العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

العَيب

النسخة الورقية

حسنا. في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ!

واحد، اثنان، ثلاثة.

نَفَس، نفس أطول، نفس، نفس أعمق. زفير.

هل أخبركم عن طفولتي؟ وهل قد يعنيكم هذا! عن عكار العتيقة، عن رحلة تستغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة على الأقل كل أسبوع كي تطمئنّ الوالدة!

ولماذا؟

لا.

لن أتحدث عن قوّتي الخارقة حين كنت في السابعة، إذ كنت كلما ركضت أصبحت غير مرئية. وكل غصن خوخ احتللته بات منبراً للتقديم والتحليل والتفصيل والتنظير قبل أن يتحوّل إلى قاعدة «جونغار» (بطل رسوم متحركة للأطفال) والقفز بصرخة واحدة مدوّية.

أعترف لكم بأنني في حال من اللاوعي الآن، تماماً كما أذكر وجهي المرتطم بالأرض بعد القفزة، وجلّ ما يوقظني أذني اليسرى ونقيقها المتصدّع منذ ثلاثة عقود من محاولات متعدّدة. محاولات باتت تجارب، آخرها الكتابة الفاشلة هنا.

كانت أختي الأكبر مني بثلاثة عشر عاماً تحترف قيادتي. تقودني في كل الاتجاهات، وكانت أذني هي بوصلتها وغالباً ما كان اليسار وجهتها. حتى باتت القيادة اليسارية عادة أمارسها بالسر، وأكرّرها حتى الارتطام بالأرض والتلاشي والتناثر.

أختي أخذت على عاتقها، عفواً، بل أجبرت على أن تأخذ على عاتقها تربيتي، وكنت شخصية ميلانكولية، وأمي قاطفة الزيتون ومنظفة المنازل تغادر دارها - دار القرطاسيا والياسمين - لتعود بلقمة عيش وهي تلطم، تلطم سراً والدي المختفي في بيروت، العالق في متاهة الحرب الأهلية على أحد الحواجز، ببذلته العسكرية، يدفن الموتى، يعدّ الموتى، يعود كالموتى.

هل أخبركم عن رحلة التنظيف الذاتي؟ الحمام؟ الاستحمام؟ عن أننا كما ننتظر سخّان الماء أربع ساعات على الأقل لنستعمل سطلاً واحداً من الماء الساخن، ونستحم بالكيلة في الحمام «العربي». الجورة في الأرض التي غالباً ما نرتعب منها، «فالحاجّة فطوم» التي تناوبت على تربيتي أيضاً كانت دائماً تقول إن يد الشيطان ستخرج من الجورة وتسحب مؤخرتي إذا لم أقم بالبسملة قبل زيارتي الفضيلة هذه!

ربما لأجل ذلك لطالما عشقت الحمّام الإفرنجي، في منزلنا، ذا البورسلان اللميع. كان الكرسي الأزرق عرشي الملكي، وعادتي السرية الثانية. وإذ كانت أمي تمرّ بقربه وتجدني أستعمل صوتي الإذاعي، كانت تظنّ أن الراديو ما زال شغّالاً، وأنّ لا أحد في الحمام.

أوففففففف.

استطعت أن أجهض الأكل هذه المرة بسلام.

غريبة هي فكرة أن تكون صغيراً وكل ما تريده هو أن تكبر. أريد أن أكبر، أريد أن أغادر المكان وأعشقه، لكنه لا يتسع لي. أنْ تكبر وتدرك أنّ أخاك الأكبر يحب أختك أكثر منك. وأنّ أباك الحاجّ يفتخر برقصك، لكنّه يلغي كلّ جبروتك تماماً عندما يشاهد أختك وفي يدها طفلتها. أختي حققت في حياتها هدفاً أسمى مني، إذاً ممارسة الجنس قد تجعلني أمشي على خُطى السمو هذا!

