العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

من نضال مزارعي التبغ في الجنوب

انتفاضة أهالي عيترون ١٩٦٨

النسخة الورقية

الشيوعيون في البلدية

بعد فوز الشيوعيين في بلدية عيترون عام ١٩٦٥، عقدت منظمة الحزب الشيوعي اجتماعها العام بحضور كافة أعضائها الـ ٧ في منزل محمد علي فقيه، واتخذتْ قراراً بتصويت الأكثرية على أنّ هذه البلدية هي لكل أهل عيترون، وأن الشيوعيين لا يختلفون عن غيرهم من أهل البلدة. فانزعج البعض من هذا القرار، وانسحبوا من الاجتماع على الرغم من أننا حاولنا إقناعهم بأن «الأسعدية» الذين خسروا هم من أهل البلدة مثل غيرهم.

كذلك، اتخذ الاجتماع قرار تنويه وتقدير للمربي الكبير الأستاذ محمود الأمين، أطال الله في عمره، عضو قيادة الحزب آنذاك ومدير مدرسة عيترون. كان أستاذاً بكل ما للكلمة من معنى، ومربياً فاضلاً يهتمّ لأمور الطلاب ويتابع تحصيلهم ويلاحقهم الى بيوتهم للاطمئنان إلى أنهم يدرسون ويجدّون. وعلى سبيل المثال، كان في تلك السنة أربعون طالباً تقدموا لنيل شهادة البريفيه، ونجح منهم ٣٨، ومن ثم تعاقبت نجاحات الطلاب في كل السنوات التي كان فيها الأستاذ محمود مديراً للمدرسة. (كان الولد يلّي حظو سيئ، يلتقي فيه بالشارع وما يعود يسترجي يروح تاني يوم عالمدرسة إلا ليروحوا أهلو عالمدرسة ويقولو للإدارة إنو كانو باعتين ابنهن بشي مهمة).

أما القرار الثالث، فكان للاطلاع على نتائج البرنامج التثقيفي والأخلاقي الذي كان قد نُفّذ لمدة سنة. وكان هذا البرنامج عبارة عن مواد تثقيفية تُعطى خمس مرات أسبوعياً، وكانت تضم: وصيّة الإمام علي لحاكم مصر من كتاب «نهج البلاغة» (توصيته بالفقراء والمساكين)، كُتُباً لجبران خليل جبران، وخالد محمد خالد، ومكسيم غوركي (خصوصاً «طفولتي» ورواية «الأم»)، وجورج حنا (كان قد أهداها لي سنة ١٩٥٤ عندما كنت معه في «لجنة أنصار السلام»).

وأذكر بعض الأشخاص الأمّيين مثل محمد موسى الدروبي المعروف بأبو حبشة، الذي كان يلتهم القراءات التهاماً ويبصمها عن ظهر قلب كإنسان جائع محروم من الطعام لأيام، كما كان يهتم بأمور الآخرين ويلخص للمتأخرين عن البرنامج ما فاتهم من مواضيع.

أما البرنامج الأخلاقي الملحق بالبرنامج التثقيفي، فكان عبارة عن توصيات بالامتناع عن ضرب النساء، وعن لعب القمار، والكذب وشرب الخمر في الأماكن العامة. وكان إذا ما تورّط أحد الشيوعيين بشيء ممّا ذكرناه، يصدر بحقّه تنبيه أو لوم أو تجميد أو حتى طرد.

 

تحت سيطرة شركة «الريجي»

كانت شركة «الريجي» تشكّل سلطة فوق الدولة، ترشي كل الزعماء السياسيين، وبعض كبار العسكريين والأديرة بمنح رخص التبغ، وهم بدورهم يؤجّرونها إلى المزارعين الفقراء. وكان في عيترون ورميش آلاف الدونمات التي تؤجّر من الزعماء والأديرة إلى المزارعين الفقراء المحرومين من الرخص. وكانت الريجي قد فرضت سلطتها وسطوتها على نقابة المزارعين التي كانت بدورها تقف مع الشركة وتأتمر بأمرها، وكان وقتها الصراع على النقابة بين آل الزين وآل الأسعد. كان هذا قبل أن تأتي نقابة تحالف أحزاب «الحركة الوطنية»، وكانت تعمد الشركة في قوانينها إلى أن تأخذ من المزارع ثمار تعبه المجبول بالعرق والدم.

