ليل السبت 22 آب / أغسطس 2015
انتهت المعركة. صمدنا، نحن المتظاهرات والمتظاهرين السلميين، في وجه عنف القوى الأمنية، واستطعنا العودة إلى ساحة رياض الصلح التي أبعدتنا منها القوى الأمنية بقوّة السلاح والرصاص المطاطي والحي والقنابل المسيّلة للدموع وخراطيم المياه.
نصبنا خيماً على الرصيف. أعلنّا الاعتصام المفتوح حتى إطلاق سراح الموقوفين لدى القوى الأمنيّة ومحاسبة المسؤولين السياسيين والأمنيين عن أعمال العنف. وخرج منّا كلام كبير يُسقط الشرعية الدستوريّة والشعبيّة عمّا تبقّى من المؤسسات، وخصوصاً مجلس النواب الممدد لنفسه والحكومة.
أعدادنا تتناقص. كثيرون انسحبوا ليستحمّوا ويرتاحوا في بيوتهم. ويغادر ويعود عدد منّا. تقريباً بقي ناشطون سياسيّون ومدنيّون يعرف بعضهم البعض من الاستحقاقات والتنسيقات، وآخرها معركة رفض التمديد لمجلس النوّاب. وهناك مجموعة جديدة على التحرّكات، وقد شارك أعضاؤها بفاعليّة وشراسة خلال المعركة المسائيّة، وما زال ذكورها المتحمّسون عاري الصدور ومعصوبي الرؤوس. وقد اقتربوا غير مرّة من السياج الشائك الذي يقف أمامه رجال قوى الأمن، ويفصل بيننا وبين السرايا الحكوميّة، وأعلنوا أنهم يريدون التوجّه نحو السرايا ورمي الزبالة عليها.
دعوناهم إلى التهدئة ووقف اندفاعتهم. كنّا أقل من مئة شخص، بل لا نتجاوز العشرات. ولم نرَ في الهجوم في منتصف الليل أي حكمة أمنية أو سياسيّة، بل اعتبرناها حماسة غير محسوبة. ولم يخفِ البعض منّا خشيته من أن يكون هؤلاء مدفوعين من جهة سياسيّة ما (رئيس مجلس النوّاب) لفتح جبهة مع السرايا عوضاً عن الجبهة مع المجلس وحرسه، التي اندلعت في المساء. حرصنا على أن يبقى ذلك هاجساً صامتاً، مثلما حرصنا على عدم فتح معركة جديدة. وهدأت تلك المجموعة التي وصف قائدها العاري الصدر الآخرين الموجودين في الساحة بأعضاء الجمعيّات، أي أنّهم ليسوا ثوّاراً إنّما مجرّد موظفين أو منتفعين، وفي أفضل الأحوال هم إصلاحيون يتكلّمون فحسب ولا يفعلون شيئاً إلا أمام الإعلام.
ثم ابتعد أعضاء تلك المجموعة نحو مئة متر عن السياج الشائك وأقاموا حلقة غناء وزجل وهوّارة.
وفي مكان ما، كان وليد جنبلاط يغيّر موقفه. فبعدما كان قد غرّد على تويتر أنّه يؤيّد الحراك وأن الطبقة السياسيّة، وهو منها، انتهت، عاد وانتقد الحراك. لكنَّ المفيد في تصريحه هو القطبة الأمنية الخفية التي فضحها: لقد حمّل في تغريدته الأولى وزير الداخليّة نهاد المشنوق مسؤوليّة العنف الذي مارسته القوى الأمنية بحق المتظاهرين. فما كان من المشنوق إلا أن أعلن أنه لم يصدر الأوامر، وأن القوة الأمنية لمجلس النواب هي من قام بذلك. وسواء أكان ذلك صحيحاً أم لا بدت القوى السياسية في حال انقسام وصراع، وبدت المؤسسة الأمنية موزّعة المرجعيّات على القوى السياسيّة. وكأن لكل مرجعية سياسيّة قوة داخل المؤسسة العسكرية تأتمر لها.
شخصيّاً، اعتبرت أن اليوم مجيدٌ في تاريخ لبنان الحديث: الاشتباك الأول بين المواطنين والفساد والفاسدين وحماتهم. وكنت قلقاً على مصير الحراك ومن احتمال إدخاله في زواريب السياسة اللبنانيّة.
استرخى الجميع تحت حراسة القوى الأمنية. وبين استعادة مشاهد من المعركة وتكرار السؤال عن حقيقة ما جرى، يعبُر السؤال «ماذا علينا أن نفعل.. ما العمل؟» مثل متسوّل من أمام الحزب الشيوعي تارة وجمعيّة التجّار تارة أخرى. وفي الحالين لا يحصل على شيء أكثر من الشفقة أو التجاهل.
عودتان إلى أيام قليلة ماضية
1 ليس «الاشتباك» بين متظاهري حملة «طلعت ريحتكم» والقوى الأمنية، في ساحة رياض الصلح، الأربعاء 19 آب / أغسطس، من عالم موازين القوى أو فحصها. فالجميع يدرك أن القوى الأمنية في تلك الساحة أكثر عدداً من المتظاهرين، ومحصّنة خلف أسلاك وبعتاد أكبر من تظاهرة لامذهبيّة.
ويدرك الجميع أيضاً أنَّ القوى الأمنيّة، وخلفها القوى السياسيّة، لا تتردد في استعمال العنف تجاه تظاهرة من هذا النوع، وتجاه مواطنين لا سند عنفيّاً يحميهم ويستقوون به على المجموعات الأخرى وعلى القوى الأمنيّة، التي ستحسب مئة حساب فيما لو كانوا «أقوياء».