سأكون سعاد حسني

كيف لي أن امارس الجنس بسهولة وقد ارتبط مفهوم الشهوة والنشوة بالاستغلال والقرآن؟ لكل منّا في صغره طريق يحبّه أكثر من غيره. طريقي ترابي، ضيّق ويطلّ على واد كبير. مزار الولي: كانت متعتي أن أمشي دون أن أهتمّ بأي شيء ودون أدنى خوف، والهدف الوصول إلى دكان أبو علي وفي يدي الـخمسون ليرة ولائحة ثابتة محدّدة: شراء حلو الحبل وراس العبد وبطاطا جحا. وأبو علي رجل مسنّ لطالما كرهته ولطالما قرأ القرآن وكان يتحرش بي وببنات الحي – وكان يفضّلني لعينيّ العسليتين ــ ويواصل قراءة القرآن.

عيب!

هي المرة الوحيدة التي صفعتني فيها أمي، عندما أخبرتها عن العيب. العيب كان اسم عضوي. أخبرتها أنّ أبو علي يزور عيبي. كانت المرة الأولى التي تشدّني فيها أمي من أذني اليسرى وتردّد على مسمعي باليمنى: «لا تقولي لأبيك فهو سيقتله ويُقتل»!

أوفففففف! سأحمي أبي إذاً من بندقيته وبذلته، وسأكتم الشيء. أصلاً أنا لم افهم لماذا كل هذا الغضب! عذراً يا أبي، تأخرت في إنجاب الطفل، فقد كنت في طفولتي أحميك من غضبك فاحمني من أوهامك. ترى هل أنا بهذا الجمال ولذلك اشتهاني الآخر؟ هل أنا أجمل من أخواتي البنات ولذلك كرهني أشقّائي وبنات العم التسع! لا يهم. بقيت غالباً في المنزل وحيدة أصارع أفكاري الواحدة بعد الأخرى.

هي المـرة الوحيدة التي صفعتني فيهـا أمـي، عندمـا أخبرتهـا عن العيب. العيب كان اسم عضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوي.

أول فكرة صارعتها هي مصدري: جئت نتيجة حبّ أبي وأمّي ولست من الملفوفة التي ينقرها الدجاج كلما يجوع! صارعت الحب وصرعته. لماذا تغنّي ماجدة الرومي وكل الكل الحب، الحب، الحب! ما هو الحب؟ من هو الحب؟ أختي! لماذا لا يغنّون عن مواضيع أخرى. بعد شرحها اللطيف عن أنّ الحب قويّ ومهمّ، ويتحكّم بالناس، استنتجت أنّ الحبّ شبيه ببيل كلينتون وبالولايات المتحدة الأميركية وسيطرتها علينا. جاءت قصة مونيكا لوينسكي وحطّمت لعبة الشطرنج وقتلت كل فرساني الذين ضاجعتهم بتأملي عن بُعد.

بعد استيعاب الخيبة، وجدتُني في حال الاختيار الدائم. أنا مضطرة أن اختار، فالله لن يعطيني كل شيء. إذاً عليّ أن أختار العمل والشهرة.

سأكون سعاد حسني. نعم. لماذا تمثّل؟ إنّها صغيرة وأنا هنا صغيرة. صغيرة على الحب؟ هل أنا جميلة؟ لا بدّ أن أكون جميلة! لكني لا أملك صورة لوجهي قبل بلوغي الست سنوات. إذاً، والداي لم ينجباني بل تبنّياني.

مممم...

لا. إنا أشبه عمّتي عليا كثيراً! لماذا لا أملك صوراً لي! صورتي الوحيدة في المرآة! أجدني أتفقد صورتي طويلا. صورتي تتحرّك مثلي. تتبختر. تتباهى، إلى أن تخطّيتُ القراءة الأولى لملامحي وصرت تحت الجلد. لماذا هذا الجلد؟ ماذا يوجد هنا تحته؟ ما هو اللون؟ لماذا اختار الله هذا الأنف لي وهذه العيون وشفاهي؟ ماذا لو غيّرت تركيب وجهي؟ أمسك بشفرة الحلاقة وأحاول أن أشقّ مسام الجلد، فأقاد مجدداً بيسراي وصوت أختي يعلو «يا حمارة شو عم تعملي؟».