وفي كل سنة كانت تحصل صدامات بين المزارعين الفقراء وجماعات الريجي، خصوصاً عند كيل المساحات وتسلّم المحصول، وكان رجال الدرك والجمرك وزبانية الشركة يمارسون كل أنواع الترهيب والترغيب والحبس طالما كان ذلك يخدم قوانين الشركة.

كان المزارع يطمع في زراعة ٢٠٠ متر أو نصف دونم بدون رخصة ليعوّض بعض مما يدفعه إلى مالك الرخصة.

كان أول من تجرأ وزرع أكثر من دونمين، محمود أيوب حيدر من عيترون، وكان لديه عائلة كبيرة يجب أن يعمل جاهداً ليطعمها، فكان كل سنة «يعمل عركة» مع الريجي.

«يوم كنا أنا وأم جبران عم نحلش شوية باقية، شرفوا زبانية الريجي ومعهن دالول من عيترون»، وكانت القطعة التي كنا نزرعها على الحدود مع فلسطين، حين رأيتهم، جن جنوني عليهم وقلت: «لهون لاحقينّي يا إخوات الفاعلة» فضربت أحدهم وهرب الثاني إلى داخل أرض فلسطين. أما الدالول فنفى مسؤوليته وانسحب. بعد ساعة، اتى الدرك واقتادوني إلى مخفر بنت جبيل، ومن ثَمّ إلى صيدا. بعدما علم الحزب الشيوعي بتوقيفي، أرسل لي أحمد الحسيني والمحاميين نخلة مطران وكاسبار كسباريان. وبعد اللقاء مع المحقق، رفض هذا الإفراج عنّي بحجّة أنني ضربت أحدهم ولديه تقرير من الطبيب الشرعي بذلك، وبأنّ لديّ مشاكل سابقة مع الريجي، وليس هناك إمكانية للإفراج عني. أثناء توقيفي، كنت أتجول في باحة السجن، فخرج أحد المساجين وقال «بيقلّك شاويش الحبس، فوت لجوا». قلت له: «بعد شوي». تكرر الموضوع ثلاث مرات فقلت له: «قلو بيقلك… إختك وإخت يلّي حطك شاويش».

اختمر التناقض بين حاجات المزارعين المتنامية باستمرار لجني ثمار أتعابهم المغموسة بالعرق والدم وبين استغلال واستبداد شركة الريجي ومالكي الرخص من زعماء وإقطاعيين.

كنت أنتظر وصول رفاقي الذين ذهبوا للقاء معروف سعد للتوصل لحل، بعدها دخلت إلى الزنزانة، ففوجئ الجميع بمعرفتهم بي، كان حسين خميس من يارون وآخر من آل بيضون، مسؤول الحزب القومي السوري في بنت حبيل، فقالوا: «من جوابك عرفنا إنك قديم». بعد توقيفي لمدة خمسة أيام، حضر معروف سعد إلى المحكمة لحل الموضوع فحكم القاضي بالإفراج عنّي واكتفى بمدة التوقيف. «وألله يعين يلّي بفوت عالحبس أول مرة، بيستلموه المحابيس». وبهذه الحادثة تخطّت توقيفاتي العشرين مرة.

لقاء مع فؤاد شهاب

خلال مقابلتنا مع رئيس الجمهورية فؤاد شهاب حصلنا منه على وعد «ازرع ولا تقطع». كنا حينها وفداً كبيراً أكثر من مئتي شخص من عيترون ورميش وقرى عدة، شرحنا له معاناتنا مع شركة الريجي وكيفية توزيع رخص التبغ على زمن الرئيس كميل شمعون، وقتها أصغى لنا الرئيس شهاب وتفهم وضعنا وقال بالحرف: «روحوا إلى المزارعين وقولولهن في زمن فؤاد شهاب ازرعوا ولا تقطعوا». وبالفعل كان انتصاراً حققه المزارعون في مثابرتهم وتوحدهم وإجماعهم. هذه القضية تشبه اليوم قضية «هيئة التنسيق» مع سلسلة الرتب والرواتب. وكان الشيوعيون من المزارعين ومع كل المزارعين المحرومين من الترخيص.

