في واحدة من مقولاته الأثيرة كتَبَ دريدا أن «كل القراءات تصاحيف». لكن التصْحيف في سياق هذه المقولة يحمل معنى إيجابياً، ويشير إلى لا نهائية المعاني، وإلى فرادة وخصوصية كل قراءة، لأنها نتاج تفاعل القارئ مع النص في لحظة وسياق معينَين. وتتجسّد هذه المقولات (التي قد تبدو تجريدية ونظريّة لأول وهلة) بالفعل عندما نعود إلى قراءة نص كنّا قد قرأناه في ما مضى لنجد أن قراءتنا تختلف، وأن النص والقارئ قد تغيّرا، قليلاً أو كثيراً، وأنّ فعل القراءة يترك أثراً جديداً ومختلفاً.
الماضي يلاحق الحاضر
ينطبق ما سبق بشكل لافت، بل مؤلم، على العودة، الآن بالذات، إلى ثلاثية عبد الرحمن منيف الهائلة «أرض السواد»١. فكيف نقاربها وكيف نعيد قراءتها الآن؟ فما حل بـأرض السواد في الماضي القريب، يفرض مناخاً مختلفاً وحقائق ماديّة جديدة ستهيمن بلا شك على طقوس قراءة النص الذي تدور أحداثه على هذه الأرض. وكذلك على عملية إنتاج المعاني وإن كان النص عن الماضي الأبعد. إلا أن هذا الماضي، ككل ماض، لا يموت، كما يقول وليام فوكنر، بل يلاحق الحاضر. ويتعايش ويتفاعل جدلياً معه. وتلتقي هذه المقولة مع فكرة «الشبحيّة»ٍ وتبعاتها السياسيّة التي طوّرها دريدا في كتابه عن ماركس، ولنا عودة إلى تفاعل الماضي والحاضر.
فعراق الآن يعيش زمن التمزّق الفعلي، سياسياً وجغرافياً وديموغرافياً. فمن «تمدّد» داعش واحتلالها مدناً ومساحات مهمّة وقيامها بتهجير مئات الآلاف (جلّهم من الأقليّات) من ديارهم، إلى ضعف «المركز» وانهيار الجيش تحت وطأة الفساد والفوضى، إلى تعاظم قوة ونفوذ الميليشيات الطائفية، إلى تصاعد أصوات السياسيين الفاسدين المطالبين بأقاليمهم والاتجاه نحو تقسيم فعلي للعراق ليس فيه أي فائدة لمواطنيه، إلى وجود مستشارين أجانب (من إيران والولايات المتحدة) وقيام الأخيرة بقصف مواقع داعش، إلخ. تبدو هذه اللحظة موغلة في الفوضى والتمزّق.
وتمتد هذه الفوضى ومعها التخبّط والتمزّق إلى حيّز الذاكرة، أو الذاكرات، الجمعية العراقية، والخطابات التي يتخيّل عبرها العراقيون مواضيهم وسردياتهم التاريخيّة وينتجون هويات جديدة هي أعراض وعوامل، في الوقت نفسه، لمزيد من التمزّق. وتتمظهر الفوضى في سجالات المثقفين وتساؤلات المواطنين في الحيّز العام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل جليّ، فيعاد طرح أسئلة إشكالية ويعاد تدوير أحكام بلا أسس عن تكوّن ووجود العراق الحديث كدولة، وعن «اصطناعيته» ككيان أو استحالة ديمومته. وليس هذا مفاجئاً، إذ إن الخطاب الطائفي والهويات الفرعية الجديدة قد تجذّرت وتغوّلت بعد كل هذه السنين من مأسسة الطائفية وتجذّر ممارساتها ووعيها في المناخ والواقع الذي أنتجه الغزو والاحتلال على أنقاض دولة كانت.
والسردية التبسيطيّة المختزلة والأكثر ترديداً هي تلك التي تتعلق بتكوين العراق كدولة من ثلاث ولايات عثمانية إبّان الاحتلال البريطاني، وغالباً ما تفرض وتفترض هذه السردية نقطة بداية وهميّة لتشكّل العراق الحديث كدولة يدشّنها ويعلنها دخول الآخر الأوروبي، وتُسْقِط الحقبة العثمانية في غياهب الظلام و«الانحطاط». لا شك أن الاحتلال البريطاني ترك أثراً عميقاً في العراق، مجتمعاً ودولة، لكن علينا أن ندرك تبعات تبنّي هذه السردية. فالعراق فيها يولد ويدخل العصر الحديث عندما يدخله ويستحوذ عليه الآخر الأوروبي، ولكنه يدخله طبعاً كتابع وكهامش لمتن التاريخ الذي تكون بؤرته أوروبا. ويكون ثمن الدخول في هذه السردية هو إسقاط كل ما سبق في جُبّ النسيان أو التهميش واختزاله إلى محض انحطاط و(لا) حضارة، وفقدان الذاكرة التاريخيّة.