لماذا العنف إذاً، ومن أراده؟
صحيح أنَّ بين المتظاهرين متحمّسين يختنقون من صفقات الفئة الحاكمة وإطباقها على البلد ومؤسساته وسرقتها له وللمواطنين، ومن لامبالاة غالبيّة الشعب بمصالحه وانشدادها إلى المذهبيّة التي تغدو يوماً فيوماً عبوديّة نفعية بالتراضي، لكنّ ثمة عقدةً أخرى.
فما يقوم به المتظاهرون، الذين هزّوا الأسلاك الشائكة خصوصاً، ليس أكثر من تعبير عن رفض عدم إنصات السلطة لهم ولمطالبهم. ولا قرار لدى «طلعت ريحتكم» بالاصطدام مع القوى الأمنية.
وكي لا ننسى، فإنَّ القوى الأمنية هي التي استخدمت العنف. وقد استخدمته عندما انقطع البث المباشر للتلفزيونات. ما يوحي بوجود نيّة مدروسة، لكنها تُغفل «الثورة التكنولوجيّة» وأنّه بات هناك (في أيدي المتظاهرين) هواتف تصوّر وتبثّ مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فالاشتباك الذي حصل بالتزامن مع حركة تمرير الصفقات، له دلالات سياسيّة، منها أنِّ التظاهر ولو كان محدوداً فقد بات مزعجاً للسلطة. ومصدر الإزعاج هو وجود مواطنين يطالبون وهم مستعدّون للمواجهة. وهذا، إلى كونه يدل على مَن افتعل العنف ولماذا، هو بحد ذاته علامة إيجابيّة راهناً ومستقبلاً.
2 يُسجّل لحملة «طلعت ريحتكم» الرافضة لصفقات الزبالة، أنّها أعادت فتح باب السياسة من الزنازين التي يُحتجز فيها المواطنون، أي من خارج بازار الطبقة السياسية وصراعاته وتسوياته وتأجيلات.
لا نتجنّى إذا قلنا إنَّ هذه الحملة محدودة الانتشار والفاعليّة، فهي، كي لا ننسى، ردّة فعل على أزمة الزبالة والفساد وممارسة الطبقة السياسيّة في هذا الملف وغيره.
وإن كانت الحملة رفعت السقف وصولاً إلى نقد النظام الطائفي والمحاصصات وصراعاتها وتأثير ذلك على الدولة وحياة المواطنين ومستقبلهم، إلا أنّها ما زالت دون تشكيل حالة سياسيّة مطلبيّة واضحة الأهداف. وهذا ليس مطلوباً منها الآن.
فالحسنة الأبرز للحملة، إضافة إلى فتح باب السياسة للمواطن، هي التأكيد مرّة أخرى أنَّ الطبقة السياسية التي تسيطر على الدولة والسياسة والاقتصاد (مع شركاء) وحياة المواطنين وثقافاتهم… فاسدة وتستبيح كل شيء وتسعى لمصالحها المتضاربة أحياناً والمتوافقة أحياناً، وعلى حساب الدولة ومصالح الناس ومستقبلهم ومستقبل البلاد عموماً.
ولا يقلُّ عن ذلك أهميّة، أن الحملة أضاءت مجدداً على وجود فئات واسعة من المواطنين خارج المذاهب وتشكيلاتها الحزبية والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، في بيروت والمناطق. وإن كانت الحملة لم تضم هؤلاء جميعاً.
وهنا، يتجدد السؤال الذي يُطرح مع كل حملة وتحرّك: ما هي السبل لتواصل هؤلاء وفتح حوار في ما بينهم يُنتج ما هو أبعد من مشاركة في حملة أو تظاهرة أو اعتصام، إلى مساحات سياسية ديمقراطية حيويّة ودائمة ذات حساسيّة اجتماعية ورؤى عصرية؟
صبيحة 23 آب / أغسطس
أطل رئيس الحكومة تمام سلام وأعلن أنّه واحد منّا، نحن المواطنين الذين نعاني من النفايات والأحوال الاجتماعيّة والإقتصادية المتردّية. وقال إنّه يعاني أكثر منّا من «النفايات السياسيّة».
تجاهلنا «دعابته» بأنّه منّا، ولم نشفق عليه في المعاناة التي يمتاز فيها عنّا، مع «النفايات السياسيّة».
ما العمل؟
لا جواب.
اجتمعنا، بعد الظهر، تحت شجرة معمّرة جنوبي ساحة رياض الصلح، بعدما عقدت حملة «طلعت ريحتكم» اجتماعاً في ظل مبنى الأمم المتحدة. نحن مجموعة من الناشطين «في طلعت ريحتكم» (أسعد ذبيان)، الحركة اللبنانية البيئيّة (بول أبي راشد)، حملة إقفال مطمر الناعمة (أجود العيّاش)، اتحاد الشباب الديمقراطي (عمر الديب)، التيّار المدني (باسل عبدالله)، المفكرة القانونيّة (نزار صاغيّة)، بدنا نحاسب (أحمد حلاني)، شباب ضد النظام (علي دغمان)، الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات (تميم بوكرّوم)، النادي العلماني في الجامعة الأميركيّة (جمانة تلحوق)، وأنا (مستقل).
كان من المتفق عليه أن يصوغ المجتمعون في هذا الاجتماع، موقفاً من أعمال العنف (التي حصلت قبل ليلة)، ومن خطاب رئيس الحكومة، وأن نعلن الخطوات اللاحقة.