هل أنا جميلة؟ انظري قولي لي! نعم، ربما، ولكن هناك جميلات كثر وأجمل منك بكثير. المهم ألّا تكوني رقماً مثل سائر البشر، أن تقدّمي شيئاً، أن تنتجي. عليك أن تفعلي شيئاً مميزاً. مميز! سأتزوج من غني وأنقذ عائلتي من الفقر. سأغرم بغنيّ ومن تحصيل الحاصل أن أساعد العائلة. كلا! سأصبح مشهورة وغنية وأبحث عن زوج لي وأساعد العائلة. إذاً عليّ أن أتمرّن على التمثيل والرقص! هنا تكمن المعضلة الكبرى! لا موارد.

جدّتي

منذ العام ١٩٩١ وحتى العام ١٩٩٦ على الأقلّ، كان موعد صف الرقص كل يوم خميس تمام الساعة السابعة مع برنامج «ما يطلبه الرياضيون» على شاشة التلفزيون السوري. أنتظر الفقرة الأولى المخصصة لفئة التزلج على الجليد لألهو بفراغ المنزل من أثاثه وأطير كما يطير كل ثنائي. كان من البديهي لي أنْ يضع الرجل يده على أرداف المرأة ويحملها من هناك. لم أفكّر بالأمر كثيراً. كل هذا سأكتشفه عند الكبر. ولكن لماذا تصرّ أختي على التأكيد أنّهم أشقّاء! هل يستطيع أخي أن يحملني من هناك؟ ييي! ألّا يكون أخي فكرة تبدو أكثر اطمئناناً بالنسبة إليّ! لا يهم. ها هي جواربي المثقوبة والمهترئة عند كل إصبع تشبه ما تلبسه الراقصات المحترفات. بلاط منزلنا يساعد على الانزلاق كجليد الروس. سأدور وأقوم بحركات أكروباتية على طرّاحة جدتي. صحيح أنها توفيت عليها، لكنها الوحيدة المتاحة لي!

جدّتي، حبيبتي!

آمنة حمود.

«كيكوكيك» صاح الديك.

ماتت قربي، معي، في الفراش ذاته عن عمر يناهز المئة وأربع سنوات. جدتي مسيحية، أسلم والدها فأسلمت من بعده وارتدت الحجاب.

أكثر من سبعة وثلاثين تلميذاً استـــــــــــــــــــــــــــــــــــداروا
في الصـــــــــــــــــــــــــف، وبصوت واحد كما لو أنهم يكبرون، صرخوا: «إنت مش مسيحية كأنك واحـــــــــــــــــــــــــدة منا».

جدتي تكبر جدي بتسع سنين ولطالما اعتقدت أنها ذكية. عانت لعشرين عاماً من مرض الألزهايمر، وأنا لم أتعرف إليها حقيقة لولا هذا المرض. كانت تأكل الخبز بالحليب آخر تسعة أعوام من حياتها، وعانت، وعانت، فقتلتها بصلاتي وغفوت فغفت معي. غسلتها وكان عمري ١٢ عاماً. بكيت وبكيت. آسفة أنا يا جدّتي لكنّي رأيت حينها للمرة الأولى جسداً عاريا. كم يشبه جسدي. بحثت عن ثدييها. هل يكون الجسد بعد المئة عام هكذا؟ لا ملامح. ليست أنثى هي ولا ذكَر. هي إنسان. فقط إنسان. كانت المرة الأولى التي أعطي فيها حماماً لأحد، أكفنّ فيها أحدهم، أودّع فيها أحدهم.

لا تقلقي يا جدّتي. لن أزورك في القبر. لا أعتقد أنّك بحاجة لي. ولن أبكي هناك ولن تشتاقي لي. لا. أعتقد أنك ستجدين الصفاء حيث أنت، فتحيّاتي لك ومودّتي.

لطالما سعدتُ أنّ لي جذوراً مختلفة الأديان. هاي، أنا لم آتِ من عائلة مثقفة، فهمانة، قارئة. جئت من العدم. ولأنهم علّمونا دوماً أنّ المسيحيين يعرفون كيف يلبسون أفضل منّا، وأنّ منازلهم من الخارج أفضل من منازلنا، وشوارعهم أنظف من شوارعنا، أنا غيّرت اسمي الثاني في المدرسة الكرملية، وصرت «مريم جورج حمود» بدلاً من «مريم خضر أحمد علي حمود».

