حقيقة لم أكن أود ـ مرة أخرى ـ مناكفة خالد خليفة في سكاكينه، واكتفيت بالسجال المتحضر الراقي الذي دار بيننا نحن أصدقاءه وكذا من ينتقدون أعماله الأدبية. لكن الصديق د. فواز طرابلسي الذي بعث لي بعددين من مجلة «بدايات» التي يرأس تحريرها، وتساهم معه كوكبة من أصدقائي ومعارفي وزملائي اللبنانيين، طلب مني رأياً في المجلة بل وطلب ـ مشكوراً ـ مادة مني للمجلة أرسلتها له ممتنّاً.
لفت نظري في تصفّحي السريع للمجلة، العدد٨/٩ صيف ٢٠١٤، كما هو معنْون، مادة بعنوان «لا سكاكين في مدينة خالد خليفة»، كتبتها هيفاء أحمد الجندي التي عرّفت نفسها أو عرّفتها المجلة بـ«كاتبة وناشطة من سورية». أجّلت القراءة متعمّداً ألّا أدخل في جدل سكاكيني سوري ـ لبناني، لكن القراءة التي قدمتها الجندي هي قراءة مزعجة من وجهة نظري، وقد رأيت ـ آخذاً بالأحوط ـ أنها تمت بعجالة حتى تلحق بموعد الطباعة للمجلة.
سأورد ما أزعجني هنا على عجالة أيضاً:
أولاً: عنوان مقتبَس؟
إن العنوان الذي استخدمه خليفة في روايته جاء من اقتباس لخطاب أو خطبة لواحد من عائلة الأسد (نسيت من هو ـ أو لعله قائد عسكري أسدي) يهدد مدينة سورية بالويل والثبور وبأنه سيحرم مطابخ بيوتها من السكاكين. ولم أكن أعلم بهذا التهديد الذي لم يشر إليه خليفة في صدر روايته كما هو متبع في «ادبيات الكتابة وأخلاقها الرصينة»، إلا بعدما أشرت أنا في الجدل الذي شاركت فيه إلى أن جملة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» قرأتها في نص إنجليزي مترجم لرواية فرنسية، وأشرت إلى الصفحة وإلى كاتبها ومترجمها، الخ. حينئذ كتب خليفة أو واحد من أصدقائه مصححاً لي ومشيراً إلى الشخص السوري. وقد فات هذا أيضاً على هيفاء أحمد الجندي!
ثانياً، إن المؤلف أقر في حوارات صحافية بأخطاء تقنية ولوجستية في عمله الثاني هذا الذي تعتبره أنه تكملة للعمل الأول «في مديح الكراهية». من هذه الأخطاء التي أشار إليها من قرأ الرواية، تداخل السرد بين سرد الراوية، وهو واحد من شخوص الرواية، وبين «معرفة الغيب» التي هي من حق المؤلف (إن جاز التعبير).
لكن الكاتبة الجندي اعتبرت هذا فعلاً فنياً روائياً صائباً، إذ تكتب «والراوي العارف بمصائر الشخصيات وجواّنيتها يسرد دون أن يتدخل، ويترك للحاضر أن يضيء الماضي، يفسره ويعلّله وينتقل بحرية من شخصية إلى أخرى تلقي المزيد من الضوء على عوالم سرية وسردية». أي أنها هنا تبرر للكاتب أخطاءه! وتقول «وسوف تفرض تعددية الأصوات إيقاعها بالتخلي عن الترتيب الحي للأحداث دون أن يشعر القارئ بالضياع والتفكك».
هذا «الضياع والتفكك» هو ما رصده البعض وما اعترف به خالد خليفة في عدد من حواراته الصحافية.
الأسد أم البعث؟
ثم نصل إلى «سبب وجود الرواية ومنطقها السياسي» لنجد أنّ الجندي تعزو إلى خليفة رؤية سياسية وتفسيرية للواقع السوري السياسي، بأن حزب البعث السوري هو سبب كل مصائب الشعب السوري. تقول: «فكأنه يكتب فصلاً من فصول الحكاية السورية الأشد قتامة وسوداوية من تاريخ سورية الحديث عندما تولى حزب البعث السلطة».