بعد دقائق من التآمنا تلقّى بعضنا عبر الهواتف خبراً عاجلاً: حملة «طلعت ريحتكم» عقدت مؤتمراً صحافيّاً ردّت فيه على سلام ودعت إلى التظاهر عند السادسة من مساء اليوم رفضاً للعنف وصفقة النفايات.
لماذا نجتمع إذاً؟ أصوات الاعتراض ترتفع في وجه ممثل «طلعت ريحتكم» في الاجتماع تحت الشجرة المعمِّرة.
للتنسيق، ردّت الغالبية.
نفى أسعد علمه بالأمر، واعتذر. وطلب أن يتضمّن البيان المشترك استقالة الحكومة وحل مجلس النواب وتأليف لجنة لإعادة صياغة الدستور.
«سقطت الشرعية الدستورية للمجلسين، والشرعية الآن شعبية»، قال.
تحفّظ بعضنا، وتحديداً بول أبي راشد وأنا، على رفع السقف السياسي ولاواقعيّة الطرح، وإهمال أزمة النفايات التي انطلق الحراك منها مطالباً بحل بيئي لها.
امتعض أسعد: «شفتوا؟ لهذا السبب تجعلوننا نندم لأننا أتينا للاجتماع معكم».
استمر الاجتماع. فالجميع يبدي حرصه على العمل المشترك والترفّع عن الخلافات والاختلافات، حفاظاً على المولود الجديد وعلى المسؤولية التي رتّبها تنامي أعداد المتظاهرين.
رحّبنا باقتراح نزار صاغيّة دعوة حنا غريب إلى الانضمام إلى هذه «الهيئة». وأضاف أسعد اسمَي شربل نحاس وزياد بارود. واتفقنا على الدعوة إلى الاعتصام عند السادسة من مساء اليوم، وعلى بيان مشترك يعتبر أن مجلس النواب بحكم المنحل ويطالب باستقالة الحكومة المسؤولة عن أعمال العنف واستمرار أزمة النفايات. تلت البيان ممثلة النادي العلماني.
كانت بداية لا بأس بها، وربّما واعدة، للعمل المشترك. فالعنف المفرط للقوى الأمنية واستمرار السلطة السياسية في صفقة النفايات وتنامي أعداد المتظاهرين وتنوّعهم مناطقيّاً وطبقيّاً وفكريّاً وعمريّاً وجنسيّاً أمور أكبر من أن يتحمّلها فريق واحد، والجميع موجود في الشارع منذ سنوات، ولكل من تلك المجموعات جمهور أُضيفت إليه فئات أخرى. وتظهّر ذلك في وصول أعداد المعتصمين عند السادسة مساءً إلى نحو عشرة آلاف. وردّت القوى السياسيّة عليه بعنف متجدّد.
استعاذت حملة «طلعت ريحتكم» بالشيطان. فهي لم تجد نفسها مع مجموعات متنوعة ومتناقضة (معها وفي ما بينها) ومع أشخاص «يأكلون الجو» فحسب، إنّما مع «مندسّين يفتعلون المشاكل مع القوى الأمنية والشغب». فما كان منها إلّا أن دعت، في تلك الليلة الغامضة والمفاجئة والعنيفة، مناصريها إلى الانسحاب من ساحة رياض الصلح، بل من الشوارع عموماً.
رفض الآخرون، حلفاء الأمر الواقع أو الشركاء المضاربون، اليسار، قرار «طلعت ريحتكم»، واعترضوا على تسمية «المندسّين»: «هؤلاء فقراء شعبنا آتين من أحياء ومناطق محرومة»، قالوا. بدا المشهد مركّباً ومعقّداً: حملة كافيار (طلعت ريحتكم) تلتقي في الشارع، صدفة، مع ثورة مجدرة، كما قال البعض. وحمل المشهد أيضاً خوفاً مبالغاً فيه من جانب «طلعت ريحتكم» تجاه «مذهب» حركة أمل، التي سبق لزعيمها، رئيس مجلس النواب نبيه بري، أن أعلن تأييده حراك إسقاط النظام الطائفي (شباط 2011)، واستطاع مناصروه التسلل إلى الحراك الذي هادن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله فاستبدل صورته بصورة أحد نواب حزبه ضمن صور زعماء القوى المذهبيّة. ما أُخذ على الحراك واعتبره كثيرون لمصلحة قوى 8 آذار. وساهم ذلك، من بين أسباب عديدة، في ارتباك حملة إسقاط النظام الطائفي وإنهائها.
هكذا، حضرت في تلك الليلة لدى الخائفين من تكرار تجربة القرصنة، أشباح الماضي تحت مسمّى «مندسّين».
وتقاطع ذلك مع قوّة ثقافة الانقسام المذهبيّ وتأثر العديد من الناشطين بها، وبالتالي الاستسلام لتصنيف المواطنين الآتين من «المناطق الشيعيّة» في «خندق» نبيه برّي وحركة أمل، وعدم الانتباه إلى إمكانية جذب الحراك مواطنين من تلك البيئات متضررين وغاضبين.
تكثّفت تلك العوامل كلّها في وجه الحراك وكبّلته باكراً. أحسَّ أنّه مستهدف بأساليب عدّة، مضمرة وأعقد من أن يَفك شيفرتها. وليس العنف الأمني إلّا أوضحها، وربّما أسهلها. حتّى تبدّلُ موقف وليد جنبلاط، من مؤيّد للحراك إلى معارض ومشكك، بدا واضحاً وسهلاً مقارنة بصمت الزعماء الآخرين.