اختمر التناقض بين حاجات المزارعين المتنامية باستمرار لجني ثمار أتعابهم المغموسة بالعرق والدم وبين استغلال واستبداد شركة الريجي ومالكي الرخص من زعماء وإقطاعيين والذين كانوا قد حصلوا على تراخيص وأذونات بمئات الدونمات بدون مقابل سوى قربهم أو ولائهم لهذا المسؤول أو ذاك.

سنة بعد سنة تكررت فيها زراعة الزوائد واعتبرتها الشركة مخالفات يجب إتلافها وحرمان المزارع من الاستفادة منها حتى أصبحت الزراعة من دون ترخيص توازي الزراعة المرخص لها.

وعلى مدى عدة سنوات كانت لجان المزارعين تعمل على مقابلة المسؤولين، خصوصاً وزراء المال ورؤساء الحكومات، وكان أحد اللقاءات مع المرحوم رشيد كرامي الذي استقبلنا في بيته ودام الاجتماع عدة ساعات. شرحنا له كيفية زراعة التبغ ومعاناة مزارعيها، وقلنا له إنه حتى الجنين في بطن أمّه كان يعاني من هذه الزراعة الملعونة. شكونا له أن الريجي تتلف الأوراق الأولى من شتلة التبغ واسمها «التكعيبة». عندئذ قال: «يا أبنائي ليش بتزرعوا تكعيبة حتى تضطر الشركة أن تتلفها؟» فطلبنا منه الوقت الكافي، وقام أحد المزارعين وقال:

«بدّي فرجيك البذرة الأصغر من راس الإبرة وكيف منزرعها عـ مدى أربعين يوم حتى تصير شتلة وبعدين منشيلها شتلة شتلة لنزرعها بالأرض الصالحة يلي بتكون مفلوحة أربع مرات. وبعد ١٥ يوم منرمي ورق التكعيبة بالأرض ومنبلّش كل ١٥ يوم نقطف قطفة ومنِجي علبيت ومنشكّهن ورقة ورقة بمَيْبر حديد وخَيط مصّيص ومنعلقها عالسقالة بالشمس حتى تنشف ومنعود نضب كل خمس خيطان يلي منسميهن «صندل» ومنعلقهن بسقف البيت يلي ننام فيه وبعدين منفرطهن من الخيط ومنصفطهن ورقة ورقة كل عشر ورقات صفطة ومنعود نحطهن صفطة صفطة بالدنك يلي بيوزن من ٢٠ لـ ٢٥ كيلو ومنرجع نقدمهن للخبير».

أول ما شفت رتل هالآليــــــــــــــــــــــــــــــــات، تذكرت لما دخل الجيش اللبناني في حرب فلسطين وحرّر المالكية. بس هذي المرة كانوا جايين يحرروا عيتـــــــــــــــــــــــــــــــــرون من موسم التبغ.

وشرحنا له أنّ في موعد تسليم المحصول يأتي موظف من قبل الشركة ويصنّف وحده دون حسيب أو رقيب سعر الكيلو بعد أن يحسم كيلو على الخيش و٢ كيلو عديمين النفع. وهكذا يسلب تعب المزارع الذي عاناه على مدى أربعة عشر شهراً إلى حين تسليم محصول التبغ، على الرغم من قبول واستسلام المزارعين لواقعهم المرير. وبالفعل أصدر المرحوم رشيد كرامي قراراً يقضي بتحديد الرخصة بخمسين دونم، لكن أصحاب الرخص لم يتوقفوا عن الاحتيال فتواطأوا مع موظفي الشركة وقاموا بتوزيع الرخص على زوجاتهم وأولادهم.

 

عيترون البلدة التي لا تنام

بعد الهزيمة المدوّية للقومية العربية سنة ١٩٦٧، وبدء حرب الاستنزاف، والإعلان عن بدء العمل الفدائي ومَرْكَسَة القوميين العرب، اشتعلت الحيوية من جديد في قرى جبل عامل، خصوصاً قرى الشريط المحاذي لقرى الجليل، القرى التي سمّتها السلطة «القرى الأمامية» لكنها بالأحرى كانت القرى الأقل اهتماماً من السلطة.

