إلى الغائب الحاضر دائماً،
رسمتُ رأساً ناهضاً وكأنه جاء من الصخور رأساً، على شماله ظل أخضر ــ الغابات ــ وعلى يمينه فرجةُ السماء الواسعة. ألوانه الزهري والبنفسجي. والحَجر يحمل الفرح وبعض السخرية على شفاهه وعيناه تحمل الفضاء. رآه بعض الأصدقاء وقالوا: أهذا عبد الرحمن؟
وتكررت هذه الرؤية.
كان صدر المساء يزيح أحداث النهار وسعيه إلى وضع إشارات ليوم بانتظار لحظات هذيان العطاء ثم رماديات الفشل وأمل الغد والبحث عن جيوب الإبداع وفرادة الدقائق مع دقائق الغروب. ثم تأتي العتمة، متململة أولاً صمت العالم وأنا وحيد أجلس تجاه نافذة تعكس الليل تجاهي وثمة ضوء مصباح في نافذة تجاهي تجلب لي المواساة مع خيال دافئ بأنّ إنساناً مثلي يبحث عن سمير.
كنتَ أنت سميري مع المداد والورق وصديق البَوح حيث يسير مدادي إلى الجنوب، إلى الفيلات الغربية في دمشق وأنا أكتب عما يأتيني في دروب الليل من ذكرى أو حياة لوحة مع فسحات اللون والفراغ أو عن ومضة حب يطفح منها قلبي مختلطاً بأيام حياتي بين حارات دمشق وشوارع برلين، وأصارحك بأن لا يعرف الحب إلا من يكادره.
ساعات الليل تلك عزيزة على نفسي وكانت صلتي بأمي، مجازاً، لأرض أحبها، وطن هو شجرة زيتون كريمة عزيزة وقنديل العطاء والحلم. أصبح ذلك كله أنت، تجري كلماتي قوافل على طريق الجنوب.
أتذكر عندما دخلت مع جمال مرسمي تحمل كيساً ثقيلاً وأنت تبتسم بوجهك الأسمر قائلاً (هذه ليست هدية بل عقاب!) كانت «مدن الملح» و«الأشجار واغتيال مرزوق» و«النهايات»، وهكذا جاء اللقاء الثاني بعد ثلاثة عقود وبداية ليالي عبد الرحمن مع متعب الهذال ومسعود وكل ذلك ملحمة وضمير الوطن كقرون.
في فضاء حزين إلا ترتيل يمامة وأحاديث صديق توأم، ترك عبد الرحمن أطواق الياسمين للحجّة والحاج في «أرض السواد». بعد طرد السفير البريطاني تعلق على أعناق التماثيل مجازاً للأمل والانتصار ضد القهر والاغتصاب.
نحن نحمل أمل عبد الرحمن وغضبه، ولكننا نحمل أيضاً «حكم علينا بالأمل – لسعد الله ونوس».
حدّثتَني في رسالة لك عن فكرة كتاب مشترك عن دمشق وسمّيته «بستان مقام» وتحمست للمشروع وبدأت ذاكرتي تبحث في زوايا الماضي عن دمشقي وكتبت بعض الإشارات ثم التقينا في الفيللات وتحدثنا عن «البستان». جلبتَ دفتراً وقرأت لي بعض الأفكار التي ستكون محوراً في الكتاب الموعود. وأنا قرأت لك ما خطر لي عن مكان ولادتي وطفولتي. كانت دمشق لك مكان اللقاءات في المقاهي وتجمّع الأصدقاء والحلم بمستقبل جديد للوطن فيه الحياة والعطاء والصعود إلى مستوى حضاري جديد والحوار عن الأدب والفكر. كانت طفولتك عمان وقد جاءت أطراف في «سيرة مدينة»، أما دمشقي فلم تكن انتباهي، والغناء بالياسمين وأشجار الليلكي، وإنما ذاكرة الحارة والمجذوب والمؤذّن ونقاط النور الناعس على جدران الطين وكشّاش الحمام والشحّاذ وباب الجابية وعساكر فرنسا والجزماتي مع الحمّالين وبائعي العِرق سوس ومقبرة باب الصغير والماخور وحلي سنونك ونساء قابعات خلف جدران الطوب.
