العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

الصداقة والآخر

الفن والشجن والمواساة

مـاهـر جـرّار

ما سرّ الصداقة، وما هي هذه الكيمياء التي تجمع بين نفسين حرّتين في علاقة «روحية» قوامها الأُلفة، والتواطؤ على الرعاية، والمشاركة والنصيحة والبذل والمواساة والبوح؟ إنها أسئلة تستدعيها هذه المجازات الحميمة التي تنقدح عن شرارات من خبايا الضمير تضيء في الرسائل التي يتبادلها صديقان يجمعهما أفق الخلق والإبداع: عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي ١.
في مقدمته اللماحة للرسائل يسمُها فواز طرابلسي بـ«أدب الصداقة» ويقدّم لها بنظرات ثاقبة، فيشدد على إدراجها في باب الأدب «بمعناه الأرحب والأغنى»، فـ«هي صفحات لصديقين تخلو رسائلهما من كلمة نابية في حق أحد ومن أي تعريض بأحد. ولا حذف هنا ولا رقابة» (ص ٧).
يضم الكتاب مائة وعشرين رسالة، خمسون منها من عبد الرحمن وسبعون من مروان. وإذا كانت الرسالة الأولى من عبد الرحمن مؤرخة في ١٢ حزيران ١٩٩٠، فإن سائر المراسلات تترى لعشر سنوات تمتد بين آذار ١٩٩٤ والشهر الأخير من العام ٢٠٠٣ أو بداية ٢٠٠٤ (٤١٢). فما الذي استثار هذا التواصل ليبلغ به حدود الوثوق؟ وما سر هذه الشفافية في المشاركة التي تجمع الصديقين لترقى الى مصاف البوح أحياناً؟ لا يسعنا في سياق الاقتراب من هذه الأسئلة سوى أن نبحث في مضمون الرسائل نفسها.
يذكر عبد الرحمن في رسالته الثامنة أنّ معرفته بمروان تعود الى العام ١٩٥٦ (ص ٥٥)، وهو لا يشير إلى مناسبة هذا اللقاء الأول؛ والأرجح أنهما تعارفا في إطار انتمائهما المشترك إلى حزب البعث، إذ إن مروان يذكر في رسالة له أنه كان قد حمل (علامة) من نسيم السفرجلاني٢ في طريق عودته بالسيارة من دمشق إلى برلين بغية إيصالها إلى عبد الرحمن الذي كان يعيش في بلغراد، وكانت الرسالة تهدف إلى تنظيم العلاقات بين فرعي التنظيم في يوغسلافيا وبرلين، إلا أنه لسبب ما لم يتسنّ لهما اللقاء آنذاك (٤٤). وقد انتسب عبد الرحمن إلى حزب البعث قبل ١٩٥٢ حينما كان طالباً في المرحلة الثانوية في عمان، وأمضى السنوات بين ١٩٥٥ و١٩٥٨ في القاهرة لدراسة الحقوق ثم عاد ناشطاً في الحزب في بغداد ليغادرها في العام نفسه إلى يوغسلافيا بمنحة من الحزب لدراسة الاقتصاد هناك٣. ويذكر عبد الرحمن أنه التقى مروان للمرة الأولى في إطار العمل السياسي عن طريق نسيم السفرجلاني في دمشق في ليلة من ليالي كانون الثاني ٤١٩٥٦، وكانا آنذاك في مقتبل الشباب٥. أما اللقاء الثاني، مفتتح الصداقة، فقد حصل في العام ١٩٩٠ في برلين أثناء زيارة لعبد الرحمن إلى تلك المدينة (ص ٥٥؛ وانظر رحلة الحياة والفن، ٦)، وليس لديّ من معطيات تفسر هذا الانقطاع الذي استمر أربعةً وثلاثين عاماً.
تأتي الرسالة الأولى من عبد الرحمن بعد عودته من ألمانيا حيث التقى مروان ودارت بينهما حوارات حول الفن ودوره؛ وكان عبد الرحمن قد عرّج على باريس مدة ثلاثة أسابيع إثر مغادرته ألمانيا ويبدو أنه زار متاحف كثيرة «فامتلأت كثيراً باللون .. ولذلك لم تعد الكلمات ترضيني» (١٤). وهو يصدر في هذه الرسالة عن قلق وشك يساورانه في ما يتعلق بقدرة الكلمة كوسيط تعبير وبقدرة اللغة على الإفصاح؛ ولعل التململ والمرارة يشيران إلى عمق الأزمات الاجتماعية والسياسية التي كانت تصطرع في المجتمعات العربية في تلك المرحلة، التي رأى إليها عبد الرحمن كـ«كتلة من الفوضى الملتهبة» (الكاتب والمنفى، ٣٧٨)؛ كما يعبّران عن الآمال المحبطة، «إننا نخوض في مياه ضحلة، وبالتالي لا حاجة للكلمات الكبيرة أو الأحلام حول المستقبل»، يقول في رسالته (١٣). فعبد الرحمن يبحث عن معنى جديد هو نتاج هذا المخاض ليشحن به الكلمات؛ فهو يسائل الأدب سؤالاً عن نفسه وعن صدقية الخطاب والاحتمالات التي ينتجها. هذه المفارقة/الحوار بين الكلمة واللون سوف تغطي حيّزاً واسعاً من مساحة الرسائل المتبادلة بينهما.