وتضيف: «الرواية تعلن موت مجتمع تحكمه ثنائية العسكر والإسلاميين، هذه الثنائية القاتلة التي تحكّمت بمصائر الشخصيات بقيت أسيرة الانتقام من الذات ومن الآخر من موقع الرفض والتمرد السلبي، فكانت السكاكين أدوات للانتحار والقتل والخلاص الفردي». وتقول أيضاً عن المؤلف وعن الرواية: «ولا أريد هنا وضع أقوال في فم خليفة عن حزب البعث.. لكن أريد أن أقول إن الأحزاب العربية في معظمها وخاصة تلك الحاكمة هي الوجه الآخر للحاكم.
هي ليست بأحزاب من الأصل بل تشكيلات مدنية /عسكرية مخابراتية. إنها «شخصية وقبلية وعائلية وفئوية» تتبع الحاكم وتعبّر عن مزاجه الشخصي ورؤيته لبلده وأهلها».
إذن، عندما نضع كل خطايا المجتمع السوري على كتفي حزب البعث، هو تبرئة ـ مقصودة - للحاكم السوري، بداية من الأسد الأب للأسد الابن ونهاية برجل الأمن والشرطة في أية بلدة أو ضيعة سورية صغيرة. فالناس ـ كما نعرف ـ على «دين» ملوكهم!
بل إننا نجد إهانة متعمدة وتخويناً للمثقفين السوريين في علاقتهم بـ«السلطة» وعلاقتهم بما تعتبره هي أو خليفة أو كلاهما مساهمتهم في «تخريب المدن وترييفها». تقول: «عبر السرد يلحظ القارئ شخصيتين متضادتين للمثقفين: المثقفين الإيجابيين الذين رفضوا أن يكونوا شهود زور على خراب المدينة (الذي اتهمت فيه حزب البعث بتخريبها عبر ترييفها) وتحوّلاتها واختاروا المنافي والهروب من المدينة التي سكنتهم في الغربة من جهة، ومن جهة أخرى مثقفي السلطة الذين تواطأوا مع نظام القتل». هذا تصنيف جديد بالنسبة إليّ عن مثقف إيجابي ومثقف بالطبع سلبي أي سلطوي.
يدفعنا ذلك إلى حتمية سؤال عن ماهية «السلطة» في بلد عربي؟ هل هي دائرة النفوس ـ مثلاً - التي يعمل بها عدد من الموظفين وقد يكون بعضهم من المثقفين؟ أم هي «وزارات الداخلية والمخابرات وضباط الجيش الكبار»؟.
هل موظف في دائرة ما، تعمل في إطار الدولة «الباغية» مهمتها تسهيل وتنظيم حياة المواطنين مثل سيارات جمع النفايات؛ جزء من «دولاب» القتل السلطوي اليومي؟ أم أنه مجرد موظف يعتمد في معاشه المحدود على راتبه من هذه الدائرة؟
انا شخصياً ضد التعميم العشوائي، خصوصاً في بلد مثل سورية، حيث الفرص المتاحة لكسب سريع وكبير متوفرة فقط لمن له علاقة وثيقة بحزب الأسرة الحاكمة، حيث الحزب الورقي الذي يضم بين جوانبه البلاطجة ورجال أعمال بلا ذمة وكل فاسد انتهازي.
ثم نأتي إلى سؤال أخير: هل المدينة العربية هي مدينة أصيلة مكوّنة من سكان حضريين كما يعرّفهم ابن خلدون؟ أم أنها مصبّ دائم لريفيين وقادمين من الريف ومن الجبال يبحثون عن حياة أفضل اقتصادياً وإنسانياً؟ وهل من حق مؤلفٍ ما أن يعترض على «هجرة» بعض مواطنيه من مناطق متخلفة إلى مناطق «حضرية» بحجة أنهم يخربونها، كما تعلن القارئة للرواية بأنه «عسكرة المجتمع وترييفه»؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.