أريد أن أعترف منذ البداية بعجزي عن كتابة نصّ متماسك عن موضوع اعتقدت أنّني قادر على معالجته عبر وضعه في السياق الثقافي العربي. وما ستسمعونه في هذه المحاضرة هو سجل محاولاتي المتعددة للاقتراب من موضوعي، وما زاد الأمر تعقيداً هو أنني أتحدث بالعربية، التي كان من الممكن اعتبارها إحدى لغات البرابرة، في زمن مضى وفي زمن قد يعود أو هو في طريقه إلى العودة في مرحلة صعود الرأسمالية المتوحشة الذي حذّرنا أنجلز منها حين أعلن أنّ على البشرية أن تختار بين البربرية والاشتراكية.
وإحدى علامات سخرية التاريخ أن البديل للبربرية الذي اقترحه ماركس وأنجلز، أي النظام الاشتراكي، وُسم بالبربرية في زمن الاستبداد الستاليني ثم تهاوى مع نهاية الحرب الباردة، التي انتهت إلى سقوطه بشكلٍ مدوٍ في روسيا وأوروبا.
المسألة أكثر إشكالية مما ظننتُ حين بدأتُ بالاقتراب من موضوعي، فافتراضي البسيط أنني أستطيع أن أقف بينكم وأقول نحن البرابرة، وأبني مقترباً كنائياً ونصاً ساخراً يكون استكمالاً لقصيدة اليوناني الإسكندري قسطنطين كفافي: «في انتظار البرابرة»، تهافت أمام المشاهد المروعة التي يعيشها المشرق العربي في ثوراته ضد الاستبداد التي اتخذت شكل حروب أهلية ودينية واجتياحات خارجية جاعلة الخوف من مجهول التاريخ علامة الحياة اليومية في بيروت، التي كان انهيارها إشارة التفكك الأولى في بلاد العرب.
وبدلاً من أن أبدأ حيث انتهى كفافي، معلناً أن لا وجود للبرابرة، قررت أن أبحث عنهم، ذلك أن عدم وجودهم، أو اعتبارهم مجرّد ذريعة شكّل حافزاً إضافياً للبحث بالنسبة لي. فالبرابرة كما يعلمنا تاريخ استخدام الكلمة من اليونان مروراً بالإمبراطورية الرومانية ثم فتح أميركا وصولاً إلى الزمن الكولونيالي الحديث، هم مجرد فرضية لتبرير الحروب والفتح والاستعباد والاستعمار، والبربرية كمفهوم هي اختراع من صنع المخيلة، وهي تشبه اختراع الشرق من قبل المستشرقين، بحسب إدوارد سعيد. وبالعكس من الشرق الذي امتلك ماهية متخيّلة يمكن قراءة عناصرها وتفكيكها، فإن البرابرة أو البربرية لا تمتلك مثل هذه الماهية، لأنها افتراض متحوّل جرى استخدامه بطرق متعددة وفي أزمنة مختلفة، وحمل دلالات شتى قد تكون متناقضة في بعض الأحيان.
وعلى الرغم من أن قصيدة كفافي كان بإمكانها أن تحسم الجدل حول هذا المفهوم الغامض، عبر السخرية منه، إلّا أنّ الكلمة لا تزال تغوي بالاستخدام، وتشكّل إحدى أقوى الكلمات، بسبب احتمالات معانيها وزئبقيتها.
ينهي كفافي قصيدته معتبراً البرابرة مجرّد حلّ متخيّل:
«والكل يعود إلى داره غارقاً في الفكر؟/ لأنّ الليل قد هبط ولم يأتِ البرابرة./ ولأن أناساً قدموا من الحدود/ وقالوا أن ليس ثمة برابرة./ والآن … ماذا نفعل بدون برابرة؟/ لقد كان هؤلاء نوعاً من حل».
هذا الحلّ سوف يستعاد في سياق آخر، حين سيتحوّل الفلسطيني إلى حلٍ أدبي في الأدب الإسرائيلي، عبر استعادة صورة الآخر بصفته جزءاً من المشهد الطبيعي، أخرس أو ممنوعاً من الكلام، أو بدوياً متنقّلاً، أو متوحشاً نبيلاً. افتراض الحل الأدبي الذي نحته الناقد الإسرائيلي موردخاي شاليف واستعاده أنطون شمّاس في رائعته «أرابيسك»، انتقل إلى الأدب الإسرائيلي من حصاد ما يمكن أن نُطلق عليه اسم الأدب الذي يحمل سمات استشراقية من «كوتشوك هانم» بطلة فلوبير في رسائله المصرية وصولاً إلى الجزائري في رواية «الغريب» لألبير كامو.
لكنّ سؤالي هو حول العلاقة بين الحلّ الأدبي والحلّ الفعلي الذي جرى ويجري تنفيذه، فبمقدار ما يبدو الحلّ الأدبي ملتبساً ويحتمل التأويل، فإن الحلّ الفعلي غارق في الدماء والألم. كأنّ الحلّ الأدبي مجرّد تأويلات مخادعة تصنعها كلمات تستطيع أن تنقل بأكثر العبارات تنميقاً مناخات العنف العارية بعد إلباسها معاني تجرّدها من دلالات الألم الإنساني.