لماذا جورج؟ لأن جورج هو خضر حسب النصوص المقدّسة، وحسب تعريب الأسماء، مثلما صار يسوع عيسى!

ييييييي.

عندما ماتت جدتي حرّمت على نفسي الذهاب إلى الكنيسة. تعبت من الكنيسة، من تناول القربان، ومن رائحة الكاهن عندما يضعه في فمي، ومن فكرة أنه يبصق على القربان لا إرادياً قبل أن يناولني إياه. لن أذهب إلى الكنيسة اليوم!

هههههه!

أقسم أنّ أكثر من سبعة وثلاثين تلميذاً استداروا في الصف، وبصوت واحد كما لو أنهم يكبّرون، صرخوا: «إنت مش مسيحية؟ كأنك واحدة منا!». ابتسمتُ. عندها أدركت أنني صاحبة ذوق خاص في الملابس وأنني جميلة لأنني أبدو مسيحية. ابتسمت لذلك ولمعتْ عيناي.

نَفَس.

المشهد

اليوم التالي، وبعدما دلّلت جمالي وشغّلت إمبراطورية كبيرة من الثقة والذبذبات حولي، اجتاحني منظر غريب. أنا في الباص قرب حقول قمح تطفو على ماء فينعكس ذهب السنابل عليه، وتتراقص حول سنديانة عتيقة واحدة، قرب دير قديم، حيث لا يسكن البشر بل الملائكة فقط.

أنظر إلى السنديانة وأرى الله فيها، وأخاف أن أفصح عن ذلك. فكيف أدفع عن نفسي تهمة أنني ممسوسة أو تراودني أفكار شيطانية!

المشهد بطيء جداً في التصوير، وكأنه فيلم مصوّر وأنا ألعب دور المخرجة والمؤلفة فيه. كلّ هذا يدور في رأسي الذي غادر الجسد القابع في مقدمة باص المدرسة. باص «فولفو» قديم رمادي اللون، محشوّ بالأطفال المكدسين فوق بعضهم ورائحة الـ«تشيبس» سرعان ما تتحوّل إلى رائحة عفن.

لم أستطع أن أحدّد ما إن كنت قد أحببت سائق الباص أم كرهته، لكنّه كان كثير اللعاب وأسود اللثّة، لا شك أنني لم أكن أستلطفه. وهو معروف بانتمائه إلى حزب البعث العراقي! عندما قتل صدام حسين، تحوّل المشهد في المدرسة إلى خصام ومبارزات زجل في صف الفلسفة. منذ ذلك الحين اتضح لي أنّ البشر يميلون إلى الاختيار بين الأبيض والأسود، النعم واللا، الشر والخير، بين طرف وطرف آخر.

من الطلاب مَن ذهب إلى الجهاد وأعاده البعث السوري، ومنهم من يحبّ نهج «أبو عديّ» فنُعتوا بالكافرين والملحدين.

لنعُد إلى رأسي المنفصل عن جسدي، إلى الباص، إلى حقول القمح التي تطفو على ماء ينعكس عليه ذهب السنابل.

طفولية هذه الجملة!

متطفلة.

كنت كل يوم أصوّر المشهد وأتخيّل الأحداث التي تجري فيه. وفي يوم من الأيام، أثناء التصوير، شاهدتْ عدستي رجلاً يلبس الأسود. قميص نايلون أسود وسروالاً أسود وحزاماً يلمع، وحذاء طويلاً، وأنفاً أسود.

المواصفات تطابق صورة المخابرات السورية تماما، إلا أنّه كان يلعب دور البطولة في الفيلم. تباً! يا للحظ العاثر! يمسك بيده هاتفاً من دون شريط. كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الاختراع. يتكلم فيه فيسيل لعاب العم رشيد، سائق الفولفو الرمادي.

يظهر رجل آخر. مطابق للأول، مستنسخ عنه. هي لمعة الحزام ذاتها. هو رجل ثالث. يتكاثرون كالقطط في شهر شباط! ويتدفق لعاب العم رشيد!