الإثنين 24 آب / أغسطس
مواجهة أمس، الأحد 23 آب / أغسطس، في محيط مجلس النواب والسرايا، كانت صادمة وقاسية. ظهر الحراك منقسماً، أو متعدّد الأجنحة، وبلا رأس. والأهم أنّه بدا قويّاً وضعيفاً في آن واحد. بدا مولوداً جديداً مطلوباً منه أن يكون ناضجاً، وجسداً طريّاً عليه مواجهة الغابة. بدا في لحظة مصيريّة.
وفيما كان مقرّراً ومعلناً تنظيم تظاهرة اليوم، الإثنين، فرّقت معركة أمس المجموعات. كلٌّ منها التقت وحدها. وعبَرت بينها غيوم كثيفة. لكنّه صيف وما زال في أوّله. وحضرت روح البدايات والمسؤولية والنهوض المشترك والاستمرار لدى الجميع، رغم الاهتزازات. وتداعينا إلى الاجتماع في مقر «بيوند» (Beyond) التي اضطلع ناشطوها بدور مذلل العقبات بين أعضاء حملة «طلعت ريحتكم»، وبينهم وبين آخرين، في الأيام الماضية.
تجاوز المجتمعون سريعاً، بالنقد والنقد الذاتي، الخلافات والاختلافات التي ولدت ليلة أمس. وأكّد الجميع على التنسيق وأهمّيته. كان تحدّي الظهور موحّدين وأقوياء، في المؤتمر الصحافي المقرّر بعد ساعات، هاجساً ضاغطاً وكفيلاً بتذليل كثير من الخلافات والصعوبات. وقد صيغ بشكل جماعي بيانٌ تردّد مروان معلوف في تلاوته في المؤتمر الصحافي لتضمّنه عبارات يساريّة لا يجد لها مبرّراً في تلك اللحظة السياسيّة. وأحسب أنه كان يفكّر في وقعها على جمهور عريض. وبالرغم من محاولته الانسحاب من المهمّة التي ألقيت على عاتقه، حرصت على إقناعه، لكونه مروان ومن «طلعت ريحتكم» التي كنت من الحريصين على بقائها في المقدّمة، إخلاصاً لدورها في الريادة وتقديراً لجاذبيّتها الشعبيّة المتحررة من الحزبيّة والأيديولوجيا والانقسامات والتجارب السياسيّة. وتلى مروان البيان غير مرتاح لوجوده على المنصّة بجانب أشخاص ينتمون إلى قوى سياسيّة. ووضعه لم يكن أفضل من حال بول أبي راشد الذي كان بجانبه وقد أدرك على مضض أن البعد البيئي وملف النفايات قد تراجعا في اهتمامات الحراك، اليوم على الأقل.
ولعلّه لاحظ أنَّ حضور السياسة فتح آفاقاً إصلاحيّة لما كانت تنادي به الحركة البيئية من استعادة البلديات دورها وحقوقها وأموالها، وتقدم خطوات في معارضة صفقة النفايات والمحاصصة والفساد فيها وفي أداء الطاقم السياسي عموماً.
ونظراً إلى ضيق الوقت، في الاجتماع، وحرصاً على الوحدة، رحّل المجتمعون موضوع التنسيق إلى اجتماع يُعقد (غداً).
ومن ضمن الخوف من تنامي الخلافات مرّر الجميع، مع تحفّظات واعتراضات، تفرّد «طلعت ريحتكم» بقرار إلغاء تظاهرة اليوم. ومع الاتفاق على تنظيم تظاهرة السبت المقبل، 29 آب / أغسطس، تم تبنّي الناشطين اللذين كان كلٌّ من اتحاد الشباب الديمقراطي وحملة «بدنا نحاسب» قد أعلناهما رداً على قرار «طلعت ريحتكم» إلغاء التظاهرة، وهما: وقفة أمام قصر العدل رفضاً لصمت القضاء إزاء العنف الذي يُمارس بحق المتظاهرين، ومسيرة شموع من مكان إصابة الجريح محمد قصير في وسط بيروت إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث هو في العناية المكثّفة.
أوحى ذلك بأن نيّات التنسيق موجودة وحسنة، لكنّ الأدوات مفقودة، أو غير مصوغة بعد.
ما قبل 29 آب / أغسطس
مبالغة هي وصف أن ما يجري تحت عنوان «طلعت ريحتكم» ثورة، أو أن هناك قوّة (قوى) ثالثة قد نشأت ودخلت السياسة.
لكن، في المقابل، ليس ما حصل ويحصل تظاهرة شباب متحمّس، أو فورة وستنتهي كأنّها لم تكن. كذلك، ليس واقعيّاً إبقاء النظر إلى السياسة من منظار الانقسام بين 8 و14 آذار، وأن المواطنين والسياسة ملك لهذين الفريقين.
فالحراك والتظاهرات والتفاف المواطنين يشير إلى أن «الشعب» لم يعد منقسماً ومقسوماً بين فئتين، كما كان يُقال.
ثمّة تنوّع.
واتساع دائرة المطالب من حل لملف النفايات بيئي علمي شفّاف وغير مبذّر للمال العام، إلى رفض الصفقات والمحاصصة والفساد، إلى المطالبة بانتخابات نيابية ورئيس للجمهورية، يعني أن دائرة الغضب الشعبي تتسع وتتحرّك رفضاً لاستمرار هذه الفئة السياسية المليشيوية المالية بالحكم وتحويلها الدولة والبلد مزرعة لزيادة ثرواتها.