في البدء كانت دمشق
أما رسالة مروان الأولى في هذا الكتاب المؤرخة في الثامن من آذار ١٩٩٤، ولا نعلم ما إذا كان ثمة رسائل قبلها، فيبدأها مروان بالكلمة المفتاح «الصديق عبد الرحمن»، وفيها الكثير من الشجن والحنين إلى دمشق. ومروان ينطلق في رسائله على سجيّته مشحوناً بعاطفة أسيانة فتجدها عالية التوتر والشعرية تقترب من المناجاة في كثير من الأحيان. وهو يفصح لعبد الرحمن «كثيراً ما تحدثت معك (وهو ما يقال له المناجاة). والمناجاة تملك قسطاً من السعادة الداخلية وهي بين المحادثة الشخصية والدخول بسرعة الى ذكريات وتصعيد أفكار ومشاعر اليوم والبارحة والتأكيد على أحاسيس بسيطة تأتي بالتداعي وسريعاً تأخذ معنى تجديدياً واعتراضياً. واليوم ـ غروباً - وبعد استراحة قليلة وبداية (مناجاة) جئت إلى الريشة والحبر والورق لأسجل دون سابق تفكير قسطاً بسيطاً مما يجول تداعياً بين عيني وقلبي، بين برلين ودمشق» (١٦). من الرسالة الأولى هذه نقف على سر البوح (الذي تنبّه له فواز طرابلسي في مقدمته للرسائل، ص ٧)، فتأتي المناجاة بمثابة الجسر الذي يعبر عليه مروان في غربته متلهفاً لدمشق/الشام، النبع الأول والضوء والانصهار بالبوادي والسواقي، «كالعاشق يسرع للقاء حبيبته» (٤٠)؛ ويعاود مروان المناجاة في رسائله مراراً و«يشطح بالبوح» لعبد الرحمن (٤١٠)، «أناجيك هذا فرحي بليلي وأنت الصديق» (٣٨٦).
بهاتين الرسالتين الافتتاحيتين من عبد الرحمن ومروان تنبسط أمامنا آفاق الحوار، بعيد الغور، بين صديقين مبدعين، تجمعهما علاقة هي بجوهرها «ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية» (الصداقة، للتوحيدي،٢)، ليتشاركا في هموم الحياة والإبداع والوفاء لبعضهما البعض ولأصدقائهما من المبدعين، وللوطن - الشام، بما هو المكان الذي يستحضر كينونة الذات الوجدانية وأفقها. فدمشق «هي موضع القلب» (مروان، ص ١٨٠)، حيث فتح عبد الرحمن بقلبه «أبواب دمشق القديمة الجديدة وسرت بيدي لتقول لي هذا أنت وهذه أرضك» (مروان، ص ١١٩). ويتساءل عبد الرحمن كيف له أن «يفي الشام حقها (وأُحب كلمة الشام أكثر من دمشق)، بحيث أكتب عن الدهشة والتاريخ [و] الأشياء الحميمة» (٢١٨)؛ ولعل دمشق/الشام في رسائل الصديقين هي هذا «الانكشاف» الذي ينفتح باتساعه وضوئه على اللحظات الزمنية ليتحول الى امتلاء يحيط بإمكانيات الصداقة ويتبصر بمآلاتها الإبداعية. وعبد الرحمن يحضر لمشروع رواية عن الشام يختار لها عنوان «بستان هشام» (٢٦٩، ٢٩٣-٢٩٤، ٣٠٩)، ومروان يفرحه الموضوع ويتحمس لنور دمشق الآتي كالانجذاب (٢٩٣)، ويتمنى لو أن قدميه «تطآن طريق التراب في بوادي سورية وتلتمس حرارة الأرض وبراءتها ومسارات الحيوانات التي انقرضت إلا في الذاكرة والأحاديث الأولى..» (٢٢٤).
في رسالته الثانية التي أرسلها عبد الرحمن بعد بضعة أيام من الأولى يعاود الحديث عن «المخاض» الذي يعيشه وكيف أن الكتابة تتلوى وتتباطأ؛ ويخبر مروان أنه ارتكب حماقة «رسمت، والكلمة كبيرة، فضفاضة الى درجة الاستفزاز» (١٨)، وقد ضمن الرسمة رسالته. في خضمّ الأزمة التي يعانيها عبد الرحمن يحاول شكلًا جديداً من التعبير طامحاً إلى اختراق ركام الكلمات التي فقدت قدرتها على قول الأشياء بشكل جديد. وهو يشير الى رسالة من مروان أخبره فيها عن زيارته لبيت الرسام الفرنسي مونيه (١٩؛ والبيت في جيفرني في النورماندي)، غير أن هذه الرسالة ليست في المجموعة التي بين يدينا. لقد أثارت رسائل مروان رغبة كامنة عند عبد الرحمن في التجريب وحثته على التفكير في فتح آفاق جديدة، فـ«الرسائل حوار مع النفس ومع الآخر في ذات الوقت، وهذا ما يجعلها شديدة الخصوصية، ومحرضاً، ومحطة لإعادة التفكير وترتيب الأولويات» (١٨)، ويضيف «هذا النمط من الرسائل محرِّض، لا أعرف على أي شيء، ولكن الخوف، أو الجفلة يزولان، يتراجعان، وقد يكون ذلك بداية الإقدام نحو الأشياء المقدسة، المحرمة، غير المعروفة، من أجل اكتشافها، التعرف اليها، محاورتها، وأيضاً سؤالها!» (١٩). يعبر عبد الرحمن بعدد من الأفكار والاحتمالات والاسئلة عن ضيقه من اللغة الخرساء والإحساس بالحاجة إلى التلاقي بين الكلمة واللون.

تبادل أدوار؟
رسالة عبد الرحمن الثالثة تواصل حواراً كان الصديقان قد بدآه أثناء زيارتين لمروان إلى دمشق، ويبدو أنهما اتّفقا خلالهما على أن يكتب عبد الرحمن عن مروان وفنه. فيضع عبد الرحمن في هذه الرسالة مجموعة من سبعين سؤالاً تعينه على فهم أعمق لتجربة مروان، وهي أسئلة تنمّ عن قدر بعيد من الذكاء والرهافة والرغبة في التعرف إلى عملية الخلق، ويقترح على مروان أن يسجل الإجابات على أشرطة (٢٩).
