المُدن لا تكره أحداً لكنّ أهلها يفعلون ذلك. المُدن من أسمنت وتراب لكنّ أهلها من لحم ودم ولا يغفرون الظلم الذي تعرضت له حياتهم ولا القهر الذي أصابها خصوصاً من فئة جيل الشباب الذين خرجوا إلى الدنيا ولم يروا فيها سوى نظام علي عبد الله صالح وبشاعته التي نجحت في جعل صورة الشمال مرسومة على شكلها في ذاكرة الشباب العدنيّ.
في كل مرة نأتي إلى عَدن نرى وقد ارتفعت نسبة الكراهية في قلوب الناس وصارت نظرات العدائية لكل قادم من الشمال واضحة في العيون ولا يمكن إغفالها. لم يعد ممكناً الذهاب في حديث مجاني حول عَدن، المدينة المفتوحة المنفتحة والتي لا ترفض أحداً من القادمين. لقد صار هذا الحديث من الماضي وصار في الأرشيف. صار من الذكرى والكلام الذي لا يودّ العدنيون الذهاب لاسترجاعه ولو حتى من باب التباهي بتاريخ مدينة من محبّة وياسمين كانت قد فتحت قلبها للعالم.
أجد نفسي هنا واقفاً في خانة النصيب الجيد بفضل لون بشرتي السمراء التي أمتلكها. لا يجد أهل عدن إشكالية في التعامل مع أصحاب الوجوه التي تشبه وجوههم. كما أن لهجتي بيضاء وأقدر بسهولة الدخول في حوار سهل مع بائع سمك يقع محلّه على الساحل الذهبي دون شعوره أنه يرتكب ذنب الدخول في حديث مع واحد من الأعداء. هكذا صارت النظرة الطالعة من عيون الناس باتجاه الكائنات القادمة من الشمال. يعرفونهم بسهولة عبر لون بشرتهم الواضحة ولهجتهم الضاربة في قسوتها مقارنة بخفة اللهجة العَدنية واقترابها من مستوى تمييع الحروف المنطوقة على الألسن. لهذا السبب يعتبرها أهل الشمال لهجة تليق بالكائنات الأنثوية، ويأتي هذا التشبيه من باب الانتقاص بحسب منطق الشمال وثقافة نسبة كبيرة من أهله. بالمقابل يرى أهل عَدن لهجة الكائنات القادمة من الشمال لهجة قاسية جلفة تشبه سلوك الشماليين وتشبه قسوة الجبال الوعرة التي تحيط بهم. وهم يقولون «كائنات» فعلاً عندما يصفون الشماليين ويقصدونها، ويأتي هذا من باب الانتقاص أيضاً.
هل هو احتلال؟
على هذا تبدو العلاقة بينهما كما لو أنها قائمة بين طرفين: مُحتل وآخر واقع تحت الاحتلال. صيغة التعامل هذه كانت قد طلعت إثر نجاح قوات علي عبد الله صالح في اجتياح الجنوب وهزيمة معسكر الحزب الاشتراكي اليمني في صيف العام1994، لكنّها كانت صيغة خافتة لا يقوى الناس على إظهارها علانية في خطابهم العام. سيطرة صالح على الوضع وقتها كانت واضحة وبقوة مع امتلاك أنصاره لقدرة الفتك بأي صوت نافر ومختلف. على هذا كان يتم إقصاء العدنيين من وظائفهم وإبعاد القادة العسكريين الجنوبيين من مواقعهم الهامّة. لكن ومع مرور ذلك الإقصاء في تطرفه وجبروته لم يعد أهل عَدن قادرين على كتمان غضبهم الداخلي ليصبح منطوقاً في الشارع ومتشكلاً في بداية العام 1997 على هيئة جماعة المُبعَدين قسرياً عن أعمالهم، وهي الجماعة التي بدأت مشوارها النضالي السلمي وانتهى لصيغة «الحراك الجنوبي» وهو ما جعل عدداً من المتابعين والباحثين العرب يؤكدون أن تلك الجماعة ونشاطها السلمي كانا البذرة الأولى لما تمّت تسميته لاحقاً «الربيع العربي».