كانت مساحة الزراعة في عيترون قد تضاعفت عن السنة الماضية، خصوصاً الزوائد بدون رخص، وأخذت الأطراف السياسية تتنازع على كسب الأنصار. وفي صباح أحد الأيام استفاقت الناس على خبر مفاده أن جدران البلدة مخططة بشعارات حرب التحرير الشعبية الملوّنة بالأحمر والأخضر كشعار «بدنا تسليح الجنوب من الناقورة عرقوب»، وشعار «ثالوثنا المقدس، وحدة وحرية واشتراكية».

بدأت الناس تتناقل الأخبار أنهم شاهدوا أناساً يذهبون إلى فلسطين وبدأت السلطات تطوّق البلدة وتقوم بعمليات التفتيش. في الوقت عينه، كانت شركة الريجي تقوم بتهديد الناس على لسان عملائها وجواسيسها بأنها ستتلف كل موسم الدخان الذي كان موسماً غنياً حيث كان منظر «مرج المحافر» الأخضر كأنه قطعة من الجنة. كذلك «مرج الشقة»، الذي يفوق الألفي دونم، قطعة واحدة، كان مرجاً زاهياً مزيناً بأزهار التبغ التي يخيّل إلى الناظر أنها قطعة سجاد عجمي. وكان هذا المنظر يؤلم العدو المتربص على الحدود.

في هذه الفترة، عقد الحزب الشيوعي مؤتمره الثاني واتخذ قراراً تعسفياً بطرد أعضاء «التيار اللينيني» من الحزب، مما انعكس سلباً على وحدة الحزب وتماسكه. لكننا في عيترون، قررنا أن نبقي على ارتباطاتنا مع كل الأفراد كي لا تتشوه سمعة الحزب في البلدة ولكي نكون صفاً واحداً في المعركة المرتقبة.

 

الانتفاضة

١٩ تموز عام ١٩٦٨ يومٌ يختلف عن كل الأيام. ناس بيقولوا عنّو يوم الانتفاضة وناس بيقولولو يوم الثورة. فقت من النوم الساعة ٨ الصبح على صوت أنيس فقيه عم يسأل إم جبران: «وين بو جبران». قمت من النوم وقلتلّو: «اتفضل» قال: «بعدك نايم؟ قوم شوف هالشوفة، خِربِتْ الدني». قلتلّو: «خير، شو في؟». قال: «قوم ضهار لبرا وشوف شو في». المهم ضهرت عالبرندا واطلّعت إلى جهة الغرب وشفت قافلة آليات من راس «عقبة السوق» (اليوم بيسمّوها «مثلث الصمود» بيوتها مختلطة من عيترون وعيناتا وبنت جبيل). أول ما شفت رتل هالآليات، تذكرت لما دخل الجيش اللبناني في حرب فلسطين وحرّر المالكية سنة ٤٨. بس هذي المرة كانوا جايين يحرروا عيترون من موسم التبغ. تقدم الرتل ٣ جيبات و٤ شاحنات، فيهن أكتر من ١٠٠ دركي وخلفهم عدة تراكتورات وعدة سيارات لموظفي الريجي والعشرات من العمال يلي جابتهن الريجي عشان ينظّفوا الأرض بعد ما تفلحها التراكتورات.