وقد ذكر عبد الرحمن في مقدمته لكتابه عن مروان «رحلة الحياة والفن، ١٩٩٦»، أن إرهاصات هذا المشروع أخذت في النضوج في لقاءات جمعته مع مروان في دمشق، أثناء زيارات الأخير لها، وكان معظمها بحضور الرسام والصديق المشترك نذير نبعة (٦-٧).
تحفز الأسئلة مروان فيرتحل في ثنايا ذاكرته إلى بيت الطفولة والأهل وإلى ضوء دمشق وحاراتها وبساتينها وسواقي الغوطة ومستنقعاتها، ليكتب نصاّ تتقطر ألفاظه وصوره بومضات الامكنة وبحنين شفيف للروائح والألوان (٣٠-٣٥). ويدهش عبد الرحمن بالكمّ الشعري في رسالة مروان هذه وفي التسجيلات (٤٨). وقد سجل مروان على مدى الرسائل مقاطع من سيرة ذاتية ولحظات من يوميات القلق والإبداع تكاد تكون فريدة في الأدب العربي في حميميتها وتألّقها. وقد تنبأ له عبد الرحمن بأنه سوف يكتب رواية «.. وهذا احتمال كبير، خصوصاً أني أراقب طريقتك في رواية القصص أو تذكّر الأحداث التي مرّت: إذا كتبت مثل هذه الرواية فلا بد أن أهيئ لها الغلاف والرسوم الداخلية، وسوف تكون شيئاً استثنائياً بكل معنى الكلمة» (١٣٠). غير أن مروان، وقد كتب قصيدة أرسلها لعبد الرحمن، يرى أنه «ربما أصبح رسام الشعراء» (١٥٢).
وعبد الرحمن يحاول اختبارات في الرسم مستكشفاً جدّة وسائل إبداع يرتادها علّها تفضي إلى آفاق جديدة في التعبير؛ «لو لم أكتب لرسمت»، يقول عبد الرحمن (٥٦)، ونجده يرسم تخطيطات يُطلع مروان عليها فيكتب له الأخير «سرّني أنّك عدت للرسم» (٨٤)، و«أما في ما يتعلق بانتقالك الى الرسم فيا حبذا» (٨٩)، ويرسل له رسالة مع «هدية الدرس الأول في الرسم» (٩١، من رسالة كتبها عبد الرحمن)، فيكتب له عبد الرحمن «سأجتهد في تعلم الدروس، وإذا كانت هناك بقايا موهبة في هذا المجال فلا بد أن يقر الأستاذ الاستمرار، وإلّا فسيطلب من تلميذه البحث عن صنعة أخرى!». هذه الراحة التي وجدها عبد الرحمن في الربط بين الكتابة والرسم والمزاوجة بينهما أثمرت خلال العام ١٩٩٥ رسمات لشخصيات منيف في سيرة مدينة (قدم له مروان)؛ يكتب مروان في رسالة لعبد الرحمن «لم تكن حماستي لأعمالك (الورقية) طارئاً يا عبد الرحمن وإنما عن قناعة فنّية أستطيع تبريرها تماماً وأسفي كبير جداً بسبب سرعة (الفراق). إن الرسوم لها قيمتها ومقوماتها وعلى درجة من التركيز والقوة الى جانب الفتوة ثم ارتباطها برؤية بصرية حركية بأشخاص السيرة لا ترتبط بالتجربة البليدة وإنما اضافة مركزية لهؤلاء الأشخاص» (١٠٥). وفي رسالة مؤرخة في السادس من حزيران ١٩٩٦، يقترح مروان، بعد الانتهاء من كتاب سيرة مدينة أن «نحضّر لمحاولة جديدة تكون أنت الرسام وأنا المسطّر للحروف» (١٣٣). ويستمرّ عبد الرحمن في تجاربه متحسّساً الطاقة الجديدة التي يمنحها له الرسم في استثارة أبعاد كامنة، وتوحي له رسومات للوركا بتخطيطات عمل عليها أثناء تحضيره لموضوعات كتاب لوعة الغياب (٢٢٠)؛ وتأخذه الحماسة لفكرة مشروع الجامعة المفتوحة للفن، وهو اقتراح مشترك بين «دارة الفنون» في عمان، سهى شومان، ومروان، فيبدي رغبته لمروان بأن «أسجل فيها، أرجو أن تعتبر طلبي مقبولا، إذ أريد أن أدخل أكثر في هذا الجو، خصوصاً أن جو القصب والرطوبة والبدو، في «أرض السواد» قد أثقل روحي، وأنا بحاجة إلى أن أتنفس، وأريد جواً جديداً ومختلفاً» (٢٢٧، ٢٣٦، ٢٤٣).
هل هو تبادل للأدوار، أن يصبح الروائي رساماً والرسام شاعراً أو روائياً؟ لا أعتقد، بل إنه تكامل وامتلاء تفيض بهما صداقة هي في جوهرها حيّز تعارف ومواجهة بين الهوية والاختلاف، بما يكمن فيها من تحدّيات تستثير التفكر والتأمل والتجريب والمشاركة، وما تنطوي عليه من حدب الصديق على إمكانيات تبرعم احتمالات الخير والخلق لدى صديقه، في علاقة ترى إلى الآخر بما هو حقيقة تلاق ومشاركة وكشف عن الذات الممتلئة بما هو آخر.

طقوس يوم الخميس
تطالعنا في هذه الرسائل المتقطّعة، ومتعدّدة الاهتمامات أفكار ورؤى لمشروعات مشتركة خطّط لها الصديقان، وانتهت في جزء منها إلى أعمال مميزة. والرسائل بطبيعتها هي أشبه باليوميات وهي، بمعنى ما، بالنسبة إلى القارئ اقتحام وكشف لخصوصية حميمة، والرسائل التي نقرأها، بسبب مرور الوقت على الأقل، لا تعكس تماماً الحالة النفسية التي كتبت فيها، كما أنها لا تعبّر عن الكيفية التي تلقّاها فيها الصديق المرسل له ولا عن المشاعر التي انتابته وقت قراءتها، ولا كذلك «الشيفرة السرية» التي تنطوي عليها، أو أبعاد المنظور الحواري الذي ينفتح بين الصديقين لينوس أحياناً أو يرقى إلى حدود مشاعر وانفعالات تبقى مكتومة ولكنها تترك أثراً طفيفاً بين ثنايا الأحرف وتعرّجاتها وفي وهج الكتابة.