هكذا تطورت لهجة الخطاب العدنية لتصبح أكثر وضوحاً تجاه كل شمالي وصارت مفردات الاحتلال حاضرة في كثير من المقالات الصحافية، وخصوصاً في الجرائد التي تحمل هويّة عَدنية وأبرزها «الأيّام» التي اضطر نظام صالح لإثارة الغبار حولها واختراع قضايا أدّت في نهاية الأمر إلى إغلاقها. لقد أزعجته نبرة خطابها القائم على واقع الحال العَدني الذي يشير بوقوع المدينة تحت احتلال شمالي صريح في حين لم يتوقف صالح نفسه عن سياسته في تكريس طريقة تعامله معهم والإصرار على ذلك بغباء منقطع النظير، أو أنه لم يعتقد إطلاقاً أن لذلك الصبر العَدني نهاية وأن لأهل المدينة طاقة على التحمل وقد بدأت في النفاد.
عداوة اللهجات
«برّع برّع يا استعمار. برّع برّع من أرض الأحرار». هذه أغنية ذاع صيتها في أيّام الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني وهي للمطرب العدني محمد عطروش. لكنّها مع ازدياد غطرسة صالح صارت أغنية تقال في اتجاه الكائنات القادمة من الشمال. لقد صارت لهجة الناس واضحة ولم يعد هناك من مجال لمواربة أيّ شيء تحت مبرر ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وهو المبرر الذي رأى كثير منهم أنه لم يعد ممتلكاً لأي منطق وهم يرون إلى رأس النظام (الشمالي) وهو يذهب في إهانة أيّ شيء له علاقة بالوحدة الوطنية التي سعى عبر سياسته العملية على الأرض إلى تفكيكها. لكنْ ما ذنب أهل الشمال في أن تنتقل الإهانات إليهم!
الناطقون بلهجة الطرد هذه والمُحفزة على إطلاق هويّة عَدنية صرفة لها أن تنفي أي هويّات يمنيّة أخرى، لا يضعون اعتبارات لأي مكونات أو ظروف حالية قد جاءت نتيجة لحالات النَسب والمصاهرة التي جمعت بين أعداد كبيرة من الجهتين وتكوّنت بسببها عائلات صار أفرادها يقيمون على جغرافيا مقسومة بين الجهتين. لن نقول هنا بتلك العلاقات القديمة التي كانت مثلاً طوال الخمسين سنة الأخيرة أو ما قبل ذلك. لا ينتبه هؤلاء الناطقون بلهجة الطرد تلك إلى حجم التمزق الذي يمكن حصوله في قلب النسيج الاجتماعي المتراكم خلال تلك السنوات والتبعات المؤلمة التي ستصيب الجميع دون استثناء.
جيل الوحدة
لكن وحتى نكون قادرين على الإمساك بضرورة الإنصاف ورؤية الصورة من جانبها المقابل، يمكننا القول بحق تلك الجماعات من أهل عدن وهم يفعلون سلوكهم بالنظر للأسباب التي دفعتهم إلى ذلك وإظهار تلك اللهجة العدائية ضد كل شيء وكل فرد قادم من الشمال. فهذا الجيل الذي طلع إلى الحياة بعد إعلان إعادة الوحدة اليمنية في العام 1990، وهو الجيل الذي شكّل غالبية من يخرج للتظاهر اليوم ويحتشد في شوارع وساحات عدن ( ويقاوم الآن جماعة الحوثي والجيش الموالي للرئيس السابق صالح بالسلاح)، هو الجيل الذي عاش حياة سيئة وقاسية من كل نواحيها واتجاهاتها ويؤمن تماماً أن نظام علي صالح هو سبب كل الخراب الحاصل وفاعله الوحيد.
يمكنني شخصياً أن أصدّق أي كلام أو طرح يقال عن اللهجات العدائية الموجهة اليوم ناحية القادمين إليها من الشمال، لكنْ يستحيل عليّ تصديق أن عدن صارت مدينة مُحتلة من قبل تكفيريين ودواعش ولا بد من الذهاب لمحاربتهم.
