصار، إنّ معظم مَن له علاقة بالحكم المركزي أو المحلي في عراق اليوم، إسلامياً كان أم ليبرالياً، عربياً أم كردياً، شيعياً أم سنيّاً، هو لِص، والاختلاف فقط هو بمقدار الاختلاس والسرقة ــ مليون دولار أم مئات الملايين من الدولارات؟ ما حصَلَ بعد ٢٠٠٣ هو إعادة تأهيل الإقطاع بطريقة فجّة وبمصطلحات ما بعد حداثية.
لقد وصلَ الحال بالعراقيين أن يُغيروا أسماءهم ــ تماشياً مع المناخ السائد ــ لأجل تأمين وظائف وغيرها من أساسيات الحياة. ومِن سُخرية القدر أن يُلام سكان الوسط والجنوب العراقي على مصائب وفساد الإسلام السياسي الشيعي، كما حاولت حكومة المحاصصة معاقبة أهل المناطق الغربية والشمالية على جرائم صدام حسين والبعث. مَن يحكم العراق بعد ٢٠٠٣ تَتَلمذَ على يد مَن سَبَقهم، ولم يتعِظ من مصيرهم.
الأمل وسط الخراب
لا تزال التظاهرات الاحتجاجية تفتقر إلى قيادة شبابية تتمكن من بلورة مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي، وهنا يكمُن جوهر إمكانية التغيير. العراق بحاجة إلى ثورة تُعيد هيكلة العقد الاجتماعي خارج نطاق القبيلة/ الطائفة/ القومية/ الفئوية. الصراع في العراق سياسي ــ طبقي في أساسه، والأحزاب الإسلامية الشيعية تٌحارب الآن من أجل تأمين مكاسبها الاقتصادية، وستعقد الصفقات مع الشيطان لضمان ديمومة هذه المكاسب. هناك صراع شيعي ــ شيعي لإعادة غربلة التركيبة السياسية، إذ بالرغم من موافقة برلمانيي معظم الكتل السياسية، ولاسيّما حزب الدعوة والمجلس الإسلامي والتيار الصدري، لم يتنازل أي شخص حتى الآن (من ضمنهم أعضاء التيارات الكردية والقوائم السنيّة) عن منصبه أو امتيازاته المالية، وزيراً كان أم مديراً عاماً أم برلمانياً. ولم تَرَ وثيقة العبادي للتغييرات الوزارية والبرلمانية النور، ويدور الآن كثير من الكلام عن إمكانية حصول «انقلاب» داخل الوسط الشيعي باتفاق أميركي ــ إيراني ــ سعودي. هل سيحدث هذا الانقلاب لترجيح كفة دعاة ضمّ العراق للمنظومة الرأسمالية بوصاية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولا سيّما أن البلد يُعاني عجزاً مالياً مُرعباً بسبب الفساد والسرقة من ناحية، وبسبب انخفاض أسعار النفط والغاز من ناحية أخرى؟ هل ستصبح المحاصصة الطائفية والعِرقية جزءاً مؤسساتياً من تركيبة «دولة العراق» ويسير البلد في منحى لبنان؟ هل ستتغلب الجيوبوليتيكية وتنجح فعلاً في تقسيم العراق إلى دويلات وأقاليم؟ كل دول الجوار (إيران والسعودية والخليج عامةً، والأردن وتركيا) تُحبِّذ تفتيت العراق إلى إمارات ريعية ــ استهلاكية ــ غير مُنتِجة، وتتوافق هنا مصالح «الأشقاء» العرب والمسلمين مع دولة إسرائيل. هل سينجح الشباب العراقي في قَلب الموازين الإقليمية وخلق مفهوم للتعايش المشترك بين الجنوب والوسط والشمال على أسس إنسانية خارج مفهوم الفئوية، والنهوض بالعراق نحو التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية؟ ليس هناك وصفة سحرية تُؤمِّن حلاً مثالياً. لكنْ، للشباب العراقي دورٌ مهم في إمكانية إعادة الاعتبار للعراق الموحد وإخراج الدين من حلقة السياسة، والشعوب الحيوية والواعية تصنع مستقبلها بالرغم من كل المصاعب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.