على هذا الإيقاع تبدو مجموعات الحراك، القديم منها والطازج، حريصة على الوحدة والاستمرار والإفادة من تجارب الماضي، سواء أكان إسقاط النظام الطائفي أم المحطات المواطنية والمدنيّة والنقابية الأخرى، من حملة إقفال مطمر الناعمة، إلى هيئة التنسيق النقابيّة وما قبلهما وبعدهما.
وثمّة إشارات ليس لبدء انفكاك فئات واسعة من المواطنين عن الخطابات المذهبية فحسب، إنّما لانطلاق روح سياسية مطلبيّة مستقلّة ومتنوّعة تتلمس طريقها إلى الميدان والبحث الجاد عن أشكال تنظيمية وخطابات وتحالفات تعبّر عنها وعن تطلّعات المواطنين المنهكين بفعل السرقة المنظّمة والوقحة والمذلّين المهانين في حياة يومية تزداد صعوبة وشقاءً وغموضاً مستقبليّاً.
السبت 29 آب / أغسطس
الاعتصام الذي قررته «طلعت ريحتكم» في ساحة الشهداء وفاجأت به «هيئة التنسيق»، أمس، أضاف إليه الأعضاء الآخرون، في الاجتماع، مسيرة من وزارة الداخليّة إلى ساحة الشهداء. لكنَّ حرص «طلعت ريحتكم» على الابتعاد عن ساحة رياض الصلح خوفاً من صدام مع القوى الأمنية الحامية للسرايا الحكوميّة، لا يُلزم مجموعات أخرى الابتعاد عن ساحة رياض الصلح. بل إن مجموعات أخرى، منها «بدنا نحاسب» واتحاد الشباب الديمقراطي، التي تحفّظت على إلغاء «طلعت ريحتكم» تظاهرة الإثنين وتأجيلها إلى اليوم، كانت قد جعلت ساحة رياض الصلح قبلة نشاطاتها اليومية. واستعادت، في غياب التنسيق مع «طلعت ريحتكم»، خطابها المعارض للحريريّة، أي لجزء من السلطة السياسيّة الممسكة بالدولة منذ نهاية الحرب.
هكذا، طغت السمة اليساريّة على المسيرة، بينما الاعتصام أكثر تنوّعاً. اجتماعهما كان جميلاً ومجيداً في تاريخ لبنان. صورة تذكارية واسعة لا تُنافس عدداً صورتي 14 آذار (في ساحة الشهداء) و8 آذار (رياض الصلح)، لكنّها تقول إن هناك مواطنين لا ينتمون إلى الصورتين والقوتين، وإن عدداً من مواطني الصورتين انسحب منهما إلى الصورة الجديدة.
فرحنا بالمشهد الكبير، وأكثر ما دغدغنا، إضافةً إلى تنامي الحراك ووجود مواطنين خارج المذاهب وضد الفساد، هو فكرة أنه أزعج الزعماء والطاقم السياسي. وكثيرون منّا التقوا في استشعار الخطر مع الزعماء والطاقم السياسي. لكن، نحن نسأل: كيف نحمي هذا الحلم، كيف يغدو واقعاً... وكيف يُترجم في السياسة؟ وهم يفكّرون كيف ينهون هذا الكابوس.
نحن نريد أن نكون مواطنين، هم يريدوننا رعايا.
نحن نجمّع قوانا، وهم يجمعون قواهم ويريدون تفتيت قوانا.
في 29 آب / أغسطس بدأت المعركة، أو لعلّها صارت حرباً، من جهة الزعماء والطاقم السياسي، على الحراك والمواطنين.
ما بعد 29 آب / أغسطس
يواجه الحراك المدني الشعبي، وكل مواطن انخرط فيه أو على أهبّة المشاركة فيه، وكل مجموعة فاعلة فيه أو تشكّلت خلاله، تحديات عدّة، حفاظاً على الإنجاز واللحظة المواطنية وإنضاجاً لها سياسيّاً واجتماعيّاً.
يختصر هذه التحدّيات سؤال «من إلى»؟
التحدي الأول: فيما أولويّة الحراك هي الحفاظ على استقلاليّته ووحدته واستمراره وتطوير إطاره التنسيقي والتنظيمي وخطابه وأدوات عمله، عليه الإجابة عن سؤال كيف الانتقال من الصدمة إلى المسؤولية المنظّمة الواعية المتنوّعة والديمقراطيّة؟
التحدّي الثاني: من الشارع إلى الدولة، أي كيف العمل للانتقال من الضغط الذي تتجمّع قواه الآن إلى التأثير السياسي على القوى الحاكمة لكسر سلطتها على الدولة واحتكارها لها وتعطيلها الدستور والمؤسسات، ووضع حد للتبعيّة والفساد ونهب المال العام والمحاصصة والترصّد للثروة القوميّة (البترول) التي يجب أن تُستثمر في التنمية الاجتماعيّة.
التحدّي الثالث: كيف الانتقال من ردّة الفعل إلى الفعل، أي المباشرة المنظّمة لتفعيل العمل الاجتماعي والبلدي والنقابي والمواطَني. وذلك من خلال إبداع أطر وأساليب، تحت لواء بناء الدولة والمشاركة المواطنيّة المنظّمة.
التحدّي الرابع: العمل على الخروج من إسقاط الدولة الذي مارسته القوى السياسيّة الحاكمة إلى استرداد الدولة وإعادة بنائها ومؤسّساتها.