كان الوضع مريباً. نظرت إليه فأدركت بالغ خوفه. نظر إليّ وقال: إذا لم أعد فسيعيدكم إلى البيت تمام الثانية كالمعتاد قريبي ويدعى وليد. تأكدي من عدد الأطفال ولا تنسي أحداً في المدرسة! لم أفهم كلامه، لكنّ الأسوَد الأخير كان واقفاً منتصف الطريق. توقفنا. ترجّل العم. ارتطمت أسنانه بالأرض، قبضوا عليه وأوثقوه بالأصفاد وغادروا.

لم يبك أحد، لم يفهموا شيئاً، أمّا أنا فنظرت إلى السائق الجديد، أفرغت أسلحتي النووية وعينيّ المشعّتين باللايزر عليه، حتى وصلنا المدرسة. استغربت كيف يعفون مدرستنا؟

بصراحة كنت سعيدة. كانت أول مرة أتحمّل فيها مسؤولية ما! سأجلب الأطفال وأعدّهم أنا وأوصلهم أنا!

قد أكـــــــــــــــــــــــــــــون أنا الأولى في جيلي التي وُصمت بالعـــــــــــــــــــــــــــــار: نزلت إلى بيروت، وتعاطت المنكرات ورقصـــــــــــــــــــــت في البارات ووَشَمت على ظهرها سنبلة.

اختفى سائق الباص لتسع سنوات. كنت قد تناسيته وأدركت أني لا أحبّه، وكنت قد كبرت أصلا. عاد إلى الضيعة وتزوج، وأنا غادرت الضيعة بدوري.

منذ ذلك الحين أدركت أنّ فكرة الانتماء فكرة ضيّقة وأنّ حدود الحياة كتلك السنابل. كرهت البعث العراقي والسوري والقومي، وتقرّبت من الشيوعيين، لأنهم يبدون أجمل ويعرفون كيف يلبسون أحسن! إنهم يتكلمون فقط. كلهم. لا فعل. ليس الآن على الأقل، كما أعرف.

المخابرات، الحواجز، البعث!

أبي كان لديه مفهوم غريب عن «الكزدورة».

ننطلق في السيارة المرسيديس الفستقية وندور، وندور وندور. نقضي حاجتنا خلف القصب على الطريق العام، أو قد نستريح هناك من كثرة الدوران، ونتابع. كنت أستغرب صور مار شربل في السيارة، وأحبها كثيراً. أصلاً أبي كان يحبّ التوقف أمام تمثال السيّدة العذراء. ينظر إليّ وأنا أسجد في السيارة وأردّد «أبانا الذي في السماوات». اليوم أبي لا يحبذّ أن أتزوج من مذهب آخر. لكني كنت أعشق والدي، وأبكيه كل مرة يضطرّ أن ينحني أمام الحاجز ليمرّ. وكنت أعشقه أكثر عندما يشتري لي الموز.

على الحاجز السوري، من العادي والبدهي أن يصادروا كل شيء. حتى الموز يصادرونه: ٢ كيلو موز بحوزتهم، وأخذوا الموزة التي في يدي أيضاً. تباً لهم. لكنّ أبي يعوّضني عنها.

لا أستطيع أن أكون فوضوية بأفكاري. يجب أن أحدّد البحث. يجب أن أختار قصة واحدة وأبدأ منها وتكون هي النواة. يتغذّى منها كل ما حولها ويغذّيها.

سأخبركم أنني من آل حمود. من سُنّة عكار. أبي وأمي أولاد خالة. كلتا الجدّتين أنجبتا أربعة شبان وأربع بنات، وتبادلتا الأولاد بالزواج. أي إن ابن عمي هو أيضاً ابن خالتي. تزوّج هذا الأخير ابنة خالي أي ابنة عمتي أيضاً، وأنجبا أطفالاً. نعيش قريبين من بعضنا البعض من دون زيارات تذكر. قد أكون أنا الأولى في جيلي التي وُصمت بالعار: نزلت إلى بيروت، وتعاطت المنكرات ورقصت في البارات ووَشَمت على ظهرها سنبلة.

فوقعتْ الكارثة!

لم أتزوج. ومتّ. وسوف أغْسَل كما غُسِلتْ جدّتي. لكن لن تقبل زوجة الشيخ بغسلي، فالوشم حرام.

سأدفن وأنا نجسة. ولن أجد السلام تحت الأرض ولا في السماء.

ضحكت وما زلت أضحك إلى الآن.

العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.