هل يقودني هذا المقترب إلى اعتبار حجب الألم مقياساً للبربرية، ولكن كيف نقيس الألم وكيف نقيس حجبه؟
كما أنني من ناحية أخرى لم أعثر على كلمة البربرية في التراث الثقافي العربي؟ فلماذا استخدم هذا المصطلح؟
يعيدني هذا السؤال إلى مسار بحثي، الذي سأكتفي الليلة بتقديم عرض لمراحله الثلاث، عسى أن يكون الطريق أكثر فائدة وإمتاعاً من الوصول إلى أجوبة يقينية وحاسمة.
وعليّ أن أشير قبل أن أبدأ إلى أن الطريق المتعرج الذي اخترته يستلهم الطريق الذي اختطّه أبو حيان التوحيدي حين وصف الكتابة في عنوان أحد أجمل كتبه بأنها إمتاع ومؤانسة، عسى أن نجد في بحثنا إمتاعاً عقلياً وأنساً يعيناننا على مواجهة الألم بكلمات ملائمة.
المحاولة الأولى: هدنة مع المغول
لا نعثر في قاموس المؤرخين العرب القدماء على كلمة برابرة. قسطنطين كافافي أخذ عنوان قصيدته من القاموس الإغريقي القديم، الذي تبنّاه القاموس الروماني قبل أن يتحوّل إلى كلمة أثيرة في المدوّنة الفكرية الكولونيالية.
وهذا ما فعله الروائي الجنوب أفريقي كويتزي الذي استعار عنوان قصيدة كفافي جاعلاً منه عنوان روايته التي تدين نظام الأبارتهايد الكولونيالي الذي أقامه البيض في بلاده.
أمّا المؤرّخون العرب فلم يستخدموا كلمة برابرة، بل استخدموا عوضاً عنها ثلاث كلمات: الإفرنج والمغول والتتار، وهي كلمات عينية تصف جيوشاً محددة، وقادةً عسكريين، وليست كلمات مفهومية تحيل إلى تمييز بين الحضارة التي أطلق عليها ابن خلدون اسم العمران وبين البربرية.
وكما في اليونانية التي ميزت بين الناطقين باللغة اليونانية وبين الناطقين بلغات أخرى عبر ثنائية اليونانيين والبرابرة، فقد ميزت اللغة العربية بين الناطقين بالعربية والأعاجم. فالعجمة أي عدم القدرة على الكلام أو الخرس، هي إحدى صفات الحيوان. لكن المفارقة هي أنّ كلمة أعاجم صارت اسماً للفرس الذين اقتبس عنهم العرب الكثير من إنجازاتهم الثقافية. وكانت ترجمة عبدالله ابن المقفع لكتاب «كليلة ودمنة» عن الفارسية «الأعجمية» بداية النثر الفني العربي وبداية السرد، وبذا لم تستطع كلمة أعاجم أن تكون معادلاً لكلمة برابرة، بل إن أحد أهداف الكتّاب العرب حين اشتد الصراع بين العرب والأعاجم في العصر العباسي كان الدفاع عن أنفسهم بصفتهم أصحاب حضارة كالفرس. ما أقوله لا ينزّه العرب القدماء عن العنصرية، أو يخرجهم من دائرة الاعتقاد بأنّ لغتهم هي أجمل اللغات وأفضلها. فالعربية، في اعتقادهم، إضافة إلى كونها لغة الشعر، ومرجع اللغة الثابت، هي لغة الوحي ولغة آدم قبل خروجه من الجنة!
اجتياح بغداد الذي قامت به جيوش هولاكو في 10 شباط/ فبراير 1258، تحوّل إلى مرجع للتمييز بين الحضارة والهمجية، يكفي الوصف الذي قدمه ابن كثير في كتابه: «البداية والنهاية» للمآسي التي حلّت ببغداد، كي يبعث الرهبة في النفوس، ويحوّل خراب مدينة «السلام»، كما كانت تُدعى عاصمة العباسيين، إلى علامة خراب العرب وانهيارهم.
«ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقّة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون».
ولا تكتمل صورة خراب المدينة وخراب حضارتها إلّا عبر وصف مياه نهر دجلة التي صارت سوداء بفعل تحلّل الكتب التي رماها المغول في النهر بعد تدميرهم مكتبات المدينة.
كما أن المؤرخين العرب لم يقصّروا في وصف همجية جيوش تيمورلنك التي اجتاحت دمشق في القرن الرابع عشر، وتلال الرؤوس المقطوعة التي حوّلها هذا الفاتح التتري إلى شعار لغزوته التي استباحت كل شيء. أما جيوش الفرنجة الذين تطلق عليهم الثقافة الغربية اسم الصليبيين، فإننا نعثر على سجلّ الحروب الهمجية التي فرضوها على المشرق العربي في أعمال مؤرخين عرب قام أمين معلوف بتوثيقها في كتابه «الصليبيون كما رآهم العرب».