إلى الغائب الحاضر عبد الرحمن،
لم تغب رغم لوعة الغياب، كانت صداقتنا البئر التي تعبّ فيها جداول بَوحنا عندما تنام المدينة مع صوت الليل وحضور النفس، فكنت الغريب أناجيك وتسير حروفي إلى دمشق حاملةً التوأم. لك ما يملأ صدري من آمال وشكوى من القحط والهزيمة ثم الوصول والعطاء، ثم دائماً سيزيف يبحث عن المصداقية والحدث.
إنك حاضر لم تغب، وكم أحب ان أكتب ما فات عنا وأنا أحاورك وأروي لك بعض تناقضات الأيام وإشارات الساعات.
كتبت على ورقة قبل أربع سنوات وثبّتها على جدار مرسمي وجاء فيها: «أصبح عبد الرحمن كناية لأرضي ووطني وأصبح دمشقي مع السهول والوديان التي أحبها مع طيور القطا والحَجَل و«مسعود». أصبحتْ دمشق مع عبد الرحمن «دمشقاً» جديدة. ليست عبق أزهار وإنما تاريخ الناس الذين عاشوا فيها ثم غابات الغبار ذات الظل المبعثر ونقاط النور ونحن الغبار العالق منذ مئات السنين في ذلك الضوء». وأردت أن أكتب عن المجذوب والمصروع والمعدَم والشحاذ وبائع الحلاوة وأشجار الكينا الباسقة، عن هذه البيوت المفتوحة للاحتواء وكيف تغلق الأبواب، عما مرّ على هذا البلد وأشياء كثيرة تعمّ بها الذاكرة. إن أحلامي ما تزال شامية وهي قريبة بعيدة وكأن الزمن يقف في عتمة الليل، يفتح لي أبواب البيوت والمخادع وأصعد السلالم (طيارات) البشرى والحزن ويفتح عبر جدران الطين للفقير والمنعم آمال الغد. كتبت وقتها بعض ما جاءني وقرأته لك في دمشق وكان شوقي كبيراً إلى ذلك اللقاء، لقاء دمشقي في بستانك المشترك وكان تصوري للمشروع كمن يجاوز الليلكي بلون الصدف وقت الغروب. وكما كنت أبوح لك، أنقل لك اليوم بعض تلك الأحلام:
ربما كتبت عن (البستان) أكثر مما قرأته لي، وأكمل أنا حصتي ويتحقق ما كنت تتصوره وتحلم به، أحمل دمشق بداخلي وهي الذاكرة التي تضيء ثنايا لوحاتي.
عزيزي عبد الرحمن، إن بعض كتاباتي خلال السنوات الماضية موجّهة لك كما كنا نفعل وكما كنت أنتظر أيام الخميس لوصول رسالة منك.
إن ولعي بزمن طفولتي وشبابي في دمشق، والارتباط العاطفي والروحي بالرؤية الأولى ارتبط بتلك الذاكرة الأولى المكانية والحسية والتي ما زلت أنهل منها رغم الحزن الدافئ لما فات.
سألتني أن نشترك في كتاب عن دمشق عنوانه «بستان الشام»، تحمست للفكرة وجاءت الرؤى ثم تقابلنا من جديد في الفيلات ومن بين الأحاديث الكثيرة التي لا تنقطع، كان حديثنا عن مشروع (بستان دمشق) قرأت ما سجّلته في مجال البستان وبعض ما أطمح إليه في فسحاته.
دمشق المحطة الأولى في حياتك، محطة الولادة واكتشاف العالم لأول مرة حيث يواجه الطفل (وجوده الأول) مع الكون.
أما عن دمشق، فكانت الطور الأول عن دروبك مع الأصدقاء وطموحنا في ذلك الفصل الحياتي والمقاهي أماكن اللقاء مع الأفكار والأمل والأصدقاء الذين رافقوا حياتنا، ومنهم من غاب ومنهم من تعثر ومنهم من ثابر يحمل تلك الطموحات الأولى التي جُرحت.
أما عن دمشقي وإضافة إلى مناقشاتنا المشتركة، فقد كانت مكان الطفولة والصبا التي تشعّبت فيها الأحاسيس منذ الولادة في البيت العربي والحارات وجدران الذاكرة التي أسست طموحات بألوان الحياة المتعددة.
لم أرد أن أكتب عن الياسمين والليلكي، بل كنت أريد أن أكتب عن صور أخرى لازمتني في الحارات والأزقة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.