ولعل هذا قد يذهب بنا إلى مفارقة مثيرة للاستغراب ونحن نقوم باستعادة جملة الخطابات السياسية المنفلتة وغير المنطقية من جهة الرئيس السابق، وكان يقولها بمناسبة وبدونها، وملاحظة حرصه الدائم على تكرار عبارة لم تكن تغيب عن لسانه وهو يقوم بتوجيهها بعد حرب 1994 ضد «أعداء الوحدة» الذين يرتدون نظارات سوداء تمنعهم من رؤية المنجزات التي صنعها لليمن. وكان صالح يؤكد أن «جيل الوحدة» هو مَن سيدافع عن هذه الوحدة وكان يقصد بعبارته الشباب الذين خرجوا إلى الحياة من بعد العام 1990. وتكمن المفارقة هنا في أن هذا الجيل هو نفسه من خرج إلى الساحات منتفضاً على نظام صالح نفسه وشارك في إزاحته عن كرسي السلطة ولو بشكل ظاهر، على اعتبار أن هذا الرئيس السابق قدر خلال فترة حكمه على ربط كل شيء في البلد بشخصه وبأدواته التي لم يقدر أحد على تفكيكها من بعده.
أنا الصومالي
كنتُ بداخل حافلة نقل عامّة وفي حالة من التفكير بشأن الفكرة التي سأنهي بها ورقتي هذه وأنا في طريقي إلى مقر جريدة «الثوري» الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي اليمني بصنعاء، وهي الجريدة التي أعمل فيها. لكنّ انتباهي تشتت ناحية صوت خارج من قلب الحافلة وهو يصرخ أنّ جماعات صومالية تقاتل إلى جانب الدواعش في مدينتي حضرموت وعدن. كان الرجل، عندما التفتّ باتجاهه يحمل سلاحاً ويبدو عليه عناء مَن عاد لتوّه من أرض معركة. وهو ما جاء على لسانه لاحقاً. سألته عن كيفية تأكده من وجود جماعات صومالية تقاتل هناك لأن في هذا الأمر مصدر خطر على حياة العُمّال الصوماليين هنا في صنعاء، وقد يعتدي عليهم أي مستمع لكلامه. لم يجبني المُسلّح بكلام بل أمرني بالنزول بلهجة عنيفة وهو يتحسس الكلاشنكوف الذي يحمله. قلت له: أتريد قتلي! قال: وأقتل عشرة صوماليين مثلك. لم أتجاوب معه واكتفيت بالصمت محاولاً تجنّبه قدر الإمكان وحتى وصولي إلى هدفي.
يمكن الحديث من هذا الموقف عن القوة التي لا يزال صالح يمتلكها في يده ويقدر على تحريكها بعيداً عن دائرة السلطة الانتقالية الشرعية. يضاف إلى هؤلاء قوة جماعة الحوثي التي صارت تحارب اليوم مع صالح في الجنوب باسم تحريره من الدواعش والقاعدة. يمكنني شخصياً أن أصدّق أي كلام أو طرح يقال عن اللهجات العدائية الموجهة اليوم ناحية القادمين إليها من الشمال، لكنْ يستحيل عليّ تصديق أن عدن صارت مدينة مُحتلة من قبل تكفيريين ودواعش ولا بد من الذهاب لمحاربتهم. خلال اليومين الماضيين ومع بداية عدوان التحالف السعودي العربي على اليمن واصلت قوّات صالح وجماعة الحوثي معاركها في عدن، وتشي الصور التي تصلنا من هناك بكارثة حقيقية على وشك الاكتمال قريباً وفي مختلف نواحي الحياة هناك. لم يكن غريباً والحال هذه أن تجد «عاصفة الحزم» السعودية جماعات جنوبية تؤيدها، وهي لا ترى غيرها وسيلة للتخلّص من اجتياح الحوثي وصالح وقد قام بإعادة تقليب أوراق التاريخ القريبة ليفتحها مجدداً على أوجاع حرب صيف 1994 وما تلاها، وها هي اليوم ترى إعادة لأحداثها من جديد.
لقد جاء جرح إضافي ليضع نفسه بداخل خزانة الألم الجنوبية والتي يبدو أنها لن تُغلق أبداً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.