لكن رغم هذه الأوصاف والنعوت، التي لم يستطع دخول المغول في الإسلام، واللقاء الشهير بين الفيلسوف العربي ابن خلدون وتيمور لنك، قائد التتار، على تخوم دمشق قبل احتلالها، في محوها من الذاكرة التاريخية، فإنّ كلمة مغول تحولت من اسم إلى صفة.
الشاعر الفلسطيني محمود درويش استعاد الإطار المغولي ليقدم في قصيدته «هدنة مع المغول أمام غابة السنديان»، (من مجموعة أرى ما أريد 1990)، استعارة للغزو الصهيوني لفلسطين، في قصيدة تراجيدية تصف ملحمة استحالة السلام. لا تتصادى قصيدة درويش مع قصيدة كفافي لكنها تستلهمها لتقلب المعادلة وتروي الحكاية من وجهة نظر الضحية.
تبدأ القصيدة بالسؤال عن احتمالات السلام: «من سيملأ فخارنا بعدنا؟ من يُغيّر أعداءنا عندما يعرفون/أننا صاعدون إلى التلّ كي نمدح الله/ في كائنات من السنديان».
وبعد أن تقدّم القصيدة درس الحروب التي «تُعلمنا أن نرى صورة الله في كل شيء، وأن/ نتحمّل عبء الأساطير كي نُخرج الوحش من قصة السنديان»، تصل إلى استنتاجها الأخير الذي يحوّلها إلى حكاية ألم لا نهاية له. تساءل كفافي عن جدوى الحياة من دون برابرة، أما محمود درويش، فبعد أن يقدّم وصفاً للمنتصر والمهزوم «قمر واحد للجميع على الخندقين، لهم ولنا»، فإنه يكتشف أن لا وجود لغابة السنديان: «لم نجد أحداً يقبل السلم، لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا/ البنَادِقُ مكسورة، والحمامُ يطيربعيداً بعيداً لم نجد أحداً ههنا/ لم نجد أَحداً... / لم نجد غابة السنديانْ».
هل نستطيع إخراج قصيدة درويش من سياقها ووضعها في سياق قصيدة كفافي أو رواية كوتزي؟
إن تحليل بنية الدولة انطلاقاً من نظرية العصبيــــــــــــــــــــــة الخلدونية، وقراءة المجتمع بصفتـــــــــــــــــــــــه عدوّاً للدولة، بقيت مفتاحاً أساسياً لفهم المآلات التــــــــــــــــــــــــراجيدية للثورة السورية.
لا شك في أن هناك ترابطاً غير مباشر بين السياقين، فكوتزي يروي العلاقة بين السيّد والعبد، كي يقوم بتفكيكها وتعرية نظام الأبارتهايد، أما كفافي فإنه يقوم بتعرية لغة السادة معلناً أنّ الحلّ الذي قدّمه افتراض وجود البرابرة كان حلاً وهمياً. ماذا يفعل درويش هنا، هل يعلن نفسه ناطقاً بلسان البرابرة؟ لكن البرابرة لا ينطقون، إنهم مجرّد أشباح خرساء تتسلل إلى منامات حنة غونين وكوابيسها كما في رواية الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز «ميخائيلي». البرابرة كانوا هنا لكنهم صاروا «حفنة من هبوب الغبار»، ولم يعد وجودهم إلا إشارة إلى الخطر الذي يسكن في محيط القدس ويستعدّ للإطباق على مدينة حنة غونين الغارقة في ظلال العتمة.
درويش يقلب المعادلة، فهذا الشاعر الذي قرّر أن يكتب حكاية المهزومين التي لا تتسع لها الكتب، سمّى نفسه شاعراً طروادياً، معلناً أنّ المعادلة ليست بسيطة، إذ لا يكفي أن نكتشف عدم وجود البرابرة كي نصفّي حسابنا مع المفهوم الذي كان أحد مبرّرات استعباد الآخرين، بل علينا أن نستمع إلى من وُسم بالبربرية، إذ ربما كانت البربرية في مكان آخر.
كناية المغول تستلهم التاريخ من دون أن تسقط في تمجيد بطولاته، فالماضي مضى، ودرويش يتحرّر أيضاً من الماضي، فلا يبشّرنا بمعركة عين جالوت، كما بشّرتنا قصيدته «عاشق من فلسطين» (في المجموعة التي تحمل اسم هذه القصيدة والتي صدرت عام 1966)، بمعركة حطّين حين انتصر صلاح الدين على الفرنجة عام 1187.
«هدنة مع المغول» تسجّل الألم من استحالة السلام، وتقرأ الغزو الإسرائيلي كمحاولة لنفي الوجود الفلسطيني.
من هو البربري هنا؟
إذا قبلنا المصطلح مجرّدينه من محمولاته التاريخية، كي نقرأه بصفته تجسيداً للقمع والقهر وتحطيم القيَم الإنسانية عبر تحويل الحقل التاريخي إلى غابة يلتهم فيها القوي الضعيف، فإن علينا ألّا نبحث عن البرابرة خارج الحدود، بل أن نبحث عنهم بيننا، ونكتشف وحشية الاحتلال والاستبداد وأوهام الماضي التي تستطيع أن تقود من يريد إلى البربرية.