ما إن وصلت القافلة إلى ما بين بيت محمود حجازي من الشمال وعبد الحسن الشيخ حسين من الجنوب، بدأت المعركة، وعلى مدى ساعة ما قدْرت القافلة تقطع أكتر من ٥٠٠ متر، من بيت محمود حجازي إلى محلة بئر ناصر. اشتدت المعركة وعند بئر ناصر، حطّمت الجماهير الثائرة شاحنة وجيب، فيهن حوالي الأربعين دركي، وركّعوهن قدّام بيت بو الياس وشلحوهن أسلحتهن. وعلى طول الطريق العام من الجزيرة للوادي، كانت المعركة بين كرّ وفرٍّ من كل المشاركين ، وكان في حوالى ١٠ أو ١٢ ألف شخص من يلي شاركوا بهالمعركة من الضيعة، وكانوا كل الشباب والصبايا يلي جايين من القطيفة عطريقهن (عالحمير، مش متل اليوم كل بيت فيه سيارتين) لما وقعت المعركة فشاركوا الكل. في ذلك الوقت كان معظم أهل الضيعة موجودين فيها وبلشت هالنسوان تشارك كمان. بينقال إنو ما في إلا شخص واحد بس ما شارك بهالمعركة. وكانت أدوات المعركة يلّي استعملوها أهل الضيعة عبارة عن عصي وحجارة وأحذية النساء. بعد هالهجوم الكبير، استسلم آمر القوة، وطلع معو بالجيب خليل الشيخ حسين حتى يوقّفوا المعركة، لكن الناس ما استجابت لحتى استسلمت كل القوة. وطلب التفاوض وطلب قوة مساندة من الجيش. وبالفعل إجت قوة مدرعات من آمر المنطقة النقيب كلاس برفقة نائب المنطقة إبراهيم شعيتو (المحسوب على حزب البعث، بس هوي حقيقة كان تابع للشعبة الثانية). صار موافقة على تسليم الدرك مقابل تعهد النقيب كلاس والنائب شعيتو بأنو ما تتم عملية تلف الدخان وصار في اتفاق ومفاوضات بين الجيش والمزارعين. وكان هالاتفاق بيحمل خديعة وغدر وانتقام.

 

محمد داوود، بطل المعركة...

في كل قرية هناك من يشبه محمد داوود، أشخاص بسطاء تكون الحياة قد أخذت منهم أشياء ووهبتهم بدلاً عنها سمات أخرى تحبّب الناس فيهم. كان الجميع يتحدث عنه وعن أعماله وأفعاله، لأنه لم يكن يخفى عنه شيء، فهو لا يعمل، فكان متفرغاً لنقل أخبار الضيعة من وإلى جميع الناس.

تقدم مني المقدم وقال: «أهلين، شو عامل حالك غيفارا». مددت يدي لكي أصافحــــــــــــــــــــــــــــــــــه، فصفعني على وجهي وحاول ضربي ثانية، فثبتُّ يدَه وقلت له: «اخجل من رتبتك».

ما إن وصلت قوات الجيش إلى محلة بئر ناصر حتى ظهرت ثلاث ملّالات وثلاث شاحنات وثلاث سيارات عسكرية يتقدمها نائب المنطقة إبراهيم شعيتو، ويرافقهم النقيب كلاس، آمر القوة، حتى فوجئوا بمشهد قوات الدرك الراكعين على الأرض، فجنّ جنون آمر القوة وأعطى أمراً بإطلاق الرصاص في الهواء لترويع الحشود وتفرقتها.

في هذه الأثناء، كان محمد داوود قد أصيب في رأسه جراء تطاير رصاصة فارغة فوضع يديه على رأسه ليتفحص مكان الضربة، ودهن وجهه بالدم وبدأ بالصراخ: «رصاصة والله رصاصة، بدهن يموتوني»، وكل من شاهد الدم على رأسه قال: «مات محمد داوود». عندئذ طلب آمر القوة الانسحاب من أرض المعركة إلى مركز الجيش في الكيلو ٩ بين عيترون وبليدا. في طريقهم فوجئوا بأهل بليدا الذين كانوا قد قطعوا الطريق واحتشدوا بجانب نقطة الجيش، فقرر أن يبادر بالتهدئة، وطلب أن تشكل مجموعة من الأهالي للتفاوض. ذهبنا، وكنّا ستة أشخاص، وعند وصولنا إلى داخل مركز الجيش، كان هناك شعور غريب يسيطر علي وكأنني أذهب إلى الهاوية، لأن هذا المركز كان «محصّن بالأسلاك وملغّم». تقدم مني المقدم كلاس وقال: «أهلين، شو عامل حالك غيفارا؟». مددت يدي لكي أصافحه، فصفعني على وجهي وحاول ضربي ثانية، فثبتُّ يدَه وقلت له: «اخجل من رتبتك»، فوقف وقال: «معك حق، والله ما ضربت شخص وبقي واقف قدامي». واعتذر وقال «اقعدوا بدنا نشرب شاي ونحكي عرواق ونحل المشكلة». قلنا له: «وقِّف إتلاف التبغ وبتنتهي المشكلة»، قال «ابعتوا واحد خليه يهدّي الناس وخليهن يفرجوا عن الدركيين». عندئذ طلبت من الأستاذ أحمد منصور أن يذهب إلى الضيعة لحل الأمور.