التحدّي الخامس: من الوحدة إلى التنوّع ضمن الوحدة، أي إطلاق المجموعات والمواطنين ورشةً لإنتاج أطر عمل وأحزاب وحركات وتيّارات سياسيّة ذات خطاب اجتماعي ديمقراطي.
التحدّي السادس: ويتمثّل في البناء على اللحظة الوطنيّة للانتقال من خطاب الانقسام المذهبي والتبعيّ إلى المواطنة والديمقراطية وبناء الدولة وحماية المجتمع والإنسان، والنضال من أجل الحقوق الاجتماعية والقانونية والخدمات الضروريّة.
التحدّي السابع: العمل لخروج المواطنين من الإحباط والتيئيس والتشرذم والتهميش والاستغلال وثقافة التواطؤ مع الفساد والمحاصصة إلى الفاعلية المواطنيّة.
مخاوف
مازال مخاض ولادة التنسيق صعباً. نجتمع في «المفكّرة القانونيّة» يوميّاً. «طلعت ريحتكم» تصرّ على قيادتها الحراك وعلى أن الآخرين داعمون لها. فخوفها واضح من حضور اليسار وتجاربه السابقة وانعكاسات ذلك على جمهورها والحراك عموماً.
والآخرون يرفضون أن يكونوا درجة ثانية. فهم، بلا شك، موجودون في المعارضة والشارع منذ عقود، وقد بات لهم في الحراك مساهمة ونالوا حصّتهم من عنف القوى الأمنية، لكنّهم لم يجددوا خطابهم وأدواتهم، وتشرذمهم يجعل حضورهم في الحراك برؤوس عديدة تبدو أكثر من قوتهم في الشارع والمجتمع.
وفيما لا أدري إذا كان الحضور الكثيف لليسار ضاعف مخاوف «طلعت ريحتكم»، فإنني أجزم أن تأخر إنتاج صيغة تنسيق ضاعف وجود اليسار ومخاوف «طلعت ريحتكم» في آن.
هكذا، دفعت «طلعت ريحتكم» ثمن خوفها مرّتين. وكان الأجدى بها، والأفضل للحراك، أن تُسيّس علاقتها باليسار وتنسّقها، عوضاً من رهن الحراك بعلاقة غير منظّمة، وعوضاً عن الاستنزاف في منافسة تفتقد الخبرة والديناميكية والثقة.
لهذا، سعيت مع أصدقاء، في الكواليس، إلى إنتاج صيغة تنسيق تضمن استقلاليّة «طلعت ريحتكم» وتحفظ ريادتها. وحرصت خلال الاجتماعات على التأكيد أن أي صيغة تنسيق يجب أن تخرج من «طلعت ريحتكم» ولا تُفرض عليها.
لم ننجح. وقلت غير مرّة، في الاجتماعات، إن المخاوف على الحراك من القوى السياسيّة ومن المجتمعين أيضاً.
وبالرغم من ذلك، والحقّ يُقال، كان التنسيق يمشي ولو ببطء ومشقّة، كلّما اقترب موعد نشاط، وإن سبقته حركات وقصص لا تمت إلى التنسيق والعمل المشترك بصلة. وغالباً ما وقعت «طلعت ريحتكم» بين سندان إصرارها على استقلاليّتها وقيادتها، ومطرقة الحاجة إلى الآخرين والتنسيق معهم. فكانت تبدو قيصراً: ما لي لي، وما لكم لي ولكم. كأن تُزامن اجتماعنا لبحث التحرّك المقبل وشكله ومكانه وزمانه بإعلانها التحرك المقبل، فيغدو الآخرون بين سندان رفض استقلالية «طعت ريحتكم» وتفرّدها، ومطرقة الحاجة إلى «طلعت ريحتكم» والتنسيق معها. وكثيراً ما انزعج هذا الفريق أو ذاك الشخص، وانسحب، ليبدأ عمل مُدوّري الزوايا، وتارة ينجحون وأخرى يهرِّبون الخلافات أو يؤجّلونها.
ما العمل؟ ما خريطة طريق الحراك؟ لا إجابات.
الطاقم السياسي يضغط، أمنيّاً وإعلاميّاً... وشائعاتيّاً. يلعب سياسة. والحراك دون ذلك.
امتياز الحراك أنه شبابيّ وعفوي وهاو في السياسة نقطة ضعف أحياناً، ووسط دهاء الطاقم السياسي واستشراسه وعدم تردّده في استعمال أي سلاح، ولاسيما المحرّم.
اتّهام
تحت الضغوط السياسيّة والأمنية، كان ثمّة أمران مريحان للحراك: الحاضنة الشعبيّة المتنامية للحراك، والتغطية الإعلاميّة الإيجابيّة، ولاسيما من قناة الجديد والمؤسسة اللبنانيّة للإرسال اللتين فتحتا الهواء للحراك وشبابه، وأوقفتا استقبال السياسيين والإعلاميين الموزعين على قوى 14 و8 آذار.
طرَح ذلك، ولاسيما لدى مَن أهملهم الإعلام ودوائرهم السياسية، تساؤلات عدّة، لا عن علاقة وسائل الإعلام بالمجتمع الذي وُلد الحراك فيه ومنه، إنّما عن علاقة وسائل الإعلام وخصوصاً الجديد وأل بي سي بدولة عربيّة صغيرة. وقد التقت في إطلاق «الاتهام» هذا قوى 14 و8 آذار. سبحان الله. وفي وقت واحد غرّد بهذا الاتهام نهاد المشنوق ونائب رئيس تحرير جريدة الأخبار بيار أبي صعب.