المحاولة الثانية: الدولة البربرية
قلت اننا لا نعثر على كلمة البربرية أو البرابرة في التراث الثقافي الكلاسيكي عند العرب، فابن خلدون، حين أعطى كتابه عنوان: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، تكلّم عن شعوب معيّنة ولم يتكلم عن صفات هذه الشعوب.
بقي هذا الافتراض صحيحاً إلى أن نجح ميشال سورا في كتابه الدولة البربرية في سورية، Syrie, l'État de Barbarie في إدخال كلمة بربرية إلى القاموس العربي، باعتبارها تحمل مضمون الاستبداد والعنف وتحطيم البنية الاجتماعية وتحويل الدولة إلى عدوّ للمجتمع. يضمّ هذا الكتاب مجموعة من الدراسات الرائدة في علمَي السياسة والاجتماع كتبت في أوائل الثمانين ات وقدّمت المقترب الأوّل لفهم الاستبداد الذي تحوّل إلى آلة بربرية تسحق المجتمع، وتحوّل الدولة إلى أداة طيّعة في يد الديكتاتور. استخدم سورا كلمة البربرية ولكن في سياق جديد. فلقد استندت أبحاثه إلى نظرية ابن خلدون في العصبية، أي اللحمة الميكانيكية بين أفراد جماعة ما يجري توظيفها هنا في آلة الاستبداد. العصبيّة وحدها لا تكفي، لذا كان على سورا استخدام مفهوم آخر مأخوذ من القاموس الخلدوني أيضا هو الدعوة، وقد تمثّلت هذه الدعوة في استخدام وظيفيّ لإيديولوجية البعث القومية، كي تخفّف من فظاظة عصبية تستند إلى الأقلية، وترسم ملامح مشروع وهميّ هو بناء الدولة/ الأمة.
كانت نصوص سورا نصوصا تأسيسية، على الرغم من أن بعض افتراضاته عن علاقة الريف بالمدينة كان يعوزها التدقيق.
مع صدور نصوص هذا الكتاب يمكننا القول إن كلمة البربرية دخلت إلى متن الثقافة العربية المعاصرة، وتحوّلت إلى مفهوم في علم الاجتماع السياسي قائم على النظرية الخلدونية. قد يستغرب الكثيرون أنّني أعتبر عملاً علمياً قام به مفكر فرنسي جزءاً من المبنى الثقافي العربي الحديث، مفترضاً أنّ كلمة بربرية، التي لم يكن لها مكان في المدوّنة الثقافية العربية، وجدت مكانتها على يد عالم اجتماع فرنسي، قضى في بيروت وهو في التاسعة والثلاثين، نتيجة موجات خطف المواطنين الأجانب التي اجتاحت المدينة في أواسط ثمانينيات القرن الماضي. غير أنّ هذا الاستغراب سوف يتلاشى سريعاً عندما نعلم أنّ سورا كان أول باحث كشف وقائع مجزرة حماه شباط /فبراير 1982، التي جرت وسط صمت عربي ودولي مريب، وذهب ضحيتها الألوف من أبناء المدينة التي انتفضت بقيادة الإخوان المسلمين ضد النظام. وكان أحد أوائل المفكّرين الذين حاولوا تقديم فهم للجذور الاجتماعية للتيار الإسلامي في دراسته الرائدة عن حي «باب التبّانة» في طرابلس، قبل أن تبدأ موجة حرب الحضارات التي حوّلت الإسلام إلى العدوّ الجديد للحضارة!
تشير وقائع الوضع السوري الراهن إلى قدرة نصوص سورا على فهم الاستبداد وتحليله. وعلى الرغم من التحوّلات التي أعقبت لبرلة الاقتصاد السوري على يد الرئيس الابن، ما قاد إلى أن تتمركز الانتفاضة الشعبية السورية التي اندلعت عام 2011 في مدن الأطراف وفي الريف، فإن تحليل بنية الدولة انطلاقاً من نظرية العصبية الخلدونية، وقراءة المجتمع بصفته عدوّاً للدولة، بقيت مفتاحاً أساسياً من أجل فهم المآلات التراجيدية للثورة السورية.
حياة سورا الذي ولد في تونس عام 1947 وقضى في بيروت عام 1986، تجسيد لمقولة التماهي التي لا علاقة لها بالأفق الضيّق الذي تطرحه فكرة الهوية. فالرجل تماهى مع التونسيين في مقاومتهم للعدوان الفرنسي في بنزرت، وتماهى مع الفلسطينيين عبر ترجمته رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، وتماهى مع الشعب السوري، ودفع ضريبة باهظة لقاء تعاطفه مع الإسلاميين، فقضي في زنازين مجموعة إسلامية تحرّكها المخابرات الإيرانية.
اختار سورية ولبنان وطناً له، وكان أوّل شهيد لربيع دمشق المكلّل بدماء الضحايا.
