العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

عن شياطينَ بريئة

النسخة الورقية

الساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل. لم يسبق لي أن شعرتُ من قبل بهذا الكمّ الهائل من السكون، لا أصواتَ في الخارج، حتماً شيءٌ ذو نفحةٍ «شيطانيّة» سيحدث. أجلس وحيدةً على طرف سريري. تناقضاتٌ كثيرةٌ تجتاحني اللحظة، فجسدي يلامسه فستانٌ أحمر قصير. فستانٌ وقح، يكشف الكثير، يكشف ما لم أتجرأ من قبل على إبرازه. أمّا أظفاري فقد عرّيتها للتّوّ من الطّلاء الأحمر، ومع ذلك فقد أصبحت أكثر أنوثة وجمالاً وزينةً. ما أريده الآن التمدد.

لا تخرجي من المنزل من دون ارتداء جوارب!

حاضر يا أمي.

تبدأ الحكاية كلها من الأسفل، من أصابع قدميّ، من أظفارهما. يقولون هنا يستوطن الشيطان، وها أنا ألمسه. ملمسه جميلٌ جدًّا، لم أكن أعلم أنّ الشيطان على هذا القدر من النّعومة والإثارة. ها هي أصابع قدمي اليمنى تكتشف الهنيهة باطن خليلتها، يتسامر الشيطانان، يتهامسان بأسرار نهارٍ طويلٍ، وحكايات أمكنةٍ لم يختارا ارتيادها، بل سيقا نحوها سوقاً، سيقا نحو الجريمة. إذاً الشيطان بريء. أصابعُ قدميّ تقبّل بعضها، قبلاتٍ خفيفة، لذيذة، محرّمة، وعيناي غارقتان في حلمٍ جميل.

مولاي، لقد حلمت البارحة أنّ موجاً جارفاً اقتلع منزلي، وقد رافق الموج صراخٌ وعويلٌ مزعجٌ ومخيف.

أضغاث أحلام، هي من عمل الشياطين، خذي هذه الكتيبة واجعلي منها وسادتك الدائمة. لا تفتحيها، أبداً، وإن شاء الله سيختفي عبث الشياطين.

الشيطان القابع في أظفاري يعبث بأحلامي، ما أخطره! قدمي اليسرى لم تعد تكفيها الخليلة. هي الآن تتسلق شيئاً فشيئاً ساقي اليسرى، أشعر بلهيبٍ في القدم، ورغبةٍ جارفة في الساق. صعوداً وهبوطاً تتجرّأ قدمي على الحركة، وأنا أتجرّأ على استحضاره في ذهني. رويداً رويداً يقترب منّي، ويرتفع بوتيرة اقترابه صوت الترومبيت في أذني، يده اليمنى تغازل خدّي الأيسر، واليسرى تكتشف أسفل ظهري، أما صوته فيرقص على أنغام الآلة. يهمس شيئاً ملائكيًّاً في أذني، لا أعيه، ينطق شيئاً آخر، لا أفقهه، أكثر رقّةً أشدّ وقعاً. يعاود الكرّة مرةً ثالثة، أرتعش! فرابعة، أنتفض!

الزّنا أشدّ من القتل.

لماذا؟

لأنه يفكّك المجتمعات.

والقتل يبيدها!

جسدانا ملتصقان، لم أشهد في دنياي التصاقاً كهذا من قبل. قدمي اليمنى تعدّل وجهتها وتستقرّ على قدميه. أما يداه فتكتشفان خصلات شعري، خصلةً خصلة. وعبقه لا يرحم.

أتعلمين ما أمنيتي؟

ماذا؟

أن أراكِ من دون غطاءٍ للرأس.

فستاني أصبح ثقيلاً، يهوى السقوط، أحقق أمنيته، بل يحققها هو. صدري جريءٌ بعريه، لا أثقال تتعبه، لا هموم تُثقله. لا قوانين تحكمه، لا شرائع تقيّده. خفيفٌ ثقيل مفعم بالحياة، وحتماً يريده. وكما تكمن الإثارة في التفاصيل تراها تقبع بين ثنايا اللاقانون، الفوضى المنظّمة.

يتحرك إلهي في مقلتيه، والشيطان ما زال في الأسفل يختلس النظر. ينقل حبّات سبحته بين يمناي واليسرى. والشيطان ما زال في الأسفل يختلس النظر. يتلو تسبيحاته همساً ساحراً في أذني. والشيطان ما زال في الأسفل يختلس النظر. تتراقص حبات اللؤلؤ بين شفتينا، والشيطان ما زال في الأسفل يختلس النظر. صدري ساحةٌ قتال فلنشهد انتصارنا معاً! والشيطان ما زال في الأسفل يختلس النظر. عندما استبدلت قبلتي بعينيه لم يلمني الله، فالأخير يعرف تماماً معنى أن تحبّ. أما الشيطان فما زال في الأسفل يختلس النظر. بدأ صوت الترومبيت بالارتفاع. أصواتٌ أخرى تخترق المساحة. أصوات ضجيج.

لا يجوز الاستماع إلى تلك الموسيقى.

لماذا؟

لأنها محرّكٌ للشهوات.

أرفع صوت الموسيقى، أتقمصها. أمامي بشرٌ على هيئتها، ما أجملهم، وما أروعه! لا مكان لهم الآن في مخيلتي، وحده في هذه اللحظة، يستوطن كياني.

لم أنتبه أن العريَ يستوطننا هو الآخر. هنا يستعيدُ ذاته، يطرح العريَ عن نفسه جلده الكاذب، ويُعيد إلى نفسه الاعتبار. يطرد صفته المصطنعة كخارجٍ عن الطبيعة البشريّة، ويظهر على حقيقته. إلهانا لم يوقفا المسامرة، أما الشيطان في الأسفل فما زال يختلس النظر.