وللرسائل المتبادلة بين مروان وعبد الرحمن طقوس رافقتها وأملت غير قليل من كلماتها ورسومها. مروان سمّاها «رسائل الخميس»، إذ كانت رسائل عبد الرحمن تصله في الغالب في هذا اليوم. وهو يخبر صديقه بـ«الطقس» الذي يصاحب لهفته إلى تسلّم الرسائل، «أيام الخميس المذكورة هي أيام الجسور والطعام الروحي عندما أتلقّى الظرف بخطّك الدقيق، فأصعد الدرج فرحاً متفائلاً ثم أضع ما أحمل على المقعد وأضع رسالتك على الطاولة الصغيرة التي تذكرها وأنا أعاند لذة فتحها دون طقوس الانتظار المحبّب ثم أشعل سيجارة وأقصّ طرف الظرف بحذر قبل أن أبدأ بالتهام سطورك مرتين «(١٢٧-١٢٨، وانظر ٣٧٧)». وكم من خميس كاذب مر عليه (١٣٢) وهو ينتظر «غداً يوم الخميس وربما كنت محظوظاً وجاءت رسالة منك، فإذا أعقبت رسالتي هذه رسالة جديدة في الغد، فمعنى هذا أنّ حدسي قد صدق بوصول رسالة يوم الخميس. أرجو أن تكون نافذة الحروف والإلهام مفتوحة أمام بصيرتك وأنّ السطور والمداد يتدفقان من أصابعك كالينابيع» (١٥٩). وعبد الرحمن يقرأ الرسالة مرة واحدة ويطويها لأنه لا يريد أن يثير الأشجان» (١١٦). ومن عجب أن يكون يوم الخميس هو يوم لقاء الدمشقيَّيْن حتى في الغربة وعلى أوراق الرسائل، لكأنهما يعيشان زمن الشام أبداً، حيث العطلة والتحضير لـ«سيران» يوم الجمعة ولقيا الأحباب موعدها يوم الخميس.
أما وقت كتابة الرسائل فهو المساء والليل، «لا أحب كتابة الرسائل في النهار، لا أعرف لماذا، ربما لشعور الانسان بأنه يقوم بعمل له حميمية وخاص، وبالتالي يجب أن يوفّر له المناخ الملائم!»، يكتب عبد الرحمن (١٩٧)، «أو بالأحرى للنهار كتابة غير الرسائل والإخوانيات»، (عبد الرحمن، ٣٣٨، وانظر ١٩٨، ومروان ١٩٩)، فالكتابة النهارية «للمرحبا فقط» (٢٢٨، وانظر ٢٥٥، ٢٦٩)؛ أما مروان فهو أحياناً ما يكتب وهو يستمتع بكأس نبيذ (٣٩٠). وللكتابة شروط عند عبد الرحمن «لأن كتابة الرسائل تحتاج إلى أمرين: أن يكون هناك شيء تحتاج إلى أن تبوح به؛ أن تقوله لصديق؛ والثاني أن يتوفر المزاج الملائم للكتابة» (١٢٩). ومروان يكتب كما «السمير الى الصديق» (١٢٨)؛ فيما يرى عبد الرحمن في كثير من مراسلاتهما «مراسلات تحشيشية» (١٧٩)؛ وحدسي أن التشبيه يرمي إلى وصف ما يميّزها من انطلاق ورفع للكلفة وتداعي الأفكار وتنوّعها.
للرسائل فعل مع الزمن وفيه، فعند قراءتها يدرك المرسلة إليه أن «لحظة» كتابتها قد انقضت، غير أن الفعل المضارع الذي يهيمن على الرسالة يُحدث شعوراً بحاضر مستمر يتكرر عند كل قراءة جديدة؛ وهي أشبه ما تكون بالصورة الفوتوغرافية التي تحمل معها ذاكرة حاضرها الغائب؛ وتغدو شيئاً حميماً وخاصاً نحفظه في العلب الشامية المطعمة بالصدف، وفي أدراج الخزائن بين طيات الشراشف العابقة بالخزامى، ونبعدها عن أعين المتطفلين لنقرأها ونعيد قراءتها حتى التملّي. وربما لهذه الأسباب يعنى الناس باختيار ورق الرسائل وبالأحبار التي يكتبون بها ـ وبخاصة إذا كان المتراسلون أحباراً. والصديقان عبد الرحمن ومروان يعنيان برسائلهما المتبادلة أيما عناية، «فالرسالة نصف المشاهدة» بحسب عبد الرحمن (١٦١)؛ و«رسائلك خسكارات [زوادات]»، يقول له مروان (٣١٠). وهما يضمّنان رسائلهما رسوماً، أو تتخلل الرسوم الصفحات وتزيّنها بالورود والوجوه – ورسوم مروان ملوّنة (انظر النماذج في ملحق الكتاب). وعبد الرحمن تدهشه الرسائل ويكتب لمروان «تلقّيت رسالتك مع هديتك الجميلة وشعرت منذ اللحظة الأولى التي أطل فيها الوجه وكأننا نعرف بعضنا منذ وقت طويل» (٢٠٣)؛ ومروان يرسم بومة في إحدى رسائله «هل أعجبتك البومة يا عبد الرحمن؟ رأيتها ظريفة مكسورة الجناح» (٢٦٧). كما يعتني مروان بأنواع الحبر فيكتب لعبد الرحمن في ذيل رسالة مؤرخة في الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٩٧، «كتب القسم الأول من هذه الرسالة بمداد الصمّاق وهو من حبر الأسرار للمخطوطات القديمة، والقسم الآخر من مداد الجوز.. هل أرسل لك محبرة منهما.. طبعاً من صنع الله واليد» (١٩٤)؛ ويكتب في رسالة أخرى في نيسان ١٩٩٩ «.. ضاعت الفكرة على طريق الصفحة فتسلّيت بالرسم. والحقيقة أنّ الفكرة لم تضع على الطريق ولكن الريشة (مْروكبة) وهي لم تعد تملك العطف والمرونة والحب وأصبحت مثل الجحش الذي لا يريد السير رغم الضرب، وهكذا ألجأ إلى القلم رغم تعلّقي بالريشة وأنواع المداد التي أصنع بعضها بنفسي» (٢٦٦). ولمروان حديث في أمر الحبر والقصب والريشة: «قال عن محمد بن أحمد بن مروان الرسام إنه سمع ما يلي: من كتب بالأحبار والقصب فإن كتابته ملأها الله بالوقار ودخلت مقاصدها قلب القارئ عن طريق العين إلى اللب» (٣٦٤)، وهو حديث يستحقّ أن يروى لمروان ويعنعن بالسند إليه. ورسائل مروان لا تأتي دفعة واحدة، بل إنه يكتب قصاصات بين الوقت والآخر، ويومياً تقريباً، في المرسم أو في البيت ثم يؤرخها ويضمّنها رسالة واحدة (٤٠-٤٢، ٧٢، ٨١، ٩٩، ١٠٠)، وبعضها قصاصات شعرية (١٨٠)، وأخرى يكتبها لعزّة منيف، ابنة عبد الرحمن، (١٤٩) وبينهما رسائل كثيرة كما يبدو، حبذا لو نشرت في يوم ما.

أوجه الصداقة كلها
غنية هذه الرسائل وجميلة وملهمة. ولا يمكن أن نفصل فكرة الصداقة التي تصدر عنها عن فكرة التلاقي والتشارك، فكل كلمة في الرسائل المتبادلة بينهما تدور حول تجارب أنطولوجية، وتطلّع إلى لقاء، ورغبة بالتواصل عبر الكلمة والهمسة والرسم والمشاريع المشتركة التي يخطّطان لها، والبوح والانهمام بالآخرـ الصديق المتفرد بعينه. ونحن نقرأ فيها طبيعة العلاقة بين الأصدقاء والتحدّي الذي تطرحه. الصداقة بما هي مواساة (وهي كلمة عزيزة على قلب مروان)؛ والمواساة هي التعزية والتّخفيف والمعاونة، وكما يقول بشار بن برد «لا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسلّيك أو يتوجّع». إنها رسائل تستشفّ بواطن النفس القلقة لدى كل منهما، صديقان مبدعان يواسي أحدهما الآخر ويتواطأ معه على شحذ همته في الخلق والتشكيل بالكلمة واللون. فعبد الرحمن يخبر مروان عن مشاريعه الكتابية، وعن مئات البدايات التي كتبها لـ«ارض السواد»، ويوافيه بما يستجدّ حول هذه الرواية والعذابات التي يواجهها، وعن رغبته في الانقطاع في عرزال في قرية تقع بين اللاذقية وحلب في صيف ١٩٩٥ استعداداً لكتابة رواية جديدة (٨٥)؛ كما يخبره في صيف ١٩٩٧ أنه سينتقل إلى طرطوس حيث استأجر بيتاً في الجبل ليتفرغ للكتابة (١٧١). ويكتب إلى مروان وهو «مستغرق حتى الشوشة بـ«ارض السواد»»، «يجب أن نكتب نصوصاً لها معنى لها بعد، ويجب أن نكتب هذه النصوص بطريقة جديدة، في محاولة لأن نحرّك هذا المستنقع الذي تعود عادات سيئة» (١٦٣-١٦٤). والصديقان يتحاوران حول أفضل السبل لإخراج الكتاب عن مروان ورسومه «لأن الأمية البصرية التي نتمتع بها في المرحلة الحالية تجعل هناك ضرورة أن يقاد القارئ كما يقاد الأعمى» (٥٧، وانظر ١٥٨، ١٨٧).
ويدور قسم كبير من الرسائل حول الفن والمعنى والعلاقة بين وسائل التعبير وغرض العمل الفني، في سطور عميقة ولـمّاحة عن سبل الإبداع ومخاضاته. فالعمل الفني قد يكون «أشقّ الأعمال على وجه الإطلاق، لأن ليس فيه راحة ولو لدقيقة واحدة... العمل الفني يستغرق الإنسان حتى في ساعات النوم، ويظل يدوي في الدماغ ليل نهار، وكأنّه مخلوق محاصر بالنيران يريد أن يفلت، أن يخرج مع إعصار...» (٩٢-٩٣). «الفن يا عزيزي مروان، حوار دائم، حوار قلق، وأيضاً همّ مقيم، فإذا لم يتوفر القلق، ولم يتحرك ذلك الهمّ، فإن الأمور ستبقى تدور على محور صدئ»، هذا ما يكتبه عبد الرحمن في رسالة مؤرخة في كانون الثاني/ يناير ١٩٩٦ للتعبير عن الأجواء الفنية في دمشق (١٤٥). يقول عبد الرحمن «أكبر تحدّ الورقة البيضاء، واللوحة البيضاء. إنهما سؤالان واستفزاز. ماذا يمكن أن يتكوّن في هذه المساحة من أشكال وأرواح وألوان ومخلوقات مستقلة عن خالقها؟ سؤال إذا لم يسأل فإنه قائم في البياض المتحدي، وهذا ما يستفزك في أن تحاول تقديم أفضل وأنبل ما لديك من أفكار وتجارب وأحلام أيضًا» (١٠٩). ومروان، كعبد الرحمن، يحدوه على طرق الإبداع والتشكيل قلق لا يريم، ومعاناة مع اللون والبحث للوصول الى «المكتوم» وإلى «ينابيع الشكل والبناء والاحتمالات في مجهول اليد والعين والحنين بالنهوض بالروح واليد الى جزء من ماهية الطبيعة وماهية الإنسان بشوقه وحبه وتهافته» (١٧٥).