شهادة سورا ليست خارجية، اي أنها لم تأتِ من التراث الاستشراقي الفرنسي، بل هي شهادة عالم اجتماع، انطلق من الفلسفة الخلدونية كي يقدّم أوّل تحليل لهمجية النظام الاستبدادي، ويكسر الصمت المريب الذي أحاط بمجازره من حماه إلى سجن تدمر إلى آخره...
هنا يبرز بوضوح عماء الجريمة التي ارتكبت ضد هذا المفكّر وتفاهتها. خُطف سورا في بيروت في 22 أيار/ مايو 1985 على طريق المطار، وسط حمّى خطف الأجانب التي ضربت لبنان في سياق الصعود الإقليمي لإيران، وأعلن مقتلُه في آذار/ مارس 1986. الرجل الذي عُرف بحبّه لسورية ولبنان والذي كان أحد أوائل المتعاطفين مع الإسلام السياسي، لقي حتفه ولم يعثر على بقاياه إلّا بعد عشرين سنة على مقتله، حيث وجد مدفونًا في منطقة في الضاحية الجنوبية لبيروت تعرف باسم «حرج القتيل».
كان سورا أحد أوائل «المثقفين السوريين» الذين كشفوا عهر الثقافة ووسائل الإعلام التي غطّت جرائم حافظ الأسد بستار من الصمت. لذا يستحقّ مكانة خاصة في الذاكرة السورية، وهي مكانة تأكدت من خلال فيلم عمر اميرالاي الممتاز: «في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشال سورا» (1996).
ميشال سورا هو من أطلق صفة البربرية على النظام السوري، في وقت كانت فيه الثقافة العربية مصابة بما يشبه الغيبوبة. ومن الواضح أننا ندفع في سورية ثمن تلك الغيبوبة، من خلال تسلل المتسلّلين إلى الثورة، وعجز القوى الديمقراطية والعلمانية عن تحويل أجندتها التغييرية إلى واقع سياسي ملموس، لكنّ هذا العجز المحزن، يجب ألّا يحجب حقيقة أنّ أصل الهمجية وفصلها هو نظام الاستبداد.
لقد كانت علامة البربرية الأولى هي تصفية الثقافة وتدجينها، غير أنّ الثقافة السورية نجحت في تحدّي القمع ولو بشكل جزئي، وقدّمت شهادتها من خلال أعمال المسرحي سعدالله ونّوس والقاص زكريا تامر والشعراء نزار قباني ومحمد الماغوط وممدوح عدوان وغيرهم. وستنفجّر هذه الثقافة حرية في «ربيع دمشق» القصير 2001، وهو الربيع الذي شكّلت نتاجاته مقدّمة الثورة السورية. وستتوالى شهادات سجن تدمر الرهيب في كتابات فرج بيرقدار ومصطفى خليفة وياسين الحاج صالح، وستتحوّل الرواية السورية مع خالد خليفة وسمر يزبك وروزا ياسين حسن وغيرهم علامة على قدرة المجتمع على المقاومة.
هذه المقاومة سوف تصطدم بالواقع المرّ الذي تجسّد عبر عاملين:
تصرّف الدولة بوصفها عصبيّة أو حزباً، ولجوؤها إلى أكثر الأساليب وحشية في قمع انتفاضة شعبية سلمية اعتقدت أنها تستطيع السير على الطريق الذي صنعته تونس في ثورتها السلمية، ومصر في تجربة ميدان التحرير.
وعجز التشكيلات السياسية التي خرجت محطّمة من سجون القمع عن قيادة التحرك الشعبي، وتحويله إلى ثورة تطيح النظام.
لن أدخل في تحليل المسارات السورية المعقّدة التي أوصلها عنف النظام والتدخل الخارجي إلى واقعها المأسوي الراهن، بحيث صار للاستبداد شبيهه/ نقيضه في تنظيمات الجهادية السلفية. إنّنا نشهد اليوم كيف يتبنّى الأصوليون جميع المقولات الاستشراقية حول الإسلام وكيف تتحوّل سورية إلى ساحة اقتتال إقليمي بهدف وأد صيحة الحرية التي أطلقها أطفال درعا في آذار 2011.
رواية السجن لا تتميز فقط بغناها من حيث قدرتها على تحويل السجن إلى إطار للبحث عن التجربة الإنسانيــــــــــــــــــــــــة في شروط عيش لا إنسانية فقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــط، بل شكلت أيضاً مكاناً للتجديد الأدبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي.
الشبيه/ النقيض يتخذ اليوم اسم التوحش. الاستبداد البربري وُلد من تمفصل الفكر القومي الفاشي على العصبية، وقدرته على تحويل الجيش إلى أداة لقمع المجتمع، أمّا التوحّش الذي تمثّله السلفية الجهادية عبر «داعش» و«القاعدة» فقد ولد من تمفصل التيارات السلفية المستندة إلى فكر ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب على الحرب الباردة من جهة، وعلى القمع الشامل الذي فرضه الاستبداد من جهة ثانية. ولفظة توحش التي أستخدمها هنا مأخوذة من عنوان كتاب أبي بكر الناجي، أحد كبار منظّري التيار وهو بعنوان إدارة التوحش. فالدولة في مراحل ولادتها تلجأ إلى إدارة التوحش من أجل إرهاب خصومها وفرض هيبتها، مستندةً إلى فقه الدم، وهو عنوان كتاب أبي عبدالله المهاجر، أحد منظّري التيار نفسه.