أمي تقول أن لا شياطين في أرجل الرجال، فرمز الإثارة أقدام بنات حوّا، لا بني آدم. لكنها مخطئة! فها هو شيطانه يطلّ برأسه ليسامر شيطاني. يتهامس الشيطانان. يتحابّان، قدمي اليمنى تعدّل وجهتها وتستقرّ على قدميه. أما الشيطان فلم يعد يختلس النظر فحسب، بل بات مشاركاً في ما بات غيره يختلس النظر فيه. لم تعد حواسنا الخمس تكفينا. لم يعد نظري يتسع لعينيه، لم يعد سمعي يعي كلماته، لم يعد ذوقي يستطيب غير جسده، لم تعد قدماي تعيان ماهية قدميه، لم تعد يداي تحوطان جسده، لم تعد أنفاسي تدرك أنفاسه. لم يعد ملمسه مادّياً، استحال شيئاً آخر لستُ أدركه. لم تعد شفتاي تشعران بشفتيه، تحوّل الشعور تخديراً صعب الوصف. لم يعد صوتي مسموعاً، باتَ يستجدي نغماته علّها تعينني على عجزي.

هنا دريتُ الإيمان للمرة الأولى. فقط بين يديه، من الدّرَكات عرجت نحو الدّرجات. وما بين أسفل خدّه والعنق انتقلت من شحّ الرّؤية نحو وضوحها. في تلك المساحة الضيّقة وجدت إلهي اللامتناهي. كم كان لامتناهياً في كتب السّيرة، محدوداً في وجداني. رغيداً في ذكر المنابر، ضيّقاً في كياستي. أمّا اللحظة، فتتجلّى حقيقته المخبّأة عمداً أمامي، وأرنو إلى أبواب الملكوت الواسعة من دون استئذان.

بات العريُ أكثر ممّا أستطيع. عري أجساد، عري نفوس، عري حقائق، عري آلهة، عري شياطين. هنا فقط يذوب النّقيض في نقيضه، فلا شرّ متربّصٌ خلف السرائر، ولا امرةً للسوء مرتقِبةٌ وراء البواطن. وحده الخير ضابط لإيقاع الملذّات، ومطلقٌ لعنانها. أن أدخل الملكوت يعني أن يغيب التسلسل عن سبيل المنطق. وبقبلته الأخيرة على ثديي الأيسر فقدنا آخر رمقٍ من مادّيّة عالمنا وبدأنا التنقل، ككيانٍ أوحد، بين العوالم. والآن نقبع في عالم الوحدة بعد أن كنا في الكثرة منه. أما الخطيئة فغدت إلهية الصفات.

تضمحلّ لغة الكلام شيئاً فشيئاً بولوجنا العالم الجديد، ويختلط زمان الأفعال بعضه ببعض بعد أن يصبح لا وجود لعين الزّمان. يغيب الآن عن حدود اكتراثي كلّ ما له ارتباطٌ بما دون العالم المعيش. وأنا أستحضر الكلام في ذهني الآن من دون القدرة على النطق به، أشعر بشيءٍ مستحيلٍ يقترب مني. يضغط الهنيهة على أسفل بطني، غشاوة البصر تتزايد، الأصوات المحيطة تستحيل سكوناً عذب اللحن، الهواء من حولنا بات ضئيلاً، أما الفؤاد فتسمّر مكانه.

لحظتنا الحاسمة تقترب، وعلى إيقاع السكون اخترنا رقصتنا الأخيرة. يشتدّ سواد عالمنا الأوحد وبياضه. لكن سرعان ما يغيب من حولي وجود أي إشارةٍ لأي ألوانٍ محيطة. سعيرٌ جارفٌ يجتاحنا اللحظة، مخيفٌ هو حتّى في ذُرى اللذّات، ونعترف الآن أنّنا فقدنا إدراكنا لمفهوم التحكّم. أريده اللحظة في مكمني. لست أدري ما فيّ فيه وما فيه فيّ، ولا أعي أين نحن الآن. فكما فقداننا لمفهوم التحكم فقدنا معنى الإدراك. أناه اللحظة أناي وأناي أناه، وكلانا نذوب في شيءٍ واحدٍ، فعالمنا الأوحد لم يتخلّ عنّا بعد.

إبنة الجيران قتلها زوجها.

لماذا؟!

لم يجدها بكراً في ليلة الزّفاف!

إبنة الجيران نبَذها عالمها، وعالمنا الأوحد ما زال يحتوينا. في عالمنا هنا لا فارق بين ذكرٍ وأنثى، فلا وجود لذكرٍ وأنثى. فكلانا اللحظة يعيش الدّرجة عينها. الشعور نفسه، اللذة ذاتها، والرعشة نفسها. أشياء لا يحيطها الكلام ولا تدركها العقول. مجدداً، إلهيّة الصّفات.

شيئاً فشيئاً تتلاشى الغشاوة عن عينيّ، ويخفت بريق اللاموصوف الذي عشناه منذ لحظة. شيئاً فشيئاً أجدُني أعود إلى عالمٍ أشياؤه كثيرة، بعد أن كنت في آخر يحكمه الشّيء الواحد. وعلى الرّغم من كثرة الأشياء من حولي أشعر بالوحدة، بعد أن كنت أشعر بالاكتفاء في عالمٍ لا أشياءَ كثيرة فيه.

لا تشعري.

لم أفهم!

غير مهمّ، فقط لا تشعري!

العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.