لمروان حكايات نثرية جميلة في فنون الرسم، فالمائية «تكون في الموقع الأول في ما يتعلق بتقنية أصول التصوير لما تتطلّبه من حدس ومهارة، من أولية وحدس وكأنها ـ ألف لام ميم يجب أن تتزاوج مركّباتها بيد مباشرة قادرة وبوعي باطني حرّ...» إلى آخر هذا النص المميز (٤٢-٤٣)؛ والمائية «كالبرعم الأخضر الغض، سريع العطب وتكمن فيها نواة الحياة ونضارتها وطفولتها الأولى، وتكمن فيها أيضاً صيرورة الزمن وتكامل المستقبل. أما اللوحة فهي في مصاف الشجرة، تحمّلت فصول العام وندبات الزمان، الغيث والجفاف، العطاء والدر، تحمل في قشورها في أغصانها وجذورها تاريخ الدقائق والعمر وفي نسغها تتصاعد الحياة شاهدة داخلاً وخارجاً على إبداع الله وخلقه، خلق المبدع. المائية زهرة الصحراء واللوحة بنت الغابة، جبلية الطلعة» (٦٢). مروان المغترب في برلين، حيث يراقب تحوّلات الفصول وهجرة الطيور في الخريف، ويطرب حتى النخاع بتغريد الشحرور (ولا تكاد رسالة للصديقين تخلو من ذكر غناء الشحرور وأحواله)، والمندهش أبداً لتحوّلات شجرة الكستناء، ولانكشافات الضوء في ثلج المدينة الشمالية، مروان تحمله عاصفة من الحنين لضوء الشام ولحنان دمشق وبواديها والقنوات. ولعل الساقية هي سر مروان الأول في طفولته في قرية جوبر «... ثم اكتشفت الساقية مع أعشابها الجانبية التي لا تخلو من سحر وفيها رائحة محببة مخلوطة بلون الماء، رائحة النعنع البري ورائحة الماء والأرض. بدأت مغامراتي الاولى مع تلك الساقية..» (٦٤)، «أما غرض الساقية فأصلها الكد للفلاح في حفر تلك الأخاديد (عروق) حياته ويومه ثم أخذ نصيبه من الماء في ساعات اليوم وقد تكوّم مساءً» (٦٥). ولعل الأرض والبوادي وامتداد سهل حوران وقاسيون والمستنقع والساقية هي ذاكرة الضوء التي يغترف منها مروان وجوهه وتعاريجها وطبقات اللون.
يكتب مروان في رسالة مؤرخة في السادس عشر من يونيو/حزيران ١٩٩٨، «ماذا نفعل لولا شجرة الماغنوليا وتغريد الشحارير! الفرق هكذا: كمن يتكلم عن الصيد أو يشم رائحة البارود في البراري. لماذا جاءني هذا؟ لا أعرف... أو ربما له علاقة بحديثي معك البارحة عن طريق المناجاة الداخلية وقد أخذني التعب وانسكب العرق من (لحيتي) وجبيني وصدري وأنا أرسم... فكّرت بالقنوات الأرضية المظلمة الباردة...» (٢٢٥)؛ يعيش مروان أثناء انغماسه في الرسم لحظات صوفية يستحضر فيها ذاكرة الأرض وقنواتها لتتحول إلى امتلاء ويتّحد فيها الوجد باللون، باحثاً «عن وجودية (الهو) ... تخرج من الأرض البكر» (٢٩٩؛ وانظر ما كتبه مروان في رسالة له في آب/ أغسطس من العام ٢٠٠٠، ٣١٨؛ وانظر عبد الرحمن عن وجوه مروان في كتاب رحلة الحياة والفن، ٧٣-٧٥).
يسعى مروان عبر وجوهه ولوحاته إلى أن يستبطن أسرار الحياة الجياشة المتدفقة في الطبيعة وفي ذاتية الكائن، وهو يصدر عن قلق ممضّ في أن تنسى الذات نفسها في مكانية الوجود، فتراه لهجاً في التجريب للقبض على زمانية متفلّتة يسعى إلى اكتناهها عبر تكثيف طبقات اللون وسطوحه، «... تلك السطوح المتراكمة والكثيفة ذات القصة الذاتية للوحة والرسام في جهده الدائم والوظوب في السعي نحو (العمل الفني) الوجودي الذي يحمل آثار الزمن والطبيعة...» (٣٤١) «... إن أهمية الوقت تتضح لنا مع نوع من الأسى أو لنقل الزمن والفراغ والدقائق والهمّ الأكبر في هذا هو أن يساعدنا الحظ جسدياً، والأهم من الجسد، روحياً في تقديم الأحرف الأخيرة من قصتنا في رواية الحياة والموت... نحاول أن نفتح صندوقاً خبيئاً في ذاتنا ألا وهو صندوق العطاء والابداع وإشارات خاصة عن وجودنا ورؤانا للعالم والإنسان» (٢٧٧-٢٧٨). وهو يقلب اللوحة في «بستانه/مرسمه» مراراً (١٢٦، ٢٩٨-٢٩٩؛ ٣١١؛ ٣٨٠-٣٨١)، إذ إن غايته في الرسم هي في «الوصول إلى ما وراء الشيء» (٣٩١). فيما يرى عبد الرحمن من جهته أن «الزمن يحاصرنا» (١٦٣)، إلا أنّه يجد في الفن نوعاً من تجاوز للزمن، «من خلال الفن يمكن أن نعطي للأشياء، بما فيها الزمن معنى جديداً ومختلفاً» (٥٥-٥٦)، «عملنا يقدم شهادة على الزمن» (٧٧).