من بربرية الاستبداد إلى إدارة التوحش، هذا هو الممرّ الدموي الذي يعبره اليوم المشرق العربي، وهو يواجه صراعاً وحشيّاً يهدّد بإخراج العرب من خريطة مصائر بلادهم.
المحاولة الثالثة: بحثاً عن الكلمات
قضى ميشال سورا باليرقان في سجن لا يشبه السجون، سجانوه كانوا أعضاء في مجموعة أصولية مسلّحة، لم يتسنَّ لهم المجال لسنّ قوانين سجونهم. وتشهد النصوص التي كتبها الناجون من الخطف، على العشوائية وعدم المهنية التي عاشوا في ظلالها.
لكنّ مصائر ألوف المساجين في سجون الأنظمة الاستبدادية لم تكن أفضل حالاً، فلقد حوّل الاستبداد السجون إلى ما يشبه المقابر، من تزمامرت في المغرب إلى تدمر في سورية، كما أنّ فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي تحوّلت إلى سجن كبير، وصار السجن هو المدرسة التي صهرت الوعي بالألم. ولعلّ الشعر الفلسطيني الحديث هو ابن تجربة السجون التي حوّلت الشعر إلى نشيد للحرية. (يشير تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بتاريخ 14 نيسان 2014 إلى أنّ عدد الفلسطينيات والفلسطينيين الذين دخلوا السجون الإسرائيلية منذ احتلال الضفة الغربية وغزة هو 805 آلاف).
لقد أنتجت تجربة السجون العربية ما يمكن أن أطلق عليه اسم أدب السجون. فرواية السجن لا تتميز فقط بغناها من حيث قدرتها على تحويل السجن إلى إطار للبحث عن التجربة الإنسانية في شروط عيش لا إنسانية فقط، بل شكّلت أيضاً مكاناً للتجديد الأدبي، ولعبت دوراً أساسياً في إطلاق موجة الكتابة الجديدة ذات الشكل المفتوح على التجريب.
يكفي أن نقرأ رواية القوقعة لمصطفى خليفة كي نصاب بالهلع أمام وحشية هذه التجربة، وكيف كانت في جوهرها محاولة لتجريد الإنسان من شعوره بالكرامة، وتحطيم روحه وعقله، أو أن نقرأ رواية إعجام لسنان أنطون، حيث تتحوّل النقاط المحجوبة ولعبة الإعجام إلى معادل لغوي للاستبداد.
اللافت في التجارب الروائية الثلاث التي سأتحدّث عنها أنها على الرغم من اختلافها من حيث الأسلوب والمضمون، تتّفق على مسألة واحدة، هي علاقة الحرية بالكتابة. ففي حين أن بطلي تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم وشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف مثقفان، فإن بطل روايتي يالو، ليس مثقفاً ولا يحلم بالكتابة، لكن الكتابة التي كانت إحدى وسائل التعذيب المستخدمة ضده تصير باباً لتفكّكه النفسي وطريقاً لاستعادة الذات في الآن نفسه.
تلك الرائحة (1966) لصنع الله إبراهيم افتتحت أدب السجون ببلاغة سردية جديدة. بطل الرواية هو راويها، إنه شاب خرج حديثاً من السجن، يعيش تحت رقابة البوليس، ويحاول أن يستعيد حياته عبر الحب والكتابة، لكنه يفشل في كليهما. الرواية التي منعتها الرقابة المصرية بسبب لغتها المباشرة والفاضحة، ليست سوى محاولة لكتابة رواية. نعثر في هذا النص الصغير على عشر محاولات للكتابة. فالكاتب الذي يشعر بأنه لم يخرج من السجن لأن القاهرة تحوّلت إلى سجن كبير، يجد عزاءه الوحيد في الكتابة، لكنّ الكلمات تخونه. لا يتوقف عن المحاولة، رغم الفشل الذي يحاصره، وكما يفشل في الكتابة يفشل في العلاقات الجنسية، ولا ينجح في استعادة علاقاته العائلية مع شقيقته وشقيقه. إنه إنسان بائس ووحيد. يجلس أمام الورقة البيضاء، فيرى فيها مرآةً للمدينة التي كسر الاستبداد روحها، يتذكّر السجن في سياق وصفه لحاضره خارج السجن، بحيث تمّحي المسافة بين داخل السجن وخارجه. ولن تنحلّ عقدة الكتابة عنده إلّا في المشهد الأخير من الرواية، حين يذهب لزيارة والدته فيكتشف أنّها ماتت.
رواية إبراهيم تحيل إلى مراجع ثقافية من جيمس جويس إلى غي دو موباسان إلى رواية الطاعون لكامو، لكنّنا نكتشف أنّ الرواية تبدأ لحظة نهايتها، نهايتها تشبه بداية رواية الغريب لكامو. كأنّ الروائي المصري قلَب المعادلة، فبدل أن تكون الأمّ بداية رحلة الغريب إلى جريمته كما في رواية كامو، تصير مع إبراهيم بداية المصالحة مع الكتابة. تلك الرائحة هي رواية عالم بلا أمّهات، وهو عالم قاسٍ لا تروّضه إلّا الكلمات.
