لا بد من الإشارة إلى الظروف التي أدّت الى تبادل هذه الرسائل بين عبد الرحمن منيف والصديق فيصل دراج. لا يخفى على المهتمين بالتغيرات التي اجتاحت المنطقة العربية في تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحالي، الهجمة الخارجية على بعض الدول العربية والتي بدأت باجتياح العراق وما شاهده العالم من تفتت لهذا البلد العريق وظهور التفكك في أنحائه وظهور حروب المذاهب. ومن الظواهر التي بدأت تتشكل أيضاً في المجتمعات العربية التهميش والظلم والاستبداد وعدم اهتمام السلطات بشعوبها وعزوف الشباب عن الاندماج في هذا الواقع الاليم، ومن ثم الحركات الاصولية السلفية وانهيار الاحزاب بدافع تخلي المفكرين والمثقفين. هؤلاء فعلوا ذلك بعدما واجهوا النفي والسجن والقمع، ومنهم من أثّرت فيه إغراءات صحافة النفط، فعزف عن دوره في نشر الوعي والتصدي لهذه الظواهر. فكان استشعار الخطر الداهم على المنطقة واضحاً للبعض الآخر من المثقفين.
ولاشك أن عبد الرحمن منيف المسكون بهموم الناس المضطهدين وموضوعات القمع والديمقراطية خاض مع بعض الاصدقاء الحوار في كل هذا لعل ذلك يؤدي إلى تبلور بعض الأفكار، فيتحمل الجميع المسؤولية قبل الوقوع في كوارث حتمية. ولم يكن هذا تنبؤاً وإنما رؤية واضحة وقراءة دقيقة لما يجري من حولنا خارجياً وداخلياً. وبدأت النقاشات والحوارات كلما التقى مع الأصدقاء.
وحتى لا تذهب هذه الحوارات سدى، ومن أجل أن تتبلور في صياغات جدية وفاعلة، كان أن اتفق الصديقان على ألّا يكتفى بالنقاش والحوار، وأن يتم تسجيل الافكار وتطويرها لما للكتابة من أهمية التركيز ونضوج الأفكار. من هنا جاءت فكرة تبادل الرسائل كما ذكرا. خصوصاً أن تبادل الرسائل كان فناً رائجاً في بداية القرن بين الأدباء والفنانين والشعراء وعامة المثقفين، لنقل الحوار الى مراحل متقدمة. فكانت رسائل الرافعي لأبي رية في «رسائل الأحزان»، ورسائل أحمد زكي باشا مع الأب أنستاس ماري الكرملي، ورسائل الرافعي ومي زيادة، وجبران ومي زيادة، والسيّاب مع الشاعر أدونيس، وغيرهم كثير وإن اختلفت الهموم والموضوعات.
بدأت النقاشات وفي الجلسة اللاحقة تسلّم الرسالة من الصديق فيصل، ليتسلّم هذا بدوره رسالة عبد الرحمن، ليجيب الطرفان بطرح أفكار جديدة حول الضحية والجلاد أو البطولة والشجاعة أو الاضطهاد، أو أفكار حول الوصول للديمقراطية ونشأة الأصولية أو الإسلام السياسي، وأفكار أخرى. وهكذا دواليك، من جولة لأخرى. أما تأريخ الرسائل فلم يكن واقعياً حسبما جاءت. وأستطيع القول إن هذه الرسائل القليلة، والتي ستصدر فيما بعد، لم تكن إلّا «تحْمية» بلغة الرياضة، لأنها للأسف كانت في وقت اشتداد المتاعب الصحية على عبد الرحمن، وقد أعاقه المرض عن الوصول الى الغاية التي كان يرجوها، فكانت هذه المحاولة التي هي بحاجة إلى استمرارية لتأتي بالفائدة المرجوّة.