الرسالة كما يزور صديق صديقه
لعبد الرحمن في كتابه رحلة ضوء (٢٠٠١) نظرات ثاقبة في أهمية الرسائل كصنف أدبي: «إن الرسائل التي يراد إبراز أهميتها ودورها هنا، تلك التي تتقاطع مع السيرة، وهي التي يتم تبادلها مع الأصدقاء والأهل وذوي الهم الواحد أو المتقارب، وغالباً تكتب نتيجة صلات الصداقة والمودة، دون أن يكون في الظن نشرها، أو وصولها إلى أيد غريبة، مما يجعلها ذاتية حميمة، ومليئة باللحظات الخاصة التي تعكس وتفسر المزاج النفسي لكاتبها، وما يشغله من هموم وأفكار» (رحلة ضوء، ١٠٩). «وحين تكتب الرسائل بتلقائية ومودّة، فإنها تقول الكثير بالكلمات أو ما وراءها، إذ يكون الإنسان في لحظة صدق ونشوة، لأن الآخر بعيد، جغرافياً، ويراد إيصال شحنات كبيرة من العواطف والأفكار والأحلام، قد لا يستطاع البوح بها وقولها مباشرة ووجهاً لوجه، فعندئذ، تصبح الكلمة أكثر من كلمة، إذ ترافقها الذكريات والمخاوف والهواجس، وتتداخل معها عواطف الشوق والحنين، وتحركها مشاعر الوحدة وما يشبه الرغبة في الاعتراف، ولذلك فإن ما تحمله الرسائل، في بعض الأحيان، لا يمكن أن تحمله وسيلة تعبير أُخرى أو مختلفة، ولعل هذا ما يعطيها ميزة إضافية في إطار السيرة الذاتية» (رحلة ضوء، ١٠٩-١١٠). حقاً، إن رسائل مروان وعبد الرحمن تشبه الاعترافات، وهي تقول «ما وراءها»، وأجدها مهمة في الإضاءة على سيرتيهما. وفي رسائلهما نقرأ، سوى اهتماماتهما المشتركة وانهمامهما بالصديق والصداقة المتفردة فيما بينهما، عطفاً على مجايليهما من الأصدقاء والمبدعين. وكما تنبّه فواز طرابلسي فإن أصدقاءهما المشتركين يدخلون الرسائل «كما يزور الصديق صديقه. وما عدا ذلك، ما يجعل الصداقة أدباً: النخوة والدماثة والوفاء والاهتمام الحقيقي بالآخر والتواطؤ العميق معه» (٧). أوجعهما رحيل سعد الله ونوس، وقد شارك عبد الرحمن في عرسه، ثم انقطع عن الكتابة حزناً (١٧١)، وأخذ يخطط لكتاب عنه (١٩٦)؛ ويكتب مروان عن سعد الله «إننا نكمل بعضنا وقد ذهب السيّد اليوم» (١٧٣). أما نذير نبعة فلا تكاد رسالة تخلو من ذكره، فهو الصديق والناصح والشريك في أكثر المشاريع. ولنعيم إسماعيل مكانة مميزة في وجدان الصديقين، عبد الرحمن يعمل على جمع رسائله والكتابة عنه ويستشير نذير ومروان؛ ومروان لا يبخل برأي تحليلي منصف (١٣٢، ١٩٣، ٢١١،٢٢٢، ٢٥١، ٢٨٦). ويتتالى حضور الأصدقاء، عبد القادر أرناؤوط، وفاتح المدرس والياس الزيات وكثر غيرهم.
ولعل الوفاء للمبدعين من الفنانين العرب، وبخاصة الأصدقاء، هو أكثر ما شغل عبد الرحمن في سنواته الأخيرة. كان يشعر برغبة ملحّة في الانصراف الى الكتابة عن عدد من الفنانين السوريين (١٣١) والنحاتين العرب (٢٨٠-٢٨١)، «الذين يستحقون أن يكونوا موجودين في المشهد الفني الذي يكوّن ذاكرة الأجيال الجديدة .. فدون ذاكرة ودون تراكم لا نستطيع أن نقيم صروح الفن والأدب» (١٣٠-١٣١). وتشمل حساسية عبد الرحمن في وعيه لأهمية الذاكرة والتدوين في إطار عملية توثيق التراكم المعرفي والتنويري لمبدعي القرن العشرين، أولئك الذين تركوا بصمات لا تمّحي، أصدقاء كثر كما تثبت كتاباته التوثيقية والتحليلية التي افردها لعروة الزمان الباهي (١٩٩٧)، ولجبر علوان (٢٠٠٠)، ودراساته المتفرقة في الصحف وفي كتابه لوعة الغياب (١٩٩٨).
ولعائلتي الصديقين حيّزٌ حميم في رسائلهما – حيّز المسكوت عنه غالباً والحاضر دوماً في طوايا القول والبوح. فسعاد، زوج عبد الرحمن، الراعية الدائمة لصداقتهما بصمتها (٣٧٣) تطمئن مروان على صديقه في اتصالات هاتفية – حينما لا يسعف الهاتف الحرنُ غالباً، كما تمدّ وشائج الصداقة بينها وتشجيهما بأنغام شجية من صوتها العذب الحنون (٤٥، ٩٤، ٣٨١)، وترعى صداقتهما؛ وياسر يحمل الرسائل، وعزة وليلى هما منابع إلهامٍ وحب، كما أن انجليكا تبقى طوال الأيام «خلية متعاضدة ووحدة في فضاء الزمن» (٢٥٦).