«أرض السواد» والحداثة المغايرة
ويعيد الكثير من المبهورين بسردية الحداثة بنسختها الأوروبية، وهي الأكثر تداولاً، إنتاج هذه السردية فتصبح نظرية الانحطاط عندهم ركيزة أساسية، خصوصاً لدى الكثير من القوميين. كل هذا مع أن دخول العراق إلى مدار النظام الرأسمالي العالمي سبق الاحتلال البريطاني وأن العراق، كوحدة اقتصادية/اجتماعية كان قد تشكّل فعلياً ولم يكن ترسيم حدوده رسمياً فيما بعد إلا اعترافاً وترسيخاً لواقع الحال. أسوق كل هذا للفت الانتباه إلى أهميّة اختيار منيف لحقبة داود باشا، آخر الولاة المماليك في العراق (١٨١٧-١٨٣١) مسرحاً تاريخيّاً لعمله. والذي كانت نزعاته التحديثيّة والتأسيسيّة ذات الميول الاستقلاليّة السبب الرئيسي في إنهاء حكمه، في نهاية المطاف، من قبل المركز العثماني وإعادة بسط النفوذ على ولاية بغداد والعراق. إذ يمكننا أن نقول إن الرواية تسرد أو تقترح، فعلياً، حداثة مغايرة، محليّة، ومساراً أكثر تعقيداً يُمَشْكل ويقاوم هيمنة السردية الاستعمارية ويزعزع النسخة الأكثر رسمية وهيمنة من السردية القومية السائدة. كما يحاول إبراز صوت «التابع» المقموع الذي ظل صوته وتاريخه، ووجوده، خارج الأرشيف وخارج الرواية الرسميّة، أو على هامش الهامش في أفضل الأحوال.
تقف «أرض السواد» في سياق أعمال منيف في خانة واحدة تجمعها بخماسية «مدن الملح» في المقاربة والأسلوب والأثر الذي تتركه لدى القارئ. بالرغم من الاختلافات الواضحة في الحيّز الجغرافي والحقبة التاريخيّة، إلا أن العملين يشتركان في إنتاج نص روائي ينافس، ويقاوم، وإن بدرجات مختلفة، التاريخ الرسميّ النخبوّي الذي تم ترسيخه وشرعنته. فيعاد سرد التاريخ ولكن في قالب روائي يكون فيه المكان وأهله في القلب.
ومع أن الصراع الرئيسي الذي يهيكل مسار الرواية هو بين داود باشا، الحاكم الطموح، وبين القنصل البريطاني ريتش، إلا أن هناك عشرات الشخصيات من شرائح وطبقات مختلفة في المجتمع العراقي رسمها منيف بعناية ودقّة وحرص على أن تظهر شريكة في صناعة الأحداث ونسج المناخ العام وأن يظهر تفاعلها مع التاريخ وفي إطاره. فيبدو التاريخ نتاجاً جمعياً يصنعه نسيج بشري معقّد ديناميكي وصراع على عدة محاور بين قوى محليّة وعالميّة. كما تشتبك مصائر الأفراد والجماعات بالأنساق والأطر الاجتماعية في دوائر متداخلة. بالإضافة إلى رسم معالم الجغرافيا البشرية الغنية، نجح منيف كذلك في رسم جغرافيا المكان بتفاصيل حيّة. فكان للطبيعة العراقية وتنوّعها وتقلّب مواسمها ولخيراتها حضور أغنى النص بحميميّة يصعب وجودها بهذا الكم في الروايات «التاريخيّة» التي لا تنجح دائماً في التخلّص من عبء الأرشيف والمادة التاريخيّة والوثائقية التي لا بد منها في مرحلة البحث.
والحميميّة هي ما أنجزته وأضافته الحوارات التي حرص منيف على أن تكون بالمحكيّة البغداديّة والتي يظهر جليّاً عشقه لها. وهو ما يعطي للشخصيات عمقاً وبعداً إضافيين وللقارئ (العراقي بالذات)، متعة التلذذ بها والتقرّب منها.
يشيع تعبير «التاريخ يعيد نفسه» ويتم تداوله بإفراط، خصوصاً في الأزمات والكوارث المفصلية. لكن التاريخ لا «يعيد نفسه» بالضبط، بل يستعاد ويتم تخيّله بطريقة جديدة يحكمها الحاضر الذي يستعاد فيه ومن أجله، والمناخ السياسي والثقافي الذي تتم فيه عملية الاستعادة. فلنقرأ ما كتبه منيف في هذا السياق في معرض حديثه عن المواد التي تجمّعت لديه وهو في خضم التحضير لكتابة «أرض السواد» «طبيعي أنه لا يمكن من خلال التاريخ وهوامشه أن نكرر ما حصل، لأن لكل حادثة وواقعة الظروف والعناصر التي كونتها. وجود التاريخ معنا أو إلى جانبنا يجب أن لا يكون أداة لاستعبادنا أو أن يلقي بظلاله الثقيلة علينا. وجود ذاكرة تاريخيّة من شأنه أن يعلّم ويحرّض، ويجعل التاريخ ليس سجلّاً بارداً لموتى وإنما حياة موّارة تعج بالأمثولات الحية والمعارف والمقارنات»٢.
من الممكن أن نقرأ الماضي، وبما أن كل قراءة هي تصحيف، فإن الماضي ليس سجلاً مختوماً ومقفلاً، بل هو نصّ تعاد كتابته ويعاد سرده بطرق مختلفة وبأصوات ونبرات متنوّعة في جدلية مع الحاضر.
بقي أن نقول إنه في زمن الاندثار وفقدان الذاكرة الجمعية يكتسب عمل من طراز «أرض السواد» أهميّة مضاعفة تحتّم العودة إلى قراءته من جديد.
فتحيّة لروح كاتبه الحيّة فيه وفينا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.