سعاد قوادري منيف
عزيزي فيصل،
لا يكفي أن يكون للمضطهَد ساعدان إضافيان لإطلاق النار في الإتجاهات الأربعة، يجب أن يكون هو ذاته، في حالات معينة، وربما كثيرة، خاصة في المرحلة التي نعيشها، قنبلة موقوته، أو غير موقوته، لا يهم، حتى إذا انفجر يوقع أكبر خسارة بمضطهديه، ويعطيهم درساً. إن الذي يطلق النار بالإتجاهات الأربعة محاط بكم هائل من الأعداء، محاصر، يائس، أو لا أمل له، ولذلك يحق له أن يقتل أكبر عدد من أعدائه قبل المغادرة.
هذه هي حالتنا الآن: الأعداء من أمامنا ومن خلفنا، الأعداء في كل مكان . إنهم يسّدون الطريق. لا يريدون لنا النجاة، ولأن القوى غير متكافئة – وهذه الفرضية تحتاج إلى تدقيق- يمكن لليائس أن يدمّرالهيكل على من فيه! ولكن ماذا نملك من الأسلحة لنفعل ذلك؟
السلاح الوحيد: الكلمة. وإذا اعتبرنا أن الموقف – السلوك سلاح آخر، فلا بد أن نجعل سلوكنا قريباً لما نقوله، لما نكتبه، إذا لم نستطع أن نطابق بينهما تماماً، وعند ذاك نردّ الإعتبار لأشياء يمكن أن تكون طريقاً لنا ولغيرنا، ويمكن أن تحمينا وتحمي غيرنا . ما يثير في نفسي الأسى، وبعض الأحيان الغضب، أن الكلمة تعهّرت، لم تعد تعني دلالتها، وبالتالي أصبحت سلاحاً أعشى أو اعمى، خاصة على أيدي كتّاب السلاطين ومرتزقة النفط، ولأنها أصبحت مبذولة هكذا تراجعت الثقة بها، فقدت تأثيرها وفعاليتها، وأي محاولة لإعادة استخدامها كسلاح تتطلب الكثير من الجهد والمصداقية.
كيف يمكن أن نحول الكلمة، من جديد، إلى طلقة، إلى قوة محاربة ؟ وكيف نستطيع أن نخلق وعياً لدى الكثيرين من أجل تمييز الكلمة الصادقة من الكلمة المزيفة الخادعة والغشاشة؟
بالتأكيد ليس هناك وصفة جاهزة، وليس من السهل الوصول، لكن الإصرار، وتقديم النموذج الحقيقي، القوي والمتألق والصادق أيضاً، يساعد في خلق وعي وذائقة، وبالتالي قدرة على التمييز . ومن هنا، ودون أن نقصد، فإن شيئاً ما يتراكم في وجدان الناس ويخلق لديهم حساً ملعوناً في اكتشاف الكذب . هل يمكن المراهنة على هذا الشيء الغامض؟
هل يمكن، بوعي، تنميته وزيادته لكي يصبح مثل جهاز كشف الكذب؟
يبدو لي أن المطلوب هو الإستمرار، وبذل جهد أكبر من أجل تقديم شيء أفضل، وهذا الشيء ذاته يصبح مقياساً ويعلّم الكثير والكثيرين.
أنت تسمي هذا «علم جمال المضطهدين». تسمية رائعة ويمكن أن نبلورها، أن نشتغل عليها، لكي تصبح مثل «معذبو الأرض» لفانون. نقول للناس داءهم إذا لم نستطع أن نصف لهم الدواء، ومعرفة الداء نصف الشفاء، كما يقولون.
الدفاع عن القيم الإنسانية الإيجابية، هذا الهم الكبير يقضي الإنسان عمره كله، ولا يعرف إذا استطاع أن يضيف، أن يفعل شيئاً في هذا الإتجاه. لكن مع ذلك لا يتوقف من يشغله هذا الهم لحظة واحدة، ولا ينتظر أيضاً اعترافاً أو شكراً، أن يفعله، ولا أريد أن أقول يجب أن يفعله، دون توقع للنتائج. هل هذا وجه من وجوه البطولة التي نبحث عنها؟ هل هذا تبرير للمرور فوق هذه الأرض؟ إن شيئاً مثل الوهم، أو مثلما يتراءى للإنسان بين اليقظة والنوم، ما يدفع للقيام بمثل هذه المغامرة.