ترشدنا رسائل الصديقين عبد الرحمن ومروان إلى أن الصداقة تفكّرٌ في الذات والآخر تقوم على المحبة والوفاء والمساعدة والجود والتكرم؛ كما أنها تقوم أساساً على قيمة التساؤل المستمر بين الصديقين فيما يتجاوز الإثنينية إلى الغيرية وإلى رحاب التنوير. فالصداقة بينهما تقوم على أُعطية الهدية المتبادلة، وبهذا المعنى تندرج الرسالة في إطار الهدية، للآخر المخاطب، بما تمثله من كناية هي تعبير عن موقف عاطفي وموقف إنساني عام ينهض على التزام متبادل. فالعلاقة بين المانح والمتلقّي من خلال المنح والقبول وردّ الهدية، هي ما يفتح مساحة شخصية للتشارك والتآخي؛ وتبقى الهدية بهذا المعنى «قرضاً» لا يمكن سداده، لا من قبل الآخر الصديق ولا كذلك من قبل الآخر المفترض، بل إنها تبقى شهادة يُبنى عليها لتعميق أواصر هذه العلاقة عبر الثقة والتواطؤ على الكشف بين الصديقين، وعبر التأمل والتفكّر لأجيال مفترضة قادمة تتشارك في رؤيا الصديقين وتتماهى معها. ولعل منبع الرؤيا التي تجمع عبد الرحمن ومروان هو البداوة البكر بما فيها من حرية وعودة الى الأصول (في رحاب سورية): عبد الرحمن في أعماقه «بدوي يبحث عن الحرية» (٢٣٤)، أما مروان فيستحضر «بدوية الروح»، بما تحمله من إصرار وشوق عارم الى الأرض، كي يدخل معها في «أوحال اللون والشكل» (١٢٦)؛ و«ما تبقى من البدو»، هو ما يمده بالأمل (٩٨).
لا ترمي هذه المقالة العجلة إلى تتبع موضوعات الرسائل، ولا إلى التعمق في آراء الصديقين ونظراتهما الجمالية والتحليلية في طبيعة العمل الفني وتعب المبدع وأخلاقياته، ولا كذلك الى البحث عن سر هذه الكيمياء التي تستعصي على الكشف. حسبي أن أقف عند بعض المحطات لأضيء على لحظات استرعت انتباهي في مفتتح الرسائل وتوقيعاتها وأنا «أتلصص» على تناغمات صديقين في هذه الحوارية الرائقة: «عزيزي، أخي العزيز، العزيز، العزيز الغالي، الصديق، أيها الصديق، يا عبد الرحمن، يا أبا يزن، الحبيب، أيها الأحباء في مركز القلب من دمشق»، فيما تنفتح بعض الرسائل على الآخر بعفوية خلواً من أي إشارة تعيين. أما «التوقيعات» فتشفّ عن كثير من الشوق والارتياح إلى الآخر والرغبة في ملاقاته «شوقي وحبي، أحبك وأقبّلك، مع حبّي، إلى رسالة قريبة كل الشوق والودّ ومشمش المستقبل ورائحة الطبيعة بعد المطر، أفكّر بكم وأحتاج إلى قربكم وهذا تعبير معكوس دلالة على الشوق الكبير والحنان الى الدفء الحبيب».
أليس الصديق، بمعنى ما، «عاشقاً»؟ يرى أرسطو أنّ «الصديق إنسان هو أنت إلّا أنه بالشخص غيرك» (الصداقة للتوحيدي، ٦٦؛ وقارن بـترجمة حنين بن إسحاق لـ كتاب الأخلاق، ٣١٤). يكتب مروان لعبد الرحمن في رسالة مؤرخة في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٩٧، مساءً «... سطّرت في منتصف الليل صفحة لك وتركتها للصباح وعندما قرأتها مع نور اليوم الثاني وكان ذلك بعد استلامي كتابك قلت في نفسي: إن الرجال لا تكتب للرجال... هكذا! ومرت الأيام» (١٨١).
لا بل إن الرجال تكتب هكذا. قال فيلسوف «لا يزال الإخوان مسافرين في المودّة حتى يبلغوا الثقة، فتطمئن الدار، ويقبل وفود التناصح، وتؤمن خبايا الضمير، وتلقى ملابس التخلّق، ويحل عقد التحفظ» (الصداقة للتوحيدي، ٢٣٩). وقال أبو حيان التوحيدي قلت لأبي سليمان المنطقي: «... فما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ فقال: الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة» (الصداقة للتوحيدي، ١١٣).
وأجدني أصرخ مع مروان: واعبد الرحمن!

— أرسطوطاليس، الأخلاق، ترجمة حنين بن إسحاق، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ١٩٧٩.
— التوحيدي، أبو حيان، الصداقة والصديق، شرح وتعليق علي متولي صلاح، القاهرة، مكتبة الآداب، ١٩٧٢.
— جرّار، ماهر، عبد الرحمن منيف والعراق: سيرة وذكريات، بيروت والرباط، المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٥.
— طرابلسي، فواز، مقدمته لكتاب في أدب الصداقة: عبدالرحمن منيف ومروان قصاب باشي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار التنوير، ٢٠١٢.
— منيف، عبد الرحمن، رحلة ضوء، بيروت والدار البيضاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي، ٢٠٠١.
— منيف، عبد الرحمن، سيرة مدينة، تقديم مروان قصّاب باشي، طبعة خاصة، بيروت والدار البيضاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي، ٢٠٠١.
— منيف، عبد الرحمن، الكاتب والمنفى: هموم وآفاق الرواية العربية، ط2، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٩٤.
— منيف، عبد الرحمن، لوعة الغياب، ط3، بيروت والدار البيضاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي، ٢٠٠٣.
— منيف، عبد الرحمن، مروان قصّاب باشي: رحلة الحياة والفن، برلين، نشر خاص، الحقوق محفوظة لمروان قصّاب باشي، ١٩٩٦.
استاذ جامعي

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥
الفن والشجن والمواساة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.