وبعدما كانت القوى السياسية متضاربة، بدت مستعدة للتوحّد بهدف محاصرة الحراك والانقضاض عليه. تُرجم ذلك بحرب شائعات على الناشطين البارزين في «طلعت ريحتكم»، من اتهام عماد بزي بالزواج من إسرائيلية، وسخرية أسعد ذبيان من أحد الأعياد المسيحيّة، إلى نشر مقال عن عملهم (بزي وذبيان ومروان معلوف وخطار طربية ونزار غانم) لمصلحة مؤسسات استخبارية أميركية ناشطة لتغيير أنظمة عربية.
وبين شائعة وأخرى، تحلل قوى 14 آذار أنّ الحراك يخدم حلف روسيا وسورية وإيران وحزب الله، ثم تتهم قوى 8 آذار الحراك بأنه داعشي ويعمل للفوضى.
احترنا يا قرعة من وين بدنا نبوسك (من أين نقبّلك). لكننا اعتبرنا تلك الاتهامات المتناقضة دليلَ براءة الحراك من التبعية لهذا وتلك، محليّاً وخارج الحدود.
مخاطر الحراك
صحيح أن الحراك لم يقلب طاولة الضمير والوعي والثقافة، لكنّه هزّها. وهذا جيّد. وبقدر ما يُعبّرُ عن مشاعر غالبيّة اللبنانيين وآمالهم بالخلاص من الوضع القائم وبالانتقال إلى دولة تضع حدّاً للفساد وتحاسبه وتطرده من جسمها وتُعيد إنتاج قوى سياسيّة جديدة، بقدر ما يُظهر أن الواقع السياسي والاجتماعي أعقد من ذلك. فلا أحزاب تغييرية. والنقابات مهترئة ومستلبة من قوى السلطة. والبلديّات (بغالبيّتها) معطّلة ومصادرة من تلك القوى وتنوء تحت وطأة الحسابات المحليّة التي تتقاطع مع القوى السياسيّة ونهج استزلامها. والشباب موزّع بين الهموم المعيشيّة والشخصيّة والبحث عن سند في القوى السياسيّة وخطاب الانقسام والمحاور.
باختصار، لا آليّات اجتماعيّة وسياسيّة ونقابيّة وثقافيّة تسند الحراك وتتفاعل معه ويتفاعل معها. الحراك يُخاطب ضمير اللبنانيين وآمالهم كأفراد. وقد أظهر الشهر الأول للحراك هذه الثغرة الخطيرة وقدرة القوى السياسيّة على اللعب فيها. فهي مَن صنعها، إذ لم تتسلّط على الدولة ولم تعثْ فيها فساداً وحسب، إنّما دمّرت قوى المجتمع وألحقت بها جزءاً كبيراً من تلك القوى.
سط ذلك، اقتربت دولٌ وأجهزةٌ من لبنان وحدثه. وبدأت شغلها، مع القوى السياسيّة. لذا، على الحراك والمواطنين الشروع بالعمل في تلك الثغرة، والإفادة من الشرارة التي أشعلها الحراك في المجتمع. ومخاطر عدم القيام بذلك تبدأ باستحضار شياطين الإحباط وتمكين القوى السياسيّة من محاصرة الحراك، ولا تنتهي بتدويل اللعب في لبنان وبه.
نحن بحاجة إلى شغل اجتماعي وثقافي وسياسي تأسيسي، في كل لبنان، يرفد الشارع ويصنعه ويحميه، بالتزامن مع النضال المباشر والإنجازات الصغيرة على المستوى السياسي.
الهدف من الحراك وليس هدف الحراك
تجاوز الحراك مسألة التنسيق من دون أن ينتج صيغة تنسيق، وواجه الضغوط السياسيّة والألاعيب من دون أن ينتج خريطة طريق. تراكمت أهداف المواطنين في صورة الحراك وصوته، واقتصر نطقه على مطالبه الأربعة: استقالة وزير البيئة، محاسبة السياسيين والأمنيين المسؤولين عن العنف بحق المتظاهرين، إيجاد حل بيئي لأزمة النفايات وإعادة الصلاحيّات للبلديات والإفراج عن أموالها وتأسيس الصندوق البلدي المستقل، وإجراء انتخابات نيابية.
لم يفقد الحراك البوصلة بل فقد الدافع إلى النظر وإلى الحركة. بدأ يراوح مكانه سياسيّاً ويتراجع شعبيّاً. مجموعات تنشأ هنا وهناك. و«طلعت ريحتكم» تترنّح وتنقسم. ومع ارتباك «طلعت ريحتكم» طاف خطاب «بدنا نحاسب» و«اتحاد الشباب الديمقراطي» فوق وجه الحراك. وبدأ التنوّع الذي لوّن بداية الحراك يتراجع.
ومع شعور «طلعت ريحتكم» بالتراجع والرغبة في استعادة دورها، صار هدفها من الحراك، وليس الحراك، تنظيم مواجهة على أبواب ساحة النجمة. وكأنّ الهدف من الحراك، وليس هدف الحراك، هو دخول تلك الساحة، أو الشغب الذي يفقد الحراك ما يجب أن يراكمه ويربحه: الحاضنة الشعبية الواسعة، خريطة طريق سياسية، عدم خنق الأمل الذي ولّده لدى المواطنين.