أتذكر أنني كتبت لك في رسالة سابقة أن الأبطال والبطولة لا تظهر ولا تتجسد إلا في أوقات الهزيمة، أما في زمن الإنتصار فهناك دائماً بطل واحد، و لا يهم أن يكون الشخص أو الفكرة، أو ربما الإثنان يصيران واحداً في وقت لاحق. أما إذا جاءت الهزائم فهناك آلاف الضحايا، أولاً، وهناك مئات المسؤولين، ثانياً، وهناك أخيراً عشرات المبررات، وفي خضم الهزيمة وبسببها يظهر المهزوم المنتصر ليكون المحصلة: عنواناً وحيداً للسفر في اتجاه واحد: الفرق!
في مثل هذا الجو، وفي مواجهة التيار، يجب أن يكون هناك من يقول لا. وأن يسمي الهزيمة ويشير إلى المهزومين. قد يدفع ثمناً (أو بالأحرى يجب أن يدفع) لكن كلمة من هذا النوع تكون مثل ضربة الإزميل أو مثل السكين. وهذا ما تسميه في رسالتك الأخلاق. إن هذه الكلمة، رغم الإلتباس الذي تولده وتثيره، ضرورية إلى أقصى حد. لأنها، أولاً، الصوت الآخر، المخالف: وثانياً لأنها تتصل بجذر ما قد لا يبدو واضحاً في لحظات معينة، لكنه موجود وممتد إلى بعيد في وجدان الناس، ويعني لهم شيئاً، ويحسون أنه، رغم خفائه وغموضه، مقياس أو أحد المقاييس الذي يجب ألا يغيب.
من هنا، وكما اتفقنا، فإن البطولة، إن وجدت، ليست ما اتفق عليه «الناس» في مرحلة معينة، وليست الضجة أو الصوت القوي، وإنما هي أقرب إلى الخفاء، وربما لا تظهر في الكلمات الكبيرة أو الضاجة. إنها فعل صامت، مليء بالقناعة والتحدي، وتجد تعبيراتها في السلوك اليومي المليء بالمرض الداخلي.
يقولون، وهذا مجرد اقتراب من الموضوع، أن من يتصدق يجب أن لا تعرف يسراه بما قدمت يمناه.
يبدو لي أن هذا أحد أهم أشكال البطولة.
في مجال الكتابة، وفي ظل انتفاخ الأنا، خاصة وقت الهزائم، فإن البطل الحاضر - الغائب هو أهم الأبطال.
حين سألني المرحوم حسين مروة. بعد أن قرأ «التيه» عن إمكانية عودة متعب الهذال في الجزء الثاني، قلت له: أن عدم عودته أفضل له وأكرم، لأن الظروف لم تعد تحتمله، ولم يعد ملائماً لها، إنه بطل من العصر الماضي وللعصر الماضي، ولذلك يجب أن يتوارى، أن يتخفى، لكي يبقى رمزاً: موجوداً وغير موجود.
لماذا نريد أن نتخفف من أحمالنا وهمومنا أو نلقيها على أكتاف الآخرين؟ ولماذا نحاول العكس أثناء اقتسام الغنائم؟
إن في الإنسان عطباً يبدو قديماً وموروثاً، ولقد بدأ هذا العطب من شيئين: الملكية والقوة، أو ربما العكس. فحين شعر الإنسان بقوته، بتفوقه، بدأ بتحويل المياه إلى مجاريه، وبعدما تتدفق المياه والخصب، تتولد الملكية، ولما يبلغ الإنسان هذه المرحلة يصبح شديد القوة وشديد العتو، وشديد التعاسة أيضاً، لأن كل الأشياء لها مقياس أساسي، وبعض الأحيان وحيد: ماذا يستطيع أن يفعل بنفسه وبالآخرين من أجل تعزيز قوته، ومن هنا تبدأ التعاسة لأنه يصبح مغلقاً ووحيداً بمعنى ما، ولأن وصفاً مثل هذا يتطلب الحماية والزيادة والدوام، وبالتالي يتطلب إسكات الأصوات المعترضة أو حذفها، ولذلك ينشأ الإضطهاد والقتل وينشأ الخوف لدى المالك والملوك. خوف الممالك على ما لديه وخوفه من الذين لا يملكون من قوة المالك وبطشه، وينشأ الصراع ويتطور، إلى أن يصل إلى حد وينفجر.