تقصدت وقتها أن أدعه يذهب لأنه أستاذ مدرسة ويمكن أن يخسر وظيفته بسبب هذا الإشكال. بقينا خمسة أشخاص: حسين خليل حيدر، أستاذ مدرسة ومسؤول حزب البعث في منطقة بنت جبيل، وأحمد عيسى، ومحمود أيوب حيدر، وخليل الشيخ حسين، وتم الاتفاق بحضور نائب المنطقة إبراهيم شعيتو. وعندما علم آمر المنطقة بالإفراج عن الدرك وأنهم أمّنوا لهم طريق العودة، قال إنّ عليه أن يسلّمنا إلى السلطة لأن هناك أدلّة واضحة على عمليات التخريب التي حصلت، فقد اختُطف رجال أمن وتم تدمير آليات للدرك.

 

… وأحذية النساء

أعطى أمراً باعتقالنا ووضعنا بشاحنة الجيش وأخذونا إلى سرايا بنت جبيل خلسة وبسرعة كي لا يرانا أحد أو يحاول أن يساعدنا. بعد ذلك تبيّنت نوايا السلطة السيئة، فبعدما حصلوا على ما يريدون، بدأ العدّ العكسي للانتقام واستردّوا أنفاسهم، وأصبح همّهم الأول والوحيد محاولة رد اعتبارهم بعد الإهانات التي حصلت بحقهم. اجتمع قائد قوة الدرك وقائد قوة الجيش وابراهيم شعيتو، واتفقوا على أن توجه التهم إلى خمسة أشخاص أي نحن. في هذه الأثناء، أحضروا ثلاثة شبان هم: أمين السيّد محمد، وحسن خليل مواسي، وفايز الدروبي، وقاموا بضربهم وتعذيبهم ليقولوا بأنني حرضتهم على الدولة. ولم يتجاوبوا معهم رغم قساوة الضرب. بعدها، أحضروا محمود أيوب حيدر، وقرروا أن يتناوبوا واحداً تلو الآخر على ضربه حتى يعترف بأنني حرّضته أيضاً، فلم يتجاوب وكان يشتمهم وينعتهم بالجبناء. بعد ذلك جاء قائد الدرك وقال: «شرِّف. دورك يا بطل». قلت له: «بدك تسترد حقك، كنت بأرض المعركة تعمل زلمة». قال: «استوردنا شغلة من دولة شقيقة وبعد ما جربناها وبدنا نجربها عليك». وبالفعل أحضروا طاولتين و«عصي» ووضعوني كالفروج عليهما. وبدأوا يضربوني ويلفوا هذه الآلة حتى أغيب عن الوعي، وبقيت صامداً حابساً أنفاسي. استعملوها ثلاث مرات ليُخرجوا مني حرفاً لكنهم لم يفلحوا، مما أثار جنونهم. وبعد ساعة من التعذيب، فكّوا وثاقي ورموني على الأرض، وكنت حينها بالكاد أتنفس. بعدها أحضروا خليل الشيخ حسين، وما إن بدأوا بضربه حتى بدأ يصرخ ويولول. بعدها اقتادوا حسين محمد عيد وربطوه بحجر وتوالوا على ضربه أيضاً. أما البعض الآخر فأخذوا يتفننون في تعذيبهم. واللافت كان عدم التعاطي مع كل من كانوا ينتمون لحزب البعث. بعد انقضاء فترة التعذيب، حضرت مندوبة من مجلة «الصياد» لتسأل قائد القوة عن المعركة فقال لها: «الله شفق علينا وكانت أحذية النسوان من البلاستيك وإلا لكانت الدكاترة رح تحتار كيف بدها تداوي جروحنا». بعد ما انتقموا شر انتقام، نظموا محضراً وفي اليوم التالي اقتادونا إلى سجن الرمل.