يتكرّر البحث عن الكتابة في رواية عبدالرحمن منيف شرق المتوسط (1991)، ولكننا أمام مقترب أسلوبي مختلف عن الرواية السابقة. تلك الرائحة تختزن بأسلوبها السريع وجملها القصيرة، وموقف المراقب الذي يتّخذه الراوي ذاكرة الألم، أمّا رواية منيف فتسترسل في وصف الألم، وتقدّم نماذج عن أشكال التعذيب، وتروي مآسي السجناء السياسيين في تفاصيلها اليومية، وتأخذنا في رحلة شاقّة إلى عالم السراديب الذي يحوّل البشر إلى كائنات هشّة ومسحوقة. رجب بطل رواية منيف، يحمل على كتفيه وزر خيانة رفاقه عندما وافق على توقيع ورقة التبرؤ منهم. لكنّ هذه الورقة سوف تكون صليبه في رحلة العلاج إلى أوروبا، وسيحتلّ السجن ذاكرته، كأنّه يحمل السجن في داخله.
حلم رجب كان أن يكتب ويشهد، يصف حلمه برواية يكتبها أكثر من شخص واحد و«لا يكون لها زمن». وكان يعتقد أن الكلمة هي سلاحه الأخير، «لعلّها تكون طلقة الرحمة لي ولهم، ونموت معاً». وفي النهاية يعود بطل الرواية من رحلته تحت ضغط التنكيل بأقربائه، يدخل إلى السجن ليخرج منه أعمى ويموت، وكان على أخته أنيسة أن تهرّب أوراقه إلى الخارج كي تُنشر.
الحلم بالكتابة أو محاولة الكتابة تصبح في هاتين الروايتين باب استعادة الإنسان لروحه. فالكلمة، هي الأمل وكتابة أحرف كلمة حرية هي الطريق إلى الحرّية.
رواية يالو (2004) تقلب المعادلة التي كتبتها الروايتان السابقتان، لم تعد الكتابة باب الحرية بل صارت إحدى وسائل التعذيب. كان على دانيال أبيض المعروف باسم يالو السجين في لبنان أن يكتب قصة حياته على أوراق بيضاء أعطاه إياها السجّان. فصارت الكتابة بالنسبة إلى ابن الحرب هذا إحدى وسائل التعذيب. يكتب ويعيد الكتابة، لكنّ الجلاد لا يرضى. وعندما نضج قلمه بعد سبع محاولات للكتابة، أمسك المحقّق بالأوراق ورماها وداس عليها. في تلك اللحظة تتحوّل أداة التعذيب إلى كابوس، ويكتشف الفتى اللبناني أنّ الكلمات التي قسمته إلى نصفين، أحدهما معلّق على خشبة التعذيب، والثاني يجلس ويتأمّل ويكتب، هي ما تبقى له كي يرسم صورة أمّه على الورقة، بعدما امّحت صورتها في المرآة.
تُقدّم هذه الروايات لوحة متعددة الظلال عن مقاومة الهمجية بالكلمة، لكن البحث عن الكتابة في روايتي إبراهيم ومنيف يتحوّل في يالو إلى نقيضه. فالكلمات صارت هي أيضاً أداة في يد الجلّاد، بحيث صار الحلم مجرد كلمات تدوسها الأقدام.
رجب كان يحلم بالكتابة، وبطل تلك الرائحة كان يحاولها ويفشل، أما نجاح يالو في كتابة روايته فتمّ في العلاقة بين اليأس وما بعد اليأس، أي على ابواب الهمجية التي بدأ فصلها الأكثر وحشية عام 2003، قبل عام واحد على نشر الرواية، مع الغزو البربري الأميركي للعراق.
هل بتنا نعيش لحظة انفصال الكلمات عن المعاني؟
تقودنا هذه الروايات إلى سؤال العلاقة بين الكلمة والمعنى، كيف نعيد للكلمة معناها كي نستعيد القدرة على المساهمة في صوغ عالمنا وسط ركام الموت والهمجية.
رجب بطل رواية منيف كان يخشى من تحوّل الكلمات إلى هباء، أما الفلسطيني معتز حجازي، الذي قام بمحاولة اغتيال الحاخام الإسرائيلي المتطرّف يهودا غليك مساء الأربعاء 29 تشرين الأول/أكتوبر 2014 في مدينة القدس، فكان يعلم أنّ ما يقوم به ليس اغتيالاً سياسياً فقط بل هو أيضاً محاولة كي يستعيد حقه في الكلام.
الشاب الفلسطيني الذي قضّى أحد عشر عاماً في سجون الاحتلال انتظر خروج الحاخام يهودا غليك من ندوة عُقدت في مركز مناحيم بيغن في القدس بعد إلقائه محاضرةً حول حقّ اليهود في الاستيلاء على الحرم القدسي الذي يطلقون عليه اسم «جبل الهيكل»، وكانت الساعة العاشرة والنصف ليلاً.