من دفتر الأيام الحائرة
اليوم (22 أيلول)، بعد شهر على الاشتباك الأول بين المواطنين والفساد والفاسدين، لم ينسَ الحراك والمواطنون النفايات وملفّها. فالنفايات ما زالت في الطرق، وخطة لجنة أكرم شهيّب، بالرغم من محاولة توفير «بيئة» أهلية وسياسية لبدء تنفيذها، لن تمر من دون موافقة الحراك والمجتمع، خصوصاً في محيط الناعمة وعكار والبقاع الأوسط. وإضافة إلى المآخذ البيئيّة والتنفيذيّة عليها، من الحراك والحركة البيئية، هناك عقبات مناطقيّة- مذهبيّة تحول دون انطلاقتها.
المشكلة مستمرّة إذاً، وأبرز مفاصلها هو أنَّ الخطّة التي يقول شهيّب إن إيجابيّاتها حصلت بفضل الحراك لا يمكن أن تُنفّذ، بعد تعديلها، من دون الحراك. وإذا كان شهيّب منفتحاً على ذلك فإن الأمر يحتاج إلى قرار سياسي واضح من الحكومة بالتفاوض العلني مع الحراك. وفيما لم يؤخذ هذا القرار يُمارس العنف على الحراك، في الشارع وفي الإعلام والدوائر الأخرى، لتدميره.
عليه، يبدو أن المعركة باتت في مرحلة تقتضي على الحكومة (وليس الوزير شهيّب وحده) إعادة النظر في سياستها مع الحراك والتقدّم نحو مفاوضته. وتقتضي المعركة أيضاً من الحراك تقديم ملف النفايات في التحرّكات وفي الاستعداد للتفاوض أو المواجهة، فإقفال ملف النفايات وفق خطة يوافق عليها الحراك والمجتمع امتحان أمام الحكومة مجتمعة، وهو تحدي الحراك والمجتمع. والمشهد الأخير يحدد شكل الدولة والأيام المقبلة.
عجز
الحراك لا يفاوض السلطة، لكنّه يفوّض البيئيين للتواصل مع لجنة وزير الزراعة أكرم شهيب التي كُلِّفت وضع خطة النفايات. وفيما يفقد الحراك قدرته على الحشد، يرى مشتّتاً ومن دون موقف سياسي عاقل، كيف تنشط القوى السياسيّة لكسب القوى الأهلية والبلديات في محيط المطامر الثلاثة (الناعمة، عكار وعنجر)، من خلال إغرائها بالخدمات والوعود. وفيما تركب القوى السياسية التحالفات لتمرير خطة شهيب، يطرح الحراك خطة بديلة. الحراك، مصيراً وسياسة، رهينة عدم إنتاج آلية قرار، وفريسة الارتجال وعدم صياغة تنسيق بمستوى اللحظة التاريخية والأمانة التي علّقها المواطنون عليه.
ما العمل؟ سؤال معلّق حتى إشعار آخر. وقد تقدّم عليه سؤال آخر، في وجه الحراك: ما الذي أفعله؟ لكنّ الحراك لا يسأل نفسه، إنما يفعل ذلك بعض القلقين عليه وعلى الطاقة التي فتحها في الجدار السميك.
الورقة الأخيرة
أحد أبعاد الحراك الذي يُعد أجمل حدث منذ توقف الحرب، أنّه ولد خارج الأحزاب المنشغلة بأجندات إقليمية ومحليّة وبالمحاصصة والفساد والسعي إلى تكريس سلطة الزعامات المذهبية والتبعية على حساب الدولة والمجتمع وتطورهما. وقد تشكّلت قبله وخلاله مجموعات شبابيّة متنوّعة استجابة، على عجل، للمهمّات العملية في الحراك من جهة، ومن جهة أخرى تعبيراً عن الافتراق عن الأحزاب القائمة وعدم وجود أطر سياسيّة أخرى ناضجة وواضحة المعالم والأهداف والوسائل.
وبالرغم من الجمالية التاريخيّة لذلك، فإن الأمر يدلّ على الحاجة إلى أطر سياسيّة جديدة وعصرية وديمقراطية. بل إن المسؤوليّة السياسية والاجتماعية، التي أعاد الحراك بثّها في المجتمع، تقتضي تطوير تلك القوى والحيويّات، سواء أكانت مجموعات أم أفراداً أم كيمياء عاطفية لدى المواطنين أم أملاً بالتغيير. ولعل هذا، إذا ما حصل، يكون أهم انتصار للحراك والمجتمع والدولة. فولادة قوى سياسيّة جديدة لاطائفية ومتنوعة ثقافيّاً واجتماعيّاً ومناطقيّاً وجنسيّاً، وديمقراطية، وذات رؤى عصرية للدولة والمجتمع والمواطنة، وتملك حساسيّة اجتماعية إنسانيّة، أمرٌ إيجابيٌّ لإعادة الحياة والروح إلى السياسة والمجتمع اللذين دمّرتهما القوى السياسيّة لتأبيد إمساكها بالسلطة وانتفاعها منها. ولعل ذلك يساهم في إعادة الاعتبار للإنسان– المواطن. فالأمر يتجاوز الرد على احتكار قوى الفساد والمحاصصة الدولة والحياة السياسية وأدواتها، نحو إعادة تأسيس الحياة السياسيّة وتقديم مواطن نزيه للعمل في الشأن العام. فإلى جانب العمل والنضال من أجل المطالب والأهداف التي يطرحها الحراك، من المفيد العمل لبلورة قوى سياسية جديدة واضحة القيم والأهداف والمطالب وأساليب العمل.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.