ما أريد قوله هنا أن الشروط إذا توفرت للإختراق يجب أن يتم الإختراق. قد يكون بدائياً، مؤمناً، لكي يحصل؛ وفي الطور الجديد تبدأ صيغة للعلاقات مختلفة عن الواقع مختلفة عن السابق، لكنها تترك آثارها وتولد حالة جديدة، وفي ظل الحالة الجديدة، الجنينية أغلب الأحيان، يكون الإلتباس والتداخل واحتمالات الهزائم، وهذه كلها لها تعبيراتها الفكرية والأدبية، واعتماداً على تراث غير محدود من الأساطير والأحلام والرغبات، والإمكانية أيضاً، وفي هذا الجو من الإضطراب والصراع تتولد صيغ لا ترضي الكثيرين، وتنشأ الكتابة الجيدة.
هل وصلنا إلى الكتابة الجيدة أو توصلنا لها؟
بحذر، ودون قلق، أقول: إننا نسير نحوها، نقترب من تخوفها، وتحتاج إلى جهد كبير ومنظم من أجل أن نبلورها، وفي جميع الميادين.
أحس الآن أن شيئاً ما يتكون تحت القشرة اليابسة. قد لا تكون ملامحه واضحة أو كاملة، وربما ليس الذي نبحث عنه أو نريده، لكنه النواة، أو منها، لابد أن تتولد أشياء كثيرة ومفاجئة.
الكتابة الجيدة، كما أفترض، تتكون بالعمل، ومن خلال العمل. ومن هنا فإن المطلوب منا كثير جداً: التفكير بطريقة غير عادية، التجريب، امتحان وسائل عديدة ومحاولة دمجها معاً، الذهاب بعيداً في عقول الناس ووجدانهم لاكتشاف نقاط الإرتكاز الأساسية، إعادة قراءة التراث، أو جزء منه، لاستيحائه بطريقة جديدة، فتح قنوات بين صيغ التعبير المختلفة وتوليد أشكال غير مألوفة. وغير ذلك أيضاً، لكن شرط هذا كله الجدية. إن أحد أبرز العيوب في الكتابة السائدة أنها تفتقر إلى الجدية، وهذا مقتلها. هل نستطيع أن نفعل شيئاً مغايراً؟ أحد أسئلة التحدي.
تقول في رسالتك الأخيرة: يجب أن نتحدث عن رواية المهزوم، أو بشكل أدق علم جمال المضطهدين، لأن الوجه الآخر لشخصية المهزوم ليس المنتصر وإنما الظالم، وهذا الوجه يستحق أن يعرّى، أن يكشف أمام الجميع.
هذا الهاجس يشغلني تماماً، وأنا الآن أحشد نفسي لكي أبدأ هذه الرحلة الخطرة، فهل يمكن الوصول إلى الضفة الأخرى في جو الإرتباك والتداخل واختلاط الأعداء بالأصدقاء؟ لو لم يكن الله مشغولاً بأوربا، شرقها وغربها، لالتمست منه العون، ولرفعت عقيرتي (ما هي العقيرة؟) بالدعاء لعله في يوم عطلته يلتفت إلينا ويجنبنا ما هو آت، لكن باعتباره مشغولاً ومثقلاً فقد آثرت أن أخفف عنه وأسلك الطريق دون قيادة ودون بركات، ولنر ما سيأتي به الأيام.
وبانتظار أن أسمع منك المزيد، إنعم بالاً وقرّ عيناً وادع الله صبحة وأصيلا، لعلنا نرى في نهاية النفق ضوءاً، وإليك مودتي.
عبد الرحمن منيف
١٦/١٢/١٩٨٩
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.