تقدّم معتزّ فرأى رجلاً طويلاً أشقر اللحية يلبس قميصاً أزرق، يقف بين مجموعة من الناس. التفت إلى الرجل وسأله هل هو الحاخام، وعندما سمع جوابه الإيجابي أخرج مسدّسه وقال له «متأسف، أنا مضطر لفعل ذلك»، ثم أطلق النار، وفرّ هارباً على متن دراجته النارية.
في صباح اليوم التالي قضى معتز حجازي على سطح منزله في القدس بعد إصابته بعشرين رصاصة أطلقتها عليه الوحدة الإسرائيلية الخاصة بمكافحة الإرهاب.
لا أريد أن أدخل الآن في جدل حول الاغتيال، وحول معنى اللاصقة الجاهزة التي تعتبر هذا الاغتيال عملاً إرهابياً. فالمسألة في فلسطين التي تستباح منذ ستة وستين عاماً، وتصادر أرضها ويُذلّ شعبها، أكثر تعقيداً من أن تُقرأ ضمن ثنائية النضال العنيف والنضال السلمي، لأنّ كلّ أشكال النضال التي استخدمها الفلسطينيون وكل التضحيات التي قدّموها لم تكن كافية كي ترفع حجاب الصمت الذي يغطّي مأساتهم.
معتز حجازي الذي وَسَم التعذيب والزنزانة الانفرادية جسده وروحه، لم يحاول قتل الحاخام كي ينتقم لسنوات عمره التي ضاعت في السجن، فكرة الانتقام لم تكن واردة، وإلّا لما اعتذر قبل أن يقتل. الرجل أراد بعمله إعلان موقف سياسي وأخلاقي، وقرّر أن يكون عادلاً.
أستطيع أن أتخيّله بطلاً في مسرحية العادلون لألبير كامو، كما أستطيع أن أفترض أنه يشبه يانيك بطل مسرحية كامو الذي رفض اغتيال الدوق سرجي ألكسندروفيش بإلقاء قنبلة على موكبه لأنّه كان بذلك سيقتل معه طفلين كانا برفقته، لكنّه عاود المحاولة ونجح في قتل الدوق وحده. تنتهي المسرحية بإعدام يانيك لأنّه رفض أن يشتري العفو من خلال اعترافه بأنه قاتل وليس ثورياً.
كانت حياة يانيك، مثلما تخيّلها الكاتب الفرنسي، معلّقة على كلمة طُلب منه أن يقولها كي يتفادى الموت إعداماً، لكنّ الرجل تعامل مع الكلمة بصفتها مرآة للمعنى، وقرّر أن يموت ثورياً.
يُطلق التراث الماركسي على الثوريين الروس من أمثال يانيك لقب الإرهابيين ويُدين أفعالهم، لكنّ الثورة الروسية لم تكن ممكنة لولا هذا الجيل من الإرهابيين/ الثوريين، الذين زرعوا الوعي بضرورة إسقاط النظام القيصري الاستبدادي.
لست متأكداً أنّ معتز حجازي ينتمي إلى هذه الفئة من الثوريين التي كتب عنها كامو مسرحيته، لكنني شبه متأكد من واقع أنّ معتز لو كان بطل رواية أو مسرحية لنال حقّ قول كلمته الأخيرة قبل إعدامه.
معتز فلسطيني، والفلسطيني في دولة إسرائيل عليه أن ينتزع حقّه في الكلام في ساحة الموت، لأنّ لا محكمة ستعطيه الحق في العدالة، كي يأتي روائي أو كاتب وينصفه بصفته عادلاً وجزءاً من كوكبة العادلين.
كما ترون أيها السيدات والسادة، فإنّ نصّي مفكّك تفكّكَّ لغة العدالة التي أريد أن أتبنّاها. لغة العدالة والحرية هي وسيلتنا الأساسية كي نمتلك القدرة على مواجهة البربريات الثلاث التي تحاصرنا في بلاد العرب: بربرية الاستبداد وبربرية الاحتلال الإسرائيلي وبربرية تنظيمات الجهادية السلفية. وسؤالي هو كيف نلتقط اللغة الملائمة من ركام الكلمات، كي نصف حالتنا، فتكون لغتنا الجديدة مدخلنا إلى الحرية.
في ألف ليلة وليلة تصف شهرزاد القصة التي تستحقّ أن تروى بأنها «لو كُتبت بالإبر على مآقي البصر لكانت عبرة لمن يعتبر».
ما معنى أن تكتب قصة بالإبر على بؤبؤ العين؟
هل الشرط الأولي لاكتمال القصة فينا هو العماء، فتكون الظلمة الحالكة التي ندخل إليها هي باب الحكاية إلى التشكّل في الضوء؟
وهل تكون هذه العتمة التي تلفّ العرب في زمننا هي ضريبة جدارتهم بأن تكون لهم حكاية؟
وأخيراً هل تستحق أية حكاية، مهما كانت مآلاتها، كل هذا الألم والدم والأسى؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.