 

داخل السجن ليس كخارجه

«سجن الرمل» وما أدراكم في ذلك الوقت ما هو سجن الرمل، أشهر من «سجن رومية» في هذه الأيام. هو وجه لبنان البشع في تلك الفترة. يجتمع فيه أناس من النظام البرجوازي الهجين بأبشع ما فيه من استغلال وإذلال، وخصوصاً تجاه الفقراء من الناس. منذ لحظة دخول السجين، يكون قد بات معروفاً بأصله وفصله للجميع، ويُعطى رقماً حسب وضعه الاجتماعي. هذا أول تدبير تقوم باتخاذه الإدارة المشرفة على ضبط المساجين، هذه الإدارة المتمرسة في أساليب الاستلاب والاستغلال والاضطهاد. وكان من سوء الحظ ألّا يجد السجين أحداً يحميه داخل السجن، فهناك هو بحاجة إلى حماية أكثر. داخل السجن يتمثل نظام العبودية بكل ما للكلمة من معنى. لذلك، ولأني أعرف كيف يعامل الضعيف داخل السجن، أخبرت الجميع بأن لا يسمحوا لأحد بأن يهينهم أو يتطاول عليهم. وعندما علمت قوات الدرك المولجة بإدارة السجن، تجنبوا الاحتكاك معنا خصوصاً أننا كنا ٣٥ شخصاً وكأننا يد واحدة، وهذا ما منعهم من تكليفنا بأعمال كانت من حصة السجناء الجدد كتنظيف المراحيض أو تجميع النفايات ورميها.

ولما لاحظ الجميع الوفود التي كانت تزورنا للاطمئنان عنا ولتقديم الهدايا، امتنعوا عن التعرض لأي منا لأنهم عرفوا ماهية الإشكال الذي حصل في يوم انتفاضة التبغ وما حصل مع زملائهم. أمضينا سبعة أيام و«ليالي»يسودها المرح والفرح إلى حين تعيين وقت للمحاكمة. عندما حان الوقت، أخذونا إلى المحكمة العسكرية حيث فوجئنا بالعشرات لا بل بالمئات ممن كانوا بانتظارنا. وعندما دخلنا، لاحظنا أن هيئة الدفاع أكبر من هيئة المحكمة، كان هناك ١٧ محامياً، أكبرهم سناً كان باسم الجسر، وأصغرهم كان نعمة جمعة. وبعد تلاوة محضر التهمة الذي جاء فيه: منع السلطات من تنفيذ مهامها وحرق وتدمير آليات الدرك وعشرات السيارات لموظفي الريجي وبعض التراكتورات، استجوبوا كلاً منا على حدة، وقام المحامون بالدفاع عنا، وكان لتدخّل الزعماء في هذه القضية الأثر الأكبر، وذلك بمساعي اللجنة التي تشكلت في عيترون وكانت تتألف من محمود الأمين وحسن بعلبكي وأحمد منصور ومحمد حسن مراد وخليل قوصان وحبيب مراد وعشرات غيرهم، ومن بليدا كان هناك أحمد الحاج حسن وكثيرون غيره.

أصدرت المحكمة أحكاماً تراوحت بين السجن لمدة سبعة أيام والشهرين مع وقف التنفيذ. فتم الإفراج عنا وعدنا إلى بلدتنا، وكان أهل عيترون قد أقاموا ما يشبه العرس، فكانوا فرحين يرقصون ويدبكون في الساحة.

كان لهذه القضية تأثير وتداعيات إيجابية، فقد سَلِمَ موسم التبغ من التلف وانخفضت قيمة رخصة التبغ ولم تعد لها أي قيمة استغلالية، ومنذ ذلك الحين، تسلّمت أحزاب «الحركة الوطنية» مهمّة الدفاع عن مصالح المزارعين إلى أن دخل العمل الفدائي إلى الساحة الجنوبية فتغيرت كل المعادلات.

العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥
انتفاضة أهالي عيترون ١٩٦٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.